تفسير سورة المطففين -2- من قوله تعالى: (أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ)

تفسير جزء عمَّ - 80 - مواصلة تفسير سورة المطففين{أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ}
للاستماع إلى الدرس

يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1437هـ.

نص الدرس مكتوب:

 (أَلَا يَظُنُّ أُولَٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6))

الحمد لله رب العالمين، الذي يَقوم له الناس في يوم الحُكم بالحق، نشهدُ أنه الله الذي لا إلٰه إلا هو وحده لا شريك له، فازَ مَن آمنَ به وصَدَّق وبالإخلاصِ لوجهه تَحقَّق، وخابَ مَن أعرض عنه وتولَّى وتكبَّر ونافَق، 

  ونشهدُ أنَّ سيدنا ونبينا وقرة أعيننا ونور قلوبنا محمداً عبده ورسوله الأطهرُ الأصدق، والمُقَدَّمُ الأسبق، مَن جاءنا عن الحقِّ بالحق. اللهم صَلِّ وسلِّم وبارك وكَرّم على عبدك المصطفى سيدنا محمد وعلى آله الأمجاد وأصحابه الأكرمين الجِيَاد، وعلى مَن سار في منهاجهِم وسبيلهِم؛ سبيل الهُدى والرشاد، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسَلين خيرة الله في العباد، وعلى آلهم وصحبهم، وعلى الملائكة المُقرَّبين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

وبعد..

فإننا وفي استقبالنا للعشر الأواخر من شَهرِنا الكريم في وِجهَةٍ إلى الله تعالى أن يُثَبت القلوب والأقدام في هذه العَشر، ثباتاً تَامَّاً، نُدرك به المنَّة الربانية والفضل الإلٰهي في كُلِّ سِرٍّ وجهرٍ، فلا تفوتنا فيه نفحة، ولا نخرجُ عما وهبهُ الله ومَنَحه. وإنَّنا في هذه البُكْرَة المباركة نواصل تعرُّضنا لنفحات الإلٰه المَنَّان، وجود الكريم الرحمٰن؛ بتأمل معاني القرآن وهي أكرمُ المَعان، وصلنا في تأمل معاني "سورة المطففين" حيث هَدَّد الله أهلَ ذاك العمل المَشين -وهو اختلالُ الموازين بأن يُعامِلَ الناس بما لا يُحب أن يُعامَلَ به- (إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ(3)).

وعَلِمنا انتشارَ هذا المعنى في العُموم في كل المقابلات وكل الأَقْيسَة والموازين الاعتبارية والمعنوية، حتى إنَّ من أهل المعرفة والعلم مَن حذَّرَ وقال: "لا تُطَفِّف في صَلاتِك فإنك إن طَفَّفْتَ فيها" أي قَصَّرتَ في مُهماتها وواجباتها، فقد عَلِمت ما قال الله للمطفيين: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ). وحينئذٍ ينبغي أن تُحسِنَ المعاملة في مُختلف العبادات والتعاملات مع البشر والخلق أجمعين، فإنَّ الله لا يدع ظُلماً ولا حقَّاً لأحدٍ -ولو كان حيواناً من الحيوانات- إلا أدَّاه له.

يقول: (أَلَا يَظُنُّ أُولَٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ(5)) وما أعظم عندما يقول العظيم أنه عظيم! فإنَّه مهما عُظِّم يومٌ بموازين الخلائق -كأيام الحروبِ أو الزلازلِ أو الكروبِ أو شيءٍ من شؤونهم- فإنَّ عَظَمتهم على قَدرِهم؛ وقَدرِهِم محدود. وإنَّ الحقَّ إذا عَظَّم شيئا فعظمتُهُ غير محدودة، فذلك شيء عظيم بمقياس يفوق كل تعظيم.

(أَلَا يَظُنُّ أُولَٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ(5)):

  • إما بمعنى: العلم، وأنهم قد آمنوا بيوم القيامة كما يَدَّعي اليهود وكما آمن المؤمنون.
  •  أو أنه بمعنى: الظَّنِّ -التوقع- والاحتمال لمن كان يتهيَّأ؛ لإدراك حُجَجِ العود والرجعة إلى الله تعالى.

(أَلَا يَظُنُّ أُولَٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ(5)):

  •  عظيمٌ: هَولُه،
  • وعظيمٌ: تجاوز الحق فيه وعفوه،
  • عظيمٌ: شِدَّتُه وكُروبه،
  • وعظيمٌ: مُعطيات الحق؛ لمن يُحبه في ذلك اليوم.

وتنتهي عظمة ذلك اليوم في الشدائد والأهوال والأتعاب؛ إلى إبليس وجُنده. وتنتهي وتتبالغ العظمة في ذلك اليوم؛ للإفضالِ والوهبِ والإكرامِ والإحسانِ والمَنِّ والإنعامِ والتفضيلِ إلى محمد ﷺ، ثم أهلِ صُفوفه من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

أما هو.. فأولُ مَن تَنشَقُّ عنه الأرض..! فكأنما ما في القيامة من هولٍ، ومن طَوْل؛ احتفالٌ به واحتفاءٌ بعظمته عند ربه..! -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- 

  • وهو أول شافع،
  • وهو أول مُشَفع،
  • وهو صاحب المقام المحمود في ذاك اليوم،
  • وصاحب مكانة ومقالة "أنا لها".

فماذا ترى؟ ما هذه العظمة! ما هذه العظمة! والله إنه يوم عظيم! يومٌ عظيمٌ لا تبلُغُ عقولنا مُنتهى عظمته؛ 

  • لا في شأن الإذلال والتعذيب والأهوال والشدة والصعوبة على الفجرة والكفرة، 
  • ولا تنتهي عقولنا إلى إدراك الإكرام والإفضال للأنبياء والمرسلينَ والصديقينَ والصالحينَ من عباد الله.

قال تعالى: (وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) [الزمر:47] ما كان على بال أحد؛ فهو عظيم عظيم عظيم في عظمة ذاك اليوم ضَجَّت إلى الله قلوب الصالحين والعارفين من النبيين وأتباعهم أن يُسَلِّمهم من أهوال يوم القيامة.

ونقرأ في القرآن دعوات الخليل إبراهيم وهو يخاطب الإله العظيم: (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) [الشعراء:87]، (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) [الشعراء:82]؛ فانظر تعظيم سيدنا الخليل لذلك اليوم! (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ)، (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ) [الشعراء:83-88] أي تسقط هذه الاعتبارات التي تقوم عليها الإغترارات في مدة الحياة القصيرة.

وكرّرَ الحقُ لنبيه (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ) [التوبة:55] والى الآن، إنما تفاخرهم بأموالهم وما يترتبُ عليها من قوةٍ يكسبونها، وأولادهم وجيوشهم وقوتهم العسكرية، فالحق قال: هذه الاعتبارات بائخة فاسدة تافهة، لا تلفت نظرك إليها يا صاحب النبوة؛ فيتعلَّم منك أتباعك؛ أن لا يعتبروا ما ليس مُعتَبَراً عندنا؛ فإنه معتبرٌ في عقولِ هؤلاء السُخَفاء مدة أيامهم في الحياة الدنيا ثم لا يجدونه شيئاً..! 

  • (مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ۖ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ۖ لَّا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَىٰ شَيْءٍ) [إبراهيم:18].
  • (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ) [النور:39].

ولو كان الأمر كذلك فأين قوم عاد؟ وما كانت عاقبتهم؟ كان لهم اعتبار بالمال، بالقوة، بالعُتاد؛ والظالمون أشد منا قوة (وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)، والحق يقول يَذكُرُ وجه الحقيقة في هذه الأشياء (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) [فصلت:15]،ما الذي حصل؟ ماهي النتيجة؟. 

الاعتبار ظهر أنه كله فاسد ليس عنده شيء، تبين لهم أن الاعتبار غير صحيح، هذا التبجح ظهر أنه سراب (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ)؛ لم يعد لديهم قوة، ولم يعد هناك غلبة، ولم يعد هناك فخر، ولا كبرياء، ولا يوجد سلاح ولا عَتاد ولا شيء (لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَىٰ)، وبعد ذلك؟! (وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ) [فصلت:16]؛ لا أحد يملك نَصرهم؛ قَطَعوا صِلَتهم بالجبار الدائم الباقي الحق، وكَذَّبوا نَبيه هود، فأيّ طائفة تستطيع على نُصرتهم؟ أو يتصلون بالحكومات التي تأتي في آخر الزمان يقولون انصرونا؟! ممكن؟! ما لهم هم نَصر ولا للحكومات من بعدهم؛ بل تمشي في نفس مَجراهم (وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ) لاأحد يَقدر أن يَنصرهُم، قَطَعوا صِلتهم بالجبار، بالعليّ الأعلى لا  نَصير لهم! (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ) [الحج:71] (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) [آل عمران:192]، الله..

فهؤلاء قوم عاد، يقول الله فيهم في الآية الأخرى: (فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ) [الحاقة:8] هل في أحد باقي منهم؟ هل بقي شيء؟ ولا حتى بيوتهم..! حتى بيت واحد؟ كيف؟! بيوت ضخمة قوية ومن الحجارة اختفت؟ تلاشت؟ وقوم ثمود ينحتون من الجبال بيوتا، اختفوا؟! نحتوا من الجبال بيوت واغتروا بها افتخروا وقت، وذهبوا.

إذاً هذه اعتبارات زائلة زائفة! أين الاعتبار الصحيح؟ (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات:13]، (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ) [البقرة:165]، لله.. خذها بقلبك، خذها بروحك؛ أنت في أيام السُّقيَا للإيمان -لله- (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا)، خَرِّج الوَهم هذا الذي فيك؛ وَهْمُ الظُلمة، وَهْمُ الكَذب، وَهْمُ الخِداع (الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا). 

يقول سبحانه وتعالى: (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۚ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ) [النساء:139] يقولون لك سنعزز أنفسنا!.

 يُذكَر في بَعض الدول، كان بَعض المسؤولين مرة يتكلم قال: لا شيء إلّا رتبتُ نفسي مع فوق، فوق الذي يَذكُره هو تحت يعني، نحن عندنا فوق هو -الرحمٰن سبحانه- الذي بيده الأمر كله، هو على بعض المسؤولين الذين هم فوقه، الآخرين يعني! قال؛ لأن بعض التقريرات تطلع من هنا وهنا لا يوجد شيء، فرتبتڤ نفسي مع الذي فوق وعملتُ، ومرّت كم سنوات ونحن رأيناه هو والذين فوقه ذهبوا!! والَّذين فوقه قبل أن يذهبوا أيضاً هم أخرجوه من وظيفة لوظيفة ثانية وأبعدوه؛ (أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) [النساء:139].

لهذا أُسلُكُوا مسلك الواعي الفاهم للحقيقة؛ فإذا انطلقوا في اعتباراتِهم اللاغية، الواهية، فارتفِعُوا عنه (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ)، اتركوا كلامهم الفارغ، واعتباراتُهم الفاسدة الواهية التافهة (فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ)، إذا ماشَيتُموهم في هذه الأفكار الساقطة إذاً أنتم مثلهم! (إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ) -يستهزئون بآيات الله وتقعدون معهم؟! لا- (فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ) -والمنافقين صِنفٌ منهم؛ لكن خَصّهم بالذكر- (إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) [النساء:140]مآلهم إلى النار -اللهم أجرنا من النار، وأعذنا منها-

يقول: (أَلَا يَظُنُّ أُولَٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ(5)):

  • مبعوثون بإعادةِ الأرواح إلى الأجساد وإعادةِ الأجساد كما كانت، 
  • وأعادَ الأجسامَ مَن صنَعها، وألَّفها بقدرته وجمعها،
  • ونفخ نفخة الصور فأسمعها، يوم تأتي (كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) [ق:21]؛ ملَكَان الذين كانوا معه في الدنيا يَمشون، لا إله إلا الله.

(لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) عظيم، وكان إذا ذَكَرَهُ ﷺ علا صَوتُه، واحمرَّ وجهه، وانتفخت أوداجه؛ كأنه منذر جيش يقول "صَبَّحكم أو مَسَّاكم"؛ تعظيمًا لشأن ذلك الأمر!

وقد أخبرنا من عظمة ذاك اليوم أن كبارنا -الذين هم كبار في الحقيقة، من الأنبياء- يقول كلٌّ منهم: "نفسي نفسي، إن ربي غَضِبِ اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، اذهبوا إلى غيري"، ما أعظمه من يوم! هذا إذا كان هكذا كلام الأنبياء في بعض المواقف، أنت تعتمد على مَن؟ تستند إلى مَن؟ وقد قال الذي وفدَ على نبينا:

وأين لَنَا إلا إليك فِرَارُنَا *** وأين فِرَارُ الناس إلَّا إلى الرُّسُلِ

ومع ذلك الرسل هكذا يقولون، ففي ظنَّك أنك ستتصل بأحد من جماعتك أو أصحابك أو قبيلتك أو حزبك أو أهل وزارتك في ذاك اليوم! ماذا تقول؟ تتصل بمن؟ (وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَٰنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا * يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ۖ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا) [طه:108-111]، (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا)؛ فهم في الخَيبة أجمعين، جميع الظالمين في الخيبة في ذاك اليوم -أعاذنا الله من خزي يوم القيامة- إذاً يومٌ عظيم.

وإذا كان أمامنا يوم عظيم؛ فالعقلُ، والصوابُ، والرأي الصحيحُ؛ يقتضي تعظيم ذلك اليوم من الآن والاستعداد له، وأين العقلُ والوعي والمنطق عند مَن يقول لك: تناسى! لا تُخوّف نفسك ولا تُتعب نفسك! ما دام أمر مُقبِل عليه ولابد من الورود إليه؛ فالحزم والعقل والرأي أن أنتبه منه وأرتب نفسي معه؛ حتى إذا جاء نجوتُ وفزت!  وهل من الحل والرأي السليم: أن نقول تناساه؟! هذا منطق بعض السُفهاء من الكُفار، ويتبعهم بعض المسلمين، مَنطقهم هكذا! يقول: لا تخوفنا بذكر القيامة، لا تخوفنا.

الله يقول لأصناف من هؤلاء إذا اشتد عليهم العذاب في القيامة: (بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا)، هذا بِنِسيانَك، وكنتم تتناسون وتتباعدون؛ خذوا الآن: (هَٰذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ(17)) هذا الذي كنتم تَنْسَونَه (فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَٰذَا) [الأعراف:51]، (بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ ۖ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [السجدة:14].

فمن غير شك إذا كان أمر مُقبِل على الناس؛ فالحزمُ والعقلُ والصوابُ أن تستعد له، وأن تتهيأ له حتى تنجو فيه، ولا تقول؛ اسكت اسكت لا تذِّكر، بعد ذلك يقع لك هلاك إلى الأبد! هذا غير منطق وغير عقل؛ ولذا جاء في الأثر: 

  • "مَن أكثر ذكر الموت وجد قبره روضة من رياض الجنة، ومَن نسي ذكر الموت وجد قبره حفرة من حفر النار"، 
  • "أكثِرُوا ذكرَ هادِمِ اللذَّاتِ" مَن يقول؟ الناصح، الأعقل، الأجمل، الأكمل، الأفضل؛ -محمد- "أكثِرُوا ذكرَ هادِمِ اللذَّاتِ"  قاطع اللذائذ؛ وهو الموت!

فهذا يجعلك على بصيرة، وحسن سيرة، وصفاء سريرة؛ أما أن تتناساه!

  • سيرتك تختل، وسريرتك تُظلِم
  •  وبصيرتك تُكَدَّر وتُظلَم،
  • وسيرتك تنحرف، وسريرتك تُكَدَّر.

 لكن تذكَّره:

  • تتنوَّر بصيرتك،
  •  تتصفَّى سريرتك،
  •  تستقيم سيرتك؛ فتربح.

وأنا اترك هذا الربح من أجل ماذا؟ من أجل أن تضحك علي  بكلمتين أنا وإياك؟! أو نعمل مشروع أنا وإياك؟ قليلا وبعد ذلك نُغني قليل ونروِّح، ثُمَّ ماذا؟ أهلَك؟! ما جئت لي بخير!

يقول سبحانه وتعالى: 

  • (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ) -يَغفل عن ذِكر الرحمن- (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ* وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) -يقولون لك لا تذكُر هذا!- (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ *حَتَّىٰ إِذَا جَاءَنَا..) -وصلوا إلى- (قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ)، أنت الخبيث الذي أوقعْتنا في هذا، أنت مِثلي وكنت معي! لماذا أنا وحدي؟ أنا وإياك سواء، (يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ) [الزخرف:36-39] معًا تشاركوا.
  • (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ۖ حَتَّىٰ إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ) الأتباع للمَتبوعين -هؤلاء كبارهم وجدوهم أمامهم- (ربنا هؤلاء اضلونا) -هم هؤلاء السبب- (فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ) -زَيّدهم حريق في النار وألم- (قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ) [الأعراف:38]. (وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ) انتوا ما فضلكم علينا؟ سواء نحن وإياكم كُنَّا! (فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ) نكذب تكذبون، نعمل خطة واحدة، نَغِش تَغُشون، نَمكر تَمكرون، تَشربون خمر نَشرب خمر كُلنا سواء، لا تُصَلّون ما نُصلِّي وأنتم لا تَصومون، ونحن لا نصوم وأنتم لا تصومون؛ كله سواء (فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ) لماذا اليوم العذاب علينا نحن؟! (فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) [الأعراف:39-40] هل يدخل الجمل من َسمِّ الخِياط؟ لا، لا يَدخلون الجنة. 
  • (وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [الأعراف:40-42]، (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ) [الحجر:47].

يقول سبحانه وتعالى: 

  • (أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ ۖ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) [الأعراف:42-43].
  • قد قال ربك: (لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) [المؤمنون:62] يعني هؤلاء ما عَمِلوا في الدنيا شيئاً شاقَّاً صعباً على النفسِ، مُستحيلاً عليها أو شديد الصعوبة؛ إلّا كان في وسعهم، الآخرين يَقدرون يفعلون، ما في وسعهم؛ لكن هم استَثقَلوه واستَوعَروه وذهبوا وراء شرهم (لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) وبعد ذلك؟ (وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأعراف:43].

فحينئذٍ وَسط الجنة يُنادون أصحاب النار: أنت الَّذي كنت تضحك علينا، والَّذي كنت تستهزىء بنا ونحن نُصَلي ونحن نَعبد؛ يا فلان، يا فلان (وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا)؛ الكلام الذي كان يقوله -محمد- ويرويه عن الله، ونقول لكم: قال العلماء والصحابة؛ هو هو طلع هو نفسه -مضبوط- والذي قالوه عنكم المَتبوعين والقادة.. ماالخبر؟! (أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ۖ قَالُوا نَعَمْ) [الأعراف:44] كلامنا وكلام قادتنا وأفكارنا ذهبت؛ بقي "كلام الله" فقط -هذا الذي معكم- هذا هو الحق؛ 

(فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ * وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ) [الأعراف:44-45] بين الجنة والنار، ولكن فَتحات يفتحها الله لأبصار أهل الجنة؛

  •  كل مَن أراد أن يَنظُر مَن كان يُؤذيه،
  •  ومَن كان يَقطع عنه السبيل في الدنيا،
  •  أو يستهزىء به من الكفار.

 يُفتح الفتحة يرى، وينادونهم ويتكلمون بينهم البين؛ لكن ذلك في عذاب شديد (قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ)، ستأخذنا معك الى صُحبتك الخبيثة  -ربي سلَّمنا الحمد لله-، (وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) عندك هناك وسط هذه النار، الشدة التي أنت فيها لكن- الحمد لله الحمد لله- ما عندي شيء من هذا (أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)، إنت كنت تقول هذا الكلام..! قال الله: (إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَٰذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ) [الصافات:54-61] إن كنت ستعمل عمل مثل هذا، وقال لك؛ ستضمن مستقبلك؛ غِش هنا واكذب هنا، وأخّر الصلاة هنا، والعب كذا، وتَضمَن مستقبلك! (لِمِثْلِ هَٰذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ).

إذا هناك عمل؛ فلمثل هذا المصير، ولمثل هذا المآب والمرجع (لِمِثْلِ هَٰذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ) قُل: (أَذَٰلِكَ خَيْرٌ نُّزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) [الصافات:61-62] -اللهم أجرنا- من شَجرة الزقوم، وطعام أهل النار (طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) [الدخان:44-46] الله يُجيرنا.

(أَلَا يَظُنُّ أُولَٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5))، وصفُ هذا اليوم: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(6)) قَوْمَات مختلفات: 

أولاً: تكوين أجسادهم لمن بَلِيَ جسمه؛ لأن الأرض تُبلي بعض الأجسام، وممنوع عليها تُبلِي أجساما أخرى؛ إذاً فليس الحُكُم لا للأرض ولا لطبيعَتها! ولا للقانون الذي فيها والُّسنة التي جعلها الله فيها؛ ولكن لأمر ربها!

وما معنى أنها تُفَرِّق بين هذا الجسد وهذا الجسد؟ التكوين الجسداني واحد! هذا تأكله وهذا لا تأكله! إذاً فالأمر الرباني مُختلف؛ فلا تستطيعُ الأرض بمجرد طبيعتها أن تُقحِم الطبيعة في كل شيء، ولكن يقول لها؛ قفي هنا واعملي هنا، ليَبطُل طبيعتك هنا وتتحقق هنا، إذاً فالأمر أمر ربّ الأرض، لا أمر الأرض ولا أمر السماء؛ ولكن أمرُ رب الأرض وأمرُ رب السماء..! -سبحانه وتعالى- 

نعم.. فالأجساد التي بَلِيَت وأُكِلَت في الأرض؛ يعيدها الله تعالى! إنسان، حيوان -كل أصناف الحيوان والجان- سترجع أجسادهم كما ماتوا.! ما بين النفخة الأولى والثانية، فيأمر الله إسرافيل يحييه، يقوم ينفخ في الصور، قد جَمَّع في الصور أرواح هؤلاء كلهم -بني آدم الإنس- والجن والحيوانات، كلها في الصُّور! ما هذه الملايين الملايين الملايين الملايين هذه! كم هذا! كلها سبحان الله! سبحان صاحب المُلْك العظيم..! ؛هذه المملكة العظيمة.

بعد ذلك انفخ، ماهذه القوة التي يعطيها إياه ينفخ نفخة، ستنفخ إنت في كم؟! هذا لو أحد أعطاك بالونه صغيرة تعبئها..! هذا  سينفخ في صور، فيه أرواح جميع الخلائق!! نفخة! ما أعظمها من نَفخة! (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ) [الزمر:68] مباشرة.

لم يعُد عندك عَجَب من طائِرة بلا طَيار، وتحاول بعض الدول تصنع أيضاً سيارة بلا سائق، عندك عجب منهم؟ هذه الأرواح مليارات المليارات المليارات المليارات؛ كل روح تعرف جسدها الذي أُعيدَ تكوينه، وكانت تعيش فيه في الدنيا فإليه تذهب مباشرة! هيَّا قل لي كيف تُمَيِّز؟ مليارات المليارات المليارات!.

العظمة لله يا هذا.. العظمة لله يا هذا،..! ليس للريموت الذي تملكه هذا، أنت والريموت مخلوق لله؛ ولكن كله صغير بالنسبة لمُستقبلك، انظر ستأتي ريموتات وراء العقول هذه، ماهذا الريموت؟ ماهذه الشرائح التي تملكها؟  تبحث لصاحبها حتى وسط حفرة تأتي إلى عنده.

وهكذا يُنفَخ في الصور، كل واحدة تعرف صاحبها! ويصنعون أجهزة، الآن يُرَقّم تَرقيمات في مباني وغيرها؛ لو حصل عليها انهيار أو انسداد أو ضرب بعد ذلك، يردُّها كما كانت، يعرف هذا هنا وهذا هنا يصلِّحها بالجهاز.. اترك هذا، فهو حقير بالنسبة لأمر مُقبل سيأتي، وهذا الجهاز وما فيه مخلوق له، هو خلَقهم وخلَق جهازهم هذا، لكن الأمر أكبر من ذلك؛ قُدرة طَليقة (وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الحديد:2]، (فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ) [البروج:16] -جَلَّ جلاله-.

كل روح تَخرُج إلى جسدها، وإذ به يقوم (فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ) [الزمر:68] هذه أول قَوْمَة يشترك الكُل فيها؛ ولكن هذا:

  •  ينشق عنه الأرض قبل، وهذا بعد وهذا كذا
  • وهذا لا يَقوم إلّا والملائكة أمامه، والنجائب يركب عليها، تفضل تفضل تفضل.. اركب، يركب وتمشي به إلى ظل العرش.

والثاني يَقوم وما عنده لا نَجيبة ولا شيء يركب عليه، وما عنده إلا لَونه (مُزري مُتعَب أسود مُنتن الريح) يقول: خُذني، أنت مَن؟ كيف آخذك!! أنا لا أعرف أين أذهب الآن! قال: أنا عَمَلُك، هذا الكَذب وهذا الغرور وهذا الزور وهذا الإفك وهذه السرقة؛ هو هذا نفسه أمامك، هذا عملك أمامك، هذا لك.. أنا صاحبك، أما أنت قد سرقت ؟! أنت كَذبت؟ أنت غَشيت؟ انا غشك، والسرقة والخيانة هذا لا يوجد ثاني! أنا لا أعرفك؟ لا يعرفه! يَركَب على ظَهره يقول: هيا امشِ ويضربه، وظُلْمة لايعلم أين يمشي (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا) [طه:111]، (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ) -ذنوبهم- (عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ ۚ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) [الأنعام:31] هذه أول قَوْمَة.

الثانية: بعد ذلك هؤلاء يذهبون إلى محل المحشر بحيث تَنزِل عليهم الشمس، وهؤلاء في ظِل العرش، ثم ماذا؟ هؤلاء في قيامهم واقفين لا أحد يستطيع أن يجلس منهم؛ زحمة لا أحد يقدر أن يجلس ساعة، ساعتين، ساعة ساعتين! أنت طال عليك القيام ساعة ساعتين في الصلاة! ساعة ساعتين، يوم يومين، سنة سنتين، ألف ألفين، خمسين ألف سنة؛ وهم قيام! لو كانوا قاموا دقائق بين يدي الخالق في الدنيا؛ كان ما قاموا هذه القومة، كان في محل ثاني، لكن هذه قَومة لا أحد يقدر يقعد منهم، زحمة لايوجد مكان قعود، أين تقعد؟! هذه الأرض صفصف، وزحمة الخلق فيها مُتَراصِّين، لايوجد جلوس، قُم، قَوْمَة وتحت الشمس وسنة، سنتين، ثلاث سنين، وأربع، خمس، ست، سبع، ثمان، تسع ،عشر، عشرين، ثلاثين، أربعين، سنيين! (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(6)). 

وبعد ذلك؟ قَومة ثالثة: عندما يُنقَلُونَ بشفاعة النبي إلى أرض الحِساب، نِداء -عَرض على الله- : ليَقُم فُلان بن فُلان للعَرض على الله، ليقم فلان بن فلان للعرض على الله، ليقم فلان بن فلان للعرض على الله؛ كلُّ مُكَلَّف كُلِّف في الدنيا ولو ساعة واحدة اسمه لابد يظهر يُنادَى، تعال قِف بين يدي الرب، تعال؛  قم فلان، قم فلان، تعال فلان، قم فلان! 

حتى جاء في الخبر أن يُنادي المُنادي: لِيَقم -عيسى بن مريم- للعرض على الله، نَبي الله، روح الله عيسى، يقف سيدنا عيسى، لمَّا يَقِف بين يدي الله، يقول: (أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ) [المائدة:116] هذه الطوائف الذين يعبدونك ويعبدون أمك مريم؛ أنت قلت لهم؟! 

لمَّا يُخاطبه الله هذا الخِطاب من هَيبة الله؛ تَلتَصِق إحدى رُكبَتيه بالأخرى ويَقَع، ويُلَقّنه الله حُجَّته: سبحانك سبحانك (سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۚ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة:116-118]،  يقول الله: "صدقت يا عيسى".

قال الله: (هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) [المائدة:119] وينادي المَلَك: سَعِدَ ابن مريم سعادة لا يَشقى بعدها أبدا. هذه قِصة عَرْض نبي من أولي العَزم من الرسل؛ روح الله عيسى؛ أعطني خبر قِصة عرضك أنت؟! هذا نبي من أولي العزم من الرسل، وهذا عرْضهُ على الله: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ)  [المائدة:117]؛

  •  يَرتَعد
  •  تلتصق إحدى ركبتيه بالأخرى
  • يَجثو على ركبتيه بين يدي الرحمن

 يقول: سُبحانك، سُبحانك، سُبحانك (سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) [المائدة:117]

هذه قصة عرْض عيسى.. أعطني قِصة عَرْضك الآن، عرْضك كيف؟

  • ما تَسعنا إلّا رحمته،
  •  ما تَسعنا إلا مِنَّته،
  •  الويل لمن لم يُلَقَّن حُجَته يوم القيامة!

 فإن عَفا وصَفح وأَكرم؛ لقَّنك الحُجَّة وسامحَك، يأمر المنادي: قد سَعِد فلان بن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدا 

وإن كانت الأخرى -أعاذنا الله منها- أمر المنادي ينادي: لقد شقي فلان بن فلان شقاوة لا يَسعَد بعدها أبدا، هذا (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(6))  -جَلَّ جلاله-.

ففي وصف القيام الثاني -هذا الوصف الذي ذكرناه- ذكره ﷺ: "أنهم يقومون بين يدي ربهم في رشح المسك إلى آذانهم" في الحديث الآخر الصحيح: "ومنهم من يلجِمه العرق إلجاما. ووضع يده في فيه".

أنت لنا لذلك اليوم يا حي يا قيوم، يا مالك يوم الدين، يا مَن لهُ الأمر في ذلك اليوم؛ إِرْأَف بِنا وارحمنا واحشرنا في ظل عرشك، في زُمرة الأصفياء المحبوبين (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ أُولَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ۖ وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) [الأنبياء:101-103].

لماذا تتلقاهم الملائكة؟ لأنَّ شِدَّة التَّجلي بالجلال، بالإقبال على الموقف؛ يَعُم الناس حتى يصل إلى الأصفياء منهم..! فتقول الملائكة: 

  • لا، لا.. (أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت:30] (هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) [الأنبياء:103]، 
  • تنزل عليهم الملائكة تُطمئِنهُم؛ لأن خوف التجلي بالجلال يَشمُل الكل؛ لهذا الأنبياء يقفون يقولون: نفسي نفسي.. اسألوا غيري، إلى أن يأتي سيدهم، ويفتح باب الشفاعة؛ يقومون يشفعون للأمم ﷺ.
  • (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا ۖ لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًا) [النبأ:38]،

ولا أحد يُؤذن له قبل محمد.. أبداً أبداً، ولا سيدنا جبريل ولا سيدنا ميكائيل ولا سيدنا آدم ولا سيدنا موسى لايوجد؛ يقول "أنا لها" ويَسجد، الكل يُسمع لقولك: واشفع تشفع، تنفتح الشفاعة، يأتون الشفعاء، الآن يظهرون؛ أنبياء، شهداء، علماء، يشفعون بعد ذلك ﷺ.

(يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(6)) وبعده كلام عظيم عن ذلك اليوم يأتي معنا إن شاء الله في الأيام المقبلة.

عسى نُسقَى كؤوس الإيمان، فالرب يقول: "لا أَجْمع على عبدي أَمْنين ولا خَوفين، إنْ هو خافني في الدنيا أمَّنته يوم أجمع عبادي، وإن هو أمِنَني في الدنيا أَخَفتَهُ يوم أجْمَع عِبادي".

الفزع الأكبر هناك في ذلك اليوم، كُلُّ فزع في الدنيا يهون عند ذلك الفزع، اتركهم يفزِّعونهم بأي شيء -يفزِّعونهم بالقنابل، بالزلازل؛ خفيف بالنسبة لفزع ذاك اليوم، ذلك اليوم: الفزع.. الله…

  • (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) [مريم:39] وسَمَّاه سبحانه وتعالى: يوم الآزفة (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ ۚ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ) [غافر:18]. 
  • يقول سبحانه وتعالى: (لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ۖ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ) [إبراهيم:43-42] فارغة؛ من شدة الهول، لم يعُد يبقى في ذاكرتهم شيء، يَنسون كُلَّ شيء، 
  • (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج:1-2].

اللهم إنَّا نسألك النجاة يوم القيامة، والفوز يوم القيامة، والسلامة يوم القيامة، ورحمتك يوم القيامة، يا أرحم الراحمين يا أرحم الراحمين. وأكرمنا بقرب حبيبك محمد، ورؤية وجهه في ذلك اليوم، والاستظلال بظل لوائه، والورود على حوضه المورود، يا بر يا ودود.

سَعِدَت عين كُتِب لها أن ترى ذلك الوجه في ذلك اليوم،

 سَعِدَت عين كُتِب لها أن ترى ذلك الوجه في ذلك اليوم،

 وكيف إذا دنا منه، وكيف إذا صافحه، وكيف إذا ابتسم في وجهه!

 اللهم احشرنا في زمرته، بجاهه عليك احشرنا في زمرته، بمنزلته لديك احشرنا في زمرته، اجعلنا في دائرته ولا تُفَرّق بيننا وبينه، بجاهه عليك بمنزلته لديك، يا الله.

اليوم جَمعتنا على ذِكره، وعلى ذِكر ذلك اليوم ففي ذلك اليوم؛ اذكرنا بفضلك، اذكرنا برحمتك، واجمعنا معه على حوضه المورود تحت ظل لوائه المعقود، لا يتخلَّف مِنَّا حاضر ولا سامع ولا مَن والانا فيك يا الله، برحمتك يا أرحم الراحمين..

 بسرِ الفاتحة 

وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه، 

 

تاريخ النشر الهجري

23 رَمضان 1437

تاريخ النشر الميلادي

27 يونيو 2016

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام