تفسير جزء عمَّ - 79 - تفسير الآيات الأولى من سورة المطففين
للاستماع إلى الدرس

يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1437هـ.

نص الدرس مكتوب:

 (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6))

الحمدلله مولانا العلي الأعلى، نِعْمَ النصير ونعم المولى وهو حسبنا وكفى جل وعلا، أرسل إلينا عبده المجتبى المختار محمد ابن عبد الله، فجعله الرحمة المهداة، والنّعمة المسداة، صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله وأصحابه وأهل متابعته واقتفاه، من أهل المحبة والموالاة، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أصفياء الله، وعلى آلهم وصحبهم وجميع الملائكة المقربين وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، عدد ما خلق، وملء ما خلق، وعدد ما في الأرض والسماء، وملء ما في الأرض والسماء، وعدد ما أحصى كتابه، وملء ما أحصى كتابه، وعدد كل شيء، وملء كل شيء، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

 وبعد…

فإنّا وفي تَوديعِنا لأيام العشر الوسطى -وبقي منها اليوم والغد- في الجمعة، الثالثة من جُمَعِ رمضان المبارك، نواصل تعرُّضنا لنفحات مولانا -جل جلاله- وتلقّينا لفائضات إفضاله وعظيم مواهبه ونواله، في غُدْوات وبُكَرات الأيام المباركة الغرّاء من الشهر الأغر، وبذلك نتعرّض لحصول أنوار الإيمان واليقين، وهي التي يدور عليها الشأن، ويكون بها الحال والمقام والمكان لكل إنسان من قاصٍ أو دان، في الدنيا ويوم الوقوف بين يدي الرحمن وفي الجنان.. إنّما منازلهم؛ على قدر إيمانهم:

  • وما مضاعفة أعمالهم التي يقتسمون بها الجنة؛ إلّا بقدر ما كان من الإيمان واليقين،
  •  وأنّ القليل من عمل صاحب اليقين يفوق الكثير من عمل من كان أقل منه يقينا،

وفي الأثر: "أن من أقل ما أوتيتُ"، يعني: 

  • مما لا يتحصل عليه إلا القليل منكم؛ اليقين وعزيمة الصبر.
  •  ومن نال حظه منهما؛ فلا يبالي ما فاته من قيام أو صيام أو غير ذلك، إذا تمكن وتوفر حظه من اليقين والصبر

فنتعرّض وخصوصًا فيما بقي معنا من أيام الشهر بهذا الاجتماع والاستماع؛ لأن ينزل من نور اليقين في قلوبنا، ويحلّ في ساحاتنا.. وهذا أعلى وأغلى ما يُكتسب، وأشرف وأرفع ما يوهب؛ الإيمان واليقين. 

قال تبارك وتعالى: (أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا ۚ لَّا يَسْتَوُونَ) [السجدة:18]؛

  • ومهما أُعطي الإنسان غير الإيمان فلا يعوّضه عن الإيمان،
  • ومهما نَقَصَ عليه شيء مع توفير حظه من الإيمان؛ فحظه كبير وله البخت والسعد؛ لقوة الإيمان، فنسأل الله أن يرزقنا حقائق الإيمان وأن يقوّي لنا الإيمان.

وقد جئنا على معاني في أواخر سورة الإنشقاق، وسورة المطففين؛ أول ما نزل بعد هجرة النبي صلى الله عليه وصحبه وسلم، إذ كان منتشرًا بين العاملين في الأسواق -ومنهم عدد من اليهود وغيرهم- التطفيف في الكيل والوزن؛ لِما يُظنُّ أنه مرابحة وأنه فيه توفير وفائدة. وكانت هذه القضية، هي القضية التي بها هلك قوم النبي شعيب؛ الذين كانوا يطفِّفون في الكيل والوزن، ونهاهم عن أن يبخسوا الناس أشياءهم، وقال: (أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) [هود:85].

وهكذا يعالج الأنبياء الأمراض والعلل المعنوية في البشر فيخلِّصونهم منها؛ ليصحّوا في مسارهم، وفي مجراهم في الحياة. وهكذا كان من الأوائل ما عالج ﷺ عند الورود إلى المدينة شؤون الأسواق، ومنها مسألة الكيل والوزن وحذَّر من التطفيف، فكان من أوائل الأعمال التي قام بها:

  •  بناء المسجد، 
  • والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار،
  •  والنظر في أسواق المسلمين،
  •  والنهي عن التطفيف في الكيل والوزن.

أنزل الله تعالى أول ما أنزل بعد الهجرة: بسم الله الرحمن الرحيم (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ ..(1)) وقد علمنا أنها: 

  • كلمة تهديد وردع وزجر، وهذا تهديد من الجبّار الأعلى،
  • وأنها اسم وادٍ في النار بعيد قعره، لو سُيّرت فيه جبال الدنيا لذابت من شدة حرِّه -اللهم أجرنا من الويل ومن دعوى الويل والثبور.

قال تعالى: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ) وإنما سُمي مطفِّف؛ لأنه إنما يَبْخسُ الشيء القليل، ويسرق الأمر الخفيف الطفيف؛ مع ذلك فوزره ثقيل.

ويُذكر أن بعض الناس حضرته الوفاة فكلّما لقَّنوه: "لا إله إلا الله"؛ سكت. وإذا تكلّموا في كلام آخر؛ تكلّم. حتى ضاق صدر بعض الذين عنده، قال: مالك؟ إذا قلنا: "لا إله إلا الله" تسكت، وتتكلم بالكلام الآخر؟!! .. قال: كنت وزّانا في السوق، وكنت آتي كل يوم فأنفخ الغبار من الكفة التي أضع فيها الأواقي، وأترك الكفة الأخرى التي توضع فيها البضاعة -طفيف غبار، مقدار الغبار أمر كبير-، قال: فكلّما أردت أن أنطق الآن بلا إله إلا الله أحس شوكة الميزان يجيء بها، فتوضع على لساني فلا أستطيع.

(وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2))، 

  • (إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ) أي: اكتالوا من الناس،
  • (إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) ولمّا كان أخذ الزيادة فيها مضرة على الغير؛ اختار الحق كلمة: "على" بدل كلمة "من"، وهي تتناوب؛ اكتال منه، أو اكتال عليه.
  • ولكن لما كانت فيها استيفاء وأخذ زايد التعبير بعلى كان أولى؛ لأن فيه إضرار بالآخر، فقال: (إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ).
  • (إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) يزيدون على ما يستحقون. 

(وَإِذَا كَالُوهُمْ) -بمعنى: كالوا لهم- (أَو وَّزَنُوهُمْ..(3)) وَزَنوا لهم، وقال: إذا اكتالوا على الناس ولم يقل أو اتزنوا، ولكن ذكر الوزن: (وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ)؛ لأنّ الكيل والوزن هو الذي يُتعامل به في البيع والشراء وينوب الواحد عن الآخر.

  • فأشار في الأول إلى موضع الكيل؛ وهو الذي عليه أكثر المعاملة في ذلك الوقت، 
  • ثم الوزن فقال: (أَو وَّزَنُوهُمْ) أي: وزنوا منهم، فيقولون: كِلتُك حقك، ووزنتُك طعامك: يعني كِلتُ لك، ووَزنتُ لك.

 (وَإِذَا كَالُوهُمْ) كالوا لهم، أو وزنوا لهم (يُخْسِرُونَ (3)) ينقصون قليل. (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)). 

فلما دخل بعض الأخيار على بعض الأمراء سابقا، تحدّث معه فقال له: انتبه في نفسك فإن الله يقول: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)) يعني الذين يأخذون من حق الناس أمر طفيف في الكيل والوزن يحاسبون، فكيف الذي يأخذ الأموال الكثيرة من حق المسلمين؟! -انتبه لنفسك-.

يقول الذي يطفّف الكيل والوزن: ويلٌ له! فكيف الذي يأخذ الألوف ويظلم من حق المسلمين ولا يبالي؟!

  • وزنوا يومًا مسكًا لبيت المال عند سيدنا عمر بن عبد العزيز، فرفع كمَّه أو رداءهُ ووضعه على أنفه حتى لا يشمّ، فسئل: ما بك يا أمير المؤمنين؟  قال: هذا حق بيت المال للمسلمين ينتفعون به، وإنّما يُنتفع بشمّه، كيف أشمّه أنا قبلهم؟! أكون ظلمتهم، أخذت حقّهم، لله الله، وكان يضع ثوبه على أنفه حتى لا يشم هذا المسك، ويقول: هذا حق المسلمين اجعلوهم هم يشمّوه ليس أنا أشمّه قبلهم؛ فيخاف أنه ظلمهم بذلك -رضي الله عنه-.
  • وهكذا احتاج ليلة إلى الغُسل في ليلة شاتية، وفي الشام برد شديد، فحمل الماء يريد أن يغتسل، يقول له الخادم: يا أمير المؤمنين قد دفّينا الماء هذا، هو دافي لك،  قال: هذا دفّيته من بيت المال -حطب بيت مال المسلمين-  قال: وأنت واحد من المسلمين، خذ منه، قال: ما أريد، قال: يا أمير المؤمنين إن اغتسلت بالماء البارد أصبح الناس لا أمير لهم؛ تموت! قال: وما أريد أن آخذ من بيت المال شيء، قال: أنا معي -لك طريقة- قال: ماهي؟ قال: أقدّر لك ما آخذه هذا لتدفئة الماء من الحطب؛ فخذه من مالك -سلّمه أنت لبيت المال- قال: هكذا نعم.

انظر!! هؤلاء حال الصادقين الذين خلال سنتين وستة أشهر؛ ملأ الأرض عدل، ملأها غنى، حملوا الذهب يدُورون به في عدد من الأقطار لا أحد قَبِل! كلّ واحد يقول: أنا في غنى عن هذا، خذ، يقول: ما أريد، رجع وقال: يا أمير المؤمنين لا أحد قَبِل، قال: ردُّوه إلى بيت المال؛ فقد أغنى عدلُ عمر الناس سنتين. 

والآن الدول تعمل خطط خمسية، وخمسية فوق خمسية، وعشرية، وعشرينية ولا يوجد نتيجة! والناس تتعب ويتعبون، سنتين وستة أشهر!! اغتنى الناس في مملكة الإسلام كلها، في دولة الإسلام كلها.. سنتين!

  • حتى كان يقول بعض الرعاة للغنم من الأعراب الصالحين، يقولون: مَن هذا الصالح الذي تولّى علينا؟ قالوا: وكيف عرفتم ذلك؟  قالوا: إذا تولَّى على الأمة صالح كفّ الذئاب عن شاهِنا! -الذئاب ما تأكل علينا الشياه، ما تأخذ علينا، تتأدب-، 
  • حتى يُذكر أن أحدهم يوما ما يدري إلّا بالذئب جاء، تعدّى على الغنم، وقالوا: مات عمر ابن عبد العزيز! فوجدوه في الساعة التي فاضت روحه، فاضت روحه في البيت، والذئاب قد تغيّرت!.
  • قالوا: إنّه إذا ولُّي علينا رجل صالح كفّ الذئاب عن شاهنا، ولعب صبياننا بالحيات فلا تضرهم! فيلعب الأطفال بالحيات ما تضرهم، وحصل كله في وقت ذاك الخليفة؛ بالنّية الصالحة والصدق مع الله -تبارك وتعالى- في الوقت اليسير.

فما الذي عملته خطط الدول هذه؟ كم لهم يتبجحون أنهم للتقدم والرفاهية وتطوير الحال والشعب و و كل دولة تقول كذا، كل دولة عربية، أعجمية، مسلمين، كفار، وذا الشعوب؛  فقر مليان، تعب مليان، خمس سنين طيب، خمس ثانية، وخمس ثالثة، وبعد ذلك ما هذه التبجحات؟ وما يستحون كلّهم مستمرّون! قال لك عشرين سنة تقول الكلام هذا، اسكت ساكت عيب عليك؛ لكن حصّل عقول تقبل اللعب وتقبل الضحك عليها ويضحكوا عليهم كذلك؛ ولكن الأنبياء ولكن خلفاء الأنبياء أرباب الصدق والإخلاص، في الوقت اليسير تتحول الأحوال، تتغير بصدقهم وإخلاصهم.

 يقول: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ) -أن يكتالوا من الناس- (يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)) أخذوا منهم، يُخسرون يُنقصون قليلاً؛عرفت هذا في الطعام، ولك مكاييل في المقاييس المختلفة: في دخول الناس وخروجهم، وقيامهم وقعودهم، ومخاطباتهم، هذا كله، لا تعمل لك ميزانين! واحد لك وواحد للناس؟! تبيح لنفسك ما لا تبيح للآخرين، عجيب! تنتقد على الغير ما لا تنتقد على نفسك! (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)) فأنصف..

وكان في وصْفِ نبينا يُنصِف من نفسه ولا ينتصف لها، ينصف من نفسه ولا ينتصف لها.. حتى تسمعون بالقصة لسيدنا سواد بن غَزِيَّة في غزوة بدر التي تمّت في يوم السابع عشر يصفّ الصفوف؛ ولما خرج من العريش في أول النهار والبكرة يصفُّ الصفوف يعدّلها لمقابلة الجيش وبدأوا بالمبارزة، وقدّم الثلاثة مع الثلاثة (هَٰذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) [الحج:19] نزلت فيهم، سيدنا علي، وسيدنا حمزة، سيدنا أبو عبيدة ابن الحارث؛ هؤلاء الذين آمنوا.. وأمامهم عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة؛ الذين كفروا. 

(الَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا ۖ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) [الحج: 19-23] الله أكبر!  (هَٰذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) ما الذي بين هؤلاء؟ 

  •  الإيمان، هؤلاء آمنوا بالله ورسوله،
  • وهؤلاء كفروا، قاموا يتقاتلون على ذلك، الله.

كان يصفّ الصفوف، فإذا بسيدنا سواد بن غزية متقدم قليلا على الصف، بطنه متقدمة، بيده  قضيب ضربهُ على بطنه، 

  • قال: "استقم يا سواد، استوِ في الصف"، سيدنا سواد فكَّر يغتنم الفرصة: يا رسول الله ضربتني أوجعتني في بطني؛ أنت بُعثت بالعدل، أنقذني من نفسك. قال: أنا أستقضي فيك،  والناس في وقت حرب وعدد قليل والجيش كبير أمامهم،  وإذا بالنبي وقف وناوله القضيب الذي معه. 
  • قال: "خذ فاستقضِ لنفسك، اضرب"، قال: يا رسول الله كانت بطني مكشوفة ما علي ثياب، أنت عليك قميص وعليك الرداء.. فتح قميصه، هذا في وقت الشدة ووقت المعركة، فتح قميصه، كشف بطنه الشريف؛ فأكبّ سواد عليه يقبِّله ويلتثمه حتى روّى نفسه من استنشاق الريح الطيب والالتصاق برسول الله، 
  • ويقول له: "ما حملك على هذا؟" لماذا تعمل هكذا؟ قال: حضر ما ترى.. وشممت الجنة على غراء أني شهيد في هذه المعركة، فأحببتُ أن يكون فراقي للدنيا، يكون آخر عهدي بالدنيا أن يمس جلدي جلدك، لا قصدي أضرب، وأنت صاحب الحق.. وأنت القائد لنا.. وأنت قوّمتنا في الصف؛ ولك الحق في ذلك.. وما آذيتنا في شيء.. والفضل لك، والمنة لك..

 ولكن لما حضر الأمر هذا وأحسستُ أنني ميت وشهيد؛ أحببت أن أودعك، وأن يكون آخر عهدي بالدنيا أن يمس جلدي جلد رسول الله. فقلت لك: بطني مكشوفة وكشفت لي بطنك -جزاك الله خير- ردَّ النبي ثيابه، واستوى في الصف ودعا له بخير، ومشى في تسوية الصفوف وأقامها وكلمهم ﷺ بعد ما تمت المبارزة بين الثلاثة والثلاثة، وابتدأ لُحمَة الحرب، فكلم المسلمين وخاطبهم: "والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم منكم رجل فيقتلونه مقبلا غير مدبر؛ إلا كانت له الجنة".

 سيدنا عمير بن حمام كان جائع وعنده بعض تمرات يأكلها، قال: يارسول الله، أعد علي مقالتك ماذا تقول؟ "والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتلونه مقبلا غير مدبر إلا كانت له الجنة"،  الجنة يا رسول الله؟ قال له: نعم، قال: الجنة، بخٍ بخٍ، "ما حملك على قولك بخ بخ؟"، قال: والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها،  قال: "فإنك من أهلها"، قال له: "أنت من أهلها"، لما قال له النبي هذه الكلمة "إنك من أهلها"، نظر الى التمرة وقال إن أنا عشتُ حتى آكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة.. طويلة، أَتأخَّر في الدنيا -أنا سمعت الحبيب يقول: "إنك من أهلها" أَتأخَّر في هذه الحياة الدنيا لنأكل هذه التمرات.. هذه؟! إنها لحياة طويلة.. رمى بالتمر، ودخل المعركة.. فكان أحد الأربعة عشر الذين استشهدوا يوم بدر رضي الله عنهم. 

هؤلاء تعلّموا منه ﷺ الإنصاف، كان يُنصف من نفسه ولا يَنتصِف لها؛ الصحابي هذا ما له حق ! يقول: أوجعتني، أنقذني من نفسك! يقف النبي يناوله القضيب الذي معه، يقول: اضرب، قال: لا، أفأضربك فوق الثياب، أنا بطني مكشوف، أنت لما ضربتني، قال: مرحبا تفضّل، فتح قميصه؛ فأكَبَّ عليه.. ماهذا الإنصاف منه؟!  -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- له حق.

كان في غزوة حنين راجعًا إلى -الجِعْرانة- وإذا بواحد من الصحابة كان في رجله نعل غليظ قوي،  يمر جَملهُ بجانب النبي ﷺ فيدق النبي  بحذائه في رجلهِ عليه -الصلاة والسلام-، فيدق فيه بقوة، كان معه  عصا؛ فضربه وقال: ارفع رجلك -أبعد رجلك-  أبتعَدَ واستحى على نفسِه وصلّح هذا، وجَمَلُه اقترب منه بدون قصد منه كان.. فجاء قال: دقّيت رِجْل النبي، وآذيته، فماذا يكون جزائي الآن؟ وماذا يقول الله عني؟ وماذا يعمل معي؟ امتلأ خوف..  فلما وصل النبي إلى -الجِعْرانة- وجلس بعيد، وخرج إلى عند متاع الجيش يخدم هناك؛ من أجل أن يكون بعيد، خائف!! ما يدري إنه النبي ﷺ ذاك اليوم كان يريد تقسيم الغنائم..  قال: ادعوا لي فلان، وجاءوا ينادونه وخرجوا إلى المحل الذي هو فيه، قالوا: رسول الله يدعوك،  رسول الله يدعوني؟! هل نزل بي قرآن؟ قرآن نزل بي؟  قالوا: ما نعلم شيء نزل؛ لكن سأل عنك، وقال تعال،  جاء فزعان؛ فصلى عند النبي،  قال: إنك البارحة لمّا كنا في الطريق راجعين، مررتَ عليّ، فدقّت نَعلُك في رِجلي فضربتُك، وهذه أربعين من الغنم؛ مقابل الضربة التي ضربتك، خذها لك..

من هذا؟!.. ماهذا الخُلُق؟!.. ماهذه المعاملة؟!.. يُنصِف من نفسُه.. دفع عن رجُل، عن قدمه الشريف، والرَّجُل دَقُّه بنعل غليظ قوي يؤلمه، آلمه وأوجعه؛ لكن حاسب نفسُه، لماذا ضربه بالسوط.؟!  فقال في اليوم الثاني: تعال خذ أربعين من الغنم؛ مقابل هذه الضربة -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) [القلم:4] صلوات ربي وسلامه عليه، سيد أهل الوفاء.

(وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ(3))، فصار أخيار الأمة بالعكس؛

  •  إذا اكتالوا على الناس مِنَ الناس؛ ينقصّون على أنفسهم قليل
  • وإذا كالوا للناس؛ يزيدون، يحتاط أكثر، ويزيد..! بعكس هؤلاء!

وكان منهم بعض الأُسر في البلدة، واشترى بعض أولادهم من السوق طعام، واحد رجع إلى البيت يَكيله، حَصَّله ناقص قليل! ورجع في اليوم الثاني يقول للبياع: كأنك نقّصت في الكيل قليلا.  قال: أبدًا، الكيل صحيح. الآن أنا رجعت إلى البيت لمّا كلتُه؛ حصّلتُه ناقص،  قال: اسمع، أسرتك أسرة علم وتقوى نعرفهم هؤلاء -آل بن طاهر- من جماعة الحبيب عبد الله بن حسين- قال: اسمع، كان عندهُم كيل يأخذون به، وكيل يخرِّجون به، أنت الذي أخذته مني هذا كِلتَه بكيل أهلك الذين يُخَرِّجون به، وليس بالذي يأخذون به..  قال: والله نبَّهتَنا، الرجل وجد كلامه صح، قال له: العفو منك،  قال: هذا الكيل الذي كِلتَ به؛ الذي كان أهلك يُنَزِّلون للناس فيه.. أما إذا اشتروا؛ عندهم مكيال مثل مكيال الناس -ثاني-

  •  إذا هم أخذوا من الناس؛ يأخذون مكيال عادي،
  •  لكن إذا يُعطون الناس؛ يكيلون بمكيال أوفى وأكبر من ذلك.

قال: جزاك الله خيرا؛  نبَّهتنا أنا نسيت، قال: أنت تعرف أسرتك معروفة، اذهب.. أنا ما نقَّصِت عليك في الكيل؛ لكن إنت أهلك كان لهم كيلين: الكيل الذي يُعطون به الناس وافي زايد؛ فهو ذا الذي أنت قِست عليه، عاد وتأكَّد بالمكيال العادي؛ طعام كامل ما فيه ناقص! قال له: جزاك الله خيرا، نبهتنا،  قال: أهلك أهل ورع؛ كانوا يتعاملون بهذه المعاملة.. وهكذا كان الأخيار..

  •  فالمطففين؛ ويل لهم،
  •  وهؤلاء؛ فوز وربح لهم.

 ما أحد يشتري النار بحَبَّة، ما أحد يشتري النار بأشياء طفيفة خفيفة -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.

(وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ(3) أَلَا يَظُنُّ) ألا يوقِنُ أولئك، ويعتقدون، ويعلمون.. 

  •  (أَلَا يَظُنُّ أُولَٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5)) نسوا ذاك اليوم! نسوا أنه لا شيء يَضيع من الحساب، وأن كُلًا سيُعطى حقّه!
  •  (أَلَا يَظُنُّ أُولَٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5)) ماهو اليوم العظيم؟ (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6))، 

يقومون من قبورهم، يقومون من أجداثهم: (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ ) [القمر:7]، ويقومون لرب العالمين، قَومة طويلة مقدار خمسين ألف سنة؛ (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) [المعارج:4]؛

  • ولكن ناس في ظل العرش، وناس مرتاحين وناس كذا..
  • وهؤلاء قيام، قيااام..! مافيها جلوس مافيها قعود، يريد كرسي لايوجد كرسي، يريد شجرة مافيها شجرة، يريد جبل ما في جبل، يريد بيت مافي بيت..! (قَاعًا صَفْصَفًا)  يريد جدار ما في (فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا) [طه:106-107]،
  • يقول ﷺ لبعض الصحابة مرة: "كيف بكِ في يومٍ يجمعُ الله فيه الناس كما يُجمع النبل في الكِنانة" كما يضع النبل ويجمعه ويضعهُ في الكِنانة، يتجمع الناس في الموقف هكذا..؛ زحمة،
  • وفي الصحيحين: "أنه تدنو الشمس من الناس عند جمعهم حتى تكون مقدار ميل، ويلجمهم العرق فهذا يلجمه إلى كعبيه وهذا إلى ركبتيه وهذا إلى حقويه وسطه وإلى سرته وهذا إلى فيهِ"؛ منهم من يلجمه العرق إلى فيهِ قال: ووضع يده في فيه يقول: "منهم من يلجمه العرق إلجاما"، لا إله إلا الله..

وقد تقدم معنا أن بعض أهل العقول الخفيفة يقول؛ كيف هذا الحديث؟ الشمس لما تدنو من الرؤوس سيموت الناس، كيف سيبقون؟! وحرارتها؟ والشمس تُكَوَّر، تُكَوَّر بمعنى يذهب نورها وتبقى حرارته، نعم كما قال الله، وتدنو من الناس كما قال رسوله؛ أنت ماالذي عندك تريد تَحكُم الله وإلّا تَحكُم رسوله؟!

للشمس اليوم طبيعة وحال، لو دنت منا قليل أو ارتفعت؛ تضررنا! لكن عند تَغيُّر الأحوال كلها، تريد أن تطبِّق القانون هذا؟ يا أبله يا بليد ياأصم يا أعمى.. تريد تحكُم المُكوّن الخالق في خلقه؟! هذا كلام الخالق، وكلام حبيب الخالق، تحليلاتك هذه قاصرة، وهي محكومة بسنته الموجودة اليوم.. وإذا بدَّلها ذهب الوزن كله، يا بليد! لا يوجد موت في القيامة! الناس وسط النار وما يموتون، هل تقول لي كم مقدار حرارة النار؟ ما تبقى الأجساد؛ لا بد أن يموتوا، ولكن الله قال: (لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ) [الأعلى:13] 

أنت جئت الآن تحكم لي بحكم الموت الذي يحصل في الدنيا! أنا أكلمك عن رب الدنيا ورب الآخرة الذي خلق هذا وخلق هذا.. وأنت تريد بجزء من خلقك أن تحكم جميع خلقه؟!  اذهب .. اذهب، أنت مخلوق لستَ خالق، والقول قول الخالق لا قولك، وما كلامك هذا إلا سَفه سفه وبلادة، قِلَّ عقل منك!.. سُنَّةً سَنَّها لك في مدة قصيرة -مدة الحياة- تريد تَحكُم بها الآخرة؟ وتريد هذه نفس السُنَّة تمشي؟! هذه ما كانت موجودة لك قبل تكوينك أنت، ما كانت موجودة لك هذه السنة.. وما كانت تحكم عليك، فما الكلام هذا؟ ماذا تقول؟ ماذا تقول؟!.

كلام المصطفى حق، وتخيّلاتك وتصوّراتك وحكمك على الآخرة بأحكام سُنَّة الله في الدنيا؛ باطل باطل باطل.. تُريدنا أن نُكذّب رسول الله من شأن بلاهتك؟! من شأن بلاهتك؟! إنت أبله أصلاً.. تُريد تحكم القيامة بموازين الدنيا! فموازين الدنيا لا تمشي إذا: 

  •  الشمس انشقَّت،
  •  والكواكب انتثرت،
  •  والبحار فُجّرت،

  موازين الدنيا كلها تذهب؛ الآن ميزان القيامة قام، الذي أقام ميزان الدنيا يقيم ميزان القيامة -جل جلاله- فماذا لك فيه؟ أنت تريد تمنعه؟ يعني أنت؟!! ولا تقدر عليه ولا تتحكم فيه؛ هذا كلام بلادة سفاهة، اذهب أنت وتحليلاتك..

القول ما قال الله وما قال رسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله؛ (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ  * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ) [النجم:3-4] صلوات ربي وسلامه عليه. فيريدون أن يَرُدُّوا أحاديث صحيحة؛ بتحليلات، تخيلات، تخبيلات! اجعل خبالتك لك يكفي تتكلم عند الناس بها، استحِ على نفسك، اجعل الخبل في نفسك، اصلح نفسك، الآن تريد أن تردّ كلام النبي؟ لماذا؟ سنَّة الله خلقها، لستَ أنت خلقتها ولا أنت تتحكم فيها، هو الله خلقها.. وبعد ذلك رأيتها أمامك فكأنها هي الإله وهي الخالق، قال؛ ماهي إلا سنّة من سننه، خلقٌ من خلقه، ليست إله، الإله هو الذي يُبدّلها كما يشاء -جل جلاله- ولا يكونُ في كونه إلّا ما يُريد (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ) [البروج:16] -جل جلاله-.

 (أَلَا يَظُنُّ أُولَٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)) ويكون نفخ الصور، والنفخة الأولى: في -يوم جمعة- تقوم فيه الساعة، وجاء في بعض الأخبار أنها في رمضان، يوم جمعة في رمضان، ولكن في السَّنة التي حددها الله -جل جلاله- ما تُعلم، ما يعلمها إلا هو (لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ۗ) [الأعراف:187] ولا تقوم إلّا على شِرار الخلق، ليس فيهم من يقول: الله. فالحمد لله على ذِكر الله، وكلنا نقول: الله، ونقول: لا إله إلا الله، عليها نحيا وعليها نموت وعليها نُبعث -إن شاء الله-

اللهم بارك لنا في يومنا، اللهم بارك لنا في جمعتنا هذه، اللهم بارك لنا في البُكور إلى الجمعة والاستماع إلى الخطبة، ووفقنا لكثرة الصلاة على نبيك في هذا اليوم -صلى الله عليه وصحبه وسلم- واحشرنا في زمرته، واجعلها جمعة مباركة علينا وعلى الأمة، وبارك لنا في الجمعة الأخيرة من رمضان التي ليست إلّا بعد هذه وحدها.. اللهم فبارك لنا فيها ، بارك لنا فيهما، وبارك في أيامنا وليالينا كلّها..

 وفي خاتمة هذا الشهر، بارك لنا وللأمة خاصة في عامنا هذا، يا حي ياقيوم، بركةً واسعةً تكشف الغموم، وتدفع بها الهموم، وتُصلح بها القلوب والقوالب، وتدفع بها المصائب، وتجمع بها الشمل، وتلمّ بها الشعث، وتنشر بها الحق والنور والهدى، وتجعلنا من أهل الحق والنور والهدى فيما خَفي وفيما بدا.

 بسرِ الفاتحة 

وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه، 

الفاتحة

 

تاريخ النشر الهجري

21 رَمضان 1437

تاريخ النشر الميلادي

26 يونيو 2016

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام