(536)
(228)
(574)
(311)
تفسير الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لسورة الفاتحة وقصار السور بدار المصطفى ضمن دروس الدروة الصيفية العشرين في شهر رمضان المبارك من العام 1435هـ.
﷽
(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7))
الحمد لله حمداً يُطهّرنا الله به تطهيراً عن جميع الكَدَر والآفات، ويرفعُنا به إلى عليّ المقامات، مع أهل الإنابَة والإخْبَات، وصلى الله وسلم وبارك وكرّم على من أُنزِلت عليه الآيات البيّنات، وجُعل الإمام في جميع حضرات القرب والتقديس لأهل المراتب العليات، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وكرّم على من ختمتَ به النبوّة والرِّسالات، وجعلتَه سيِّد أهل الأرض وسيد أهل السماوات، أفضل الصلوات وأزكى التسليمات وعلى آله الطَّاهرين القادات، وعلى أصحابِه الغُرِّ الميامين النجوم الزاهرات، وعلى أهل محبته ومُوَالاته فيك المُقتفين لأثرِه في الأقوال والأفعال والصفات والنيّات، وعلى آبائه وإخوانه من النبييّن والمُرسلين أهل الدرجات، وعلى آلهم وصحبهم ومَن سار على سبيلهم بإحسان إلى يوم الميقات، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا مُجيب الدعوات، ويا قاضي الحاجات، ويا كاشِف الكُربات، ويا رفيع الدرجات، وياسامِع الأصوات، ويامُبعِد الآفات، ويا من بيده أمر الظواهر والخفيات.
وبعد،،
فإننا في تأمُّل معاني الآيات البيّنات، تطوف أرواحُنا حَول خطاب مولانا -جلّ جلاله وتعالى في علاه-، وتلقّيها لِمعانيه الواسِعات ودلالاته الجَليّات، وإشاراتِه العظيمات، مَررنا على سورة الكوثر وسورة الماعون ورأينا الحق -تبارك وتعالى- يُذكّر بشأن المصائب والبلايا الواقِعة في الخَلق وأسبابها الكبرى في التّكذيب بالدّين؛ بقوله: ( أرأيت الذي يكذب بالدين (1))، والمكذّب بالجزاء والحِساب مكذّب بالإسلام؛ فلا يمكن أن يكون مُسلماً مُكذّباً بالجزاء والحساب.
ومن أعطى الإيمان بالحساب والجزاء حقّه، هُدي إلى الإسلام؛ لأن الذين وقفوا عن الدخول في الإسلام مِمَّن يُؤمن في الأصل بيَوم الحساب كمِثل أهل الكتاب، صدّهم عن هذا الإيمان ضَعْف الاستشعار للحساب والجزاء، فكان هذا هو الأصل في توقّفهم الذي ترتّب عليه إيقاف غيرهم، بانقطاعِهم الذي ترتّب عليه انقطاع غيرهم. قال: (فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا) -حسداً- (أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ..) [البقرة:89-90] -جل جلاله وتعالى في علاه-، (بغياً) -حسداً- (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ۖ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة:146].
أتَرى لو تمكّن الإيمان بالجزاء والحساب في قلوبهم سيقدمون على ذلك؟ من أجل الحسد، من أجل السُّلطة الزمنيّة، من أجل الثمن القليل؛ يكذّبون بنبيّ أُخذت عليهم العهود من أنبيائهم أن يؤمنوا به ويصدقوه.
فلمّا كان منهم ذلك تبعهم قومهم على ذلك، فكذبوا برسول الله، فلا يتمكّن الإيمان بالجزاء والحساب من قلبٍ إلّا هُدي إلى الإسلام، وهُدي إلى اتباع خير الأنام محمد ﷺ.
إذا فالمشكلة عند المدَّعين، الإيمان بيوم الحساب ثم أنّ إيمانهم ويقينهم بِه يضعُف ويقصُر سواءً كانوا من الكفار -أهل الكتاب- أو من المسلمين الذين خَفَّ إيمانهم وضعف، وأشرف على التزلزل والتّضَعْضُع حتى يُخاف أن يسلبه أحدهم عند الموت والعياذ بالله -تبارك وتعالى-.
إذاً فحقيقةُ الفساد الواقع في الناس هو فَقْد هذا الإيمان، فَقْدُ الإيمان.. الإيمان بالرجوع إلى من ابتدأ، ينْسُون من ابتدأهم وينسون مرجِعهم ومنتهاهم، فهذه هي المصيبة، الحالة التي يتّرتب عليها كلّ شؤون الكفر، كلّ شؤون الظُلم، كل شؤون العدوان، كل شؤون الطغيان، كل شؤون المكر، كل شؤون السحر، كل شؤون البَلايا الواقعة في الأمة .
إذاً فإنما يكون مثالاً صالحاً في الإنسانية والبشرية، قائماً بالخلافة عن ربِّ البريّة بمزية ذُكرت للملائكة من قبْل خلق آدم عليه السلام يكون صالحاً لهذا وأنمُوذجًا صحيحًا صالحًا نقيًّا مُصطفًا للبشر؛ من تمكّن الإيمان بالله ولقاءِ الله من قلبه حتى كأنّه يشهدُ الجزاء شُهود عينٍ يراه أمامه.
هذا الإنسان نموذج للإنسانية الصالحة، نموذج للبشرية المستقيمة، نموذج للصّلاح على ظهر الأرض، نموذج للخير والنور والبركة للبشر أجمعين، فعلى قدْر قوّة الإيمان يعتلي له الشأن في أنه أنموذج الصلاح في عالم الإنسان، فالله يزيدنا إيمانا، الله يقوّي لنا الإيمان؛
ولذا قال العارفون: "ما نزل من السماء إلى الأرض أشرف من اليقين" قال ابن مسعود: "اليقين الإيمان كله".
ولهذا نجد أنّ الذين يرجعون في الآخرة إلى العذاب، يُرَكّزُ الحق في آيات كثيرة أن مصيرَهم إلى هذا المصير السيّء الصّعب، و سببُه نِسيان الحساب، نِسيان هذا اليوم:
إذاً فيتمكّن الإنسان في الخير إذا كان ذِكرُ لقاء الله والوقوف بين يديه للحساب حاضراً في ذهنه، ممتلئ به قلبُه وصدره. مكّننا الله في ذلك، قال سيدنا أبوبكر الصديق وقال سيدنا علي بن أبي طالب: "لو كُشِف الغطاءُ ما ازددت يقيناً" فهكذا شأن المُوقنين.
ويقول الله -تبارك وتعالى- في من يَستلم كتابه بيمينه: (فيقول هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ) -أي ايقنت- (أني مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ ) [الحاقة:19-20]، قال ما نسيت الحساب، فلهذا جاء الكتاب طيّب، استلم كتابه بيمينه (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ)، الحمد لله انظر الى النجاح والفوز (..هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ..) لماذا؟ (إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ ) أيقنت؛ كنت على يقين وثقة على إيمان قويّ (إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ ) فماذا كانت النتيجة لمّا كان مُوقن بالحساب وغير ناسٍ له؟ (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ) [الحاقة:21-24] الله الله الله..
وعبّر الصحابة عما يجدونه من الرِّفعة في التّجلّي والتّملّي والشُّهود الأسْنى، فقالوا لسيّدنا المصطفى: "نَكُونُ عِنْدَكَ، تُذَكِّرُنَا بالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حتَّى كَأنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِن عِندِكَ، عَافَسْنَا الأزْوَاجَ وَالأوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، نَسِينَا كَثِيرًا، فَقالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ، إنْ لَوْ تَدُومُونَ علَى ما تَكُونُونَ عِندِي وفي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ المَلَائِكَةُ علَى فُرُشِكُمْ وفي طُرُقِكُمْ "، أي لانكشف لكم الغَيب وصارت أُلفة وانسجام بينكم وبين المَلأ الأعلى وظَهرتْ لكم الملائكة وصاروا يصافِحونَكم في الطرق، " لو تدومون على ما أنتم عليه عندي…
وفيه أن دوام الحُضور وذكر الجزاء في المصير؛ إذا استقرَّ في قلب الإنسان انكشَف حُجبه، انكشف الحُجُبَ عنه " لو تدومون على ما انتم عليه عندي" فدوام الحُضور سببُ كشفِ السُّتور، "لو تدومون على ما انتم عليه عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات".
وأن بعض أصحابه شهَد من شهد من الملائكة، وبعضهم صارَ يُكلّمهم ويأنَسُ بهم ويجلس إليهم ويتحدث معهم كسيدنا عِمران بن حصين -رضي الله عنه وعنّا به-،
وهكذا يقول ابن عباس: من كان عندك يا رسول الله؟ قال: أرأيته؟ قال: ذلك جبريل، وخرج في يوم بني قُريظة فمرّ على بعض الصحابة فقال: هل مرَّ أحدٌ الآن هنا من هذا الطريق؟ قالوا: "دِحية الكلبي على فرسه، قال: ذلكم جبريل، تصوّر بصورة دِحية الكلبي وظهر للناس؛ ولذا ألّف الإمام السُّيوطي رسالة خاصة: (تنوير الحَلَك في رؤيا النبي والمَلك) ذكر عمّن نوّر الله قلوبهم في الأمم السابقة، أنهم شاهَدوا الملائكة وخَاطبُوهم، وكذلك ذكر ﷺعن بعض صُلحاء الأمم السابقة، وصُلحاء هذه الأمة أعظم.
قال الحق -سبحانه وتعالى- عن سيّدتنا مريم: (فتمثل لها بشراً) [مريم:17] -وهو جبريل- (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا)- شاهدته- (قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ۖ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا ۚ وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا ) [مريم:17-21].
وهكذا جُعِلَ هذا مخصوصٌ لأربابِ القلوب والنُّور في عالم الدنيا، أمّا عند نزع الرُّوح فالكلّ يرى الملائكة حتى المُجرمين:
وهكذا يكون ظُهور الملائكة بعد خُروج الرُّوح من الجسد للجميع.
قال سبحانه وتعالى بعد أن ذَكر علامة المُكذّبين بيوم الدّين وربَطَها مُباشرة بالسّلوك وخُصوصاً فيما يتعلق بحقوق الخَلق، مُشيراً إلى أن مُعالجة هذه القضية ومسألة حقوق الإنسان وغيرها، ما يمكن أن تقوم إلا على إيمان قَويّ بالله واليوم الآخِرة، وإلا ما رُوعِيَت الحقوق مهما تُظوهِر بها وأُعلِن عنها وتُحِدّث بها، ما دام فيه تكذيب بالحساب، الطرُق واسِعة لكذا وكذاك هكذا، لكن إذا وَقَرَ في القلب الإيمان بيوم الحساب اطْمئن.
"المؤمن من أَمِنَهُ الناس على دمائهم وأموالهم وأعراضهم" مأمُون؛ لا عِرْض يَنتَهِك ولا مال يخُون فيه ولا يَغدِر ولا نَفْس يَقتُل، "إنّا أصحاب مُحمد لا نَغدِر"، قالوا وقد صَدَقوا -رضي الله عنهم-. إذا وَقَر الإيمان في القلب فهو الذي يُؤمَنْ صاحبه، و"المؤمن من أمِنهُ الناس" كلّ الناس يأمنونه على دمائهم وأموالهم وأعراضهم.
لذا كان المشركون في مكة في الوقت الذي يَسبّون النبيّ ويُكذّبونَه ويُؤذونَه؛ ودائعهم الغالية يضَعُونها عِنده - هو الأمين- وأنت تقول هذا كذّاب ساحر مَجنون، كيف تترك الوَديعة عنده؟! ما استأمنْتَ على أخيك ولا على عمّك وذهبت لمحمد تضعها عنده، لماذا؟؟
وفي كمالِ أمانته لمّا جاء الامْرُ بالهجرة أراها لسيّدنا علي واحدة بعد الثانية وقال: "هذه لفلان وهذه لفلان وهذه لابن فلان، أَدِّ عني الودائع ثم الحق بي"، فأمَرَه أن يتأخّر عن الهِجرة.
أنت تعلَم أنّه في الهجرة، هذا مُحتاج إلى مُعاوِن مثل عليّ يكون معه، وأنّ علي يشقُّ عليه التأخُّر عن رسول الله ولكن من أجل الأمانة؛ حقوق الناس يُؤدّيها، كيف الأمانة مَودوعة عنده وهم قاعدين بيقتلونه ويُؤذونه؟ مهما عمِلوا هم يعلمون أنه ما في مكان آمَن مِن هذا المكان، هذا الموطِن ! طيّب ما عِندكم إخوان؟ ما عِندكم أقارِب؟ ما عندكم جيران؟ ما عندكم أصحاب؟ ما أحد آمَنْ من مُحمّد! ودائِعُهم الغالية مَوضُوعةٌ تحت يَده -صلوات ربي وسلامه عليه-. وليست وّدائع المسلمين هذه ودائِع الكفّار المُشركين موضوعة عنده، قال: هذا لفلان وهذا لفلان، أَدِّ عني الودائع ثم ألحق بي" وأدَّى الودائع ولَحِق إلى المدينة -رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه-، وهكذا فهذا شأنُ الإيمان.
ذكَر لنا في صفات الذّين يكذّبون بيومِ الدين: (فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)) يَحْتقِر صاحبَ الحق وخُصوصاً إذا كان ضعيفا، لايوجد ميزان عنده إلا إذا شيء أمامه يُخيفه؛ شيء قُوّة، شيء عظَمَة، شيء استعراض، شيء خلفِيّة
(يدُعُّ اليتِيم) أي من كان ضعيفًا في الظاهر، لا حِماية له من جِهة سُلْطة ولا من جهة قوية عسكريّة لا يبالي به. ( يدُعُّ اليتِيم)، بعد ذلك يحرِص على هذا المال، أي قِرش يجده يلهفه؛
( وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)) يريد فقط للجيب، على الحساب فقط، وما يُعطي، (وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ).
ثم هدّد الحقُّ أهل الأوصاف الثلاثة: من هم ؟
لماذا ذَكر هذا عند هذا؟ لقوّة التّقَارُب بين الإثنين والتّجاذُب بينهم، هذا المكذِّب بيوم الدّين، ومن علامته:
يقرُب منه تماماً أهلُ النفاق وأهلُ الرِّياء والبخيلون بالأشياء الحقيرة، يقول أنّ مُحقَّرات الذنوب تُوصِل إلى هناك. فالمُتهاوِن بالصلاة يقرُب من المكذّب بيوم الدّين، والمُرائي بالصّلاة والذي يُطاوِع نفسَه في البُخلِ بالماعون (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5))؛ الذين ما عَرفوا قَدْر هذه الشّعيَرة الكبيرة في دين الله.
قال بعض الذين أرادوا أن يُسْلِموا: قالوا سنسلم يارسول الله، لكن هذه الصلاة خفّفها علينا، لا نُريد أن نصلّي". قال: " لا خير في دين لا صلاة فيه "، فالّذين ما عرفوا قَدْر هذه الصلاة فأهمَلُوها وضيّعوها (فهم عن صلاتهم ساهون) مَطْرُوحين جَنْب الذي يكذّب بيوم الدّين، بدليل على أنّ المُتهاوِن بالصلاة غالباً ما يُختم له بسوء الخاتمة -يموت على غير المِلََة- والعياذُ بالله تبارك وتعالى-، لأنّها أعظمُ الشّعائر بعد الشهادتين، أعظمُ أرْكان الإسلام بعد الشهادتين ولأنّ فيها إعلانُ الخضوع لله بالركوع والسُّجود، يَنحني ويضع أشْرف أعضائه على الأرض، فتاركها كأنه يقول: أنا لا أخضَعْ لك، أنا لا أتذلَل لك! تقول لمَن؟ لخالِقك؟ فهو مُتكبّر.
فلذا قال كثيرٌ -بكُفر تارِك الصّلاة- من الصّحابة والتابعين وبعض أهل الفِقه وأهل العلم، والجمهور قالوا: "إن ترَكها جاحداً بوُجوبِها فقد كَفَر، وإنْ تَرَكها وهو مُصدّق بوُجُوبِها ولكن تَهاوُن وكَسل فهذا فاسق وليس بكافر، لأنه على خَطَر مُعرّض لنَزْع الإيمان والمَوت على سوء الخاتمة " فهكذا.
قال: (فويل للمصلين (4) الذين هم عن صلاتهم ساهون (5)):
(فويل للمصلين (4) الذين هم عن صلاتهم ساهون (5))، في هذا ربط الصِّفات ببعضها، ومن هنا قالوا: أوقاف في القرآن لو وَقَف الواقِف عليها متعمِّداً مُعتقداً معناها لكَفَر، مثل (فويل للمصلين (4) الذين هم عن صلاتهم ساهون (5))، ثم يقِف عند: (فويل للمصلين (4)) هذا ليس َوقْفا، فلو تَعمّدَ هذا الوقف مُعتقِداً معناه، معنى الوُقوف عليه لكَفَر، فيرجِع مثل السّاقِط الهابِط المُستهزِئ بآيات الله -تبارك وتعالى-، كالذي يقول لصاحبه؛ اذهب بي إلى عِند المِخْمَارة والخمَّارين واترك المساجِد لهؤلاء المُصلين، ويقول:
دع المساجِد للعُمّار تعبُدُها *** وائْتِ بنا نحو خَمَّار ليَسْقِينا
ما قال ربُّكَ ويلٌ للذين سَكِروا *** وإنّمـــــا قال ويــــــلٌ للمُصلّينا
قال سبحانه وتعالى: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ) [المائدة:90], وقال: (فوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)).
ومِثل كثير مِنكم يَقرأ سورة العصر في الخَتْم وغيره ويقِفْ عند: (إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ) [العصر:2]، لو اعْتقد هذا المَعنى سَقَط! أنبياء ورسل وصالحون في خُسر؟ يا أبلَهْ! هذا مُستثْنى (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ..) [العصر:3] هذا مَرْبُوط بهذا، ليس هو مَحلّ وَقْف، العاصين هم الذي في خسر؛ (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ..) [العصر:2-3]؛ وهذا يقرأ أراد من نفسه يُجوِّد (لفي خسرْ!!.... إلا الذين ..)؛ كيف تفصل بين المُسْتثنى والمُسْتثنى منه؟! وهذا معنى ضروري، لا يَستقيم إلا بِه، هل الناس كلُّهم في خسر؟! ستخسِّر الُمُقرّبين والأنبياء والصّدِّيقين والعارفين؟! هم من الإنسان، ليس هكذا! هؤلاء مُستثنين منهم، الإنسان -غير الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر- هذا في خسر!. وهذا الثاني: (فوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4))، ليس مَحل وَقْف
(فوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6))، في ماذا يُراؤون؟ يُعظِّمُون الخلق، أرادوا منزِلة عند الخَلْق، يريدون جاه عند الخلق، مُراءاة الخَلْق، في تبِعِ الخلق؛ نسُوا الخالِق وتَمسّكُوا بالخلق، مَن الذي سيمدحنا، من الذي سيعطينا؟ من الذي يُنزِلنا مَنزِلة عنده؟ من الذي سيصير لي جَاهْ عنده؟ هؤلاء بدل ما يَرجُون الله يرجون الخلق، بَدل ما يخافون الله يخافون الخلق؛ هذا سيتكلمون عليّ فيه سأتركه، وهذا لن يحبّونا فسأتركه، وهذا.. يراؤون، يحسِّنون الصلاة لأجل الخلق.
كان بعضهم يصلي في المسجد، شَعَرَ بالبرد، تَعرّف على واحد دخل، حسّن هيأتُه، سمع هاتف يهتف به: لولا أنها أوّل صلاتك لله لأخرجك إلى ديوان الأشقياء، فتُحصِّل الشقاوة في هذه الساعة.. من أجل مخلوق تُحسّن هيأتك؟
(فوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4))، (لَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6))، يراؤون؛ يطلُبون الناس بعملِ العبادة لله، يعبدون الله قاصدين الخلق، فهذا الرِّياء الحَرَام المَحْض وهو الشِّرك الخَفِيّ، (لَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ) يطلبون المنزلة عِند الخلق بعبادة الخالق -جل جلاله وتعالى في علاه- ويتظاهرون بما ليس فيهم، ومَن تزيّن للناس بما يَعلمُ الله، خُلوَّه منه؛ "شانَه" الله، أي أظهرَ عَيبَه وفَضَحه يوم بَعد يوم، بعد بكره، بعد سنة، بعد سنتين بعد عشر سنين يُفتَضَح يَنكشِف.
ومهما يَكُن عِند امرئٍ من خَليقة *** وإن خالها تَخفى على الناس تُعلَمِ
ولذا لما جاء واحد عند سيدنا عثمان شَهِدوا عليه بالسرِقَة -أثبتوها- وأمرَ بقَطْع يَدِه، قال: اعفُ عنّي يا أمير المؤمنين فهذه أوّل مرّة، فقال سيدنا عثمان: كَذَبْت إنّ الله لا يفضَح عَبْدَه لأوّل مرة، كَذّاب أنت، الله تعالى لا يَفضَح عبدُه أوّل مرّة، لو كان أوّل مرة سَرَقت لم تأتِ عندي هنا، ولاحضرَ لك الشهود،ولم تثبت عند الحاكِم.
انظر! ربي له عادة مع خَلقِه وله سُنّة كريمة وله لُطف بعباده، لو كان أوّل مرة لن تصل الى هنا، ولن يفضحك، إن الله لا يفضح عبده لأول مرة، إلا إذا تكرّرت مِنك، قال له كذبْتَ لو كان أول مرة ما فَضَحَك، إن الله لا يفضح عبدَه لأول مرة، وهكذا.
وكان جالس مرّة في المَسجد، واحِد من الناس مَرّ في الطريق، فالتفت نَظَره إلى امرأة وأخَذَ ينظُر محاسِنَها ثم دخل، فلما دَخَل المسجِد التفت إليه سيدنا عثمان قال: يدْخُل أحدُكُم علينا وعلى عَينيه أثَر الزِّنا، تُبْ وإلاّ عَزَرْتُك، فقال الرّجل: ما هذا يا أمير المؤمنين، أَوَحْيٌ بعد رسول الله؟ تذْكر أخْبَاري المَخْفِيّة؟! ما أنا بَعيد منك خارِج المسجد وهنا ترقُبُها عليّ، وتأتي بخَبَرها، أوحيٌ بعد رسول الله؟' قال: لا، ولكنّها فِراسَةٌ صادقة؛ سمعتُ النبي يقول: "اتّقوا فِراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله"، قال: تُبتُ إلى الله، قال: تُبْ وإلا عزَّرْتُك -رضي الله تعالى عنه-. قال صاحب الفِراسة هذا، اعفُ عنّي أوّل مرة سرقت، قال: كذبت! إن الله لا يفضح عبده لأول مرة.
سبحانه عزّ وجل، كم يَسْتُر على عِباده؟ ثم إذا وفَّقهُ للتّوبة سَتَرها في الدنيا وسَتَرها في الآخِرة كذلك، يذكّر الله بعضَ العِباد بذُنوبِه إذا وقَف بين يديه في الحساب، يظُن أنّه يَهْلك ويذهب الى النار، يقول: يا رب، ألَم تغفِرْ لي؟ يقول: بلى سَترتُها عليكَ في الدنيا وأنا اليوم أغفرها لك، ادْخُل الجنّة برَحمتِي! ما أكرمَه من رب -جلّ جلاله وتعالى في علاه،- هكذا.
(فويل للمصلين (4) الذين هم عن صلاتهم ساهون (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6))، يطلبون المنزِلة عنْد الخَلق بِطَاعةِ الخالق -جلّ جلاله وتعالى في علاه-، أما كفى اطِّلاع الله على أعْمَالِكم؟ الله أكبر..
فبقِيَ من ظهَر شيءٌ من أعمالِه أو كان في أعمالٍ لا بّد أن تَظهَر؛ كصَلاة جُمعة وحُضور مَجامِع إلى غير ذلك من الأمور التي لا يتأتَّى أن تُؤدّى إلّا ظاهِراً
فلهذا يقولُ في إظهارِه بعضُ الأعْمال لِمَن أمِن الرياء وأمَّل الاقتداء، وأمّا إن كان مِمّن لا يُقتدى به وما كان أيضاً ممّا لابُد أن يُعمَل ظاهراً، فإن كان فرحهُ من أجل نَيل المنزلة عند الناس، فهو واقعٌ في الرياء، ولو أظهَر ذلك بعد مُدة، وهكذا..
كان يذكر الشيخ الشعراني -عليه رحمة الله- أنّ شَيطاناً حَسَد صالِحاً صامَ فكَتَم صِيامَه حتّى عن أهْلِهِ عِشرين سنةً، فحَاولَ فِيه، آخر شيء قَنِع بأن يُخرِجَه من أجل الكِتمان إلى أن يُظهره حتى أقل شَيء، يُوسوِس له أراد يُظهِّرما نَزْعت الخواطِر فِيه، كاتِمٌ عملُه بينه وبين الله، فتصوَّر شيطانُه بصورة إنسان، والرجل الصّالح كان قصّاب يبِيع اللّحم، فجاءَه بصورة أنه تَعبان ضعيف ويقول له: زِن لي -ليشتري مِن عِنده- فوزَن له فقال له: زِدني فإن لي ثلاثة أيّام صائِم، زاد له قليلا، فقال: زِدني، ثلاثة أيام وأنا في صوم، زاد له، قال: أقول لك ثلاثة أيّام وأنا صائم، وأنا في صوم، زِدني! فقال: ما هذا الصيام.. ثلاث أيام ! أنا لِي عِشرين سنة صائم، ضحِك وذهب لم يشترِ لحم ولا أراد شيء، يريد الرجل أن يظهِّر الذي كتَم وينتقل ثوابه من ثواب السِّر إلى ثواب العلانية، أقل شيء يحصِّل مَكسَب من ورائه أنّ ثوابُه نقَص، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ما هذه المُصيبة! استَدرَجَه من هذه الحَيثيّة؛ (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) [الكهف:110].
وهذا أيضاً يؤكّد معنى (الذين هم عن صلاتهم ساهون (5)) يعني يراؤون إن كان الناس يرونهم صلّوا مع الناس، وإذا كانوا وحْدَهم تَرَكوا الصلاة.
(الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)) الماعون: ما يَتعاون الناس بِهِ مِن الأمتِعَة؛ إبْرة، دلْو، قَدْر، إناء، ماء؛ يتعاونون الناس به بينهم البَيْن. وهذا لا يقبل أن يَعطِي أحَد شَيء، ولا أحد. اترك! هذا ملكنا الخاص لا تُعطون أحد شيء أبدًا، هذا يفْزَع مِنه حتى أهل بيتِه ما يُخرِّجون منه شيء.
وكان بعض الصّالحين يستَكثِر من الأدوات التي يَحتاجَها الجيران يضعها في البيت، مِن أجل إذا أحد استَعَار شَيء يعطيه. هذا الذي يبْخَل بالأشياء الخَفِيفة في قلبِه شُح، فهو بعد ذلك يَبخل بالزَّكاة.
ومِن مَعَاني الماعون؛ الزكاة،
ومن مَعاني الماعون؛ الماء
ومن مَعانِيها؛ المال.
وجاء في رِوايات من الأحاديث، أنه لمّا سُئِل عن الماعون، قال صلى الله عليه وآله وسلم: في الماء، وفي الحجر، وفي الحديد، قالوا: ماذا في حَجر؟ ماذا في حديد؟ قال: قِدر من حَجَر كانوا يصنعون قُدُور مِن الأحجَار، قال: فاس من حديد. (وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)) فيمنع ماء أو يمنع قَدْر أو يمنع فاس، وهو عنده موجود والثاني سيستعمله ويردّه له)! يقول له: عفواً مافي.. (وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7))، فذمَّهُم الحَق.
وكان يقول أبو العلاء قال: (وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7))، قال: أعْلاه مَنْع الزكاة وأدناه مَنْع الإبرة، فكُلّ هذا مَنْع الماعون، (وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) والذين رجّحُوا معنى "يمنعون الزكاة" قال مذكورة جنب الصلاة، والصلاة مَقرُونة بالزكاة، ما يُصلّون وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ، يقصِّرون في الصلاة ويمنعون الزكاة فهؤلاء قصّروا في حق الله وفي حقِّ خَلق الله (الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)).
ولكن الأخيار يَفرَح إذا وافق لِجاره إذا وافق لِقريبه إذا وافق لأحد من المسلمين، شيء من أمتِعتِه شيء من حاجَته وهكذا، ثم يرْتقون في الأخلاق حتّى ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ..) [الحشر:9].
الله يَنفعنا بالقُرآن، وما فيه مِن البَيان، وفي الآيات المُباركات ويجعل نورها حالّاً في قلوبِنا ويجعَل صِفاتنا من صِفات القرآن، مِن أخلاق القُرآن، التي شَرَعها لنا الرحمن، وجَعل القُدوَة لنا فيها مِمّن أنزل عليه القرآن، خيرِ إنسان، المنتقى مِن عدنان، محمد بن عبد الله سيد الأكوان صلوات ربِّي وسلامُه عليه، اللهمّ بحقِّه عليك اجعلنا لا نَنْصرف من شهر رمضان إلا وقد تمكّن الإيمان مِن قلوبنا والأخلاق الحِسان مِن جميع جوارحنا حتّى نَهْتدي بهَدْيِ هادينا إليك ودالِّنا عليك، مبلِّغنا وَحْيَك الذي أوحيته إليه، عبدك المصطفى محمد، صلِّ وسلم وبارك عليه وآله وصحبه وتابعيه وحزبه وعلينا معهُم وفيهِم.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
19 رَمضان 1435