(228)
(536)
(574)
(311)
تفسير الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لسورة الفاتحة وقصار السور بدار المصطفى ضمن دروس الدروة الصيفية العشرين في شهر رمضان المبارك من العام 1435هـ.
﷽
(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6))
الحمد لله مُكرمنا بالقرآن، وبمن أَنزل عليه القرآن، وبالشهر الذي ابتدأ في مثله إنزال القرآن، وبالاجتماع على تأمُّل معاني القرآن، وبالنيّة على العمل بما في القرآن، ونسأل المُنعم بهذه النعم أن يُتِمَّ النعمة علينا من جميع الوجوه في السرّ والإعلان، وأن يُثبتنا عنده في أهل القرآن، نسأله أن يُديم الصلاة والسلام على عبده الذي بلسانه يَسَّر القرآن، وجعله الأكرم عليه من جميع الإنس والجان في كل قاصٍ ودانٍ، في السر والإعلان، بجميع الاعتبارات والمَعان، أدم اللهم صلواتك عليهم من غير حُسبان وتسليماتك الزاكيات في كل آن، وعلى آله وأهل بيته المطهّرين عن الأدران وعلى صحابته الكرام، الغُرّ الأعيان، وعلى من استقام على منهاجهم باتّزان، وسار في سبيلهم يقصد وجهك يا رحمن، وعلى آبائه وإخوانه من النبيين والمرسلين المخصوصين منك بالعطايا الواسعات الرِّزان، وعلى آلهم وأصحابهم ومن سار في سبيلهم إلى يوم وضْعِ الميزان، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا كريم يامنان.
أما بعد..
ففي وسط نعمة تأمّلنا لكلامٍ من عند الإله، حملهُ إلينا أكرم الخلق على الله محمد بن عبد الله، مررنا على تأمُّل بعض معاني: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) [الكوثر:1-3]، جعلنا الله من محبيه الذين يكثُر فيهم الخير ويتكاثر، ويتوالى ويتواتَر، عكس ما يحصل لشانئيه فيُبترون، وعن الخير يُقطعون، وإلى النار يَرجعون، اللهم شرّفنا بمحبته وزِدنا محبة لك وله ومنك ومنه في جميع الليالي والأيام والأنفاس واللحظات يا أكرم الأكرمين.
وشؤون المحبة -لو تأمّل الإنسان معناها- لوجدها عميقةً غزيرةً مُحيّرةً للأذهان حتى في محبة الخلق لما أحبّوه من الأشياء والأمور، فكيف إذا وُصف عبدٌ بأنّه يحبّه الله، بأنه يحبه الله، بأنه يحبه الله.. فيا ربنا بأحب محبوبٍ لك أدخلنا في دوائر أهل المحبة منك ولك، فضلاً ومنّاً وكرماً، كما أدخلت أهل بدر في تلك الدائرة، فكانوا فيها من أهل القلوب الحاضرة والأذهان الواعية المُنوّرة الذاكرة؛ ولذا سمّاهم في الكتاب أهل العلم.
وذلك أنه كان بعد غزوة بدرٍ يُؤمرُ أهل المجالس إذا جاء بدريٌّ أن يوسّعوا له ويفسحوا، فإذا ضاق المجلس أن يقوم بعضهم إكراماً لأهل بدر، فلما ثَقُل على بعض النفوس ذلك قطع الله عنهم هذه الوسوسة أو الاستثقال البشري الطبعي وأنزل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَلِسِ)، وفي قراءة: (فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ) [المجادلة:11]، (وإذا قيل انشزوا) -قوموا- (وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا) لماذا (َيرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ)؟ مثل هؤلاء البدريين الذين تقومون لهم، من أجلهم (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) [المجادلة:11]، فسمّاهُم الذين أوتوا العلم، إنما سُقوا من كأس المحبة شربة؛ فتحت لهم معرفةً وإدراكاً ووَعْيًا وفهْمًا لمحمد وما جاء به وما أنزل عليه ربه سبحانه وتعالى، (يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ).
ويقول سبحانه وتعالى في سورة الماعون:
بسم الله الرحمن الرحيم
(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1))
(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ)، إعرضْ عليهم يا نبينا رؤية من أُصيب ببليّة التكذيب بالدّين أي بالجزاء والمحاسبة كما قرأنا في الفاتحة: (مَلِك) و(مَالك يوم الدين) يوم الجزاء، يوم الحساب، يوم القِصَاص، يوم الحكم، يوم عرض الأعمال، والجزاء عليها واسْتيفاء ذلك (فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47]، (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى) [النجم:39-41]،(يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) [الزلزلة:6]، فالدّين بمعنى الجزاء والحساب.
(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)) لا يستشعر استشعاراً حسناً مسألة أنه يُجازى ويُخاطب ويُحاسَب على ما صدر منه؛
هذا الصنف من الناس هو سبب أنواع الفساد الحاصلة في الأرض، فمنبع الشر والفساد الحاصل على ظهرِ الأرض بين البشر من أهل مرض التكذيب بالجَزاء والحساب، فالذي يُكذِّب بالحساب ويكذّب بالجزاء، ما الذي يَحمِله على ترْك المُشتَهيات؟ مهما كانت، ما الذي يحمله على فِعل الخيرات بما فيها من مَشقّات؟ ما الذي يمنعه أن يكون مُتنكّراً للخالق والخَلق؟ كما ذكرت الآيات، فهُم سبب البَلاء.
(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)) يخاطب العُقلاء لينظروا في حال المكذِّب بالجزاء والحساب والمُؤاخذة:
(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1))، هل نظرتَ وفكّرتَ وتأمّلتَ حال المكذِّب بالدين؟ هل اتّضح لك؟ هل فهمت ما علامته؟ ما يُميِزّه؟ ما يدلُّ عليه؟
خذ هذه العلامات: (فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)) يدُعُّ: يزجر وينهَر ويدفع بشدّة، اليتيم، (يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)).
ويُذكر في السيرة أنّ يتيماً كان مُتولّيًّا لشأن مالِه أبوجهل وجاءه يوماً عارياً لا يجِد ثوباً يلبسه، فقال: أعطني من المال الذي عِندك ما أتجمَّل به وألبَسه؟ فدافَعَه ونَهَره، فقال له بعض زُعماء قريش: تَوسّل إليه بمحمد يُعطيك حقك، وإنما يَقصدون الاستهزاء -واليتيم لا يعرِف ذلك- فذهب إلى النبي فلما أخبره الخبر قال: تعال معي، فذهب به إلى أبي جهل فخَرج عليهم، قال: ألِهذا اليتيم مال؟ قال: نعم نعم الآن، فأخرج له مالَه وأعطاه، فلما خرج، وكانوا قد أرسلوا له واحد يتبعه ينظر ماذا يعمل، لمّا صدّقهم هذا اليتيم، وقال لهم أبوالحكم هذا، إستقبلهم ونفَّذ الأمر بسرعة وأعطاه.. فلما خرج إليهم قالوا: صبَوْت؟ قال: لا ما صبَوت، ماذا؟ أرسلنا لك واسطة لك أنت تكرهها وما تُحبها وتعجّبنا، ماذا يجري؟! قمتَ تبادر وتعطي! قال: نعم، ما فعلتُ ذلك إلا أني رأيت عن يميني حَرْبة وعن يساري حَرْبة، خشيت لو تأخرتُ عن أمره لطُعِنت بهما، قالوا: سحَرَك محمد، قال: سَحرْني!! ما سَحرني، أنا رأيتُ الحَرْبة أمام عيني، سأموت أنا؟ أم أنتم؟!
كما جاء أيضاً في السيرة قِصّة أخرى لرجل أيضاً من الأعْراب تنكَّر له أبو جهل في حقٍ كان له، فجاء يتظلّم، يشْكو عند مُجتمع قريش ومَحل زُعمائهم ومَجلسهم في المسجد، وصادف أن النبي ﷺ يُصلي عند الكعبة، يقول: من يُنصفني من أبي الحكم؛ حقّي ومالي عنده، فتنكّر لي فيه، وأخذه مني في وقْت كذا؟ قالوا: اِسمع، لا أحد سيأخذ حقك من أبي الحكم مثل ذاك. انظر الى ذلك الذي يصلي عند الكعبة، هو هذا.قال: مرحباً، وجاء الأعرابي إلى النبيّ، بعد أن أنهى الصلاة قال: يا هذا الفتى؛ مرحباً. قال: إن أبا الحكم ظلمني في مال كذا وأبى أن يُؤدي إلي حَقي فتظلّمتُ وجئتُ إلى مجْمع قريش، فقالوا: لا يُخرج حقي منه إلا أنت، قال: قالوا لك هكذا؟ تعال معي، فذهب وطَرَق الباب على أبي جهل فخرج، قال: أعطِ هذا حقّه الذي عليك، قال: نعم مرحباً الآن الآن، وخرج وأعطاه ماله كلّه وسلّمه. كانوا قد أرسلوا واحدا ينظر الأمر، فقال لهم أمر غريب، فلما جاء قال له: مالك يا أبا جهل؟ مالك يا أبا الحكم؟ ما الذي حصل لك؟ خِفت من محمد؟ قال: ما هو إلا أن طرق الباب فمُلِئتُ رعباً، دقّ الباب، قال: فخرجت فرأيت على رأسه فحلاً فاتحاً فاه، فما كان مني إلا هذا، خلاص ما قدرت أفعل إلا هذا، فكان هذا من تأييد الله لمحمدٍ ﷺ، انظر وقت الحاجة والشّدة ذهبوا إلى هذا، وهو يعرف أنه يبغضه وأنه يؤذيه ﷺ من أجل إعطاء صاحب الحق حقه ولأجل نصرة المظلوم.
يقول: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)) إنّ نوعية المكذّبين بالدّين فسادٌ على ظهر الأرض، احتقارٌ للضّعفاء، منعٌ من الحقوق وأدائها لأهلها -هذا وصْفهم- هذه مصائب المكذّبين بالدّين.
(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)) يدفعه بشدّة، يظلِمه، يبدأ ظُلمه بالإغلاظ القَولي له وتقطيب الوجه أمامه ودفعه، ثم يظلمه حقه.
(فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)) لا ينتبه من نفسه في أداء الحقوق لذوي المسكنة من المحتاجين؛ سواءً فيما وجب عليهم من زكاة أو فيما توجّه عليه من مواساة لذي النكبةِ ولذي الحاجة، فلا يحمل نفسه على حسن أدائها ولا يحض غيره، بل ربما كَسَل وربما فتر، يقول ماذا عليك منه؟ اتركه! (وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ)؛ هذه مظاهر المكذّبين بيوم الدين.
وواصل الحق تعالى فقال: (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5))، قال إن في المكذّبين بيوم الدين، إما التكذيب من الأساس والأصل وإما التكذيب النسبي، فيهم من يتظاهر بالصلاة ولكنه عن الصلاة ساهي، فهم واصلٌ فسادهم إلى أعلى أركان الدين بعد الشهادتين وهو الصلاة، فهو:
مصائب.. ما هذه المصيبة! ماهو رأس الشر؟! يكذب بيوم الدين.. يكذب بيوم الدين..
وهذه القضيّة التي تجعل المُكذّبين بيوم الدّين يتساهلون بأبشع الجَرائم، وإذا رأَوا مصلحتهم ومُشتهاهم ومُرادهم في أمرٍ لم يُبالوا، وكم رأينا على ظهر الأرض والذي يقتل والذي يكذب والذي يغش والذي يسرِق والذي يخون والذي يسْحَل الناس، سحْلٌ في الشوارع وهم في السيّارات والذي والذي.. لو لديه تصديق بيوم الدّين ما حصلت هذه المفاسِد، لو لديه تَصديق بالجَزاء والمُحاسبة ما حصلت هذه البليّات. لكن (يكذّب بيوم الدين) وصارت الآفة عند الجميع، إما الكُفر بالجزاء والحِساب.
وبعض الكفار يُصدّق على العموم بيوم الدّين وإن كان تصديقاً فيه ضَعْف وقُصور ونقْص، ولكن يؤمن بالجزاء، فلِذا تجدْ عنده كثير من ضَبْط التعامل وقِيامه بشيء من الأخلاق
لكن الذي يُكذِّب بالجزاء من أصله هذه مشكلة، وعملوا لهم قوانين وأنظمة وشدّدوا عليها وجعلوا وراءهم مباحث ومخابرات وعصاباتهم تزيد وتعمل مشاكل، ومنهم مظاهر فيما يُسمى في عصرنا.. وهل في عصرنا اتّزان في المسميّات وتحقّقٌ بها؟ ما يُسمّى في عصرنا ببلاد التّقدم والحُريّة والديموقراطية، في مظاهر كثيرة من هذه العصابات، دوخّت الشرطة والوزارات والمخابرات، وامتدت خيوطها إلى الأقسام المختلفة.
مصيبة التكذيب بالجزاء والحساب؛ هذه آفة الآدميين، آفة البشر، آفة الحياة؛ مصيبة التكذيب بالجزاء، وأنواع البليّات عند المؤمنين أن يغيب عن أذهانهم شأن الجزاء والحساب، ينفصِل عن استحضارهم وشعورهم شأن الجزاء والحساب، وينطلقون في أنواع البلايا والمعاصي والذنوب، ولو كان شأن الجزاء هذا حاضراً في الذهن، لن يصدر الشر هذا.
كان كثير ما َيَضْرب الشيخ الشعراوي مثل ويقول: لو جمّعنا لشاب قوي جميع مطالبه وشهواته في غرفة وقلنا له هنا موجودة، تفضّل تدخل هذه الغرفة وتبيت ليلتك كلها وتفعل ما تشاء، ولكن إذا تفعل هكذا؛ انظر، بجوارها هنا غرفة أخرى مُعدّة مُجهزة بأحدث أجهزة التعذيب ننقلك من هنا إلى هناك. أما الليلة أنت في حرية، تفضل إلى هنا، وكثير مُشتهيات له قوية مولّع بها هنا موجودة، لما يراها.. ويرى المكان الآخر. يقول لا لا لا.. لماذا لا؟ ذهبت شَهوتُه؟ الشهوة هي في مكانها ما ذهبت، لكنّه عند إقْبالِه على شهوته كان حاضرًا في ذِهنه الجزاء -الغرفة الثانية وما فيها من آلات شديدة- فما يرضى أبداً.. ادخُل، حُر، طول الليل.. ادخل لا لا لا.. وذا هنا؟ لا، أبعِد هذا ممكن أجي..
فقال: فآفة المسلمين -مصيباتهم- غياب شأن الجزاء عندما يقدمون على الحِيل، على الكذب، على الشهوات المحرمة، غائب عنهم الجزاء ولو كان الجزاء حاضر وموقنين به لن يحصل هذا أبدًا.
(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)) أخذوا صور الدين ومظاهره، لا حقيقة لهم في الإيمان بالحساب والجزاء ولا تمكُّن للإيمان في قلوبهم؛ (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5))
فكان يقول عطاء بن دينار: الحمد لله عن صلاتهم ساهون ولم يقل "في" صلاتهم ساهون، ولو قال "في" صلاتهم ساهون لهلكنا، نسْهو في الصلاة، ولكن عن صلاتهم ساهون.
(عن صلاتهم ساهون (5))؛
كما جاء تفسير ذلك عن جماعة من الصحابة ومن بعدهم (عن صلاتهم ساهون (5)) يؤخرونها عن أوقاتها، يضيّعونها، (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)) كلمة شديدة تُقال للزجر وللردع في الأمر الفظيع: (ويل)، (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ (6)) يصلُّون أمام الناس، وإذا حضر الناس حسَّنوا الصلاة، كما ذكر أن المنافق يؤخر صلاة العصر، يقول حتى إذا كانت الشمس بين قرني الشيطان، أي قريب الغروب قام فنقر الأرض برأسه كما ينقر الغراب، صلى صلاة بلا حضور بلا خشوع، هذه سمّاها صلاة المنافق، منافق، الحق يقول في المنافقين: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ) -في صلاتهم- (وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلاً) [النساء:142] ، يصلّي وذكر الله ليس عنده، (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) [طه:14]؛ من أجل أن يستقّر حال باطنك وضميرك مع استشعار حال عظمتي وجلالي وينكشف لك من سر ذلك ما تجتمع به عليّ -لذكري-. وهذا يُصلّي ولا يذكر الله، لأنه معه حركة اللسان والصورة وليس في قلبه خشوع.
(فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ (6))؛ وهنا في أمر المُراءاة ومنع الماعون آثار وشؤون تحصلُ من الأساس الأول وهو التكذيب بالدين، وأنواع تأخُّرنا عن الخيور وارتقاء المراتب ووقوعِنا في الهفوات والشرور سببها الأساسي ضعف استحضار الجزاء واليقين به.
أما إذا امتلأت قلوبنا استِحضار الجَزاء كأنّنا نشهده وكأننا نعاينه، فإن الاستقامة تتمّ بالقلب والجوارح فهذا دواءٌ حسنٌ يُخرَج بمثله من رمضان، الله يقول: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183]، يقوم عندكم تذكّر الجزاء فيستقيم ويستقر في بواطنكم ويحضر في أذهانكم كأنكم تشاهدونه فتُحجمون عما لا يرضي ربكم (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) هذه مدرسة الصوم تخرِّجّك بعد الغفلة عن الحساب مستحضراً شأن الحساب كأنك أمامه، تعلم جزاء ما تقول وجزاء ما تفعل وجزاء ما تنظر وجزاء ما تنطلق فيه.
ونسأل الرحمن أن ينظر إلى قلوبنا نظرة نمتلئ بها إيماناً حتى يصير الغيب عندنا كالعَيان، ونزداد يقيناً في كل ساعة وآن، ونحذر من معاصي الرحمن.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن اليقين ما تهوّن به علينا مصائب الدنيا، ومتّعنا بأبصارنا وأسماعنا وقوّتنا وفي سبيلك ما أبقيتنا واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وأرنا في العدو ثأرنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا يا أرحم الراحمين.
اجعلنا ممّن بالآخرة يوقنون، وعليك يتوكّلون، وبك يثقون، في كلّ شأن من الشؤون، في الظهور والبطون، يامن يقول للشيء كن فيكون، افتح لنا باب الفهم في القرآن، والعمل بما أوحيت إلى حبيبك خير إنسان، وتولنا به في السر والإعلان.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
18 رَمضان 1435