تفسير جزء عمَّ - 46 - تكملة تفسير سورة الليل
للاستماع إلى الدرس

يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1436هـ.

نص الدرس مكتوب:

(إِنَّ عَلَيۡنَا لَلۡهُدَىٰ (12) وَإِنَّ لَنَا لَلۡأٓخِرَةَ وَٱلۡأُولَىٰ (13) فَأَنذَرۡتُكُمۡ نَارٗا تَلَظَّىٰ (14) لَا يَصۡلَىٰهَآ إِلَّا ٱلۡأَشۡقَى (15) ٱلَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ (16) وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلۡأَتۡقَى (17) ٱلَّذِي يُؤۡتِي مَالَهُۥ يَتَزَكَّىٰ (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُۥ مِن نِّعۡمَةٖ تُجۡزَىٰٓ (19) إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ رَبِّهِ ٱلۡأَعۡلَىٰ (20) وَلَسَوۡفَ يَرۡضَىٰ (21))

الحمد لله مكرمنا بأنوار القرآن العظيم، ودلالة النبي الكريم، على الصراط المستقيم، وهدايته إيَّانا إلى المولى العظيم، اللهم لك الحمد شكرا ولك المَنُّ فضلا يا وليَّ الإنعام والتكريم، فصَلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم على عبدك المصطفى الذي بسطت لنا به بساط الفضل والجود وجعلتنا به خير أمةٍ أُخرِجَت للناس في هذا الوجود، وعلى آله وصحبه الرُّكَّع السجود، وعلى أتباعه أهل المحبة والوفاء بالعهود، وعلى آبائه وإخوانه مِن الأنبياء والمرسلين سادات أهل الشهود، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم بإحسان إلى اليوم الموعود، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا بَرُّ يا ودود.

وإننا في نعمة التأمل لكلام ربِّنا سبحانه وتعالى نغنم السويعات القصيرة مِن الأعمار القصيرة رجاءً في العطايا الكبيرة مِن الوهَّابِ ذي الهِبَاتِ الكثيرة؛ رجاء رضاه ونيل مرافقة أصفياه في دار كرامته ولقاه. تأمَّلنا معاني في سورة الليل حتى انتهينا إلى أواخرها.

يقول الحقُّ -جلَّ جلاله-: (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ (12))، وعَلِمنا مِن سِرِّ هذا الكلام أنَّ الله لا يُهمِلُ، ولا يترك، ولا يُغفِلُ مُتوَجِّهًا إليه إلاَّ ألهمهُ الرُّشد، وإلاَّ يَسَّرَ له سبيل السُّعْد، وإلاَّ أعانه على الوفاء بالعهد، وإلاَّ رَقَّاه إلى مراتب المجد، وإلاَّ يَسَّرَ له الوصول إلى دار الخلد. 

(إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ (12))،ولنعتبر ذلك بما بَثَّ مِن الهدى في هذه الكائنات؛ حتى أصناف الحيوانات هداها لمصالحها وكيفية عيشها، كيفية تناسلها، كيفية أكلها، كيفية شربها، كيفية مسكنها (..حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ* فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا..) [النمل:-18-19] (وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا ۚ يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ) [النحل68-69]. فجعل بيوتها على الشكل المُسَدَّس، أوفق الأشكال بمهمتها وحاجتها، تتقن ذلك. 

وهكذا (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) [النمل:20-22]. هدى الكائنات إلى مصالحها، وكيف تتربَّى، وكيف تُربِّي الأمهات والآباء؛ طيرًا، أو حشراتٍ، أو سِبَاعًا، أو أنعامًا، إبلًا، أو بقرًا، أو غنمًا، أو أسماكًا، -سبحان الله-، ورتَّب ترتيبها، فهذا الذي هدى هذه الكائنات إلى مصالحها، هل يَبخَلُ بالهداية لمن استهداه في إصلاح قلبه؟! في سلوك السبيل إليه تعالى في علاه! هو أكرم.

(إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ (12))، وذكرنا أنَّ هُدَاهُ يبدأ مِن البيان بواسطة الإنزال للكتب والإرسال للرُّسُلِ؛ 

  • فأعلى معالِمِ الهداية بيننا وفينا أنبياء الله ورسله: (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام 90:]. (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [النحل:123]. 
  • ثم الهدى والهداية بالتوفيق.
  • ثم الهداية بأنوار الكشف والمعرفة الخاصة: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [العنكبوت: 69]. 

    ثم تستمر آثار هذه الهداية حتى إلى جنة الله فيهديهم إلى أماكنهم ومنازلهم؛ تدخل الجنة سِعَةُ مُلْك أقلِّ واحدٍ فيها مثل الدنيا عشر مرات، فكيف تجيء على مَحَلَّك؟ فيه هداية (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَانِهِمْ ۖ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) [يونس:9]، (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) [محمد:6]. حتى أنَّ الداخل منهم إلى الجنة أهدى إلى منازله في الجنة منه إلى منازله في الدنيا؛ أعرَف بمنزله في الجنة أكثر مما يعرف داره في الدنيا! الله. هداية مستمرة، اللهم اهدنا فيمن هديت. 

(إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13))؛ دارين خلقناهم مِن لا شيء؛ ما كان أولى ولا آخرة. قال أنا خلقتهما، ورتَّبتُ ما فيهما، وملكتُ أمرهما، وفي قبضتي كلاهما وإليَّ إرثهما: (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) [مريم:40]. فرَبُّ الدنيا هو، وربُّ الآخرة هو، ومَلِكُ الدنيا هو، ومَلِكُ الآخرة هو؛ ما يقطع عنه إلاَّ ظُلُمات وأوهام تَعلِقُ بأذهانِ الناس فيظنون أنَّ هنا ملكًا لغيره، وما مِن مُلْكٍ إلَّا له، وإن كان مما يَهَبُ مِن المُلْكِ شيئا أحقُّ بأن يُسمَّى مُلْكًَا فما يَهَبُ في الجنة، مايهبُ لأهل الجنة: (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا) [الإنسان: 20]؛ فهذا أعلى المُلْك المجازي، وهم أيضًا في الجنة يملكون كل ذلك، لكن تحت مُلْكِ المالِك؛ هم وما ملكوا تحت ملكه -جلَّ جلاله-. 

ولا يجري شيءٌ مِن ذَرَّاتِ الجنة، ولا مِن ذرَّاتِ أهل الجنة في الجنة إلاَّ بتدبيره، وتقديره، وتيسيره، وسمعه، وبصره وإرادته فهم ملكه؛ لكن إن كان شيء في عالم الخلق يصح أن يُسَمَّى مُلْك فاحذر أن تظنه سَلْطَنَة، أو رئاسة على ولاية، أو على دولة، أو على دولتين، أو على الأرض، ما هذا يصح ويحق أن يُسَمَّى مُلْكًا!!؛ ملآن غُصَص، ملآن نُغَص، وآخرته يُؤتَى بهم مغلولةً كُلَّا يداه إلى عنقه؛ فَكَّه عدله، أو أوبقه جَوْره "ما من والٍ يلي أمر ثلاث مائة من الأمة فأكثر إلا جاء يوم القيامة ويَدَاهُ مغلولتانِ إلى عُنُقِهِ، فَكُّه عدله أوأَوْبَقه جَوْرُه"؛ بل جاء في رواية: "ما مِن والي يلي أمر عشرة فأكثر مِن الأمة  -لا اله الا الله- يموتُ يوم يموتُ وهو غَاشٌّ لرعيته إلاَّ حَرَّم الله عليه الجنة".

فاحذر أن تُسَمِّي هذا مُلْك! هذا مُلْك مجازي في أتفه ما يكون، في أقل ما يكون، في أصعب ما يكون، في أخطر ما يكون، إن كان هناك مُلْك في العالَم الخَلْقِي يصح أن يُسمى في المُلْك المجازي فمُلْك الجنة؛ لا هم، لا غم، لا كدر، لا نصب، لا موت، وخالدين فيها بأمره، ومع ذلك مُلْك مجازي بالنسبة لهم؛ لأنه هو فوقهم، الله، وهم ونعيمهم تحت ترتيبه وتقديره وتيسيره؛ -الله أكبر- فالمُلْك ملكه: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) [الملك:1]. (بِيَدِهِ الْمُلْكُ) بيده الملك، دعْ قلبك يسمع: (بِيَدِهِ الْمُلْكُ).. هذا قلبك مغشوش بأوهام كثيرة ووساوس مِن إبليس ومِن جنده يقولوا: مُلْك مُلْك مُلْك (بِيَدِهِ الْمُلْكُ)، (بِيَدِهِ الْمُلْكُ)، لا معك، ولا مع غيرك، هو وحده؛ مُلْك الدنيا، ومُلْك الآخرة (بِيَدِهِ الْمُلْكُ).

(قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ) [آل عمران:26]، فالناس ما بين مُؤتَى ومنزوع ، أولائك ملوك الأرض، ملوك الدنيا؛ لكن المؤتي والنَّازِع هو، المَلِك هو، هذه صور. (مَالِكَ الْمُلْكِ) (بِيَدِهِ الْمُلْكُ)، (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ) [الحشر:23]، (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة:4] لماذا يوم الدين؟ لأنَّ الأملاك المجازية كلها تذهب والممالك المجازية كلها في ذلك اليوم ما عاد شي لها أثر، الذين كانوا على رؤوس تلك الممالك أكثرهم على صور الذَّر! إنسان صورة ذَرَّة، يمشي، ذهبت الممالك (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) [غافر:16]؟ (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ): يوم الجزاء والمحاسبة. إذًا فمُلْك الدنيا له، ومُلْك الآخرة له (مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ..) [النساء:134].

يقول: (وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَىٰ (13)) فسفه تطلبونها مِن غيرنا! تلجأون إلى سوانا لتُحَصِّلون شيء فيهما! وهي ملكي وتحت أمري! أجعلها لهذا فتنة، ولهذا رحمة، ولهذا زاد للآخرة، ولهذا زيادة عذاب عليه والمُلْك مُلْكِي.وقرأنا اليوم في السورة في الصلاة يقول لنا ربنا:

  •  في ذكر قوم نوح: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ) [القمر:9-10]، قال الذي يَقضِي ويُقَدِّر هذه الأشياء ليختبر الناس بعضهم لبعض: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا) -فاستوى- (فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا..) [القمر:11-14]؛ ولهذا ثبتت.. وإلَّا ماذا ستعمل سفن الدنيا أمام الأمواج هذه المتلاطمة؟ (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) طيب وبعد ذلك؟ (وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) [القمر:15].
  • وبعد ذلك ماذا حدث؟ (كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ * تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ) [القمر:18-20]. المُلْك مُلْك مَن يا جماعة؟
  • وبعد ذلك ماذا حدث؟ هلكت عاد (فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ) [الحاقة:8]، (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ * فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ * أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ * سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) [القمر: 23-26]، ثم يقول سبحانه وتعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) [القمر:31]. الله، هلكت ثمود..(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ* إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ ۖ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ*نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ) [القمر:33-35] .
  • وبعد ذلك ماذا حدث؟ (وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ * كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا..) [القمر:41-42]، قُلْ للمكذبين اليوم على ظهر الأرض: أنتم لا أول ناس، ولا ثاني، ولا ثالث، ولا عاشر.. إيه! اعقلوا! قد كذَّبَت أُمَمٌ مِن قبلكم ونهايتهم هكذا، وأنتم انتظروا، لايوجد غير هذه النهايات أصلا، هذه سنة الله في الوجود.

قال: (..كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ) ثم خاطبنا: (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُولَٰئِكُمْ) هل الكفار في القرن العشرين نوع آخر؟ لا يقدر عليهم؟ وإلاَّ كيف يعني؟ وإلاَّ خرجوا من قبضته، وإلاَّ ماذا معناه! (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُولَٰئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ) [القمر:42-43]  يقولون عندنا خطط، وتجميع، واتحادات (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِر * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) [القمر:44-45]؛ وهذه مشاكل الدنيا خفيفة (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ..) -مازال يوم الحكم الكبير مُقبِل- (وَالسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ) وما الحكم فيها؟ هما صنفان، ذكرهم عندك: 

  • (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ..)؛ لأنهم توجهوا لغير الله، وجوه توجَّهت لغير خالقها، أخذت تعصيه، تخالفه وراء الشهوات، والمُرَادَات التافهة قال هاتوا الوجوه هذه (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) -تُشَوَّه وتُصلَى في النار- (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ) هذه التي توجهت إلى غيره (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ* إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ * وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ..) [القمر:48-51] أمثالكم كثير، قد هَلَّكْنَا هَلَّكْنَا هَلَّكْنَا، عاد باقي انتم،  هل ستصعبون علينا أم ماذا! (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) وبعد ذلك في السِّجلَّات كل ما عملوه وقالوا (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ) [القمر:52-53]، (مُّسْتَطَرٌ): مسُطَّر ومكتوب.
  • والقسم الثاني: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) [القمر:54]،هذا الحكم الثاني في الآخرة. نعم، أين؟ قال (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ..) [القمر:55]؛ لأنهم صَدَقوا (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ..) [القمر:55]، ما رِفْعَة هذا المكان؟ قال لك: (..عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ) [القمر:55]، (..عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ)، الله أكبر،  القدرة له وحده فرفعتهم وكرامتهم أنهم "عنده"؛ (عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ).هنيئا لهم..

في مَقْعَدِ الصِّدقِ الَّذِي قـد أشرَقَت  *** أنواره  بالعِنْدِ  يا لَكَ  مِن  سَنَا

والمُتَّقُونَ  رِجَاله  وحضوره *** يا ربِّ فالحِقنَا بِهِم يَا ربَّنا

يا ربِّ  فالحِقنَا بِهِم  يَا ربَّنا  *** يا ربِّ فالحِقنَا بِهِم يَا ربَّنا 

يا ربِّ فالحِقنَا بِهِم يَا ربَّنا

مَن فاته هذا الرَّكْب خَسِرَ كل شيء، وما معه إلاَّ الهلاك والبَوَار، اللهم لا تُخَلِّفنَا عنهم.. ياربِّ ألحقِنَا بهم يا ربَّنا.

يقول جلَّ جلاله: (وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَىٰ (13))، وما دام الأمر هكذا فاسمعوا الإنذار مني، دعوا الذين يخوفونكم بالأشياء (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ) [الزمر:36]؛ هؤلاء يخوفونكم بفقر وهؤلاء يخوفون بحرب، هؤلاء يخوفونكم…) بماذا؟ اتركهم. (فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّىٰ (14))، إن شي خوف فهو هنا، إن شيء يجب أن تحذروا منه، هذا هو (فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّىٰ (14)). 

(تَلَظَّىٰ(14)) : تلَهَّب، تتوقَّد، تتوهَّج (فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّىٰ) -مشتعلة- (أُوقِدَ عَلَى النَّارِ أَلْفَ عامٍ حَتَّى احْمَرَّتْ ثُمَّ أَلْفَ عامٍ حَتَّى ابْيَضَّتْ ثُمَّ أَلْفَ عامٍ حَتَّى اسْوَدَّتْ فَهِيَ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ لا يُطفأ لهيبُها)؛ (فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّىٰ (14))، تتوقَّد، تَلْهَب، تتوهَّج (تَلَظَّىٰ) اللهم أجرنا منها (لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ (16))، يصلاها: مُخَلَّدًا فيها هذا الأشقى الكذَّاب، أمَّا مَن ماتَ على الإيمان؛ فإن كان عنده معاصٍ لم يتب منها، ولم يعفُ عنه الرحمن فيها، فيُعَذَّبُ في النار بمقدار، ثم يُنقَلون إلى الجنة.

 كل مَن حُفِظ في قلبه نور الإيمان والتوحيد ولو مثقال ذَرَّة يُنقَل مِن النار، ويكون مع أهله إلى الجنة، لكن ما أحد يطيق النار ولو لحظة..  خذ لك عبرة مِن نار الدنيا  هذه  التي هي خفيفة.. ما رأيك دقيقة كذا، دقيقتين، ممكن؟ لو يعطونك عشرة آلاف، مائتين ألف، لو يعطونك مليون، مليونين  فقط  دقيقة في النار؟.. لا لا أتعب نفسي ولا أدري هل سأحيا وإلاَّ سأموت! خذ  المليون واذهب ما تُطِيقها؛ هذه عبرة لك، قال الله عنها هذه النار: (نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً) [الواقعة:73].، (فإنَّها جُزْءٌ مِن سَبْعِينَ جُزْءًا مِن نَارِ الآخرةِ، قيلَ يا رَسولَ اللَّهِ إنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً ..) تكفي هذه الحرارة تَحرِق!! (..قالَ: فإنَّها فُضِّلَتْ عليها بسبعين ضِعْفَاً) اللهم أجرنا مِن النار.

(فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّىٰ (14) لَا يَصْلَاهَا..) -على سبيل الخلود- (إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ (16)) قال ﷺ: "يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِه مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ"، وقال ﷺ: "إنَّ أهون أهل النارِ عذاباً مَن يُنعَل بنعلين مِن نار.."، وفي رواية: "جمرتان مِن نار في رجليه يفور لهما دماغه، يحسب أنه أشدّهم عذابًا.." -يظن نفسه أنه أشدهم عذاب- "وهو أهونهم عذابًا"؛ لا شي هيَّن في عذاب النار؛ مُهين غير هَيّن -اللهم أجرنا من النار-  قال: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ أُولَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ۖ وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) [الأنبياء:101-103] الله، لا إله إلا الله.

وأحد العلماء الأخيار؛ الشيخ نوح القضاة عليه رحمة الله، كان مفتي في الأردن، قال لي ولده: رأيته بعد الوفاة، قلت له: ما أكثر شيء نفعك يا أبي؟ قال: "يا ولدي خوفي مِن هذا المصير"، الخوف الذي كان في قلبي مِن هذا المصير وحذري منه هو الذي نفعني، قال الله: "لا أجمَعُ على عَبدي أمنين ولا خَوفينِ، إن هو خافني في الدنيا أمنته يوم أجمع عبادي، وإن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمع عبادي"، وهكذا تشهد سيرته بهذا الخوف مِن الله، كان مُتَحَرِّز مِن أدنى الأموال تأتيه مِن بيت المال في أي شيء، يتحرَّز مِن أخذ الورقة، يتحرَّز مِن الاتصال بتلفون العمل في غير مهمة العمل، لا يتصل، كان يخاف المصير ولهذا نجى، لا إله إلاَّ الله، قال ربي: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) [الرحمن:46].

وروى الإمام ابن عساكر عليه رضوان الله: أنَّ شابًّا في أيام سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يحضر مجلس عمر؛ لأنه مِن أهل القرآن، والعقل، والتقوى، فتعلَّقت به إحدى الفتيات وتعرَّضت له في الطريق فأعرض عنها، كررت عليه، قال: أنا الآن ذاهب إلى مجلس عمر وأرجع أنظر في أمرك على رجوعي، تعرَّضَت له، مشَت به إلى منزل لها، ودخلت تقول له: أدخل، فأراد أن يرفع رجله فأغمُيَ عليه! فَوَقَعَت في حَيْرَة! هذا شاب وعلى باب دارها وتُتَّهَم، ذهبت إلى عند جاراتها قالت: استرن عليّ ستر الله عليكنّ، سنأخذ الشاب وسنضعه عند بيت أبيه! وحملنهُ ووضعنه تحت الباب، تأخَّر الليل، وعندما رأى الولد لم يأتِ خرج يبحث عن ولده، فوجدهُ على الباب ملقى مَغمِي عليه ورشَّه بالماء وحرَّكه حتى أفاق: نعم يا ولدي ماأصابك؟!. قال: أُغمِي علي. ما سبب إغماءك؟ قل لي؟!. قال: تبعتني امرأة، وأخذتني معها إلى باب دارها فلمَّا قالت ادخل، عند الباب، أردت أن أحمل رجلي فذكرتُ وقوفي بين يدي الله فأغمي علي، وإذا به مرة ثانية يُغمَى عليه، فحرّكه، وإذا به ميت، مات! دعا أصحابه وأقاربه غسلوه وكفنوه..

وسيدنا عمر ينتظر اليوم الثاني ما جاء، اليوم الثالث أرسل إلى أبيه: أين ابنك؟  قال: رحمه الله يا أمير المؤمنين، عظَّم الله أجرك!. متى توفي؟ قال: ليلة كذا ما سبب وفاته؟ ذكر له القصة والخبر قال: اذهبوا بنا إلى قبره، أين قبره؟ فذهب إلى عند قبره وصلَّى على قبره، بعد ما صَلَّى عليه قال: أيُّها الشاب إنَّ الله يقول: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) يقول الذين معه: فإذا بصوت الشاب مِن القبر يخرق مسامعنا يقول: نعم يا أمير ياعمر، وقد أعطاني ربي الجنتين (لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ (16)).

ولمَّا ذكر الحق: (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ (7))، وَ(فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ (10))، جاءت أسئلة للنبي ﷺ مِن جملتها: سيدنا أبوبكر الصديق، سيدنا علي بن أبي طالب، سيدنا عبد الله بن عمر، وغيرهم مِن الصحابة سألوا النبي: أنعمل في أمرٍ قد قُدِّر ورُتِّب أم نستأنف؟ قال: بل قُدِّر ورُتِّب. قالوا: فَفِيمَ العمل؟ قال: "اعملوا فكلٌّ مُيَسَّر لما خُلِقَ له"، وتلا الآية: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ (7) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ (10)).

وهكذا تكرر جوابه ﷺ للمتسائلين عن أسرار القضاء والقدر، اذا كان القضاء مقدَّر، كيف يكون؟ وجاء: 

  • في رواية سيدنا علي أيضا أنه كان ﷺ في جنازة.. صلوا على الجنازة وجاءوا للدفن، قال فجلس ﷺ ومعه عود ينكِتُ به في الأرض يقول: "ما مِن نفسٍ منفوسة إلاَّ وقد كُتِب محلها مِن الجنة أو النار" قالوا: أفلا نتكِّل يا رسول الله؟  قال: "لا، اعملوا فكلٌّ مُيَسَّر لما خُلِقَ له"، وتلا الآية.
  • وفي بعض المواقف سألوه فقال: "بأمرٍ قد سبَق وقُدِّر ورُتِّب". قالوا: ففيمَ العمل؟ أفلا نتكِّل فمن كان مِنَّا مِن أهل السعادة فسيصير إلى السعادة، ومَن كان مِن أهل الشقاوة فسيصير إلى الشقاوة. قال: "اعملوا فمن كان مِن أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة، ومَن كان مِن أهل الشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاوة"، وتلا الآية (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ).
  • وهكذا جاءهُ مرةً شابَّان قالا: يا رسول الله أرأيت ما نحن فيه؟ أُنُفٌ -أمر نستأنفه- أو قد قُضي وقُدِّر؟ قال: قد قُضِي وقُدِّر. قالوا: ففيمَ نعمل؟ قال: "اعملوا فإنَّ كُلَّاً مُيَسَّر لما خُلِقَ له، إنَّ الله خلق الجنة وخلق لها أهلا فهم بعمل أهل الجنة يعملون، وإنَّ الله خلق النار وخلق لها أهلها فهم بعمل أهل النار يعملون" قالوا: الآن نُجِدُّ في العمل يا رسول الله؟

هذا وصف العبيد وهذا واجبنا؛ أمَّا سوابق الأقدار، فللحق يقضي ما شاء، ويَا ربِّ ثَبِّتنا واجعلنا ممن أردتَ لهم الخير وكتبت لهم السعادة والحسنى وزيادة في الغيب والشهادة.

يقول: (وَسَيُجَنَّبُهَا) -فهذا- (الْأَشْقَى (17)) يصلى هذه النار ويُخلَّد فيها؛ الذي كذَّب بالآخرة، كذَّب بالله، كذَّب بالنبي محمد ﷺ وما جاء به (وَتَوَلَّىٰ (16)) : أعرض وأدبر عن الإيمان والعمل، وكلُّ مَن مات على الكفر فهو مخلَّدٌ في النار، أجارنا الله منها.

وما مِن إنسانٍ يقول بعد صلاة المغرب قبل أن يتكلم "اللهم أجرني من النار-سبع مرات- فيموت مِن ليلته إلاَّ أجاره الله منها، وما مِن إنسان يقولها بعد صلاة الفجر قبل أن يتكلم وينصرف مِن محله -سبع مرات- فيموت مِن يومه إلاَّ أجاره الله مِن النار، اللهم أجرنا مِن النار.

يقول: (وَسَيُجَنَّبُهَا ..(17)) يُبعَد عنها الأتقى، أي صاحب التقوى الذي يخافه ويتقيه؛ يجعل بينه وبين غضب الله وسخط الله؛ يتقيه. (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17))، وعلامةُ الأتقى: 

  • (الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ..) يُعطِي ويَتَصَدَّق. 
  • (..يَتَزَكَّىٰ (18)): يَتَطَهَّر ويَتَنَوَّر ويَقرُب مِن الرَّب، 
  • (وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ (19))، ما في أحد عليه نعمة مقابل معروف سابق عمله معه يكافئه عليه.. إلا؛ (إِلَّا ابْتِغَاءَ): طلَب (إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَىٰ (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ (21)) يُحِبُّ رضا ربه.

 قال الله: (وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ (21)) أي: يُعطَى هذا الإنسان عطايا كبيرة في الدنيا حتى يرضى، هو عمل ابتغاء وجه ربه يعني يريد رضوان ربه، (وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ (21))، يعني يُحَقِّق الله رضوانه عليه، يرضى عن هذا الإنسان (رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [التوبة:100].

(وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ (21))، والآية نزلت في أقوَام، ومن المشهور والمعلوم عند أهل التفسير وغيرهم: سيدنا أبوبكر الصديق رضي الله عنه: 

  • كان مِنفاقًا، كان تاجرا، ستة دكاكين معه في مكة كلها من بعد الإسلام يُنفِق يُنفِق يُنفِق حتى يغلِّق أول دكان، ثاني دكان، ثالث دكان.. ومع الهجرة عاد باقي المال جمّعه للهجرة. 
  • يقول ﷺ: "إنَّ أمَنَّ الناس عليَّ في ماله أبابكر أنفق ماله عليَّ قبل الفتح".
  • وأنقذ سبعة وزيادة من المُعَذَّبين بمكة مملوكين فأخذهم بمالِهِ وأعتقهم لوجه الله، منهم سيدنا بلال بن أبي رباح المؤذن المشهور، منهم عامر بن أبي فهيرة شَهِد الغزوات مع النبي ﷺ، ومنهم عدد مِن النساء كُنَّ مملوكات ويُعَذَّبن ويؤذَين على الإسلام.. كان سيدنا أبو بكر يشتريهن ويعتقهن لوجه الله.

حتى مَرَّ يوم ببلالٍ، وأُمَيَّة بن خلف يخرجه في وقت الهاجرة وقت شدة الشمس والحر بمكة، يضعه على بطحاء مكة الحارة، ينزع ثيابه ويضع حجرة كبيرة حامية فوق صدره.. مرَّ سيدنا أبوبكر قال: ألا تتقي الله في هذا المسكين ؟! قال "أمية" : أنت أفسدته، يعني أسلم عنده قال: أتبيعه؟ اشتريه منك؟ قال نعم، هو يعرف أمية. وواحد عبد وهو كافر عند سيدنا أبو بكر وقوي قال له: بفلان؟ قال: نعم تفضّل نعطيك فلان، وفوقه كذا من المال، خذ.. خرَّج سيدنا بلال وأعتقه مِن أمية بن خلف، فكان بعض الناس في مكة يقولون: كان لبلال يد عند أبوبكر يكافئه بها، كان عمل معه معروف سابق (وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ (19))،  ما أحد صنع معه معروف ولا لأجل شيء.

 حتى كان أبوه يراه، كل ساعة وهو يعتق أحد، قال يا ولدي تعتق ضعفاء الناس؟! أعتق أقوياء يقومون معك بعد ذلك، سينصرونك وقت الحاجة! قال يا أبتِي إنما أفعل ذلك لوجه الله، قال أنا أعتقهم من أجل ربي، ليس من شأن أن يقوموا معي ولا أن أحَصِّل منهم فائدة!. قال إذا بتعتق، أعتق ناس أقوياء ولهم مكانة ، إنت قاعد تعتق ضعفاء.

هؤلاء الضعفاء هم الأقوياء، فمَن مثل بلال! كان سيدنا عمر يقول: أبوبكر سيدنا أعتَقَ سيدنا – يعني بلالًا، أبو بكر سيدنا أعتق سيدنا -رضي الله عنه-، وبلال هو الذي باشر قتل أمية بن خلف في يوم بدر –هذا الذي كان يعذبه- ثم جاء إلى مكة وصعد فوق الكعبة وأذَّن على التوحيد الذي كان عليه، حتى مرَّ النبي ﷺ وهو تحت الحجارة يصيح -سيدنا بلال-: أحد أحد. فقال: إنَّ الأحد سيُنَجِّيك، إنَّ الأحد سيُنَجِّيك، فنجَّاه الأحد.. رضي الله عن بلال..

إلى أن جاءته الوفاة وهو في الشام وسكرات الموت وزوجته أحسَّت بموته بكَت وقالت: واكرباه واكرباه!. فتح عينيه: لا، بل واطربا، واطرباه، غدًا ألقى الأحبة محمداً وحزبه، واحد بيروح عند حبيبه تقول له واكرباه واكرباه! ايش واكرباه! مافي كرباه هذا طرب، الله يرضى عن بلال.

واحدة من اللاتي اعتقهن سيدنا أبوبكر اسمها زِنِّيرَة، أسلمت وعذبوها أسيادها اشتراها وأعتقها. عَمِيَت.. وقال المشركون هذه أعماها اللَّات والعُزَّى –أصنامهم- هذه أعماها الَّلات والعُزَّى لأنها غيرت دينها وراحت تتبع هؤلاء. قالت: لا والله، إنهما لا يَضُرَّان ولا يَنفعان، حاشا أن يضرّا، فردَّ الله عليها بصرها تمام ، مِن دون عملية في مستشفى، رجعت تبصر.. انظر كيف! هيا اذهبوا انتوا واللَّات والعُزَّى هذه.

قالوا لسيدنا هود: (إِن نَّقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ۗ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ* مِن دُونِهِ ۖ فَكِيدُونِي جَمِيعًا..) جَمِّعوا (مِن دُونِهِ ۖ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ)، ما معك أنت؟ قال: (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ۚ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا) [هود:54-56].

وكم وقع من معجزاته ﷺ في ردِّ العيون.. وفي الحديث الصحيح عند الإمام الترمذي وغيره، يرويه عثمان بن حنيف: قال: كُنَّا جلوساً عند النبي ﷺ أقبل أعمى دخل إلى عند النبي قال: يا رسول الله جئت إليك لتدعو الله لي ليرد علي بصري. قال: "إن شئت دعوت الله رد عليك بصرك وإن شئت تصبر ولك الجنة". قال: يا رسول الله الجنة جزاء جميل، وأنا أريد الجنة، ويرد الله عليَّ بصري. قال: (قم فتوضأ وصَلِّ ركعتين ثم قل "اللهم إني أسألك وأتوجَّه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى الله.."، وفي رواية: "يا محمد ياأحمد إني أتوجه بك إلى الله في حاجتي هذه لتُقضَى، اللهم فشفعه فيّ". قال: فوالله ما طال بنا المجلس ولا تَفَرَّقنا حتى دخل علينا الرجل وإنه لايُبصِر، راح توضأ صلى ركعتين جاء بالدعاء اللي علمه النبي فَتَّح عيونه.. تعالجت العيون رجعت كما كانت، فدخل عند النبي وهو يُبصِر. فقال ﷺ: "فإن كان لك حاجة فافعل مثل ذلك"؛ أي وقت عندك حاجة، صَلِّ ركعتين وتوسَّل إلى الله بي، اللهم صلِّ عليه.

وهكذا، بل سيدنا قتادة رضي الله عنه ضربه المُشرِك وخرجت عينه سَالَت على الخد، العين معلَّقة على الخد..  وكانوا يفكرون كيف يقصُّونها؟ من أين؟ كيف يعملون بها؟ قال خذونا إلى عند النبي، جاء إلى عند النبي قال: يارسول الله، بَصَق في عينه وردَّها بيده كذا، فعادت أحَدَّ نَظَرَاً من الثانية؛ فكان طول عمره، لو جاءه رمَد يجي في هذه، والتي ردَّها ما يجيء فيها رَمَد. حتى جاء بعض أولاده مِن الذين وفدوا الى المدينة وَرَدوا على سيدنا عمر بن عبد العزيز لمَّا تولَّى، قال: مَن هذا الغلام؟ قال:

أَنَا  ابْنُ الَّذِي سَالَتْ عَلَى الْخَدِّ  عَيْنُهُ *** فَرُدَّتْ بِكَفِّ الْمُصْطَفَى أَحْسَنَ الْرَدِّ

انتشى سيدنا عمر قال: -الله أكبر-:

تِلْكَ الْمَكَارِمُ لاَ قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ *** شِيبَا  بِمَاءٍ  فَعَادَا  بَعْدُ  أَبْوَالاَ

هذه المكارم وهذا الشرف وهذا الفخر في الجهاد في سبيل الله، قالوا وجاؤا بواحد أعور على عين واحدة عند مسيلمة الكذّاب، قالوا إنَّ محمد رد عين قتادة فاقرأ على هذا مِن  أجل عينه تنفتح، فقرأ عليه فعَمِيَت الصحيحة! فصار لاعاد واحدة ولا اثنتين، أعماه الله، هذا يسمونه نوع مِن الإهانة؛ خارق للعادة، لكن وقعت عليه ضدَّ ما يريد فأهانه الله -سبحانه وتعالى-، ولكن الهوى، والعصبية!

قالوا لبعضهم شوفوا مسيلمة هذا كذَّاب، قال: داري به كذَّاب لكن كذَّاب ربيعة أحسن لي مِن صادق مُضَر! عصبية -لا حول ولا قوة إلا بالله- واشترى النار والكفر مسكين، ذهب في داهية مِن  أجل هذا مِن قبيلته يمشي معه، وترك محمد رسول الله! ويعرفون إنه كذَّاب! 

وسَمِع: (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا) [النازعات:1-3]. قال: والطاحنات طحنا، والخَابِزَاتِ خَبْزَا..! قالوا: ما هذا؟ قال: قرآن. مِن عنده! لمَّا يسمعه طفل يضحك عليه، هابط ساقط ، ويريد هذا هو الوحي مسكين، يضحك عليه!

ووحدهُ اجترأ على الله سمَّى نفسه: رَّحۡمَٰنِ اليمامة، والحق تعالى ما سُمِّي غيره بـ"الرَّحۡمَٰنِ" أبدا. ما يُسَمَّى غير الله "الرَّحۡمَٰنِ" وهذا تجرأ وسمَّى نفسه! وبعد ذلك، في مقابل هذا، الله لصق فيه اسم: الكَذَّاب، ما أحد يذكره في التاريخ إلا الكذاب، مسيلمة الكذاب كل الناس يعرفونه بمسيلمة الكذاب. 

  • وهو كتب للنبي مرة: من مسيلمة النبي إلى محمد النبي، أما بعد،، فإنَّ الأرض بيننا وبينكم نصفين، نصف لنا ونصف لبني هاشم، لكن بني هاشم قوم يعتدون
  • ظنَّ أن النبي يريدُ أرضًا أو يريد مُلْكا، فلمَّا وصل الكتاب قال النبي اكتب: باسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذَّاب، لصق الاسم فيه هذا هو، أما بعد: فإنَّ الأرض (يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف:128]؛ هذا كان جواب النبي له -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

فهؤلاء أعتقهم سيدنا أبوبكر الصديق ابتغاء ثواب الله، حتى في حاله هذا في الإنفاق، والده -أبوقحافة- لم يزل كافراً، لم يسلم إلا عام الفتح، أبو قحافة اسمه عثمان، هذا أبوبكر كُنية سيدنا الصديق؛ لقبه الصديق وكنيته أبوبكر، كان يُسَمَّى عبد الكعبة والنبي سمَّاه عبد الله.

هل تعرف عبد الله بن عثمان الصحابي؟ لو تسأل أي واحد مِن المسلمين؛ عبد الله بن عثمان الصحابي؟ مَن هذا عبد الله بن عثمان؟ أبو بكر الصديق، معروف اشتهر، كنيته أبوبكر، وكنية أبيه أبو قحافة، اسمه عبد الله واسم أبيه عثمان؛ فهو عبد الله بن عثمان رضي الله عنه.

أبوه لمَّا كان كافرا وبلغه هجرة أبي بكر ولده مع النبي جاء إلى بيته، وقد عُمِي هو هذا أبوقحافة، ويقول لبنات سيدنا أبوبكر: ما أرى أبوكم إلا فجعكم بنفسه وماله، هذا يحب محمد، لن يتركه، وسيأخذ ماله معه! فرأته سيدتنا أسماء ذات النطاقين منزعج هكذا قالت له: لا لا ترك لنا مال كثير. قال: أين؟ أخذت بيده إلى المحل الذي كان يضع فيه النقود سيدنا أبوبكر في البيت، كيس ملأته حجر وضعته، قالت تعال أخذت بيده لأنه أعمى قال آه لا بأس، إذاً ترك لكم هذا لا بأس ويذهب يروح، ما ترك شيء، ولكنها سكّنت قلق الشيخ هذا الذي لا يسكن إلاَّ بالفلوس، أما هي فقد سكَن قلبها..

تطلع كل ليلة؛ ثلاث ليالي إلى وسط الغار بعيد هناك، طريق غير معبَّدة، ومشقَّة..الآن نمشي فيه ساعتين، نطلع ساعتين مِن الأرض حتى نصِل إلى محل الغار ساعتين والطريق معبَّدة، وفيها ناس في الطريق في ناس يبيعون شراب، وأكل؛ ولكن لمَّا كانت تطلع أسماء، هل الطريق معبَّدة؟ هل أحد يبيع في الطريق شيء؟ خوف، وظلمة، وتطلع كل ليلة تجيء بالطعام! سَمِعت؟!

كان بعض الشباب معنا ونحن طالعين الى الجبل يقول: أوه تعب، هذه أول مرة وآخر مرة! قلنا أسماء بنت أبي بكر ما قالت أول مرة وآخر مرة! أول ليلة، ثاني ليلة وهي تطلع، وكانت حامل! عندها حمل في بطنها وتحمل الطعام، ونحن ما نحن حاملين شيء وتعبنا، فهذا بيت الجهاد، بيت أبي بكرالصديق؛ بيت الجهاد في سبيل الله، بيت الصدق مع الله، وطمَّنت قلب الشِّيبَة هذا إلى أن أكرمه الله بالإسلام في عام الفتح، فجاء أبوبكر يحمل أباه إلى عند النبي، جاء به وأدخله عليه الى المسجد، النبي قال: هلَّا تركت الشيخ في منزله فأزوره أنا، قال أنا سآتي لكي أزوره -مِن أخلاقه- مع أنه لم يسلم، فجلس مع النبي فشرح الله صدره، آمَن أسلم، فهنأ النبي أبا بكر بإسلام أبيه.

ثم اجتمعت لأبي بكر أربع مراتب في الإسلام؛ ولده وولد ولده في الصُّحبَة كلهم صحابة، فصارت أربع طبقات صحابة، ابن ابن أبي بكر وابن أبي بكر، وأبوبكر وأبو قحافة؛ أربع طبقات صحابة ولم تجتمع لغير أبي بكر. لأن الصحابة بعضهم طبقة واحدة صحابي؛ ولده لم يدرك النبي لأن أباه لم يسلم؛ بعضهم طبقتين، وبعضهم ثلاث طبقات؛ لكن ما في أحد أربع طبقات، كلهم صحابي ابن صحابي ابن صحابي إلاَّ في نسب أبي بكر، فأنزل الله في حَقِّهِ: (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَىٰ  (20)  وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ (21)) -الله أكبر-.

وقد رآه ﷺ مرة وهو لابسٌ بعض الثياب، خَلَّل عباءته بشوك، نظر إليه ودمعت عيناه قال: هذا أنفق عليَّ ماله في الفتح ودعاه حب الله إلى هذا.

كما رأى سيدنا مصعب بن عمير ومعه أيضاً ثياب وبعضها ربطها بشوكة فرآه ودمعت عيناﷺ قال: لقد رأيت هذا وما بمكة فتى أنعم منه! كان مُدَلَّلا بين أهله وأهله أثرياء.. يلبس أحسن الثياب ويأكل أحسن الأكل وعنده عطور حتى تُشَم عطوره في الشوارع وكان الناس يُشرِفون من الديار ينظرون إليه ويشمُّون عطره، فلمَّا آمَن منعوا أهله عليه الطعام والشراب، فرآه النبي -وهو في المدينة أول سفير أرسله النبي إلى المدينة- رآه وهو بهذه الثياب، فبكى ﷺ وقال: رأيت هذا وما بمكة فتىً أنعَم منه.

فحمله حب الله ورسوله على هذا، فقُتِل يوم أُحُد فما وجدوا له كَفَن إلَّا مَلْحَفَتهُ -ثوب- إن غطُّوا رأسه ظهَرت رجلاه وإن غَطُّوا رِجلاه ظهَر رأسه. فقال ﷺ: غَطُّوا رأسه واجعلوا على رجليه الإذخر؛ شجر -رضي الله عنهم-؛ (صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) [الأحزاب:23].

(وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ (18))؛ ويُذكَر في قولٍ ضعيفٍ في واقعة حدثت جاءت بسند أيضًا ضعيف في المدينة، والسورة مَكِّيَّة هي، وتتناول كل مَن اتصف بهذه الصِّفات؛ ولكن أبوبكر أفضل مَن يَتَّصِف بها وبسببه نزلَت، فيُروَى بالسند الضعيف أنَّ رجلا آخر مِن الأنصار في المدينة المنورة، كان عنده نخلة وكانت مائلة إلى فوق دار جاره، والجار هذا كان فقيرا، فكان وقت ثمر النخل مثل هذه الأيام  فيها رطب، يجيئ هذا يأخذ رطب مِن نخلته، فقد يسقط بعضها، فيجيء أولاد الفقير هذا فيأخذون مِن النخلة ويأخذ هو مِن أيديهم حتى مَن وضع شيء في فمه يخرجها مِن فمه، وانكسر قلب هذا المسكين الجار وذكره للنبي، قال: اذهب فانظر، فلقي الرجل، قال: تبيعني نخلتك المائلة إلى بيت فلان بنخلَةٍ في الجنة؟ هذا الرجل ما هو مُوَفَّق، لعلَّ في قلبه شيء مِن النفاق! قال : لقد أُعطيت فيها جزاء كبير؛ لكن هذه أحب النخل إلي وعندي نخل كثير؛ لكن مافي ثمر يعجبنا مثل ثمر هذه،  فسكَت عنه ﷺ وراح، سمعه واحد مِن الأنصار فجاء إلى عند النبي قال: يا رسول الله إذا أنا أخذت هذه النخلة وأعطيتك إيَّاها تعطيني ما أعطيت الرجل، تبيعني؟ قال: نعم، وذهب قال: نخلتك التي هي مائلة إلى بيت فلان.؟ قال: قد عرض النبي عليَّ فيها، وقال يشتريها مني قال له: إذن تبيعها بالدنيا بشيء؟ قال: ما أظن أحد يعطينا. قال: ما الذي تريده؟ قال: أربعين نخلة. النخلة بأربعين! قال: أيوه.. أربعين نخلة. قال: أشهد؟ قال: أشهد، وجاء له بالشهود، واشهدوا بأربعين نخلة، وقال: عاد ما تفرقنا والآن وأنا ما أنجزت وعدي قال: وأنا ما أنا بأحمق، أعطيتك أربعين بمقابل نخلة، ماذا تريد؟ قال: الأربعين تكون على ساق! قال: لك ذلك. قال: أشهد؟ قال: أشهد، قال: هي أربعين مِن نخلي على الساق في المحل الفلاني مقابل هذه النخلة،  تمام باع . 

ذهب إلى عند النبي قال: يا رسول الله أخذت النخلة وهي لك. ذهب النبي ﷺ إلى عند هذا الجار قال: النخلة الآن لكم وهي ملككم وكلوا ثمرها أنت والأولاد. وثَبَت لهذا الخير ودخل في دائرة قوله: (وَسَيُجَنَّبُهَا) -يعني النار- (الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ (19)) -يعني يكافئه بها- (إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَىٰ  (20)  وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ (21)).

والحمد لله على هذه النِّعَم وذِكر هذه الحقائق، والله يُبسِط لنا في رمضان بِسَاط الرِّفق والفضل من عنده، ويملأ قلوبنا بأنوار الإيمان واليقين، ويجعلنا داخلين في دائرة:الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ (18)  وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ  (19)  إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَىٰ  (20)  وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ (21))، اللهم اجعلنا ممن صَدَّقَ بالحسنى، واجعلنا ممن أقبَل بالكُلِّيَّة عليك وقُبِل لديك.

 

 بسرِ الفاتحة 

وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه، 

الفاتحة

 

سؤال عرض على سيدي في نهاية الدرس

س: يعرضون بعض المسألة للإنسان، هل هو مسير أم مخير؟

ج: نقول: الله خلق الإنسان وخلق له إرادة واختيارًا، وأراد أشياء به، وأراد أشياء منه، فما أراده منه فهو مخير فيه، (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا) [النبأ:39]، (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف:29]. وما أراده به فليس فيه خيار.

سأل بعضهم سيدنا علي، كان رجل قائم جاء إلى عند سيدنا علي يقول: يا ابن أبي طالب، الإنسان مسير أو مخير؟ يعني:- مجبر أو مختار؟

  • قال: ارفع رجلك، فرفع الرجُل رجله.
  • قال:ارفع الثانية.
  • قال: ما أقدر.
  • قال: بس خلاص هذا هو.

يعني شيئ تقدر عليه وشئ ما تقدر عليه، شئ لك خيره فيه، وشئ مالك فيه. مالك أبله انت؟! رِجل واحدة تقدر ترفعها، هيا ارفع الثانية، ماعاد تقدر خلاص، لك حدود، في الحدود التي أنت مخير فيها، اتقِ الله.

 ولهذا قالوا إذا حصَّلت واحد قال الإنسان ماله خيره، مسيَّر في أموره كلها، يسمونهم جبرية

  • قال: اعطه لطمة، وقل له أنا مسيّر.. مسيّر ليس مني، يقبل منك هذا؟
  • قل له: هذا لا تؤاخذنا ياخي، هذا الانسان ليس باختياره، ما يقبل هذا منك.
  • وانا سأضربك كذلك.
  • يقول: لماذا تؤاخذنا وأنا مسير ما أنا مخير!. 

في شيئ مخير فيه الإنسان و شيء ماله خيار فيه. اخترت أمك أنت؟ لا، أخترت ابوك ؟ أخترت بلدك؟ أخترت وجودك؟ هذا ليس لك خيرة فيه؛ لكن اخترت ثوبك؟ طيب اخترت أكلك ؟ وأنت ذاك تحبه، وذا تحبه، في أشياء أنت مخير فيها واشياء خارجة عن خيرتك، ولا يؤاخذك  الله إلاَّ بما هو داخل تحت ما أعطاك من اختياره سبحانه وتعالى.

وهذا يقول: طالب يريد يزكي نفسه؛ عنده همة، حصل عنده العيوب التي يذكرونها القوم في كتبهم فيه.

عندما يتخلص عنها، يتخلص شيئا فشيئا بواسطة شيخ، الشيخ يخلصك عنها، يذهب عند طبيب يعالجه، وكل صادق متوجه يعينه الله، إنَّ علينا للهدى.

اللهم وفقنا لما تحب واجعلنا ممن تحب يا ارحم الراحمين.

تاريخ النشر الهجري

15 رَمضان 1436

تاريخ النشر الميلادي

01 يوليو 2015

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام