(536)
(228)
(574)
(311)
تفسير الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لسورة الفاتحة وقصار السور بدار المصطفى ضمن دروس الدروة الصيفية العشرين في شهر رمضان المبارك من العام 1435هـ.
﷽
(إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3))
الحمد لله المتفضّل بالفضلِ والفضائلِ والفواضلِ التي جلّت عن أنْ تُحصر، الكريم الذي لا يُستطاع شُكره إلا بالاعتراف بالعجز عن أنْ يُشكر، المنعم المحسن الذي لم يزل خيره منهمرًا على كل من توجّه إليه وأقبل عليه بقلب تطهّر، الذي خصنا بحبيبه الأنور الأطهر، سيد أهل الأرض وسيد أهل السماوات المخصص من الله بالكوثر، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وكرّم على من رفعْتَ منزلتهُ لديك وقدْره عندك، فجعلته عندك الأجلّ الأجمل الأعلى الأزهى الأنور الأطهر، وعلى آله وصحبه وأهل محبتهِ وقربهِ، وعلى آبائهِ وإخوانهِ من أهل النبوّة والرسالة وآلهم وأصحابهم ومن سار مستدلًا بأنوار تلك الدلالة إلى يوم الوقوف بين يديك يا حي يا قيوم وعلينا معهم وفيهم.
وبعد،،
فإننا في نعمة تأملنا لكلام ربنا -جلَّ جلاله،- وهذا السمو من تلقِّينا لكلام الحق خالقنا وبارئنا وأنْ نُشغل به أفكارنا ووجهاتنا ونياتنا وعقولنا وتَدَبُراتنا وتأملاتنا؛ تلك مَنَّةٌ يعلو بها قدر الإنسان، إذ أكثر أفكار الناس المنقطعين عن هذه التأملات والتدبرات منحطةٌ إلى التفكير في الزائلات والفانيات، وفيما يضعُ القاصرون ومن أكثرهم حطب جهنم -والعياذُ بالله تبارك وتعالى-.
فإذا شرّف الله خاطرك وباطنك ووجهتك وفكرك وشعورك وتأملك وإحساسك، بتدبر كلامه والتعرّف على نظامه وما أنزل على خير أنامه؛ كان ذلك كرامة لك بها أكرمك، ومنحةٌ بها شرّفك وعظمك، فاعرف قدر هذه النعمة الكبيرة، من مولاك العليِّ الكبير وسِر في خير سيرة، واعبده تعالى على بصيرة، واقتدِ بأكرم من دعا إلى الله على بصيرة منيرة، اللهم أتمم نعمتك علينا.
وصلنا إلى تأمل سورة الكافرون ومررنا عليها، وهي إحدى السور التي "تعدل ربع القرآن" كما جاء في الأحاديث المتعددة أنَّ قراءة الكافرون "تعدلُ ربعَ القرآنِ"، ولما قرأ في بعض صلواته "الكافرون والإخلاص" قال: هذه بربع القرآن وهذه بثلث القرآن، فهذه تعدل ربع القرآن: الكافرون. والإخلاص: تعدل ثلث القرآن، كما جاء في الزلزلة أنها تعدل نصف القرآن.
(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ*لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) [الكافرون:1-2]، وحمل إليهم اللفظ بلفظ "قُل" ليكون في هذا الموقف الذي يؤدي البلاغ فيه، مُنبهًا لمشاعرهم أنَّ الأمر من فوق، وأنا مطيعٌ متبعٌ منقادٌ لهذا الرب، وهو ربي وربكم فإنْ خاطبتكم الآن بمظهرٍ من مظاهر القوة وتعييركم بهذا الوصف الذميم بالكفر، فإنما قلتُ ذلك بأمر ربي وربكم، وقد عرفتم عني لطفي وعرفتم عني لين عريكتي، وعرفتم عني صبري وحلمي، ولكنه في سُنة الله في الوجود لا بدَّ من مواقف يكون فيها معنى القوة ومعنى الجزم والحزم، فمداواة لعِلل الخلق فإنهم لا تتقوّم طبائعهم بِوتِيرةٍ واحدةٍ من اللين والرفق.
ولذا قالت بعض أمهات المؤمنين -ولمَّا رآها ﷺ بكت في أمر مسها من الأمور العادية في الحياة- فجعل يمسح الدمع عن عينيّ بيده- فقالت: فزدتُ في البكاء، فلما رآني زجرني -حتى تعتدل وترجع إلى الاعتدال صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- فهو مظهر الكمال في المخاطبة والمقابلة والبلاغ والأداء والبيان صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
ولهذا جاءت لفظة: (قُل)؛ ما قلتُ هذا الأمر من عندي ولا أخاطبكم الآن؛ أيها الكافرون من قِبَلي، ولكني مأمور أنْ أقول لكم (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) - قد جاءني الأمر من فوق- (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ* لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ*وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) [الكافرون:1-3]، فهم مع كفرهم يؤمنون بالله سبحانه وتعالى على أنَّ له شركاء من عندهم، وهو إلهٌ أكبر كما يظنون وإذا علموا أنَّ الأمر جاء من عند هذا الإله، كان أخف وطأة عليهم من أنْ يبتدئهم به صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فلذلك نزلت الآية بلفظِ: (قُل).
(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) [الكافرون:1-2] ولو جاءت فقط (يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) فتُوُقِّعَ ذلك الخطاب من عنده، يوجب النفرة منهم ثم قالوا وأنت تقرر من عندك، لا تعبد آلهتنا ولا نعبد آلهتك لماذا؟ قال لهم: المسألة كلها من فوق، لا مجال لأنْ أعبد غير الله قط، وأنتم بحالتكم هذه لا يمكن أنْ تعبدوا الإله الذي آمنتُ به كما يُحب وكما شَرَعَ، ما يمكن ذلك منكم حتى تؤمنوا بي وبرسالتي وتعبدون الله كما شَرَعَ على يدي وكما أوصل إليكم البلاغ بي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) [الكافرون:1-5]:
(لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون:6]، لكم ما ارتضيتم لأنفسكم، فمردُّهُ عليكم، وآثاره راجعة إليكم وحسابكم يقوم عليه، وللدين الذي ارتضاه ربي لي وإلهي وخالقي وهو دين الحق والهدى.
فيا رب ثبتنا على الحق والهدى *** ويا رب أقبضنا على خير ملّةِ
وأنزل الله تبارك وتعالى سورة الكوثر على صاحب الكوثر الذي أعطاه الكوثر يقول له:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3))
فكانت أقصر سورة في القرآن، وهذه السورة القصيرة مُتحدّى بها جميع الإنس والجان أنْ يأتوا بمثلها، (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا..) [البقرة:23-24]، مثل سورة واحدة في نظْمها وتركيبها وبلاغتها وعظمتها وتناسقها ودلالاتها ما يمكن الإتيان بمثله، ما يمكن، لا لإنسي ولا لجنِّي ولا لعربي ولا لأعجمي ولا لأول ولا لآخر، ما يمكن وهكذا.
وقد جاء عندما أراد أنْ يُحاكي القرآن، مُسَيْلِمَة الكذّاب بكثيرٍ من الكلام الذي يضحك منه الصبيان قبل الكبار والعُقلاء، وأخذ يقول في بعض كلامه "والطاحنات طحنًا والخابزات خبزًا" وما إلى ذلك.. يريد أنْ يعارض البلاغة في القرآن عن قَسَم الله بالناشطات والسابحات من الملائكة، فذهب يأتي بطحنهِ وخبزهِ؛ لأنَّه يحب الخبز، وأمثال ذلك مما يقول أنَّه نزل عليه: "أيها الضفدع نقنقي كما تنقنقين فلا الماء تكدرين ولا الشراب تمنعين" انظر هذا! ما هذا؟! ويريد أنْ يقول أنَّه قرآن! (سُبۡحَـٰنَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلۡعِزَّةِ عَمَّا یَصِفُونَ) [الصافات:180].
ولذا قال بعض أتباعه ممن غلب عليهم النفس الأمارة والهوى، نعرف أنَّه كذّاب لكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر،عصبيَّةً للقبيلة قال: اتركوه كذاب، هو يعترف أنَّه كذاب، واشتهر اسمه بالكذاب بتسمية النبي له، لأنَّه تجرّأ وأخذ يكتب رسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، من مسيلمة النبي -هو يقول- إلى محمد النبي، أمَّا بعد، أنا شريك لك في النبوة والأرض بيننا وبين بني هاشم، ظنَّ أنَّ الله أرسل محمد من شان يأخذ الأرض له وإلّا لقبيلته.
كتب إليه: "بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذّاب" فانطبع إليه اسم الكذاب مدى التاريخ، فكلما أحد يذكره يقول مسيلمة الكذاب، فصار الاسم اللاصق به يقول له: "أما بعد، فإنَّ الأرض لله يورثها من يشاءُ من عباده" وقد قال له مرة لما قابلهُ، وأخذ تِبْنَةً من الأرض، قال له: لو طلبْتَ مني مثل هذا ما أعطيتك إيّاها، الأرض أرض الله، يُمَلّكها من يشاء من عباده، والنبوة والرسالة ليست أراضي ولا تقسيم أقوال وأموال ولا قطع ولا عمارات وما إلى ذلك مما يُنازل أفكار الهابطين والساقطين.
يقول: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)) وأراد أنْ يعارضها بسورة، وقال: "إنا أعطيناك الجواهر فصل لربك وفاخر" وما أدري كم حصل جواهر؟! على كل حال!.
يقول الله لحبيبه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1))، وقد جاءت تفسيرات الكوثر في الحديث الشريف وعن الصحابة الكرام بمعانيه المنطوية في الخير الكثير.
الكوثر:
وقد جاء ذلك في عدد من الأحاديث:
جاء عن سعيد بن الزبير عن ابن عباس كما رواه البخاري عن ابن عباس (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)) الخير الكثير، فقال إليه بعض الناس، يزعم أنَّه نهر في الجنة؟ قال: ذلك النهر من الخير الكثير الذي أعطاه الله، واحد من مظاهر الخير الكثير التي أعطاها الله لنبيه.
يقول سيدنا أنس بن مالك كنا عند النبي ﷺ، ففتح عينيه وهو يتبسّم قُلْنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: "سورة نَزلَت عليَّ آنفًا وقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3))، قالَ لهم: أَتَدرونَ ما الكَوثرُ، قالوا: ما الكوثر يا رسول الله؟ قال: "نَهْرٌ أعطانيهِ الله في الجنَّةِ حَافَتَاهُ من اللُّؤْلُؤِ المُجَوَّف وحصبائه المِسْك الأذْفَر، عليه أكواب كَنُجُومِ السَّماءِ، مَن شَرِبَ مِنْه لَمْ يَظْمَأُ أبَدًا، وَمَنْ تَوَضَأَ بِهِ لَمْ يُصِبهُ أَثَرٌ في بَدَنِه أَبَدًا، يقول: ليُذادنّ عنه أقوامٌ فأقول: يا ربِّ أمتي؟ فيُقال: مَا تدْري ما أحدَثوا بعدكَ"، فيا رب أوردنا على هذا الحوض، لأنَّه هذا النهر العظيم الذي أعطاه إياه في الجنة.
وقد جاء في حديث: "إنَّ النهر الذي أعطانيه كما بين أيْلهْ وعدن" أيله أي بيت المقدس إلى عدن، وجاء في روايات أخرى أنَّ أَرضَهُ: "كَما بَينَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ"، وجاء أنَّ عليه: "أكواب كعددِ نجومِ السَّماءِ"،ومعناه سيشربون كثير، الله يجعلنا منهم.
وذلك النهر في الجنة منه ميزابان، يَصُبّان إلى الحوض، من الكوثر إلى الحوض -الحوض الذي يردْ عليه المؤمنون في الجنة- وهذا الذي عليه الأكواب، والذي من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا، ونِعم الحوض، ولكل نبي حوض يقف عليه لَيَرِدَ عليه من مات على الإيمان من أمته، فيتباهى الأنبياء؛ أيهم أكثر ورودًا، وبعض الأنبياء يرد على حوضه الإثنين والثلاثة فقط -من أمته- لا أحد منهم مات على الإيمان إلا هم، مساكين!
ولهذا رأى أتباع الأنبياء، أتباع النبي يتبعه النبي ويتبعه الرهط، والنبي يتبعه الرجل -بعض الأنبياء رجل واحد معه- والنبي يتبعه الرجلان، كم في زمانه ناس بُعث إليهم؟ لكن سبحان الله السعادة لواحد أو اثنين وهكذا.
ويقول ﷺ "رأيتُ فيما عُرِضَ عليه سواد عظيم، فظننتُ أنهم أمتي ورفعت رأسي فقيل هذا قوم موسى، ولكن انظر قال: فنظرت إلى سواد أعظم، سدَّ الأفق ما بين المشرق والمغرب قيل هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب" ألحقنا الله بهم.
وفيما جاء في سُنَّةِ نبينا وروي عنه، أنَّه استزاد ربه -وهو يعلم- أنَّ أمته ملايين وهؤلاء السبعين ألف قليل، سيأخذها الصحابة فقط "وبيكمّل معاد حد بيشِل أفضل منهم" قال: فاستزدتُ ربي، فأعطاني مع كل واحد من السبعين الألف سبعين ألف. يقول: استزدتُ ربي وثلاث حثيات من حثيات ربي -دُفع- وهذه دفعة الرب كبيرة، ولذا كان كثير من العارفين والصالحين يقول: أملنا في الحثيات هذه، هنا محل الرجاء والأمل، أمَّا سبعين ألف مع غيرنا أفضل منا وأكبر، لكن الحثيات هذه تأخذ ناس كثير، وثلاث حثيات من حثيات ربي، يدخلهم الجنة بغير حساب، اللهم اجعلنا منهم وألحقنا بهم، اللهم اجعلنا منهم وألحقنا بهم، في خير ولطف وعافيه برحمتك يا أرحم الراحمين.
(إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ (1)) الله أكبر؛ وبهذا التأكيد: (إِنَّا) يقول له الله: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ) ﷺ. (أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)) الخير الكثير، وسمعتُم من الأقوال:
لأنَّه رَدَّ بالسورة على من تكلّم على النبي وقال: بُتر محمد، العرب يقولون "بُتر" لمن مات أولاده الذكور فيتوقّع أنْ ينقطع ذكْره بين الناس ولا يكون له من يُرَدد أخباره ولا من يذكر أحواله، يقولون: بُتر، فقال القائلون منهم: بتر. كمثل العاص بن وائل السَهَمِي، وكان داخلٌ إلى المسجد وعند الباب لقيَ النبي هناك وتكلم معه، ودخل فقالوا له: من كنت تكلم؟ -يقول لقريش- قال: ذاك الأبتر، بعد وفاة ابنه عبد الله في مكة المكرمة، مات ابنه القاسم أولًا ثم مات عبدالله، فقال: هذا الأبتر. وكانوا إذا ذكروا النبي محمد يقول: إنما هو أبتر.
فقال: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)) هو الذي سينقطع ذكره ونسله وعَقِبُهُ، لا أنت. وكذلك قالوا في كعب ابن الأشرف وقيل في أبي جهل، (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) وقيل أيضًا في أبي لهب، والقاصد أنه كل شانٍ؛ أي مبغض له.
كعب بن الأشرف جاء مرة لأهل مكة من المشركين وقالوا: لتنظر إلى هذا الصمبور المُنْبَتِر المنقطِع المفارق لدين قومه -يعنون النبي ﷺ- يزعم أنَّه خيرٌ منا نحن أهل الحجيج وأهل السقاية وأهل السدانة وأهل الحجابة، من ترى وأنت سيد قومك؟ وعندك علم الكتاب، من ترى؟ نحن خير أم محمد؟ فقال هذا الكذاب اليهودي الذي أضلّه الله تعالى -وهو يعلم أنَّ محمد رسول الله وأنَّه أفضل الخلق- قال: أنتم خير، أنتم أفضل، أنتم أحسن ودينكم أحسن من دين محمد، وأنزل الله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَٰؤُلَاءِ أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا) [النساء:51].
وأنزل: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ(2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)) وكذلك كرَرَّ المشركون هذه القولة بعد وفاة إبراهيم، وإبراهيم جاء في آخر عمر النبي ﷺ ومكث نحو سبع أشهر فتوفي فقالوا: بتر محمد فقال: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)).
(إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)) نحن الذين توليناك وجعلنا لك الخير الكثير العظيم، وهذا النهر في الجنة، كانت تقول السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها: لا يضعُ أحدٌ إصبعيه في أذنيه إلا سمع خرير الكوثر، يعني صوت يشبه صوت خرير الكوثر والماء ذاك الذي يمشي وعلى حافتيه اللؤلؤ المجوّف فيمشي مشيًا عجيبًا، تقول إذا أردتَ أنْ تسمع ذلك الخرير فضع إصبعيك في أُذنيك فتسمع صوتًا تمامًا يُشابهُ صوت خرير النهر، فهذا أشبه الأصوات بصوت خرير الكوثر.
(إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)) إجعل صلاتك لله شُكرًا على ما آتاك وأنْعمَ عليك (وَانْحَرْ) اجعل نحرك وذبحك لله سبحانه وتعالى، وبسم الله تعالى لا للأصنام ولا لشيء غير الله (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)).
وجاء في الأخبار أنَّ معنى :
وهكذا قال ﷺ لهم: "مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا فَذبَحَ كَانَتْ أُضحِيَةً لَهُ، ومَن ذَبَحَ قَبْلَ الصلاة فإنَّما هي شَاةُ لَحْم قدمها لأهله" -ما تُعد أُضحية-، فقامَ أبو بُرْدَةَ بنُ نِيارٍ قال: يارسول الله الناس يحبون اللحم هذا اليوم وأحببت أنْ أسبق الناس في إنهار الدم لله تعالى، فذبحتُ لي رأس غنم كبير قد سمَّنته، قال: شاتك شاة لحم قال: يا رسول الله معي عَناق صغير -لم يكبر- ولكنه سمين، وهو عندي أحسن من شاة كبيرة، أفيجزي عني؟ قال: "يُجزي عنك ولا يُجْزِي عَنْ أحَدٍ بَعْدَكَ"، لك أنت هذا يُعد أضحية، فكان خُصوصية لهُ، وفي هذا أنَّ الله تبارك وتعالى وكَّلهُ وجعل الأمر له في تصحيح ما شاء من الأعمال، فجعل هذا أُضحيةً صحيحةً لهذا الشخص وحده، ولا تُجزىء عن أحد بعده صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
(فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) قال له استقم من الركوع إلى الاعتدال، استقم استقامةً تامةً حتى يبرز نحرك (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) إلى غير ذلك من تفاسير (وَانْحَرْ) وهو يتناول أيضًا الذبح كله.
(فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ*إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) شَانِئَكَ: مُبغضِك،كل من أبغضك وقلاك هو الأبتر الذي انقطع نسْله وانقطع ذكْره وانقطع خيره وفضله، أما أنت فلا يُذكر أحد مثل ذكرك من الخلق كله؛ إذا ذُكِرتُ ذُكِرتَ معيّ، واسمك مضاف إلى اسمي، وعلى المنائر في شرق الأرض وغربها اسمك مع اسمي يُرفع، ولا يكون ذلك لأحد من هؤلاء المبغضين ولا لمُبغض أبدًا إلى يوم القيامة ولا يكون إلا لك هذا الذكرُ الجميل في الدُنيا، فما عرفت الدنيا ذكرًا بالتعظيم والإجلال والكثرة لأحدٍ من الخلق كما كان لمحمدٍ المُخاطَب بقول ربنا(ورَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) [الشرح:4] صلوات ربي وسلامه عليه.
ورأينا التصاق ذكره بذكر الله -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه- فصلى الله على أصفى خلقهِ وخاتمِ أنبياه محمد بن عبد الله وربطنا الله وإيّاكم به ربطًا لا ينحلُ أبدًا وأوردنا جميعًا على حوضهِ المورود يا برُ يا ودود يا أكرم الأكرمين.
وورود الأمة زُمر زُمر؛ طائفة أولى، طائفة ثانية، ثالثة، رابعة، ليس كُلهم يَصِلون مع بعض، ولا كلهم بسواء، طوائف وطوائف وطوائف يردون على الحوض، فالله يُثبتنا في أوائل الواردين على حوض نبينا، فقيل أنَّه قبل المرور على الصراط وقيل أنَّه بعد المرور على الصراط، سبعين ألف بهذا العدد المعروف وهناك يكون الشُرْبُ منهُ ودخول الجنة، ومن لم يرد الحوض لا دخول له للجنة والعياذ بالله تبارك وتعالى.
ومن أشد التحذير الذي ورد في حق من يعتذر له أحد من إخوانه المسلمين في شيء حصل بينهم ويرفض، يقول أنا لن أقبل ولن آتي، وبعضهم يتجرّأ حتى يصل إلى الكلمات المُكفِّرة يقول: أنا لن أُسامح فلان ولن أُصالحه ولو أتانا جبريل! أو أتانا المرسلين! هذا كلام كُفر! يعني أنت ماذا؟ أنت.. مَن أنت؟ أما أنت عبد الله؟ من أنت؟ إلِه الآلهه؟! أنت يكون لك الحق تقول مثل هذا وتقول هذا؟ هذا كُفر والعياذ بالله تعالى، فيمن يعتذر إليهِ أخوه فلا يُقبَل عُذره فيقول: "من أتاهُ أخوه مُتنصِّلًا فلم يُقبل عُذره، لم يرد عليّ الحوض يوم القيامة" والعياذُ بالله تعالى، ويقول: من أعتذر إليه أخوهُ فسامحه وقَبِل عذره غفر الله لهُ ألفي ذنب.
ولهذا يقول:
إذا أعتذرالصديقُ إليك يومًا*** تجاوز عن مساويه الكثيرة.
فإنَّ الشافعي روى حديثًا***بإسنادٍ صحيحٍ عن المُغيرة
بأنَّ الله يمحو بِعُذرٍ*** واحدٍ ألفي كبيرة
وجاءت عدد من الأحاديث في أنهُ يأمر سيدنا علي بن أبي طالب فيسقي الواردين والوافدين، وجاء أنَّه ﷺ يسقي بعض الناس كذلك، وجاء أنَّ الأكواب التي عليه، تسير إلى من أراد أنْ يشرب، تسعى إلى من أراد أنْ يشرب، تأتي الى عندك وتأخذها، وأنعِم بها، ونِعم تلك الكؤوس ونِعم ذلك الشراب.
ونهرها الآن الموجود بيننا هو سُنتهُ وأخلاقهُ وشريعتهُ وعلمهُ الذي أبقاهُ فينا هذا، فنُحسن الورود هنا ويقع ورود هناك إنْ شاء الله تبارك وتعالى والحمدُ لله ربِ العالمين.
والليلة معنا ليلة السابع عشر من رمضان لنا فيها شؤون وأخبار وأعلام، لنا فيها ذكرى نزول الوحي (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر:1] فكانت ليلة هو في الغار، غار حراء ابتداء نزول القرآن بـ "إقرأ" ليلة السابع عشر من رمضان، ولنا معها ذكرى بدر(يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ) [الأنفال:41] في يوم السابع عشر من شهر رمضان.
وفي صلاتنا مررنا على القرآن -على عجْزنا وضعفنا- ولكنه رحمةُ ربنا، حتى وصلنا إلى خواتيمه فنختمه الليلة أيضًا، فبنزول القرآن وبختم القرآن وبيوم الفرقان يجتمع لنا الأُنسُ بالرحمن والوجهةُ إليه والوقوف على أبوابه مُستمطرين للفضل والإحسان، والحقُ في كُلِ سنة يُلحق بأهل بدر من شاء من المؤمنين، فلا يكون حشرهم إلا معه ولا ورودهم على الحوض إلا معه، وهم من أول من يرد على الحوض، آل بدر الأكرمين لو شرفّك الله برؤية واحد منهم لكفاك نعيمًا وتكريمًا، فكيف إذا مكَّنك من لِقائهم أجمعين؟ ومن لِقاء سيدهم الأمين صلوات ربي وسلامه عليه خاتم النبيين والمرسلين.
أكرمنا الله وإيّاكم بالنور وربطنا ببدر البدور، بارك لنا في ليلتنا هذه واجعل حظنا من خيرها موفور، وعطاءنا واسع في البطون والظهور، وادفع عنا وعنكم وعن الأمة جميع أنواع الشرور، إنهُ أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وقت غزوة أُحد بعد وقائع وقعت، ومنها مجيء اليهود إلى هناك، لا أذكر الآن تحديد وقت نزولها، الذكر الذي قطع لكل شأن؛ ذكر الإكرام، ذكر الاحترام، ذكر التعظيم، ذكر التوقير؛ فلا يذكر أحد منهم بشيء من هذا! أمَّا الذكر بالسوء والشر والعياذ بالله تبارك وتعالى، هذا شتم وسوء وتقبيح وهكذا.
اللهم أكرمنا بنور الإيمان واليقين وأثبتنا في عبادك المتقين، وبارك لنا في ليلتنا هذه وختمنا لكتابك واربطنا بكتابك ومن أنزلت عليه الكتاب سيد أحبابك ربطًا يقوى في كل نفس وفي كل لحظة أبدًا سرمدًا كما أنت أهله وبما أنت أهله يا أرحم الراحمين، وبارك لنا في جميع ليالينا وأيامنا وأصلح جميع شؤوننا وأحوالنا في دُنْيانا ومآلنا، واصلح شؤون الأمة وفرِّج الكربة واكشف الغمَّة، اجعلنا ممن مكنْت لهم حَرَمًا آمنا، وتوَّلنا بما تولّيت بهِ محبوبيك من كل ذي نفْسٍ مُطمئنة وأرباب العقول المُرجَحِنّة، وانضمنا في سلك من ارتضيت، واجعلنا في دوائر من اصطفيت، في لطف وعافية.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
16 رَمضان 1435