(535)
(339)
(364)
تفسير الحبيب الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة القلم، من قوله تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ }، الآية: 48
﷽
(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَّوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (52))
الحمدلله الكريم ذي الفضل العظيم، وصلى الله وسلم على عبده المُجتبى المُصطفى، ذي الخُلق العظيم الرؤوف الرحيم الهادي إلى الصراط المستقيم، محمد بن عبد الله الرحمة المُهداة والنعمة المُسداة، وعلى آله وصحبه ومن والاه واهتدى بِهُداه، وعلى آبائه وإخوانه من رُسُلِ الله وأنبياه، وعلى آلهم وصحبهم وملائكة الله، والصالحين من عباد الله وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين، يا الله.
وبعد؛
فإنّنا في نِعمة التأمّل لِما جاء في التَّنَزل، وآيات التنزيل المُنزَلة على خاتِمُ الرسل صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، نأتي إلى أواخر سورة القلم حيث نادى الله حبيبه الأكرم، بعد بيانٍ أتَم، وتوضيحٍ أعظم، لأحوال الخلائِق وطُرُقِ تفكيرهم ونظرهم إلى الأمور وشؤون الدنيا والآخرة، وأنَّه ليس عند أهل الكفر والفسوق إلا الظُنون والأهام والخيالات، واتّباع الشهوات، واسْتِعبادهم للأهواء والشهوات، ليس عندهم حقٌ ولا منطقٌ ولا أساسٌ يقومون عليه، إنْ هي إلا الفِتنَةُ بالمتاع الفاني والدنيا الحقيرة، مع قِصرٍ في النظر عن البداية وإلى النهاية، وبذلك -يهذون- ويتكلمون على غير بَيِّنَةٍ ولا عِلم، وبَيَّنَ الحق كل ذلك وقال لحبيبه: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ (48))
فنبينا القائل "ولقد أوذيتُ في اللَّهِ مَا لَمْ يُؤذَ أحدٌ، أُخِفتُ في اللَّهِ مَا لَمْ يُخفُ أحدٌ" -صَلَوَاتُ اللَّهُ وَسَلَامُه عَلَيْهِ- فَهُوَ حَبِيبُ الْوَاحِدِ الْأَحَد فَكَانَ ابْتِلَاءهُ أَشَدُّ الإبتلاء، "أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم العلماء ثم الأمثل فالأمثل، وإنما يُبتَلى المرء على قدرِ دِينِه"، فكان سيدَ الصابرين ـ صلوات الله وسلامه عليه-.
(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) فيما آتاك من نُبوّة وأمرٍ ببلاغ، (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) فيما جعل من إنظار القوم وإمهالهم وتأخير العقوبة عليهم، كما قال له في الآيات السابقة: (فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ ۖ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)):
يقول: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) فحُكم ربّك يَستَدرج، يُمهل، يُؤَخِر، يجعل النصرَ في الأخير (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أصبر لحُكم ربّك؛ وجَعَل طَبائع تُناكِر، تناوئ، تُعانِد، حتى مِمّن يَعلَمون أنّك صاحِب الحَق يناوئونك ويَكذِبون عليك و يؤذونك (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) هذا حُكم الله.
(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) ولا تستعجل، ولا تُغاضِب (وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ (48)):
فخرج في السفينة ورموه في البحر، والحوت حاضر لالتِقامه فالتقمه (وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ) (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ) [الصافات:142] فسمّي سيدنا يونس: صاحب الحوت -ذا النون، صاحب الحوت-.
(وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ) ربَّه (وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)) مكظوم.. مكظوم:
فهو مكروب، وهو مغموم، وهو محبوس في بطن الحوت.
(إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ) نادى في تِلك الظُلمات:
(فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء:87] وسمَّاه النبي أفضل الدعاء؛ قال: "أفضل الدعاء دعوة أخي يونس ابن مَتَّى؛ لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين"، وهذه الدعوة من قالها بصدق نجاه الله من الغمّ، كما ذَكَرَ في الآية: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء:88]، (لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ).
(إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ) مكظومٌ بالغَمّ، مكظوم بالكَرب؛ والكَرب يَرجِع إلى النَفَس والنْفَس، والغَمّ يرجع إلى القلب، فهو عِنده الغَمّ وهو عنده الكرب، وعنده الحَبس -مَحبوس وَسَط بطن الحوت-.
أُمِرَ الحوت بالتقامهِ، ولا يُمكن أن يَنهَضِم في بَطنه، ولا يُمكِن أن يَمسَّه بأسنانه، يَبلَعه فقط إلى بطنه (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ) [الصافات:142]، ونادى على ربِّه -جلَّ جلاله- في بطن الحوت وهو مَكظوم قال الله تعالى: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) -يعني في بطن الحوت- (لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [الصافات:143-144] مَحَلّه، لا إله إلا الله-، سيبقى وسط بطن الحوت ولن يخرج، ولكن لِكَرامَتِه عند الله، الحوت لن يموت إلى وقت القيامة، الى النفخ، وهو لن ينهضم، كما لا تأكُل الأرض جسده، وكذلك بطن الحوت لا تهضِم جسده، (لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ) انظر:
حتى قال النبي ﷺ عن الجِذِع الذي اتّصل به وأحبّه وعَشِقَهُ وناحَ عليه وحَنَّ إليه، فَخَرَج مِن المِنبر وأسكته حتى سَكَت، وكَلمَّهُ وخاطَبه، ثم قال: "لو لم أفعل به هكذا، لبقي يَحِنُّ إلى يوم القيامة"؛ المعنى: أنَّه بهذا الإتّصال بي يبقى إلى يوم القيامة، يعني لا يتآكل؟! الجذوع لا تبقى، هل هناك جذع واحد يبقى إلى يوم القيامة؟ الجِذِع يتآكل، يختفي، لكن هذا بالمحبّة لا يَتَآكَل، يَحِنّ، يبقى فيه معنى الحياة، مِثل الحوت (لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [الصافات:144]، سيبقى حيّ لن يأكله حوت ثاني، ولن يموت لأنَّ في بطنه واحد مُكرَم على الله (لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ).
قال: (لَّوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ (49))، (تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ) بإلهامه الاستِغفار والندامة والتوبة والرُجوع والتسبيح والنِداء، وقَبوله -هذه نعمة من ربّه- قَبِلَ الله ذلك:
وقَبِِلَ منه سبحانه وتعالى، فهذه نِعمة من ربه (لَّوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ) بإلهامه التسبيح والتوحيد والنِداء، وقَبوله التوبة مِنه، لو لم يحصُل هذا (لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49)) كيف؟ واحد مِن اثنتين:
(فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)) أي: من خواصهم مِن المُرسلين والنبيين أصلح الصالِحين، النبيون أصلح الصالِحين وهذا منهم.
قال: (فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) ولم يزل صالِحو الأمّة يلهجون بنداء سيدنا يونس فيقولون: (لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)، (لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) وكان يلهج به سيّد المُرسلين ﷺ، ويُكرر هذا الدعاء: (لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)، وسمَّاه أفضل الدعاء -دعاء يونس ابن متَّى، هذا الذي في نينوى من أرض العراق-، ولمَّا سَلَّم عَدَّاس على النّبي وناوله العِنب بعد رُجوعه مِن الطائف، قال له: "من أين أنت؟ قال: من العراق، قال: مِن أيّ العِراق؟، قال: مِن نينوى، قال: "تلك بلدة الرجل الصالح، أخي يونس ابن متَّى"، أنت تعرف يونس؟! -لم يسمع أحد يتحدّث عنه- قال: "نعم إنَّه نبيّ مثلي وأنا نبيّ"، فحيَّا النبي ﷺ بِتَحية السجود له، ولاحظه المُشركون هناك فنهوه، ودعوه، قالوا له: ماذا بك؟ قال: هذا نبي، قالوا له: إثبت على دينك، دينك أحسن مِن دينه -لا اله الا الله-.
يقول: (فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ) والنبي سمَّى تلك بلدة الرجل الصالح أخي يونس بن متَّى (فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) اللهم الحِقنا بالصالحين واجعلنا صالحين (وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) [المائدة:84].
يقول الحق تعالى: (وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ (51))
(وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ):
(لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) يقول أكثر المُفسّرين: (لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) القرآن، أول من سمِع الذِكر هو محمد ﷺ، ذِكرٌ ذَكَّرَ الله به عِباده، ذَكره و ذَكَّرَ به عباد.
(لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51)) أنَّه من؟ الذِكر مجنون؟! يقصدون النبي ﷺ (وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ).
(وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) لماذا يقولون مجنون؟
حيلة العاجز الذي يعجز وليس عنده شيء؛ يأتي بكلام، يأتي بكلام بعيد ليس له منطِق أصلًا ولا يُقبَل، يقوله، يأتي به؛ لأنَّه عاجِز مسكين لا يعرِف ماذا يرُد على الكلام وهو مُغتاظ.
فانظر هذا الذي هو نعمة الله عليهم وواجبُهم أن يُحبّوه ويفرحوا به، يمتلئون غيظا حتى أبصارهم شديدة، شنيعة عند التوجه إليه، وفيه ما جعل الله في هذه الأبصار مِن آثار، في أول الآيات التي قبل هذه (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ (43)) وقال: (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ) [النازعات:8-9].
ففيه أنَّ شؤون القلوب مُتعلِّقة بالأبصار وأثر هذه النظرة (وإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ) حتى يقول سيدنا الحسن البصري كما قال غيره: إنَّ قراءة هاتين الآيتين دواء من العين -شفاء للعين- يُبعِد عنك العين، أن لا تصيبك وإذا أصابتك تُعالَج منها بقراءة (وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (52)) فَتُؤثر النظرة، آثار النظر كثيرة:
النظر أمره غريب، بل يُستطاع الآن أن يُفهَم ويُعرَف ما في الجسد من مرض في أي عضو من الأعضاء من خلال العين، من خلال قياس العين، لا إله إلا الله.
وجاء عن العين التي تَحدُث عن الحَسد والإعجاب الشديد بالأمر فتضرّ المَعيون والمَنظور، "العينُ حقٌ تورِد الرجل القبر والجمل القِدر"، حتى يقولوا: كان في قريش -في بني أسد- مشهور بينهم ومعروف قوّة عيونهم، وإنَّ أحدهم إذا مرّت إبل أو غنم بهم يريد شيء منها يقول لأهله: أعِدُّوا العِدة وقوموا بأن تأتوا لنا بشيء منها، ينظر إليها حتى تتساقط، تتساقط فيذهبون يذبحون منها، وإنَّ واحد منهم كان شديد، يجوع يوم أو يومين ثمَّ ينظر لأي شيء مار؛ جمل أو غيره ويقع عينه عليه، ويقول أووه!! ما رأيت مثل هذا الشيء اليوم! فيَسقُط، قالوا له: تعال أنظر محمد؛ يُريدون أن يُصيبوه بالعين -عصم الله نبيّه-.
(وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ):
(وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51)) وهكذا حتى جاء في الحديث أنَّه ﷺ خرج مرّة مع جماعة من أصحابه فيهم سهل بن حَنيف مُتوجّهين نحو مكة، عندما وصلوا الى وادي الخرير في الطريق، وقع على الأرض لم يعد يقدر أن يتحرك؛ والسبب أنه كان معه واحد؛ عامر بن ربيعة، كان عائن، وكان سهل بن حَنيف أبيض اللون، حسن الجسم، فقام يغتسل خفف ثيابه فرآه هذا، نظر إليه وسقط في محلِّه،
فجاءوا يقولون للنبي ﷺ: هل لك في سهل، لا يقدر أن يرفع رأسه أو يهز رأسه، ولا يكاد أن يتكلم، قال:هل تتهِمون به مِن أحد؟، قالوا: عامر بن ربيعة، هذا نَظَرُه، دعا عامر، تغيّظ عليه ﷺ، قال له: "ما بال أحدِكم إذا رأى شيء في أخيه يُعجبه ألا يُبَرِّك؟! إنّ العين حقّ، قُم واغتسِل؛ اغسل وجهك ويديك ورجليك وركُبتيك وداخل إزارك وهات الماء". قام وتغسّل، قال: صُبّوه عليه. أخذوه فصبّوه على سهل بن حَنيف؛ قام يمشي مع الناس في نفس الوقت، وهذه من الأدوية التي قررها ﷺ، لداء العين إذا عُرِفَ العائن أو أُتهِم أحد بالعين؛ أن يغسِل أطرافه: وجهه ويديه ورجليه وركبتيه وداخل إزاره، ثم يصبونه على المعيون مُباشرة فيذهب أثر العين كاملًا -سبحان الله-
ولهذا يقول: كلكم عيّانون إلا من بورك "وإذا استُغسِلتُم فاغسِلوا" إذا أحد منكم طلب غُسل؛ أغسِلوا. لا تقول: أنا ما أعيّن أحد، أنا ليس عندي عين، ليس بأمرك، ليس باختيارك؛ قد يكون استِكثارك لشيء ونظرك إليه بعين الإستِعظام يُصيبها العين.
فعجيب أسرار العين هذه! حتى يُصيب الإنسان نفسه؛ قال: يرى شيء يعجبه في نفسه ويستكثره ويُصاب بالعين، هو بنفسه يُصيب نفسه بنفسه، ولذا عَلَّمَنا إذا شيء أعجبنا نقول: "ما شاء الله لا قوّة إلا بالله" كما قال المؤمن لصاحبه وهو يُحاوره -المذكورين في سورة الكهف-:
وفي رواية في مُسند الإمام أحمد بن حنبل أنَّه هذا بنفسه العاين -هذا عامر بن ربيعة- كان ذاهب ليغتسل مع سهل بن حَنيف فأرادوا السِترة وأخَرج سهل ثياب كانت عليه، قال: أوه ما أعجب هذا الجسد! ولا ثوب المُخبّأة في البيت، ولا جسد المُخَبأه في البيت، فسقط، ولمَّا دخل يغتسل سقط في الماء؛ يافلان! يافلان! لم يرد عليه، ذهب إلى عند النبي، فجاء النبي ﷺ يجري وخاض في الماء فضرب في صدره وقال: "أذهِبْ بردَها وَحرَّها ووصَبَها" وقام، فلهذا في الرواية الاخرى أنّه لمَّا جاء -يمكن قد عُرِف وتكرر- دعاه وتغيّظ عليه وأمره أن يغتسِل، قال: "ما لكم!؟ إذا رأى أحدكم في أخيه شيء يعجبه فَليُبَرِك، يقول: ما شاء الله لاقوة إلا بالله، تبارك الله، اللهم بارك فيه".
وإذا قال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، اللهم بارك فيه ولا تضُرَّه، انتفى أثر العين نهائيًا من أي عائن، ماشاء الله لا قوة إلا بالله اللهم بارك فيه ولا تَضُرَّه، إن كان قال هذا عن نفسه أو عن ولده أو عن أي شيء أثر العين ينتهي نهائيًا، إذا قال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله اللهم بارك فيه ولا تضره لا يُصاب بالعين، ولكن هذا يُعَيِّن ولا يقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله، ولا اللهم بارك فيه ولا تَضُرَّه، ما شاء الله لا قوة إلا بالله، اللهم بارك فيه ولا تَضُرَّه.
فكما أنَّ هذا النظر يؤثرُ سلبًا، فنظر المحبة والرأفة:
ونظر الصالح والولي والعارف:
ألا ترى ذلك يميت وهذا يُحييّ، وهكذا نظر العائن، ونظر الصالح، ونظر الولي، وجعل الله لنا في ذلك آثار، حتى أنَّ مِن الحيوان ما يُرَبّي أولاده بالنظر، ومنها السلحفاة بمُجرّد ما يفقُس بيضها؛ تنظر من قَبِل؛ إذا ركزت نظرها على البيض يكتسِب حرارة، من نَظَرها يفقس، يتَكوَّن فيه الولد ويخرج، تُسَلِّط أنظارها عليه يتعلم الحركة، تُسَلِّط أنظارها عليه يتعلم الأكل، تُسَلِّط نظرها عليه يتعلم يقوم ويمشي مثلها -يدب كماها-، السلحفاة؛ تُربّي أولادها بالنظر، فإذا كانت سُلحفاة فكيف بعارِف بالله!! ولي وصالح إلا يعرف يُربّي بالنظر؟! ويَجِدون الآن أشعة تخرج من العيون كلّها مُختلِفة، وتَصِل إلى ما يُنظَرُعلى درجات وعلى مراتب يحسِّونها بالأجهزة هذه، وما غاب عنهم أكثر، ولله أسرار في كونِه وفي خلقه -جلَّ جلاله-.
وفي الحديث أيضًا: أنَّ الله تعالى ينصُر من أبطأ الفتح عليهم بتقديمهم من رأى رسول الله، على العينين التي رأت النبي، هل فيكم من رأى رسول الله؟ فيقدمونهم فيفتح الله لهم، ثم يقال: هل فيكم من رأى من رأى رسول الله"؛ وفيه امتِداد أثر الرؤية، أثر النظر الطيّب الصالح، ولهذا قال كثيرٌ من صالِحي الأمة: من لم يرَ وجه مُفلِح كيف يُفلِح؟ ومن رأى وجه مُفلِح بالمحبّة والأدب والاحتِرام كيف لا يُفلِح؟! لابدَّ أن يناله من الفلاح نصيب -الله أكبر-.
يقول: (وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51)) مجنون ماذا؟ كلام قوي ما عرفتم أن تأتوا بمثله؟ ما عاد معكم إلا أن تقولوا جُنون، ماعرِف يُقابلُه، ما عرف يُماثِله، ماعرف يُجيبُه، ما عرف يرد عليه، قال: يهذي.. هذيان مجنون.
وهكذا نأتي إلى خِتام سورة القلم، لننتقل إن شاء الله إلى سورة الملك (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) [الملك:1]، الذي أوصلنا إلى خواتيم العشر الأواسط من رمضان، لنستقبل عشرًا كان نبينا يُقابِلها مُقابلة حسنة عظمى، ويجتهد فيها اجتهادًا كبيرًا، "وإذَا دَخَلَ العَشْرُ الأواخر من رمضان شَدَّ مِئْزَرَهُ، وأَحْيَا لَيْلَهُ، وأَيْقَظَ أهْلَهُ." ﷺ واجتهد فيها ما لا يجتهد في غيرها من رمضان، فعلينا أن نقتدي به وأن نهتدي بهديه، فقد أقبلت علينا بخيرها الكثير الذي يطلب القلوب المتوجّهة إلى الله -جلَّ جلاله-، وبعض الناس يتربّص بهم عدوّهم فيتركهم في أول رمضان حتى تأتي العشر الأواخر فيخذِلهم ويُبعدهم ويغويهم حتى يضيِّعوا ما استفادوه من أول الشهر، ويخرج عليهم بخاتِمة غير حسنة وحال غير جميل -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
ومن عَقَل اتّبع الأجمل الأكمل، وزاد اجتهادًا وهو في مزيد، وشمَّر وأحيا الليالي العِظام -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-، ويأخذ نصيبه من الوقت الذي يقدر أن يعتكف فيه، والوقت الذي يُصلّي فيه، والوقت الذي يقرأ القرآن فيه، والوقت الذي يُصلّي على النبي ﷺ فيه، والوقت الذي يجمع قلبه فيه على الله بأنواع الذكِر والتسبيح.
رَزَقَنَا اللَّهُ وإِيَّاكُمْ كَمَالَ الْإِنَابَةِ، وَكَمَالَ الْخَشِية، وَكَمَالَ الْإِسْتِقَامَةِ، وَنَفَعَنَا بِالذِّكْرِ الْحَكِيمِ والآياتِ وما أنزل على النبي العظيم، ورَزَقَنَا حُسْنَ مُتَابَعَتِهِ، وَأَحْسَنْ لَنَا خَاتِمَةَ رَمَضَانِ، وَبَارَكَ لَنَا فِي خَوَاتِيمه بركة كبرى، وَرَفَعَ لَنَا عِنْدَهُ قَدْرًا، وَأَعْظَمْ لَنَا مِنْهُ أَجْرًا، وَأَصْلَحْ شُؤُونَنَا طُرًّا، سرًّا وجهرًا، دُنيا وأُخْرى.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
21 رَمضان 1440