(535)
(339)
(363)
تفسير العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة القلم، من قوله تعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ }، الآية: 10
﷽
(وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ (13) أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَىٰ حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَىٰ رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَٰلِكَ الْعَذَابُ ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33))
الحمد لله المُنعِمِ عَلينا بِنِعمَة الآيات، مُخاطَباتٍ مِن رَبِ البَريات، وتَنَزُلاتٍ مِن رَبِ الأرضِ والسماوات، تَحملُ مَعاني العِنايات والرعايات لِكُلِ مَن قابلها بالقَبول، وأعطاها ما تَستَحِقهُ من حُسن الإمتِثال والعَمَلِ والتصحيح للفِعلِ والمَقول
ونَشهدُ أنه الله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، خَلَقَ الخلقَ لِحِكمة، وطوى عليها عِلمه، وأبرزَ لَهُم من أسرارها على قَدر وَعيّهم ما يُعينُهم على القِيام بالمُهِمة، وبَسَطَ لهم منه فضلًا بِساط النِعمة، وَجَعَلَنا من بين الأمم خَيرَ أُمّة، فَلَهُ الحمدُ شُكرًا وَلهُ المَنُ فَضلًا، وحدهُ القادِر، وهو الأول الآخر الباطن الظاهِر.
ومدة الحياة الدُّنيا غايَةٌ في القِصَر، فيها تَجَبّرَ مَن تَجَبّر، وتَكَبَّرَ من تَكَبّر، وقَصَّرَ فيها مَن قَصّر، وكُلُّهم على غُرور، عاملينَ بالزور، إذا انكشفت السِتارة زاد عَويلُهُم، ودَعوا على أنفسهم بالويل والثُبور، وقيلَ لَهُم تَبكيتًا لَهُم على ما أساؤوا فيه فَلَقوا السوءَ مَصيرًا (لَّا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا) [الفرقان:14]
ونشهدُ أن سيدنا ونبيّنا وقرّة أعيننا ونور قلوبنا محمدًا عبده ورسوله، العبدُ المُتَذَلِلُ لله بأعظمِ الذلة فأعزهُ الله بأعظم العزّة، العبدُ الخاضِع الخاشِع -لله جلَّ جلاله وتعالى في علاه-، المُتحقق بحقائق العُبودية، فقابلهُ الرحمن بربوبيةٍ تَوَلّت العُبودية، فصار العبدَ المُنتقى من بين جَميع البَريّة، مَضى في عُمرٍ من حيث عدد الأيام والليالي قصيرٌ وقَليل، ولا كمثِله عُمرٌ؛ فهو في المنافِع والفوائد والمثلِ الأعلى والقُدوة الحسنة، الكبيرُ الطويلُ الجليل، عَمرٌ به أقسم الرحمن في القرآن، فقال فيما أنزل على الأمين المأمون: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الحجر:72]، وفي هذا العُمرِ بَلّغ، وبَيَّن وبالغ، وأَحسنَ البَلاغ عن الربّ، ورَسمَ السبيلَ لمن أراد أن يَقرُب، وسَهَّلَ الأمرَ لِمَن أرادَ أن يَحوزَ المَعرفة والرضا، فلا والله ما عُرِفَ أَكرمَ مِنهُ في إقدامٍ ولا إغضاء،
حَوى رُتَبَ الكمال فلا شريك *** لَهُ فيها وَجَلّ عن المَثيلِ
اللهم أَدِم صَلَواتك على هذا السراج المُنير العَلَم المُفرد من بَين جَميع الأكوان، من أَنزَلتَ عليهِ القُرآن فما زال كلُ جَنانٍ سَبَقت لَهُ السعادة مَسعودًا بِسَعادة هذا القُرآن، طَرِبًا بما يَنكَشِفُ له فيه من أسرارٍ ومَعارف ومَعان، يَتَجَدد في مُرور كُلِ زمان، أدم صلواتك عليه وعلى آله وصحبه الذين لأجله رَفَعتَ قَدرهم، وعلى من تَبِعَهُم بإحسانٍ واقتفى أثَرَهم ووالاهم من أجلك وأحبهم ونَصَرَهُم، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين رَفعتَ قَدرَهم، وعلى آلهم وصحبهم والمَلائكة المُقرّبين، وجميع عبادك الصالحين الذين أجزلتَ من حضرة الفضلِ أجرهم، وعلينا برحمتك يا أرحم الراحمين فيهم ومعهم.
وبعد،،
فإنَّنا في استقبالِ تَنَزُّلِ الفَضلِ من مَعاني التَنزيل للملِك الجَليل في هذه الغَدوات الرمضانية تأملنا آياتٍ من سورة القلم حتى مررنا على قول الله الأكرم: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ (13) أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)) يَرْسُمُ الْحَقُّ الْمِنْهاج لِيَسْلَمَ مَنْ اسْتَمَعَ قَوْلَ اللَّهِ مِنَ الْإِعْوَجَاج؛ أَنْ لَا يُطَاعَ:
(وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ (10)) وقد بيّن لنا الحقُ في القرآن:
ولكنَّ الله خلق الإنسان مجبولًا بفطرةٍ على تَبَعِية، لابدَّ أن يَتَأَثر ويُتابِع أحد، فاختار له من يَتّبعه: أَنْبِيَاءَ، وَرُسُلًا، وَأَصْفِيَاءَ مُقَرَّبِينَ اتقياء:
أَمَّا الْكَثْرَةُ الْكاثِرَةُ مِمَنْ سِوَاهُمْ:
يَخرُص.. يَخرُص.. يَخرُص.. يَخرُص ، فماذا يُغنيهُ ويُفيدهُ في هذا الخَرص أنَّه اكتشف جهاز؟! وبعد ذلك؟! اكتشفت جهاز ولا تدري مَن خَلَقَك ولا أين مَصيرك! والجهاز هذا لن يدخل قبرك ولن يكون معك في حَشرِك، ولن ينجّيك من غَضب رَبك، لا يُعفيه شَيء من هذه الأشياء عن جَهله بالإلٰه الذي خَلَق؛ فَهُم يَخرِصون في ذلك خَرصًا ويَظُنون ظَنًا ووهمًا باطلًا.
(وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)) الصِفاتُ المَذمومَةُ القَبيحة التي يَكرَهُها الله في خَلقِه، وذَمَّ بِها من اتَّصَفَ بِها:
وجاءَ في مسند الإمام أحمد وسُنن الإمام ابن ماجة أنَّه الرسول ﷺ قال: "ألا أُخبِرُكُم بِخِيارِكُم، قالوا: بلى، يا رسول الله، قال: الذين إذا رُؤوا ذُكِرَ الله":
لأن الرجُل:
هذا وَسمُه، وطَلعَتُه، وصورَته، ورَسمُه؛ من يَخاف الله، في تَقاسيم وَجهه، في عَينيه، في حَرَكَته مَعنى الخَشية من الله، معنى الإنابة إلى الله، تراهُ فَتَذكُر الله.
ثم قال: "ألا أُنَبئِكُم بِشِرارِكُم، قالوا: بَلى يا رسول الله، قال:
يبحثون عن الناس البُرآء الطيبين، يريدون لهم عَنَت، يريدون أن يَنسِبوا لهم عُيوب، يريدون أن يؤذوهم، مصيبة، وقعوا فيها، هؤلاء شرارُ الخَلق ـ والعياذ بالله تعالى-.
وجاء في لفظ آخر في مسند الإمام أحمد: "خِيارُ الخلقِ الذين إذا رُؤوا ذُكِرَ الله" -إذا رؤوا ذكر الله- "وشِرارُ الخَلقِ المَشَّاءون بالنميمة المُفَرِِّقونَ بَينَ الأَحِبة، المبتغون للبُرآء العَنَت"، هؤلاء شَرِّ الخَلق؛ فاحذر من القُرب منهم ومُشابهتهم:
فهذا وصفُ شِرارالخَلق.. شِرار الخلق.. شِرار الخلق:
شرار الخلق -نعوذ بالله من غضب الله-.
وقال: (مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ (18)):
(عُتُلٍّ):
(عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ (13)) دعِيٍّ، كثير الشر، ابن زنا، كلّه من معاني الزنيم، معروف بكثرة الشرّ، كما تُعرَفُ الشاة بِزنيمتها.
(عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ) وفي لفظ سُئِلَ ﷺ عن العُتلِّ الزنيم؟ فَذَكَرَ أنَّهُ:
وفي الحديث: "تبكي السماء من رَجُلٍ أَصحَحَ اللهُ جِسمهَ -أصح الله جسمه- ووسّع جوفه وآتاه نصيبه من الدنيا؛ يظلم الناس"، (عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ).
يقول الله: (أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)) اغْتِرارًا بالمال والأبناء ينسى الربّ الذي خَلَق، وإذا جاءته آيات الله يقول: (أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) مسطورات سَطّرها الأولون، كلمات يَجمعها يأتي بها من عِنده: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ) [النجم:3-4].
(أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15))، فـ(لَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ (10))، (أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ) لا يَستَجِرّك إلى طاعَته أنَّه ذو مال، ولا صاحب بَنين، كأمثال الوليد بن المغيرة، هو معه بُستان كبير في الطائف ومعه عشرة من الأولاد، وأولاد الأولاد وبعد ذلك؟! (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا) [سبأ:37]، (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ) [التوبة:55].
أما أموال وأولاد بلا صَلاح لا تُعجِب، وحرام أن تُعجِبَك؛ فإنَّها إن أعجَبَتك فقد آثرتَ الحَقير، ونسيت الكبير، وخرجت عن سواء السبيل و حُسن المَسير:
(أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ):
من قال أن الشرف الكرامة في المال؟ قارون كان صاحِب مال وبعد ذلك ماذا رِجع؟ وعاقِبَته: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ) [القصص:81].
فرعون نَفَعه صاحبه هامان؟! نفعه أمواله؟! جماعته نفعوه؟ الذين كانوا يسِمرون معه، الذين كانوا يقولون: (يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ) [القصص:79] أحد منهم نفعه؟
يقول: (أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)) إذا ذُكِرَ الخُرطوم للإنسان المُراد الأنف.
(سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) يعني نجعل له وسمًا يُعرَفُ به ويُميّزه، ويُعرف شرّهُ ويُهانُ به على خُرطومه:
ومع ذلك؛ فمُثل الوليد ضُرِبَ ضَربَةً يوم بدر على أنفه وبقيت علامة في أنفه تُرى، شين في أنفه، ظاهِر، واضِح، وكَشْف لمعايبه، لا إله إلا الله، (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ) [طه:127]، (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ).
ثم يقول الحق:
أصحاب ذلك البُستان الذي جاء في عدد من التفاسير أنَّه أرض يُقال: لها رِضوان أو ضوران، قريب من صنعاء، على بُعد ميلين من صنعاء، فيها ناس من الحبش وقيل من بني إسرائيل، كانوا فيها ذات عِنب كثير وأشجار، وكان صاحبها يُكثِر الصدقة على المساكين والفقراء، ولا يُبقي إلا كِفايته فقط وكِفاية أهله، ويتصدّق.. ويتصدّق، ووقت ما يجّز، كل ما غفل عنه المِنجل يأخذه الفقراء، وإذا بسط بالبِساط، فكل ما تساقط يبقى للفقراء، وإذا حصد الحب، فكل ما يسقط يكون للفقراء، ولا يُبقي إلا قدر كِفايته في السنة ويتصدّق بالبقيّة
مات الرجل وخَلَّفَ أبناء -ثلاثة أو أكثر-، فصار مجال تفكير الأبناء كتفكير كثير من العقليات اليوم على ظهر الأرض، يقولون: هذا أبونا كان يعطي خلْق الله ويخرج المال ولا يستفيد منه، سنعمل خُطّة ونكسب ونربح ونستثمِر ونُنمِّي -عقليات عجيبة-، ولا فقير يَدخُل علينا، ولا نعطي واحد.
قبل وقت الجذاذ المعروف سنَجُذّها باكرًا في الصباح أو آخر الليل، لا أحد يعلم، ونقطِف الثمر كلّه ولن نعطي أحد شيء، لماذا؟ حتى يكون أربح وأرْجح -لاحول ولاقوة إلا بالله-.
(كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا) -حَلفوا- (لَيَصْرِمُنَّهَا) -يَجُذّونَها- (مُصْبِحِينَ (17)) أوّلَ الصباح، باكراً قبل أن يأتِ أحد، ولا أحد يعرف.
(لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18)) ولا يقولون: إن شاء الله، مُعتمدين على أنفسهم، قَليلي الذِّكر لله، قليلي التعظيم، واحد منهم كان دائم يقول لهم: اذكروا الله، قولوا: إن شاء الله، لا يستمعون له، هذا أحسن واحد فيهم خيّرهم..
(فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19)) نسيتُم من لا ينام! وأَرَدتُم حِرمان الفُقراء من الأنام، انظروا ما الفائدة من طريقة الاستثمار والتوفير هذه؟! يوفّرون لأنفسهم؛ ولا عاد أصبح شيء.
(فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)) الرماد الاسود، (كَالصَّرِيمِ)، أين يُزرَع المصروم الذي قد جُزَّ وانتهى؟ (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) مُحتَرِقة مثل الليل، الليل البهيم صَريم، من معاني الصَريم: ليل بهيم أسود، الرماد الأسود، صريم (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ).
وهؤلاء استيقظوا الصّباح: (فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا..(22)) قوموا، نَفِّذوا الخِطّة، صارت خَبطة، ماعادها خِطّة -نَفِّذوا الخِطّة-، فعاقبهم الله لمَّا أرادوا حِرمان الفُقراء.
كان واحد مُحتَرِف وواحد مُتفرِّغ للعِبادة والعِلم -إخوان- يوم من الأيام هذا المُحتَرِف جاءت له فكرة هكذا؛ قال: يارسول الله، أنا أشتغل وأعمل وأجيء بالرزق وأخي جالس عِندك ويحضُر مجالِسك، قال له: "لعلّك به تُرزق"، أنت أمورك تتيسّر والخير يأتي بسببه هذا -"لعلّك به تُرزق"-؛ هؤلاء قالوا: لن نعطِ أحدا، قال الحق: لن أعطيكم أنتم، (فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ) أول الصباح (أَنِ اغْدُوا) -بَكِّروا على حَرثِكُم- (إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ (22))، ستجزّون كما تشْتهون.
(فَانطَلَقُوا) -مشوا، مضوا- (وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23)):
(وَغَدَوْا) -أصْبحوا- (عَلَىٰ حَرْدٍ) أمرٍ قَرَّرُوه وبينهم دَوَّروه، وغَيظٍ على الذين يَأخُذون الصدقات، الحرد (حَرْدٍ): غيظ، وقصْد من عندهم، وأمر مُدَبَّر مُرَتَّب:
(عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ (25)) في ظنِّهم أنّهم يقدِرون على تنفيذ ما رتّبوه، وتنفيذ ما خططوا له، ظنّوا أنهم قادِرين على زرعهم وعلى حصاده وعلى أخذه، أين هو؟!
(وَغَدَوْا عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ) في ظنِّهم ووهمِهم قادِرين على منع المساكين، فعمِلوا خِطّة -بدري ولا أحد يدري-.
وبعد ذلك (وَغَدَوْا عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ) -يمشون- (فَلَمَّا رَأَوْهَا) وجاءت أعينهم على المكان إذا هو أسود، محروق ولا شجرة واحدة..
قال الآخر عندهم:
(قَالَ أَوْسَطُهُمْ) يعني أعدلهم، وخيرهم، وأفضلهم.. وهكذا:
(قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا) يعني نُنَزِهُه، ما ظَلَمَنا الله، نحن ظَلمنا أنفسنا (سُبْحَانَ رَبِّنَا).
(قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29))، (إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) نحن الذين ظَلمنا، أردنا السوء ومنْع الفقراء والمُحتاجين.
(فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام:43]، منهم إذا وقعت عندهم مشاكِل، ومُصيبة نزلت بهم، قاموا وارتكبوا معاصي -لاحول ولا قوة إلا بالله-، ولا يتوب، ولا يلوم نفسه، ولا يرجع -إنَّا لله وإنا إليه راجعون-.
يقول: (قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31)) بعد ذلك؟ رجعوا إلى الرب، قالوا: معنا هذا الرب سنرجع إليه الآن؛ سنتوب، ولن ننوِ أن نحْرِم أحدا، وسنزيد في الصدقات، سنزيد في الخيرات.
(عَسَىٰ رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا (32)) لجأوا إلى الرب، وفي الله عِوض عن كلِّ هالِك؛ حتى يقول ابن مسعود: إنَّه علِم الله صِدْقهم فآتاهم جنَّة أُخرى، بستانا كبيراً، قال: البغل لا يحمِل من قطفِها إلا عُنقود واحد، عنقود واحد يملأ البغل، عنقود من العنب التي فيها يملأ البغل، لاموا أنفسهم، ندِموا وسبّحوا بحمد ربّهم، ورجعوا إليه.
وهذه الطريق؛ إذا وقعتَ في شِدّة، إذا وقعت في مُشكِلة، عندك:
وليس إذا وقع في شِدّة ينادي: يا فلان يا فلان، يا فلتان يا علاّن، أنت تذهب لهذا، وأنا سأذهب لذاك! أنا سأتيك من وراءك، سألتجىء لذاك:
الخصم؛ الضال، المُجرم، المُعتدي..، الثاني يقول نفس الكلام هذا، قال: ظالم، هذا يقول: ظالم. يقول: مُعتدي. الآخر يقول: مُعتدي. يقول: ضِدّ الشعب. وهذا يقول: ضِدّ الشعب، يقول: يخَرِّب البلاد يقول الآخر: يخَرِّب البلاد، هذا يقول وهذا يقول، وبعد ذلك؟ هل أحد نَدِم؟! أحد رجِع إلى ربُّه؟! أحد سبَّح؟! لا يوجد.
الله يذكر لنا هؤلاء، يقول: (قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ)؛ اعترفوا، لاموا أنفسهم، وندِموا، (قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَىٰ رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32)).
قال الله: (كَذَٰلِكَ الْعَذَابُ..(33)) نُعَذِّب كُل من تولَّى عن أمرِنا، وفي جُملة ذلك أيضًا يقولوا: أنّ أبا جهل كان يقول لهم يوم بدر،اسمعوا؛ اليوم امسِكوهم فقط، اربُطوهم بالحِبال، واحمِلوهم لا تقتُلوا أحدا منهم، يعني إنهم في قبضتنا هم تحت أيدينا، لا يدري عدو نفسه هو الذي سَيُقتَل، قال: امسكوهم فقط هكذا، اربطوهم بالحبال، سنأخِذهم معنا ونتصرّف فيهم لاحِقًا.
دخل في المعركة، وقع الذي وقع -لا إله إلا الله- وكان من القتلى، يقول في آخِر رمق له، ابن مسعود يصعد فوقه، يقول: لمن؟ لمن الغلبة اليوم؟ قال: لله ولرسوله، يقول: رويعي الغنم تصعد فوق صدري! ارتقِيت مرْقًا صعْبًا، قال له وهو لازال مُتكبِّر، وقد دنا من الموت، قال له: الإسلام يَعْلو ولا يُعْلى عليه، يقول له: خُذْ سيفي من تحتي؛ أحدَّ من سيفك هذا -تعبان سيفك خذ سيفي مُمتاز-، وحُزَّ الرقبة من أسفل حتى يعْلم محمد أنَّي ذو رقبة ورأس كبير، يقول: وأخبره أنَّه عدو له -والعياذ بالله-، لما عُرِض على النبي، قال له: أنَّه قد قال كذا عند الموت، فقال ﷺ "فرعونى أشدّ من فرعون موسى"، فرعون موسى لمّا أدركه الغرق، قال: (آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [يونس:90]، وهذا يقول له كذا، صلى الله على سيدنا محمد.
(كَذَٰلِكَ الْعَذَابُ ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)) أمر بهم ﷺ أن يُرموا في القَليب هؤلاء، هذه البقيّة، الذين بقوا من الجُثث سبعين، والقوم فرُّوا، وقومهم كُلّهم سبعين أُسِروا، سبعين قُتِلوا، وقومهم البقيّة فَرُّوا، فما ترك النبي جُثّة منهم على الأرض، أمرهم أن يدفِنوهم، جماعة هنا.. جماعة هنا.. جماعة في القليب، أمر بسحبهم وأن يرموا في القليب، لا يترِكهم للسِّباع ولا للكِلاب.
إنسان..! إنسان..! إنسان يعرِف معاني الإنسانية والخُلق الكريم ﷺ! استخدم جيشه الذين هم خيار أهل الأرض في خِدمة جُثث هؤلاء، يقول لهم ضعوهم في القليب، ووقف على القليب بعد ذلك يُناديهم: "أبا جهل، أبا البحتري بن هشام، عتبة بن ربيعة، شيبة بن ربيعة، فلان، فلان، هل وجدتم ما وعَدكم ربُّكم حقًّا؟ فقد وجدت ما وعدني ربِّي حقًا" تحسَّر عليهم أنّهم لم يسمعوا كلامه، لم ينقذوا أنفُسهم من النار، اغترّوا بأنفسهم، سيدنا عمر يقول: يا رسول الله تخاطب أجساد لا أرواح فيها، قال: "لستم بأسمع لما أقول منهم،" كما تسمعون، هم يسمعون، غير أنَّه لا يُؤذن لهم في الجواب"، يعني فيما يسمعونكم اليوم، يسمعونكم، -لا إله إلا الله- (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ).
فالحمد لله على نعمة الإيمان بمحمد، اللهم ثبّتنا على الإيمان، أدخلنا في دائرة أهل الإحسان، وصحابته من أهل بدر أرِنا وجوههم جميعًا، واجمعنا بهم، واحْشُرنا في زُمرتِهم وأنت راضً عنّا، يا رب العالمين.
إنَّها ذكرى بدر، وذكرى نزول القرآن، إن سورة آيات اقرأ في غار حراء، نزلت في ليلة الاثنين السابع عشر من رمضان، وقال تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر:1]، فكانت في تلك السنة، السابع عشر ليلة القدر، ليلة الاثنين، حيث جاء جبريل إلى غار حراء، وفاجژ الحبيب الجليل ﷺ بالوحي والتنزيل، وقال يا محمد: اقرأ، قال: لست بقارئ، وغطّه، حتى بلغ مِنه الجهد، وفتح الغِطاء، قال: اقرأ، قال: لست بقارئ، فغطّه الثانية، حتى بلغ منه الجهد فرفعه، وغطّه الثالثة، (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق:1-5]، أنا جبريل، أرسلني الله إليك، وهو أرسلك إلى عِباده وخلْقِه لتُنذِرهم وتُبشِّرهم.
وعاد ﷺ إلى بيت خديجة، إلى عند خديجة، وأول من رأى الوجه الأنور بعد نزول الوحي عليه هي خديجة بنت خويلد، وكان يرجِفُ فؤاده من عظمة الأمانة وثِقلها، قالت له: ما بالك؟ قال: جاءني في الغار كذا وكذا، دثِّروني، دثِّروني، زمِّلوني، -غطّته- وقالت: "والله لا يخزيك الله أبدًا، إنّك لتحمِل الكلْ، وتقِري الضيف، وتكسِب المعدوم، وتُعطي في النوائب، فوالله لا يخزيك الله أبدًا".
فرِحَت لأنَّها كانت تتوقّع وتترقّب نُزول الوحي عليه لِمَا رأت فيه من علامات النُبوّة، وقع في قلْبها أنَّ هذا هو نبيّ هذه الأمة، وأرادت أن تطمئن أخذته إلى ورقة بن نوفل، وقال له: أهذا في النوم أم في اليقظة؟ قال له: في اليقظة، قال: الله أكبر، ليتني فيها جَذَع أنصُرك حين يُخرجِك قومك نصرًا مؤزرًا، قال له: أومُخرِجي هم؟، قال: ما أتى أحد بمثل ما أوتيت به إلا عودي، هذا الناموس الأكبر الذي كان ينزل على موسى، هذا جبريل جاء بوحي الله.
صلى الله على سيدنا محمد وآله، ورزقنا حُسن مُتابعته، وحشرنا في زُمرته، وأدخلنا في دائرة صحابته، وأهل بيته من العِباد الصالحين، والأئمة المُقرّبين أهل التمْكين.
بسرِّ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه
الفاتحة
19 رَمضان 1440