تفسير سورة القلم -4- من قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ..(7))

تفسير سورة القلم، من قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ .. }، الآية: 7
للاستماع إلى الدرس

تفسير العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة القلم، من قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }، الآية: 7

نص الدرس مكتوب:

﷽ 

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ (13) أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15))

الحمدلله مولانا الكريم، ذي الفضل العظيم والمنِّ الجسيم، نشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، يفوز بعطائه وعظيم امتنائه كل ذي قلب سليم، ويَحِلُّ عذابه ومَقته على كلّ كفار أثيم، بيده الأمر كلهّ وإليه يَرجع الأمر كلّه، يجمع الأولين والآخرين في يوم لَا يَنفَعُ فيه (مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء:88-89]

ونشهد أن سيدنا ونبينا وقُرّة أعيُننا ونور قلوبِنا محمداً عبده ورسوله، الهادي إلى الصراط المستقيم، سيّد أهل المنهج القويم، ذي الخلق العظيم، الداعي إلى الله على بصيرة، السائر في أكرمِ وخيرِ سيرة، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على عبدك المُجتبى المُصطفى، هادينا إليك ودالِّنا عليك حبيبك محمد، وعلى آله المُطَهّرين وأصحابه الغُرّ المَيامين ومن تبِعهم بإحسان على منهج الرَّشَد في كل غيب ومَشْهد، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، سادات أهل المجد والشرف والسُّؤدَدْ، وعلى آلهم وصحبهم أجمعين والملائكة المُقرّبين وجميع عِباد الله الصالحين من كل مُنوَّرٍ أمْجَد، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين، يا كريم، ياواحد، يا أحد.

وبعد،،،

فإنّنا في نِعَم أنْ نَغْدُوَ في تأمِّل كلام ربِّنا في توالي أيام الشهر الذي انْتصف علينا، ولم يبقَ معنا منه إلا النصف الثاني الأخير، جعله الله خيرا لنا مما قبله، ولا حرمنا بركة ليلةٍ فيه، ولا بركة يوم، ولا بركة ساعة، ولا عَرَّضنا فيه للقطيعة ولا للبُعد، إنّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

نواصِل تأمّلنا لمعاني سورة القلم -سورة نون- حيثُ أقسم الحق -تبارك وتعالى- على نزاهة نبيّه وعظمة خُلُقِه، وذكر أن جميع الخلائق:

  • ستنكشِف لهم الحقيقة ويُبْصِرون؛ مَن المفتون؟ ومَن اهل الهُدى؟ ومَن أهل الحق؟
  • ستنكشف الحقيقة لمُخْتَلف الأطياف، لمُخْتَلف أهل الاتجاهات، لمُخْتَلف أهل الديانات، لمُخْتَلف الخلق في الشرق والغرب.
  • ستنكشِفُ الحقيقة، ويُقال لكلّ من تمنّى أن لا تقوم الساعة -إذا قامت- وقال: (مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ۜ ۗ هَٰذَا)، يُقال لهم: (هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) [يس:52]. 

الهُدى والحقّ عند محمد وآدم وشيث بن آدم وإدريس ونوح وهود وصالح وإبراهيم وموسى وعيسى وإسماعيل وإسحاق وشعيب واليسع ويونس؛ عند كلّ هؤلاء، الحق هُناك، الهُدى هُناك، كُلُّ من خالفهم؛ مُخْتَلف الاتجاهات، مُخْتَلف الديانات؛ باطِل .. ضلال .. ظلمة .. كُفر .. بُعد -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.

  • (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الصافات:171-173]. 
  • (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا) -جعلنا الله وإياكم مِن خواصّهم- (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر:51]. 

سينصرهم، وأنت على قدر صِحّة إيمانك وقوته؛ منصور، ممدود بالنصر من الله في الدنيا والآخرة، على قدر صِحّة إيمانِك وقُوَّتِه: 

  • (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم:47]. 
  • (وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الانبياء:88].

يقول: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7))، فأنت صاحِب الخُلُق العظيم، أين يكون الهُدى إنْ لم يَكن عِندَك؟! عَظمَةُ خُلُقِك؛ لأنَّك تَخلَّقت بأخلاق القرآن، ولَمّا سُئِلَتْ السّيدة عائِشةُ عن أخلاق نبينا، قالَتْ: "كان خُلُقُه القُرآنَ"، والقرآن عظيم .. والقرآن عظيم؛ و من ذلك: 

  • إذا كان يُقال في الذين سَرَت إليهم سِراية نور القرآن المُنزل عليه ممن آمن به؛ كانوا قرآنا يمشي على ظهر الأرض.
  • فإنَّ مجلى قلوب أرباب المعرفة واليقين، أنَّ الذات المُحمديّة نُسخة مِن القرآن الكريم ارتسمت، في هذا الرسم الشريف.

فإذا كان يُقال عن الصحابة: كانوا قرآنًا يمشي على وجه الأرض؛ فهذا هو القرآن المُبَيِّن لمعاني القرآن، المُتَحَقّق بحقائق القرآن؛ فكانت صورته نُسخة مِن القرآن -من كلام الله-؛ ولذا كان يقول بعض العارفين: إن أردت النظر إلى رسول الله  فانظر القرآن -انظر القرآن-  فهذا وجهه، وهذا طلعته، وهذا خُلُقه، وهذا مسْلكه، وهذا مبْدأه، وهذا دينه، الله أكبر!. 

القرآن تجد فيه محمد ﷺ: 

  • وإذا وجدت محمداً وجدت القرآن، وانْجَلى لك معنى القرآن و سِرُّ القرآن. 
  • فإنه الذي قال له الله منزل القرآن: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل:44]. 

فبيان القرآن على يد محمد لكل مؤمن بالقرآن.

  • فعلى قدر صِلته بهذا الجناب؛ ينكشِف له سِرُّ القرآن، ويتّصل في ذاته وروحه وقلبه بالقرآن.
  • ويقولون عن الأصفياء الذين عَظَّموا كلام الله وعرفوا من معانيه وعمِلوا بما فيه وارتقوا بمراقيه: "أنَّ فلاناً امتزج القرآن بلحمه ودمه"، ومن كان كذلك فما أعجب لحمه، وما أعجب دمه!؛ 
  • ولذا ورد في الحديث: "إن من حفظ القرآن ولم يكن غالياً فيه ولا جاف عنه، لا تمسّ الأرض جسده"؛ لأنّ فيه نور القرآن و سِرُّ القرآن، وأنَّى للأرض أن تتجرأ على ذلك؟!.

يقول: (فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8))، المُكَذّبون بالحق، المُكَذّبون بالهُدى وهم كثير مِمَن يَطلبون: 

  •  القيادة والرّيادة في العالم. 
  • وأن يَقودوا الناس، وأن يَسودوهم. 

كن عاقلا! لا تُطِع مثل هؤلاء، مثل هذا الصنف، ليسوا بشيء، كَذَّبُوا بِالْحَقِّ والحقيقة، فماذا عندهم؟! 

  • (فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) وقد كانوا يَدْعون إلى دينهم كما يَدعو هؤلاء. وكانوا يَدْعون النبي؛ تعال .. تعال.. يَعرِضُون عليه ما عندهم، وأن يَرجِع عما هو عنه، عما جاءه هذا، وعما قام به من دين.
  • (فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ)؛ فإذا عقلتَ فتحرَّر من أيّ خيال عندك يأسرك لتعيش في الأرض، وشيء من فِكرِك ووجهتِك مأسور لأن يطيع فاجراً من الفُجّار على ظهر الأرض.

أنت مُكْرَم بالإسلام، ونِعمة معرفة الخلاّق الذي خلقك ومصيرك إليه. تنزل إلى أتفه مُستوى! لتكون مطيعاً لفاسقٍ مُجرِم مُكذّب: 

  • هذا هو غزو العُقول، غزو المشاعر، هذا هو لَعِب إبليس وجُندِه في ساحات القلوب والعقول. 
  • فيجب على المؤمن أن يكون أعلى وأرقى من أن يُلعب بعقله إلى هذا الحد والمستوى؛ حتى يَستحسِنَ مسلكَ واتّجاه واحد من الفُسّاق على ظهر الأرض. 

(فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8))، يوم يقول الله عن أولئك المُكَذّبين وأهل الباطِل: في كلّ الأزمِنة، وهم مُتشابهين في طريقة تفكيرهم، وفي أساليبهم ووسائلهم يتشابهون: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)): 

  • لأنهم لا أساس لهم قَويم ثابت، لذلك يَقْبَلون المُداهنات. 
  • لكن أصحاب الحق؛ الأنبياء والرسل وأتباعهم -أهل حق- ثابت قويم قويّ وواضح، لا يَقبل المُداهنة واللعب والمُغالطة، الله أكبر!.

أما هذا هو أصل الأساس، لا غيره، وإذا هو يدور مع المصلحة حيث دارت وهكذا، مصالح؛ والمصلحة عنده هي ما يتصوره هو مصلحة، وإن كان ضُرُّه وبلاؤه؛ لكن هو يتصوره مصلحة ويمشي وراءه هكذا. 

لكن المؤمن الحق، كما قالت أم سيدنا سعد من أبي وقاص؛ وكان بارًا بها قبل الإسلام وما زاده الإسلام إلا بِرًّا، فأراد من يَتَحَيّل عليه من طريق أمه! قالوا لأمه: الآن تريدين سعد أن يرجع عن دين محمد، وهو يَشُقّ عليه أن تتكدّري وتتضرّري، وهو بارّ بكِ، قالت: نعم، قالوا: قولي له لن أستظِلّ بظلّ، ولن آكل طعام، ولا أشرب شراب؛ حتى تكفر بمحمد، ونَفَّذَت خطّتهم؛ لكن وجدت سعد -اسمه سعد ما فيه نحس- لمّا قالت كذلك، قال: أُمّاه! اطلُبي ما شئتِ منّي، واعملي ما شئتِ، وأعطيك كل ما تشائين؛ أما هذا الذي هو تَبَعي لمحمد وديني بدين الإسلام، فلو كان لك مائة نَفْس إلى نَفْسِكِ وخَرَجَت أمامي واحدة بعد الثّانية لمَا تَراجعتُ..

  • رأتْ جبلاً! ذهب عزمها كلّه، ودخلت البيت وأكلت وشرِبت وانتهت المسالة.
  • رأت صَلب أمامها، لو رأت واحد ضعيف ستبقى محلّها الى أن تؤثّر عليه.
  • لكن وجَدَت جبل صَلْب قَويّ! قال: أنا أخدُمكِ، أُكُبّس رجليكِ، أقدم الطعام لكِ، أقمُّ البيت، أعمل لك كلّ شيء؛ لكن الدين ليس فيه لعب! صاحِب حق، صاحِب هُدى.

صاحبُ الحَقّ لا يَقْبَل اللعب في الدين؛ لكن هؤلاء ليس لَهُم مبدأ ثابت قويم، هذا الذي كل يوم بلون، مُستعِد أن يلعب، المهم إلعب مَعُه؛ يلعب معك. 

(وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9))، وأنت إن كنت صاحب باطِل مِثلُه إذهب إلعب مَعُه، إنْ كُنت صاحب حق، الحق لا يقبل اللعب: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) [إبراهيم:27]، لا يَقْبل زائد ناقص، اذهب هات هذا، واسكت عن هذا، وهات هذا؛ هذا في الأباطيل ممكن، لكن في الحق، في الهدى لا تأتي، (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون:6].

وقالوا له: فقط سنقيم صُلْح بيننا وبينك، نَعبُد إلهك شهر وتعبد آلهتنا شهر، والآلهة التي عندكم، ساعة تعبدونها وساعة..؟!! ليس لكم مبدأ أصلاً! لا حق عندهم، ماعندهم حق، أباطيل، مُستعدِّين يترُكون عِبادتها شهر.

 لكن هذا صاحب حق، عرف أنّ الله هو الله، خالق كل شيء، كيف يترك عبادته؟! لا يمكن لأنه صاحب حق، ذاك باطل؛ قد يأكلون أصنامهم التي يَعملونها من التمر أو من الحلوى؛ -إذا جاع يأكل منها - بعد ذلك يقول: إنّ معبوده في بطنه! لا يوجد حق أصلاً، ما هناك، حق لكن هذا الدين حق.

لمّا قالوا: بيننا وبينك ساعة نعبد إلهك وتعبد أنت إلهنا، تعال معنا ونحن نأتي معك، (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) [الكافرون:1-3]، لا يَتأتّى أن يَعبُد إلهي واحد يُشرك معه غيره، ويجعل عبادته مؤقتة من أجل مصالح؛ إلا أن يؤمن أنه إلههُ، هذا هو الذي يعبد إلهي، يؤمن أنه إلههُ ولا إله غيره، انتهت المسألة.

أما أنكم تقولون أنكم ستعبدون إلهي وترجعون للأصنام، لا تصحْ العبادة لإلهي بهذه الصورة! إلهي واحد لا يقبل الشَّرِكَة، وآلهتكم ألاعيب مُتعددة، كل ساعة تزيدون منها وتُنَقّصون! لكن إلهي حق واحد لا يقبل الشركة؛ (لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) -لا في الحاضر ولا في المستقبل- (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون:1-6]. 

إذًا شؤون المُداهنات هذه والمُغالطات، وقد يُسمّونها مُجاملات. المُجاملة والمُداراة لها أوجه في الشرع، تكون حَسنة إذا كان فيها:

  • استِكفافُ أذى.
  • أو تقريبٌ إلى خير.
  • أو توضيح الى حق.

ليس فيها شيء من بيع الدين ولا بالتنازل، ليس فيها تنازل عن أوامر الله ولا عن نواهيه، ولكن: 

  • حُسن مُعاملة. 
  • حُسن بيان. 
  • إحسان حتى في القتال.

 وقت المقاتلة؟! نعم، لا نُمَثّل بهم.. لا نُمَثّل. ليس في ديننا هذا.

 إذا أسرناهم أَحْسنّا إليهم، نُحسِن إليهم ونعطيهم أحسن الطعام، نعم: 

  • المحاسن والأخلاق كريمة ما أعظمها في الشريعة ولا أحد عنده نظام مثل هذا النظام في جَمالِهِ وحُسن التعامل.
  •  المُتبجحون بأنظمة الحُقوق، ما رأينا انتهاك حُرمات الإنسان في مثل أيام سُلطتهم؛ لابد أن يتسلّطوا، وتحته من يدين سُلطتهم؛ حُرمة الإنسان منتهكة إلى أبعد الحدود! 

لكن هذا النظام الرَّباني العجيب الذي يحتاجه أهل الشرق، يحتاجه آهل الغرب، يحتاجه بنو آدم، ما دام الله خالق آدم وخالقهم من صلبه فهم مُحتاجون لمنهج ربهم هذا، كائِنين مَن كان، هم في حاجة إلى منهج الله دنيا وآخرة؛ ولكنّ أكثر الناس لا يعقلون، (وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [يوسف:21].

يقولون (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)) يظنون أنهم في بعض الأشياء، هم سيخفّفون كلامهم فيها، ولكن المسألة ليست بيع وشراء في بضائع دنيوية! المسألة مبدأ ودين؛ أدينُ الله به -جلّ جلالة- هكذا.

يقول الله لسيدنا عيسى ابن مريم يوم القيامة: (يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ)، هؤلاء أتباعك الذين ملأوا الدنيا كذب، وعملوا لك صليب وعبدوا الصليب، وقالوا إنك إله، أأنت قلت للنّاس؟! (قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ)، ما يكون لي؛ هو صاحب دين، صاحب مبدأ. (مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۚ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) [المائدة:116-119]، وهكذا الدين وهكذا الحق. 

فَالأغرب بعد ذلك، أن يأتِ صاحب باطِل ويتشبث بباطله في بعض الجوانب، ويأتِي صاحب الحق متضعضع؛ لأنه ما عرف الحق ولا تحقق به -والعياذ بالله تبارك وتعالى!- (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ) [البقرة:165]، لو في حقيقة إيمان؛ لا أحد أَصلب من المؤمنين، ولا أَقوى من المؤمنين! لا بوذية ولا يهودية ولا نصرانية ولا إلحادية ولا مجوسية ولا هندوسية ولا شيء؛ لا يمكن يكون أصلب من المؤمنين.

ومع ذلك يحافظون هؤلاء على أديانهم، ويعتنون بها، ولا يسلّمونها للحضارات، ولا الانتقال إلى الأماكن التي يشتغلون فيها، ولا يعملون الأعمال، ويتّجرون فيها، لا يضيّعون أديانهم؛ بل يُطالبون بأن يبنوا في الأماكن معابدهم وشؤون دينهم

والمسلم -بعض المسلمين- يأتي مُتخبّط، بمُجرَّد ما يذهب لدولة ثانية مُستعد يَبيع كُلّ شيء من دينه! ما هذا آدمي! ما عرف الحق، لو كان مؤمن حقاً لكان أَصلب الخَلْقَ في الدين؛ (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ) [البقرة:165]، لكن ما تَحقق بحقائق الإيمان! 

وإضاعة الناس لزرع حقائق الإيمان في قلوب الناّشئة؛ عَرَّضَ هذه الأجيال لأنْ يُلعب عليها بأبواق الدجّال، وأن يستهويهم كل ضال؛ وحتى خَرّجوهُم وكانوا في صور حَلَقات قرآن وعلم على غير غرس إيمان، وحَوَّلوهم إلى ملاحدة، رأينا أفرادا من مثل هؤلاء في زماننا. الله يحفظ علينا حقائق الإسلام والإيمان ويربي قلوبنا على الإيمان ويُنمّيه فينا، (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)).

وبعد ذلك تفصيل للصّفات الذميمة التي يتحلّى بها قادة الشرّ والفساد في الأرض، من مثل الأوصاف التي اتّصف بها الوليد بن المغيرة، والأخنس بن شُريق وغيرهم مِمَّن ذُكر أنَّ الآية نزلت فيهم: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ )، حلاف:

  •  لا يَعْرِف عَظَمة الله؛ يظل يحلف دائماً، كثير الحلِف.
  •  مِثلُه مِثلُ الذي يَقْطَع ويَجْزِم أنَّ رأيه وحده، وما يَقولُه هو الحق في العالم: 
    • وكل ما يقول غيره لا مكان لهم! (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ) [غافر:29]، لا يَقْبل مفاهمة -ما يقبل- لابد أن تكون تبعه. 
  • حَلَّافٍ: يجزِم بما لا حق فيه، يحلف بحق وباطل، يحلف بكَذِب. 

(وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ ..(10))، وفي هذا ذمْ للذي يكثر الحلِف بالله: 

  • والحق يقول: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ) [البقرة:224]. 
  • حتى أن الذي يُنَفِّقْ سَلعَتُه في تجارة وبيع وشراب باليمين الكاذبة مِمَّن (لَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [آل عمران:77]: 
    • يُنَفِّق سَلعَتُه باليمين؛ يكذِب باسم ربّ العالمين من أجل تكسب مادري كم في الباطل، كيف رخُص ربّك عندك إلى هذا الحد! 
  • قال سيدنا الإمام الشافعي في مظهر من مظاهر عظمة الحق في قلبه: ما حَلَفتُ بالله صادقًا ولا كاذبًا، حتى صّدق، قال: ما حَلفت، لماذا أحلف؟! مُعَظّم لإسم ربه -جل جلاله-. 

إنَّما يكون ذلك عند الحاجة، وعلى أمر دِين، أو لضَّرورة؛ أمّا غير ذلك، فلماذا؟! والله.. والله.. والله! لماذا؟ أين عَظمة هذا الإسم؟ أين عَظمة المُسمّى في باطِنك؟! هذا ليس إسم هيّن! 

  • لا يَنطِق لسانك ولا لسان مَلَك ولا إِنسي ولا جنّي بأعظم من هذا الإسم! ولا أشرف من هذا الإسم! 
  • لا تجعله عُرضة لأيمانك، أُذْكُرهُ بالإجلال، بِالإكبار، بالتّعظيم. 
  • لا لسانك ولا لسان مَلَك ولا لسان إنسي ولا جني تَقْدَر أن تنطق بأشرف وأعظم من هذا الإسم ، الله

ما في أعظم من هذا الإسم! ما قد نَطَقَت لسان مَلكٍ ولا إنسي ولا جني بشيء أعظم من هذا الإسم قط! بأيّ إسم كان، هذا أعظم ما يمكن أن ينطِق به أحد.

فَعَظّم ربك! فلا تَجعَلهُ عُرْضة؛ حَلاّف حَلف، لما تحلف؟! ولا تحلف في الله إلا لحاجة ولضرورة وعلى بَيِّنه، وانظر هذا الفرد الذي عَظَّمَ أمرَ الله، قال: ما حلفتُ طول عمري، ما حلفت، لا صادقا ولا كاذبا -ليس فقط كذب حتى بصدق،  لماذا الحلف؟ ما الداعي؟ وهذا أعظم شيء، الله أكبر!.

 (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ) .. (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ (10))، مهين:

  •  مهين: معناه كذَّاب؛ لأنه: 
    • لا يَكذب إلّا من هان على نفسه. 
    • ولا يُعرَف بالكذب أحد إلّا هانَ بين الناس فهو مَهين.
  •  معنى مهين: حقير، ذليل، لا يَهتدي إلى إقامَة الأمور وتوضيح المسائِل؛ مهين. 

لكن رأس ذلك الكذب، لا يكون حلّاف، خَرجَت عَظمَة الله من قلبه، إلّا وهو مُظْلِم القلب مُعَظِّم للدنيا؛ فهو مَهين.

(وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ (10) هَمَّازٍ): 

  • يثلب خلقَ الله، يَغتاب، يَهْمُز، يطعن أعراض الخلق. 
  • همّاز، كثير الغيبة، ما تجلس معه -حتى ربع ساعة- إلّا ويَغتاب لك اثنين، ثلاثة، أربعة. 

لا حول ولا قوة إلا بالله! ما المُصيبة هذه؟! وهذا حال بعض الناس ويريد نفسُه خيِّرا! المَخْيرة في وادي وانت في وادي ثاني! اذهب صلّح نفسك. 

هذه صِفات خبيثة للمَبغوضين عند الله، وذَمّها في كِتابُه: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ (10) هَمَّازٍ): 

  • الذي يَغتاب.. يَغتاب.. يَغتاب، ويقعد -حتى وسط المسجد- هو وواحد، وعنده كم دقائق، ويقول: فلان ترْكُه وفعْلُه، فلان… -لاحول ولا قوة الا بالله- حتى وسط المسجد!. 
  • (هَمَّازٍ) يصف بها الكُفّار، يسلِكون هذا المسلك، وانت تتّصف بصِفتهم! وتدّعي انّك خيِّر؟! لا تهمِز خلق الله، لا تطعن أعراض عباد الله -سبحانه وتعالى-. 

(هَمَّازٍ) ومع كونه همّاز، نمّام ايضاً (مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)) يمشي بالنّميمة، يمشي بها من واحد لآخر، ينقُل كلام هذا لكلام هذا؛ لأجل يُفَتّن بينهم، ينقل كلام هذا لكلام هذا، وكلام هذا لِكلام هذا، "لا يدخل الجنة نمّام"، و في رواية: "قتّات". 

والنّمام هو القتَّات؛ وبعضهم جعل الفرقَ: 

  • أنَّ النمّام يَنقُل كلام هذا إلى الثاني؛ يَنُمُّه بكلام واقع. 
  • والقَتَّات يَخْتَلِق كلام من عنده، يقول: فلان قال عليك، وهو ما قال أصلاً، افترى عليه، يفتري يقول.

 وكُلُّهُم على خطر وعلى شر، (هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11))، ويُروى في الآثار: 

  • أنَّ مَنْ مات مُصِرًّا على الغيبة؛ فهو من أول من يدخل النار.
  • ومَنْ مات تائبًا من الغيبة؛ فهو من أواخر من يدخل الجنة، إذا مات تائباً منها وأقلع عنها، لكن قد ملأ بها صحائف -يا لطيف!-.

(وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا)، مَثَّل الله دناءة هذا المسلك: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) [الحجرات:12]، يقول الجنيد بن محمد: رأيت سائلا في الطريق، فقلت في نفسي: هذا عنده قوة لو صَرَفَها في الكسب، ويكُفّ نفسَه عن سؤال الناس أحسن، فقال: لمّا ذهبت الى البيت آخذُ القيلولة رأيت أنه جيئ بذلك السائل، ووُضِع وهو ميّت بين يدي، وقيل لي: كُلْ لحمه فقد اغتبته، قلت: سبحان الله! إنّما كان خَطرة في خاطري ما كلّمت أحد! فقيل لي: مثلك لا يُسمح له بمثل هذا؛ حتى خطرة من عندك عيب، أنت عَرّفك الله من جلاله وعظمته وسرّ تصريفه لعباده شيء كبير، لماذا تعترض؟! لماذا بقلبك تغتاب؟! الله أكبر! (وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا).

(هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ (12))

  • بخيل! لايُنفِق، لايُحِب أن يتصدق، لا يُحِب أن يُعطي للمسكين المحتاج، إذا كان هناك موقف ينال فيه مدح الناس، نعم ، إذا ماكان شيء، انتهى، لا شيء! 
  • (مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْر) لا يهمه أمر الفقير، المُحتاج، المسكين، المُضطّر، ما هَمَّه إلا أمر الفَخْر فقط! 

(هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ) مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ، وكان يقول الوَليد لولده: أيّ واحد منكم يَتْبَع محمد، لا أعطيه درهم واحد، ولا أعطيه شيء من مالي، وقد كان صاحب مال كثير.. 

  • (مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ) مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ: يمنع، يقول: لا تتبعونهم.. لا تتبعون محمد، لا تؤمنون بالله. 
  • (مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ): يمنع المال، ويمنع الناس أن يدخلوا في الهدى، ويصدّ عن سبيل الهدى. 

(مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)) أي فُرصة يُحَصِّلها يلهف، يُكدِّس أموال، يفرح إن عنده مال كثير. 

انظر إلى المؤمنين مع الحبيب ﷺ، سيدنا سعد في مثل هذا اليوم والنبي في الطريق إلى بدر ﷺ يقول: أشيروا علي أيها الناس.. أشيروا علي أيها الناس. قام سيدنا سعد: تعنينا معشر الأنصار؟ قال: 

  • أجل آمنّا بك -يعني عرفنا أنّك رسول الله، مؤتمن من عند رب الأرض والسماء- تخاف أن نقف عند الحدود التي عاهدناك عليها عند بيعة العقبة، وقلنا لك لوسط بلدنا، وخارج بلدنا..! لا لا لا، شرِبنا الإيمان -امتلأنا-، آمنّا بك، صدّقناك. 
  • شهِدنا أنّ ما جئت به هو الحق؛ فاقطع حِبال من شئت وواصِل حبال من شئت، حارب من شئت وسالِم من شئت، نحن حرب لمن حاربت وسِلِم لمن سالمت، لم يعد مكان في عقولنا يقودنا من أعرافنا ولا أَعراف قبائلنا ولا أَعراف دول العالم الصغرى ولا الكبرى، نعرِفك أنت، محمد رسول الله، فقط! حارب من شئت وسالم: نحن حرب لمن حاربت، سِلم لمن سالمت فإنما أمرنا تبع لأمرك.
  •  خُذ من أموالنا ما تشاء واتُرك ما تشاء والذي تأخذ أحبُّ إلينا من الذي تترُك، أما ذاك فهو منّاع للخير وهذا يقول: الذي تأخذ أحسن إلينا!- الله أكبر!
  • و لعلك خرجت تُريد أمراً أَراد الله غيره؛ فامضِ لِما أمرك الله، والله لو سرت بِنا حتى تبلُغ بِرك الغِماد من الحبشة -وأخرجتنا من الجزيرة العربية كلها؛ نمشي معك -نذهب حيث ما أنت، ولا نقول لك لا استعداد عندنا، ولا سنرتِّب ولا متى، نحن وراءك-، آمنا بك -نحن أيقنّا أنك مأمونه، أمينه، حبيبه، رسوله، صفيّه، خاتم أنبيائه؛ انتهت المسألة- لله أكبر!.
  • ولو استعرضت بنا هذا البحر فخُضْته لخُضْناه معك.
  • وقد تخلّف عنك أقوام ما نحن بأشد حباً لك منهم، وهل الإيمان عندنا هذا وحدنا؟! كثير من أصحابنا هناك من جماعاتنا، لو علموا أنّك تلقى حرباً ما تخلّف منهم رجل، ولا نكره أن تلقى بنا عدوّنا غداً، إنّا لصُبر في الحرب، صُدق عند اللقاء، ولعل الله يُريك مِنّا ما تقرُّ به عينك يا رسول الله. 

ما أكمل كلامه إلا ونور الوجه ينصع حتى كأنّه قِطعة قمر وقال: "سيروا وأبشروا وأمّلوا ما يسُركم، فإن الله وعدني إحدى الطائفتين إما العِير وإما النّفير، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم"؛ عَلِم ذوي الفِطنة منهم أن العير راحت منهم، و"أنظر مصارع القوم" ما فيها إلا مُقابلة وقِتال، "كأنّي أنظر إلى مصارع القوم":

  •  في اليوم السادس عشر وصل إلى بدر ورتّب محل الجيش، وجاء في الساحة التي ستكون فيها المعركة قال: هذا مصرع فلان -غدا إن شاء الله- هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان. 
  • في اليوم الثاني بعد المعركة لم يجدوا تخطّى للموضع ولا مقدار شبر، المحل الذي عيّنَه النبي لهم، وجدوهم مُقتولين فيه، وجدوهم مُصرَّعين في نفس الأماكن التي حدّدها

يقولون الآن أن المُصارِع القوي على المُصارع القادر عندما يدخل الحلبة في الصّراع لا يدري هل سيرمي صاحبه في الجهة هذه أو في الجهة هذه؟ لا يقدر أن يحدد وقت المصارعة، وهذا من قبل بيوم يقول لك هذا هنا.. هذا هنا.. هذا هنا، ثم يأتي في اليوم الثاني، وكل واحد في مكانه الذي حدّده رسول الله ﷺ.

والآن هذه الذكريات والآيات تحمِل من؟ من ينطِق بِنُطق سعد؟! من يتّصل بذات النبوّة كَاتّصال سعد؟! من يصدق مع الرحمن ورسوله كَصدق أولئك؟!

  • آمنا بك وصدّقناك وشهِدنا أن ما جئت به هو الحق: 
    • فما تعمل لنا هذه القنوات؟ 
    • وهذه المظاهر الفارغات وما في الشرق وفي الغرب!. 
  • فأمرنا تبع لأمرك: 
    • لا أحد يقودنا منهم؛ أنت الذي تقود. 
    • لا نتأثر بكلامهم؛ نتأثر بكلامك. 
  • مَن حاربته نحن حرب له، مَن سالمته نحن سِلم له: 
    • وراءك وراءك. 
    • لا نرضى بقائد غيرك. 
  • وأموالنا وعقولنا وأهلنا فداء لك و لشريعتك ولما جئت به. 

القُلوب التي تصدق في الخطاب الجنان بهذا الخطاب، هي مع هؤلاء في الموقف، في موقف واحد في القيامة، هي معهم في المواقف هناك، هي معهم عند الحوض، هي معهم وقت دخول الجنة: "لكلِّ قرنٍ من أُمَّتِي سابِقُونَ"  الله!. 

(وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ (13))، مع هذا كله: 

  • (زَنِيمٍ) دعِيًّ في القوم ليس منهم ابن زنا. 
  • (زَنِيمٍ) وكثير الشر، المعروف بالشرّ يقال له: زنيم. 
  • والدَّعيُّ المنسوب إلى القوم وليس منهم بالنسب يقال: له زنيم. 

(عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ)، يقول الحق تعالى: لماذا يكذِّب؟ أو لماذا تطيعون؟ (أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14))؟ هل لأن عنده مال وأولاد، يُكذِّب بالآيات والرسول؟! (إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15))، وانت تُطيعه لأن عنده مال وتمشي وراءه؛ (أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ)؛ لأن هذا المحكّ كثير من الناس يمشون وراءه؛ افهم الحقيقة:

  •  أتَرك المال والبنين وأتَرك القوة والجيش.
  •  انظر أين تضع رجلك! 
  • انظر مُعاملة عالم سرّك وجهرك!
  •  استعد للقاء ربك!
  •  قوِّم مستقبلك الأكبر الأخروي.

 ولا تكون الطاعة من أجل صاحب مال أو من أجل انسان عنده قوّة أو عنده أولاد، وبعد ذلك أين مبدأك؟ أين مصيرك؟ أين آخرتك؟ أين ربك؟ أين معرفتك بنفسك؟! 

رزقنا الله كمال الإيمان، كمال اليقين ومتابعة حبيبه الأمين وأصلح شؤوننا ما أصلح بشؤون الصالحين، ونَظرإلينا كما نظرة لأهل بدر وعاد علينا عوائد أهل بدر؛ 314 كانوا في مثل اليوم هذا، وهم قد قطعوا أيام من المدينة يمشون، والأخبار من حولهم والكلام والخبر يصِل أن قريش تحركت؛ وأن هذه الدولة خرجت بكبارها وطغيانها وتُريد قِتالهم وكانوا أهل الصدق؛ وكانوا الذين رفع الله لهم القدر-عليهم سلام ربنا-.

والله يجمعنا بهم و يرينا وجوههم كلها، اللهم شرِّف عيوننا بالنظر إلى وجه كل بدريٍّ من أصحاب نبيك، ربّ! في البرزخ والآخرة والجنة؛ وفي الدنيا لمن شئت مِنّا أن يراه نوما أو يقظة، شرِّف عيوننا بالنظر إلى وجوههم، أكرمنا غدا بمرافقتهم وأنت راضٍ عنّا، برحمتك يا أرحم الراحمين.

 بسرِ الفاتحة 

وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه، 

الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

16 رَمضان 1440

تاريخ النشر الميلادي

21 مايو 2019

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام