(535)
(339)
(363)
تفسير الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة القلم، من قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ }، الآية: 4
﷽
(وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9))
الحمدُلله مولانا العظيم، الهادي مَن يشاء إلى الصّراط المستقيم، نشهد أنه الله الذي لا إله إلاَّ هو وحده لا شريك له هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، ونشهد أن سيّدنا ونبينا وقرة عيننا ونور قلوبنا محمدًا عبده ورسوله ذو الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك وكرّم على صفوتك مِن البريَّة، سيّدنا محمد وعلى آله أهل الخصوصية، وأصحابه ذوي الرُّتب العليَّة، ومَن تبعهم بإحسان وصدق وإخلاص نية، وعلى آبائه وإخوانه مِن الأنبياء والمرسلين أهل المراتب العلى السَّنية، وعلى آلهم وصحبهم والملائكة المُقرَّبين وعبادك الصَّالحين اللذين رَعَوا حقّ المعيّة، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين يا جزيل العطيَّة.
وبعد،،
فإنّنا في تقلّبنا في نعم الله نُصبح يومًا بعد يوم في أيّام رمضان المبارك ونحن في العافية مُمتّعين بنعمة الإسلام والإيمان؛ فضلًا مِن ربّنا علينا نتّصل بكتابه رجاء أن يفتح لنا بابه، وأن يدخلنا في أحبابه، وأن يجزل لنا ثوابه، وأن يدفع عنا -سبحانه وتعالى- موجبات الحسرة والنَّدامة في يوم القيامة.
نتأمّل معاني القرآن الكريم؛ لنتزكَّى، ولنتنوَّر ولنتطهَّر، ولنُدرك سِرَّ العُمر القصير بما ينفعنا الله به، فيُنعمنا في خير مصير مِن غير وفاةٍ ولا موتٍ في تلك الحياة المُباركة، ولا مرضٍ، ولا ذُلٍ إليه نصير، اللهم حقّقنا بحقائق الإقبال عليك، وأقبل بوجهك الكريم علينا، وبلّغنا فوق آمالنا مِن خيراتك في الدارين.
نتأمّل المعاني وقرأنا في سورة القلم آيات كريمات خاطب الله فيها خير البريّات منزهًا له عن كل ما يصفه به مَن أساء الأدب، وتولّى الدّفاع عنه بنفسه الرَّب -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه- وعلَّمنا
(مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)) -صلّى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله- وكان ذلك الخُلُق العظيم هو ما هو عليه مِن دين، وما هو عليه مِن صفاتٍ، وأعمالٍ، وأقوالٍ؛ غاية في العَظَمة، هو حبيب العظيم، فكان مجْلى عظمة العظيم:
وحُسن الخُلُق هيئة راسخة في النّفس تصدر عنها الأعمال الجميلة بسهولة، صدور مكارم الأخلاق؛ إن كان عن هيئة مستقرة في النّفس تصدر بسهولة؛ فهذا هو حُسن الخلق.
والهيئة الراسخة في النّفس حُسن الاعتدال، في قوة الغضب والشّهوة، على ميزان الشرع والعقل، وحينئذ لا تتجاوز حدَّها في القوة، فيترتب عنها صفات سيئة، ولا تضعف عن اعتدالها فتبرز عنها صفات سيئة؛ الغضب والشهوة كُلّ منهما إن لم يعتدل ويُقوَّم بميزان الشرع والعقل؛ فهو سبب كل فساد الإنسان، وضرّ الإنسان وسوء خلق الإنسان
ولكن قوة الاعتدال في ذلك الذي لا يوصَل إليه إلاَّ بعد مُجاهدات في عامة الناس؛ يختصُّ بالأصفياء الأقرب مِن مُحمدٍ يوم القيامة؛ ولكن كمال الإعتدال فيه مِن كُلّ وجهٍ، جعله الله في خَلقه لواحد؛ "جامع المحامد" الذي قال له: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)) ما قال لذو خُلق عظيم، ما قال وصفك خلق عظيم، ما قال خُلقك عظيم!
(إِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)) ليس مُجرّد صاحب خُلق عظيم على خلق عظيم، بل راسخ فيك الخلق القويم الكريم تمام الرسوخ، فأنت عليه، مشيرًا إلى الاستعلاء وقوة التمكن والرسوخ، وبهذا فسّر بعضهم معنى قوله تعالى: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) [ص:86]، قال ما تشاهدونه مني مِن هذا التحمل والصّبر، ومقابلة السّيئة بالإحسان، ليس تكلفًا منّي، أنا طُبعت على هذا، أنا خُلقت على هذا، أنا مُتمكّن في هذا (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4))، ما أنا مِن المُتكلّفين -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-.
(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4))، وبذلك كان أقرب النّاس منه هم أحاسنهم أخلاقا، "وإن العبد ليدرك بحسن خُلُقه درجة الصائم القائم"، بل جاء في رواية: "درجة الصائم الذي لا يفطر، والقائم الذي لا يفتُر"؛ بحسن خلقه، ينال القرب مِن الله والمنزلة عند الله بحسن الخُلُق ما لا ينال بكثرة صلاة، ولا كثرة صيام، ولا أنواع مِن العبادات الأخرى؛ ولكن بالخلق الكريم. اللهم حسِّن أخلاقنا اللهم اهدنا لأحسن الأعمال والأخلاق لا يهدي لأحسنها إلاَّ أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلاَّ أنت.
وعامّة النّاس يُجبلون على كثير مِن مساوئ الأخلاق السّيئة؛ ولكن أُمروا بالمُجاهدة، والتَّرويض، والتَّزكية، وأكثر ما يُؤثّر في ذلك؛ المُجالسة..
إذا الطباع تسرق الطباع *** وكل مَن جالس خبيثا ضاع
المرءُ مِن جليسه، "الْمَرُءْ عَلَى دِيْنِ خَلِيلِه". ومِن الطِّباع في بعض الناس ما يُفطَر على الأخلاق الحسنة، وعلى ذلك فَطَرَ الله أنبياءه، ووزّع بعد ذلك حُسن الخُلُق صفات منه في هذا وفي هذا تطبع عليها؛ ولكن عامة النّاس:
وهذا صلاح متعلق بذات الإنسان، والصّلاح المُتعلق بذات الإنسان يترتب عليه حقائق سعادته؛ حقائق سعادته في الدنيا وفي الآخرة صلاح ذات الإنسان.
أكثر المُتحدثين بإسم الحضارات والتَّنمية يتحدَّثون عن: ما هو خارج الإنسان:
لكن مناهج الله أوّل ما تَعًنى بالإنسان:
لكن أنت كُن صالحا أوّل..
"إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ" ونِعم المُتَمّم لمكارم الأخلاق المُتّصف بها، المُتحلّي بها، المطبوع عليها ﷺ.
وقال للأشجّ -لمّا جاء مع وفد عبد القيس-: "إنَّ فيك خصلتين يحبهما الله الحِلم والأناة، قال: أخُلقان تخلقت بهما أم جبلني الله عليهما؟ قال: بل جبلك الله عليهم، وقال الحمد لله الذي جبلني على خُلُقين يحبهما الله ورسوله"، أنشأهُ على هذا مِن صغره وهو ناشئ عنده حلم، وعنده أناة، حتى لمّا وصل الوفد إلى المدينة وهم بحكم إيمانهم؛ ملآنين شوق لمشرِّف المدينة -للرسول الذي جاءهم بالهدى- وصلوا عند المسجد قالوا: قيل لهم آن رسول الله في المسجد، قفزوا مِن الدّواب ودخلوا، والتفتَ هذا الأشج يقول: يدخلون ويتركون رواحلهم وأمتعتهم؟! جلس وأخذ الرّواحل وقيّدها وربطها، ورتَّب أمتعَتهم، وتوضّأ هو، ولبس زيّ يُناسب المُقابلة وتَطيّب ودخل، لمّا دخل كانوا جالسين مع نبي الله ﷺ، وبمجرّد ما دخل قال: إلى هنا وقربّه إلى عنده وقدّمه عليهم كلهم، وأخذ يُكلّمه وأجلسه بجانبه، وقال: "إنَّ فيك خصلتين يُحبّهم الله؛ الحِلم والأناة" -الله أكبر-.
فيُجبل الله مَن شاء على ما شاء مِن مكارم الأخلاق: ولكن يحتاج عامة النّاس إلى هذه التَّربية التي ائتمن الله عليها الأنبياء ليُزكُّوا نفوس البشر ويصلحوا البشر:
لكن إذا ما في صلاح مع الإنسان هذا:
وأتَمنَ الله الأنبياء أن يُصلحوا ذات الإنسان:
(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)):
أمّا الحضارات، أمّا الاتجاهات، أمّا عامّة المؤسسات؛ فإنَّ المصالح والمطامع والأغراض والغضب والشَّهوة؛ عِبادٌ لها، لهذا العالم فيه الفساد، فيه شرّ والضر: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)، مِن أين؟ مِن البرّ، ولاَّ مِن البحر، وإلّا مِن حيوانات البرّ؟ (بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ)، مشكلة الناس، سبب ناس، لا حيوانات، ولا جو، ولا هواء، ولا أرض، ولا سماء؛ النّاس: (بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم:41]، و يُنبِّههم بهذه المشاكل والآفات كلها ويرفضون أن يرجعوا.
كُلّما ادَّعَوا إصلاح لجانب، ظهر إفساد مِن الجانب الثّاني -بسم الله الرحمن الرحيم- ماهذا؟! يا عاقل كيف يكون الصّلاح؟ كيف يكون الإصلاح؟ "مَثَلي ومَثَلكم -قال- كمثل ملِك ابتنى دارًا وجعل فيها مأدبة، وأرسل الرسول يدعو الناس فمن أجاب الرسول دخل الدار وأكل مِن المأدبة، ومَن لم يجب، لم يدخل الدار، ولم يأكل مِن المأدبة.
قال: الله هو الملك، والدار هي الجنة، المأدبة؛ النعيم الذي فيها، وأنا الرسول، فمن أجابني دخل الجنة، ومَن لم يجب، ولم يُطعًني دخل الجنة ومَن عصاني فقد أبى دخل النار"، -أعوذ بالله مِن غضب الله- وارزقنا متابعة هذا المصطفى وخَلّقنا بأخلاقه وأدّبنا بآدابه، برحمتك يا أرحم الراحمين.
والحمد لله على وجود صفاتٍ مِن صفاته، وأخلاقٍ مِن أخلاقه مفرقة في صلحاء أُمّته في الشّرق والغرب، وهي محل نظر الله، وسبب نزول الرّحمة على خلق الله -جلَّ جلاله- لو تزيّلوا لعُذب الناس -والله يُكثّرها، والله يُقوّيها، والله ينشرها، والله يُوفّر حظّنا منها-؛ لنقرُب مِن هذا الحبيب.
وقد كانت مرت قرون على الأُمّة، كثير مِن شبابها وصغارها وكبار رجالها ونسائها، يعتنون بتهذيب أخلاقهم ويسافرون، ويخدمون ويجلسون سنوات على هذا الباب، وهذا الباب؛ مِن أجل أن يتهذَّبوا وأن يتزكوا، وتتنوَّر بواطنهم.
يقول صاحب -سيّدنا مالك-: عشرين سنة جالستُ الإمام مالك، ثمانية عشر سنة في التّهذيب؛ تهذيب، أدب، أخلاق، تصفية النفس، سنتين في العلم، ولمّا فقدتُ مالك ندمتُ ووددتُ أنّي جعلتُ العشرين السنة كلها في الأدب، فإنّ العلم ندركه عند مالك وعند غير مالك؛ لكن حسن التأديب والتهذيب، لا يقوم به إلاَّ الأصفياء الأقوياء -لا إله إلاَّ الله- فاليوم، مَن يُسافر مِن أجل أن يتهذب؟ مَن يسافر مِن أجل أن يتأدب؟
لو لم يُبقِ الحق تعالى قليلًا مِن مثل هذه المواقع هنا وهناك، يرد الوارد عليها وقصده الله، وقصده تهذيب نفسه، وقربه مِن الله وإلاَّ أكثر الأسفار، والرّحلات، والدّراسات في العالم مِن شأن تهذيب النفس؟ مِن شأن تطهير القلب؟ ولكن مِن شأن الشهوة، مِن شأن الشهوة، مِن شأن الغضب، مِن شأن طاعة النفس، أكثر الدَّوافع هكذا في العالم؛ الناس فقدوا أن يُفرِّغوا الوقت، وأن يُبذلوا الجهد مِن أجل أن ينالوا تزكية النفس.
وكان الإمام الحداد يقول: إنَّا نربي الواحد مِن جُلسائنا على الخلق الواحد، حتى يرسخ فيه أحيانًا سنين، ويقعد سنوات حتى يُرسخ فيه هذا الخُلق -لا إله إلاَّ الله- وهو خُلق يُقرِّبه مِن مُحمّد يوم القيامة، كيف لا يحتاج إلى جهد وتربية؟! الله يُحيي فينا هذه الأخلاق.
(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5)) تعلَم ويعلمون، تُدرك ويُدركون، وتَرى ويَرَون: (بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6))، مَن هو المفتون منكم؟
(فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6))، مِن هذا الضال؟ مِن ذا المجنون؟ مِن ذا المعذَّب المعرَّض للعذاب؟ مَن هو؟ أنبيائي، ورسلي، وأصفيائي! وإلاّ الكفار والعصاة؟!.
(فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)) بصرًا في الدنيا بما يُجري الله مِن حوادث تُنم عن مُنبّهات، وبصرًا عند الموت، وبصرًا بعد الموت:
هذا جزاء أعمالكم التي ارتضيتموها، وتبجّحتم بها، واخترتموها وآثرتموها؛ كذّبتم، عاندتم، خالفتم، إتبعتم شهواتكم الخسيسة، ونسيتم عظمتي وجلالي وأنَّا مرجعي إليكم، مِن نُطف خلقْتكم وأنتم تشاهدون أمامكم، ما يأتيكم أبناء ولا بنات مِن ذهب، ولا مِن جواهر، ولا ينزلون لكم مِن السماء! مِن نُطف خلقتكم؛ ثُمَّ تنسون عظمتي وتغترون بما عندكم؟!
(فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6))، سيدنا نوح كلما مرّ عليه ملأٌ مِن قومه سخروا منه قال لهم: (
يا قوم إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ) [هود:38]، قال أنا الذي أخاف عليكم وأنتم تضحكون علي، أنا خائف عليكم، ستعرِّضون أنفسكم لعذاب في الدنيا والآخرة، أنقذوا أنفسكم، فيقول لهم -ناصح لهم-: (نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ) أي أنا الذي أخاف عليكم مِن العذاب والشّدة، و أنتم تضحكون علي تظنّون أنّي تَجنّنت، وإلّا خرجتُ عن السبيل؛ أنتم تجنّنتم:
أنتم مجانين، أنتم في حال خطير ليس أنا، انظروا الى خبر السَّفينة هذه و ماذا عملت، شبعتوا ضحك عليها، ثم اشبعوا بكاء: (فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا) [التوبة:82]، وهل هذا حالهم وحدهم هم؟ أو المنافقين وحدهم؟.
قوم نوح والمنافقين، وكل مُكذَّب في زمننا وقبل زماننا، لكل مَن خرج عن درب الرّسول:
(فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7))، واعلم بمن ضل عن سبيله وخرج عن طريقه مِن المُعاندين والكفار (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7))، اختارك، واصطفاك، وقرّبك، وأدناك، وجعلك رسوله، هل سيأتي بواحد ضالّ وغافل ويجعله رسوله؟ ويجعل المُعاندين للرّسول هم العقلاء أو الأصفياء؟!
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ)، (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)) -اللهم اجعلنا مِن المهتدين اللهم اهدنا فيمن هديت-..
(فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8))، لا تطع المُكذّبين، لا تُطع المُكذّبين، شؤوننا في الحياة قائمة على حقيقة وهي:
(فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8))، وهل حبيب الله يطيع المكذبين؟! لكن الله يُبيّن لنا على لسانه ويقول انتبهوا في أيّ زمان لا تطيعوا المكذبين برسلي وأنبيائي لا تطيعوهم، لاخلقوكم، ولا مرجعكم إليهم، ولن ينفعوكم ولا يضروكم إلاَّ بإذني. (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8))، كما قال سبحانه وتعالى (وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) [الشعراء:152-153].
(فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ (11))، جاء بضدِّ الأخلاق الكريمة والعظيمة التي عليها النبي جاء بضُدّها، قال هذا صنف هابط ساقط، ما حقه أن يُقتدى به، ما حقه آن يُتبع، ما حقه أن يطاع
(لا تُطِعْ) أمر ضروري أن تَتَنبّه أن هناك دعوات مِن حواليك، قد تصلك مِن هذا الجانب وهذا الجانب يجب أن تَرُدَّها، يجب أن يكون قرارك حاسما في مُخالفتها، سيدنا موسى -عليه السلام- لما استخلف سيدنا هارون -أخاه- مكانه ليكّلم ربه ويرجع،
لا تنسى يوم الحساب، لا تنسى يوم الحساب، هو أمامي وأمامك ونحن واردون عليه. والله يرحم جمعنا بفضله ولا يعاملنا بقسط عدله، يرحمنا في ذلك اليوم؛ رحمة ننال بها الدخول في الجنة مع السابقين مِن غير سابقة عذاب ولا عتاب يا رب العالمين.
(فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8)) ويُنزّل الله على حبيبه محمد: (وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) [الجاثية:18-19] -الله- (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف:28] لا تُطع، الله يقول لنبيه كذا لكي ننتبه:
إبحث لك عن صالح، إبحث لك عن عارف يكون قدوتك، ومرجع أمرك إليه:
(فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8))، يقول الله لحبيبه: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ (9))، تَخرُج عن حزمك وصدقك وثباتك هذا، وتدهن؛ تبيع شيء مِن دينك عليهم مقابل أن يعطوك شيء، مقابل أنهم يخففون حدتهم عليك، وكلامهم عليك، فهم مِن أجل أنهم يطلبون أن تُدهن، فهم يدهنون، يريدونك أن تدهن: (وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً) [الإسراء:74].
لكنه لا قليل ولا كثير، ما رَكن إلى أحد، واشتد الأمر وهناك في أفق مكة المكرمة، ودولة الكفر قامت، ما عاد لنا صبر يا -أبا طالب- سلِّم لنا ابن أخيك هذا وإلاَّ نفعل ونفعل، يا ابن أخي خفف علي مِن أمري ولا تضعني في موضع حرج. قال ﷺ "يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو تنفرد سالفتي" وبكى ﷺ؛ ظن أن عمه سيسلِّمه لهم، قال: يا ابن أخي اذهب فأعلم بدينك وأعمل بما يأمرُك الله وأنا ظهرٌ لك والله لن يصلوا إليك بجمعهم ما دمتُ حيًا" وانطلق ﷺ بثباته
(وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)) يقول: إذا علمتَ أمر الحق، أحمِد الله الذي على ذلك، واثبت واصدق واحزم، وستجد مَن يُطالب المداهنة مِن هنا ومِن هناك، انتبه؛ لأنَّ:
لا لسلامة جاهك ولا لنيل غرض مِن الأغراض، ولذا كان يقول -الإمام الغزالي-:
قالوا لسيدنا -أبو بكر الصديق-: دعْنا مِن مانعي الزكاة الآن، لماذا؟ قالوا الآن جبهات نُقاتل، الآن كم! معنا الروم، معنا فارس، معنا المشركين نقاتلهم، معنا المُرتدّين، معنا العرب، نقاتل مَن؟ أترك مانعي الزكاة حتى ننتهي مِن هؤلاء. قال: لا، أرسَلَوا إليه سيدنا عمر ليراجعه، قال: عمر جبار في الجاهلية خوَّار في الإسلام؟! أبوبكر معروف برقة برأفة برحمة؛ لكن حزمهُ في الدين وقوّته ما أعظمها، قال: "والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه، ولو لم أجد إلاَّ الشجر والحجر لقاتلتهم، به أما أن ينقص الدين وأنا حي فلا"، قال أنا ما أتحمّل أجي بعد نبيّي محمد، وبعد ماعاهدني وأخذ علي العهود والمواثيق، أخون مِن بعده الأمة! وأترك حتى ينقص الدّين وأنا حي لا، أموت ألقى حبيبي
قال: ما هو إلاَّ أن رأيتُ أن الله شرح صدر أبي بكر لقتال مانعي الزكاة فعلمت أنه الحق. ولما أرسل يقاتل الذين منعوا الزكاة وأرادوا أن ينتقصوا الدين؛ دبَّ الرُّعب في جبهات الكفر كلها ونقل لهم عيونهم أخبار، فقالوا: لو كان بهؤلاء ضعف ما قاتلوا أصحابهم المسلمين الذين منعوا الزكاة، ودبَّ الرعب في قلوبهم، وكان سبب نصر المسلمين في المواقف، ما قبل المداهنة؛ الرِّقة عندهم، والرَّحمة عندهم، والشَّفقة عندهم، والوفاء عندهم؛ لكن الَّلعب بالدِّين ليس مقبولا، لامداهنة -الله أكبر- أهل هذا الثَّبات العواقب لهم.
(وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9))، قل أنا مُحمَّد..
ولكن الّلعب بالدّين لايوجد عندي، السُّكوت عن ذا، أو أقول كذا، إفعل كذا لايوجد عندي…
بهذا الميزان الدّقيق تتم النُّصرة على التَّحقيق، ويكون المؤمن لنصر الله حقيق:
لكن (ذَٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) [إبراهيم:14]، صدق معي وما داهن في الدّين وأخلص لوجهي، ميزان دقيق على علم وبيِّنه ونور يعرفه الناس، وإلاَّ هذا يأخذ جانب الأخلاق والفضائل، يداهن في الدّين ويلعب بالدّين، وجاء الثَّاني يقول: وقال الله! وشدة وعنف وقسوة؛ وخرج مِن السنة ومِن الطريقة كلها، لا ذا ولا ذا..
هذا صراط مستقيم أدقّ مِن الشَّعرة وأحدُّ مِن السَّيف يعرفه الأصفياء الأتقياء العلماء النازهين الصَّادقين المخلصين النازهون الصَّادقون المخلصون لوجه ربهم -جلَّ جلاله- ميزان قوي مداراة ولا مداهنة -الله أكبر-.
في هذه الموازين:
كم لعبوا بألسنتهم وكلامهم مَن عاهده مِن اليهود في المدينة، وكان يغضي ويسكت حتى تجرَّوا على حرمةٍ مِن الحَُرم، وانتهكوا حرمة امرأة -ربطوا طرف ثوبها بثوبها وهي غير مُنتبهه لا تشعر-، فلمّا قامت انكشف ساقها، فصاحت: يامسلمين.. لمَّا عمل هذا اليهود خرج إليهم ﷺ ما قبِل منهم هذا، الذي كانوا يتكلّمون عليه كان ساكت عنهم، و لمّا انتهكوا الحرمة ووصل الحدود، قال: لا لا -الله أكبر- "يعفو عن الذنب إذا كان في حقِّه وسببه، فإذا أضيع حق الله لم يقم أحدٌ لغضبه" -صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله- وبهذا قام الدِّين ولولا صدق الصَّديق لكانت الأمة في مهاوي.
الحمدلله الذي أكرمنا بالصَّحب الأكرمين وآل البيت الطاهرين، استمسكوا بالعروة الوثقى وعلموا أن الأمر حقَّا، وقاموا به كما ينبغي، فبذلك وجدت هذه الدروس وهذه المجالس ولولاهم ما كانت، فالله يجزيهم عنا وعنكم وعن الأمة خير الجزاء، ونحن في نعمة ومِنّة مِن الرحمن على هذا الحبيب يقول فيها: "يحمل هذا العلم مِن كل خلف عدوله"، والعدول في كل خلف في القرن الأوّل، في القرن الثّاني، في القرن الثّالث، في القرن الرّابع إلى الخامس عشر الذي نحن فيه، الخلف فيهم عُدول، يحملون هذا العلم ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين؛ ليكون صافيًا نقيًا كما بلَّغ حبيب رَّب العالمين -الحمد لله على ذلك-، ثبت الله قلوبنا وأقدامنا ورفعنا مراتب قربه ويجعلنا مِن الصادقين معه إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، واكشف كروبنا والأمة وعامل بمحض الجود والرحمة.
وباقي رمضان اجعله خيرًا لنا مِن الذي مضى -اللهم آمين- يكاد ينتصف علينا ويا ليت يبقى ولا نقدر على ذلك؛ ولكن نغنم ما بقي لنا -إن شاء الله- يا ربّ بارك لنا في باقي رمضان، واجعل نصفه الآخر خيرًا لنا مِن نصفه الأول، وزدنا زيادة، واسعدنا سعادة، واصلح لنا الغَيبة والشهادة اختمنا بالحسنى وأنت راض عنا، واعلِ درجات المنتقلين لرحمة الله - عبدالعزيز بن عبدالرب الخياط-، -وعائشة بنت أحمد الجساري-، واجعل قبورهم رياضًا مِن رياض جنتك واجعلهم مِن عذابك وقاية وجُنة وارحمهم برحمتك الواسعة وموتانا وموتى المسلمين ارحمهم يا أرحم الراحمين، والطف بهم..
اللهم ومَن كان مِن أهل القبور مِن المسلمين والمسلمات معذبًا في قبره فارفع العذاب عنهم أعتقهم مِن النار، واعتقهم مِن العذاب يا كريم يا غفار، ومَن كان في نعيم زده نعيمًا إلى نعيمه وتكريمًا إلى تكريمه، وارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه قبلنا، وخلّقنا بأخلاق حبيبك محمد، أدّبنا بأداب حبيبك محمد، زكّنا بتزكية حبيبك محمد، وسر بنا في منهج حبيبك محمد، يامُرسل محمد، يا مصطفي محمد، يا باعث محمد بالحق، صلِّ عليه وعلى آله، وثبّتنا على دربه واسقنا مِن شُربه في لطف وعافية.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
15 رَمضان 1440