تفسير سورة القلم -2- من قوله تعالى: (مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ(2))

تفسير سورة القلم، من قوله تعالى: {مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ }، الآية: 2
للاستماع إلى الدرس

تفسير الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة القلم، من قوله تعالى:  {مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ }، الآية: 2

نص الدرس مكتوب:

﷽ 

(مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7))

يا كريم .. الحمدلله الذي أكرمنا بنور الحقائق المُزيلِ لظلام الأوهام والظُّنون، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، (يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) [البقرة:77]، واسع القدرة و(إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [يس:82]، ونشهدُ أنَّ سيِّدنا ونبيّنا وقُرَّة أعيننا ونور قلوبنا محمداً عبد الله ورسوله وأمينه المأمون؛ سيد من (يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [الأعراف:181]، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على عبدك الجامع للكمالات الإنسانيَّة الواسع في المشاهد الرُّوحيَّة، حبيبك المصطفى ونبيّك المُجتبى وعبدك المنتقى، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار ومن سار في سبيلهم خير مسار، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين معادن السِّرّ والأنوار، وعلى آلهم وصحبهم والملائكة المُقرّبين وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين يا كريم ياغفار.

 وبعد.. 

فنواصل مُتابعة تفضُّل الحقُّ علينا بتأمُّل معاني خطابه وكلامه، وما أنزله على عبده المصطفى خير أنامه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وابتدأنا نتأمل معاني سورة القلم -سورة ن- حيث قال الرحمن: (ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)) وتَضَمَّن ذلك نفي المُدّعَى من قِبَل من لا يعرف في إنكار الحقّ إلا أن يتقوّل ما لا يتطابق مع الحقّ، ما لا يتطابق مع المنطق ما لا يتطابق مع العقل، فلمّا كابروا وعاندوا، فماذا يقولون عن محمد؟! هو قد: 

  • عاش بينهم وهو الأصدق. 
  • وعاش بينهم وهو الأكرم. 
  • وعاش بينهم وهو الأتقى. 
  • وعاش بينهم وهو الأنقى. 

فماذا يقولون عنه؟! فلابُدَّ أن يتقوّلوا قولًا ليس فيه تلبيةً لرغبات عِنادهم وإنكارهم فيقولون: مجنون! لا أوَّل حياتُه ولا آخرها يتطابق مع الجنون بحالٍ من الأحوال أصلا؛ لا كلامُه ولا نظرُه ولا حركتُه ولا مُعاملتُه تتطابق مع الجنون من قريب ولا من بعيد، ولابُدّ أن يتقوّل المُبطِل ويقول ما ليس فيه.

 فكان -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- في كُلّ ما يُقال له؛ يشتغِل بالله، ويترُك المُراجعة لهم والرَّدّ عليهم كما أرشده ربه: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) [الحجر:97-98] دُم على شُغلك بنا فنحن نَكفيك؛ ولذلك تولّى الرحمن الجواب عن حبيبه سيّد الأكوان في كُلّ ما يقولون عنه، وفرقٌ كبير بين أن ينتصر الإنسان لنفسه وبين أن ينصره الله، وبين أن ينتصر له الجبّار -تعالى في علاه-. فكان لا يردّ عليهم في كُلّ ما يتقوَّلون عليه ويصبر ويشتغل بربّه؛ فأنزل الله الآيات تردُّ عليهم، وكان ذلك أبلغ وأجلّ وأعمق وأعظم. 

(مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2))، وتقدَّم معنا: 

  • (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ) [الحاقة:41]، (وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ).
    • ويقول لهم: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِين).
    • وتولّى الثَّناء عليه وعلى ما جاء به: (وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ * وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ * وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ * وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) [الحاقة:42-51].
  • (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ) [الشعراء:193-195]

 فيتولّى الله الردّ عن نبيّه: (مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2))، ثُمّ يتضمّن هذا الرَّد معاني أخرى يحملُها التّنزيل فيها:

  • إكمال الفَضْل. 
  • والتَّخصيص بالتَّفضيل.
  • وما يُستَر يقال فيه: يُجَنُّ، فالاجتنان الاسْتِرار. 
  • والمجنون المَستور عن الشيء والمستور عنه الشيء. 

يقول: 

  • (مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)) ليست مُستتِرةٌ عنك الحقائق، ولا خافية عنك ما أذِنَّا لخلقنا بعِلمه من عجائب المعارف في الأوّل والآخر والظّاهر والباطل، 
  • (مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) ما أنت مُستَتِرٌ عن هذه الحقائق ولا هي بمستورةٍ عنك، بل أنت ظاهرٌ عليها مُطَّلِع على تلك الحقائق التي علَّمناك إيَّاها (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ) [النساء:113]. 

(مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) ﷺ، وبعد ذلك؛ الثَّناء العاطر: (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3))، (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا)؛ انظر كم يُضاعِف الله الأجور لعباده! ولكن كل مُضاعَفةِ الأُجور للأمّة، الأمّة من أوّل الإسلام كانت تُدرِك ليلة القدر، والمُتَعبِّدون الصّادقون فيها المُخلِصون لهم أجر، (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [القدر:3].

كم عددهم؟ مَن سبب هِدايتهم؟ وأجرُهم يُذهَب إلى أين؟ إن كان "مَن دلّ إلى هُدًى كان له مِن الأجرِ مِثْلُ أجورِ مَن تبِعهُ"، فكلهم هؤلاء أُجورهم أين تذهب؟! اللهم صلِّ على سيدنا مُحمّد. 

وكم يُحصِّل من أجر؟! كان يتعجّب بعض أهل العلم والمعرفة؛ يقول: ما أعجب حال الذين دلّوا النّاس على الخير والهُدى، ويستشهد ببعض العلماء في بعض بلاد اليمن يقول: انظر أذكارهُ مُستمِّرة ليل ونهار، وأعماله منتشرة في المدينة، كثيرة صالحة على يده تمّت، يقول كل هذا يذهب لصحيفته، كم يُحصِّل هذا؟! 

ناس يُصلّون .. ناس يقرأون .. ناس يذكرون بسبب هذا، فيذهب كُلّه لأجر هذا؛ فإذا كان هذا واحد، وهذا أجرُه لِمن علّمُه، وأجرُه وأجر مَن علّمه لمن علّمَ مَن علّمهُ تضاعفت الأجور، وهكذا، وكلّها مجموعة إلى المُعلِّم الأوّل: (وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) [آل عمران:164]، والآن كم؟ كم في الأرض صلّوا الصبح اليوم؟ أجورهم بجميع حُضورهم، بجميع وُجهاتهم بجميع خُشوعهم، بجميع المَقبولين منهم، أجورهم جميعا تذهب إلى أين؟ للذي علّمهم والطبقة التي فوقهم مُضاعفة، والطبقة فوقهم أمثال هذا كله، والذين فوقهم أمثال هذه الطبقة -الله- مُضاعفة؛

  • هذا الذي علّمهم صلاة الصُّبح له مثل أجورهم، الذي علّمه له أجر الإثنين. 
  • الذي فوقه إثنين، و إثنين أربعة.
  • والذي فوقه أربعة، واثنين واثنين ثمانية.
  • والذي فوقه الذي علّمه ثمانية.
  • و إثنين، وإثنين  إثنا عشر والذي فوقه؛ 

هذا واحد يعمل تسبيحة واحدة وصلاة واحدة يصل إلى عند الثالث والرابع إثنا عشر صلاة، يصل إلى الذي فوقه الإثنا عشر فوق الذي قبلها ثمانية صرْن عشرين، وصلوا للذي فوقه؟ -الله- وتصل بعد ذلك إلى عند الحبيب كم؟  صلاة الواحد من الأمة، كم قد صلّوا اليوم؟ كم طافوا البارح؟ كم يطوفون اليوم؟ كم اعتمروا في رمضان؟ (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًاغَيْرَ مَمْنُونٍ (3))؟ اللهم صلّ عليه. هذا فيما تسبّب فيه من الدَّعوة والدَّلالة على الخير، وفيما يعمله هو.

 الحقّ تعالى يُضاعف ثواب هذا إلى ألف، وهذا إلى ألفين ، وهذا إلى عشر ألف، وهذا إلى سبعمائة ألف، هذا يضعف كثيراً، إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة: (وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ) [البقرة:261]. 

فإذا حبيبه عمل شيء، كيف يضاعفه؟ هو يُضاعف لواحد من أولياء أمته وصُلحاء أمته إلى ألف وألفين، وألف ألف، ويضاعف نصيبه الى كم؟ هو أحبّ، هو أحبّ إلى الرَّحمن -الله أكبر-  هذا عمله الذي يعمله، ما يبتدئه الحق من الإفضال والإحسان من دون عمل.

  • (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)) لا ينقطع ولا ينقص؛ بل يزداد أبداً؛ و لهذا قالوا إنه مُترَقٍّ في كلّ لحظة مقامات عُليا، فوق ماكان عليه -صلوات ربي وسلامه عليه-؛ لأنّه يرِد إلى ذاته من الأجور ما لا يُكيَّف ولا يُوصَف ولا يُعَدّ ولا يُحَدّ، لا إله إلا الله. 
  • (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)) فكيف لا يهون عليك الصّبر على أذاهم وتَقوُّلهم وسبّهم؛ إذا نُعطيك من عندنا هذا الأجر؟ والأجرُ من الله جزاءٌ إفضالٌ وإحسانٌ ومنٌّ، جزاءً على ماكان. 

فمُقابل هذا الأجر؛ يهون كلّ تعب، تضعف وتَقِلّ كلّ مشقة؛ ولذا أتبعها بما كان من مُقابلته للأمر، قال: (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)): 

  • صبرت ما لم يصبر غيرك. 
  • حلمت ما لم يحلم غيرك.
  • خضعت ما لم يخضع غيرك. 

فهو صاحب القِمّة والكمال في الأخلاق الكريمة، ما كمّلها الله من جميع الوجوه في جميع الأحوال؛ كما كمّلها في نبيه محمد -عليه الصلاة والسلام-، 

 وكل اي أتى الرسل الكرام بها *** فإنما اتصلت  من  نوره  بهــــــم

فإنّه شمس فضل هم  كواكبها *** يظهرن أنوارها للنّاس في الظّلم

أكرم بخلق نبيّ زانه خلق *** بالحسن مشتمل بالبشر متّسم

جميع أخلاقهم العظيمة وهم خير خلق الله الأنبياء كلُّها مجموعةٌ فيه؛ فالأصل فيه والفرع فيهم، اللهم صلّ عليه. ولذا حُقّ له أن يقول: "ولقد أوذيت في الله ما لم يُؤذَ أحد، وخُفت في الله ما لم يُخَف أحد" -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- وهكذا..

ويقول إن فرعوني أشدّ من فرعون موسى، وإنّ فرعون موسى لما أدركه غرق (قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [يونس:90]، وهذا عندما أراد أن يقطع رقبته سيدنا عبد الله بن مسعود - يقطع رقبة أبي جهل- قال: كبّر رأسي وأخبره أني عدوٌ له،  حيّ وميّت، وليعلم أني ذو رأس كبير، واقطع من هنا، في لحظة موته ومازال يُعادي ويتكلّم هكذا، فقال ﷺ : "فرعوني أشدّ من فرعون موسى"؛

  •  لأن خُلُقك أعظم من خُلُق موسى.
  •  صبرك أشد من صبر موسى.
  •  فلابُدّ أن يكون فرعونك أشد من فرعون موسى -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-. 

(وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (4))، ملَك الجبال لمّا رفض العرض بأن يُطبق الأخشبين على أهل مكة، قال له: "إني أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يتولى هذا الأمر"، قال: "صدق الذي سمّاك الرؤوف الرحيم"؛ أخلاق ما تُعرَف! -صلوات ربي وسلامه عليه-.

فاق النّبيّين في خَلقٍ وفي خُلـُقٍ *** ولم  يدانوه  في  علمٍ  ولا كـــرمِ  

-صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، الله أكبر-

 

وواقفون لديـــــه عند حدهــــم *** من نقطة العلم أو من شكلة الحكمِ

فهو الّذي تمّ معناه وصورته *** ثمّ اصطفاه حبيباً بارئُ النســـمِ 

منزهٌ عن شريكٍ في محاسنه *** فجوهر الحسن فيه غير منقســمِ

دع ما ادّعته النّصارى في نبيّهم 

-من قولهم ابن الله والتاليه الكاذب والباطل- 

 

دعْ ما ادعتْهُ النصارى في نبيهم *** واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم

فانسب إلى ذاته ما شئت من شرف *** وانسب إلى قدره ما شئت من عظــمِ

فإنّ فضل رسول الله ليس له *** حـدّ فيُعرب عنه  ناطقٍ  بفـــمِ

(وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)) ولو جئنا بشِعر الشُعراء وثناء المُثنين وخُطَب الخطباء في مدحه ﷺ وأتينا بالآية هذه، راحت الخطب والأشعار كلها مقابل ثناء الجبار؛

أيَرومُ مخْلوقٌ ثَناءَكَ بعْدَما *** أثْنَى علَى  أخْلاقِكَ  الخلاّقُ

نَبي  عَظيم  خلقـه الخَلق الَّذي *** لَهُ عَظم الرَحمَن في سَيد الكُتب

يقول الحبيب عليه الحبشي:

حاولت أن أصف الحبيب ببعض ***  مافهم  الفؤاد  من  الثنا  القرآن

ببعض مافهِم الفؤاد؛ لأنه لا يقدر أن يعبر، حاولتُ أن أصف الحبيب ببعض ما فهم الفؤاد من الثّنا القرآني، ليس بكل أوصافه هو، ولا بكل أحواله، لا بل بما فهم فؤادي، بعض ما فهمه فؤادي من ثناء الله على هذا العبد المُقرّب الحبيب، حاولت: 

فوجدت قولي لا يفيء بذرة *** من عُشر معشار العطا الرّباني 

لا يفيء، أي لا يرجع بذرة من هذا العطاء الكبير، مما أفهمه الله وأعلمه إياه. 

فوجدت  قولي  لا يفيء  بذرة *** من عُشر معشار العطا الرباني

من أين يعرب مقولي عن حضرة *** عن  مدحها  قد  كَلَّ  كُـلُّ  لســـان

من بعد ما جاء الكتاب به فما *** مقدار  مـدح  العالـم الإنسانـي 

ولا العالم الملكي ولا العالم الجنّي، ما مقدار مدحهم؟ الله أكبر!.

فسألت من ربي الثبات على الذي *** قد خصّني والصدق  في إيمانِ

وكما أفاد  القلب سر تعلقي *** بحبيبه يملي بذاك جناني 

فأعيش في ذكر الحبيب مُنعمًا *** بالذّكر مُنبسِطَ جميع زماني

وأفوز في العقبى برؤية وجهه *** ورضاه عني في أجلّ مكانِ 

وإنَّ قُرب الخلائق من خالقهم، منوطةٌ بمعرفة قدرِ هذا المخلوق عند الخالق؛ صفاتهم وأخلاقهم عند الله، مكانتُها على قدر قُربهم ومُشابهتِهم له، فدرجاتهم عند الله على قدر اقترابهم من حبيبه؛ في الأخلاق بالإطلاق، لا أحد من هؤلاء الآدميين من النبيين ومَن دونهم له المنزلة عند الله تعالى إلّا على قدر قُربه من خُلُق الحبيب، على قدر مشابهته لخُلُق الحبيب: 

  • آدم، إدريس، هود، صالح، إبراهيم، موسى، عيسى. 
  • مَن غيرهم من بشر كلهم، آل، صحابة .. أولياء. 

على قدر قُربهم منه في الأخلاق يكون قربهم من الخلاق، كمالهم على قدر قربهم من كماله ﷺ فهو المَجلى الأعلى، والنموذج الأسنى -صلوات ربي وسلامه عليه-. 

وقد جمع الأسرار والأمر كله *** محمد المبعوث للخلق رحمةِ

به ختم اللَه النبوة وابتدأ *** فللَه من خَتم به وبدايةِ

 يقول: (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)) سمّاه العظيم عظيمًا، وهذا ربّ العالمين، لا يقول عظيم على شيء؛ إلّا ما كان غاية في العظمة، لله أكبر.

 (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6))؛ 

  • قال فرعون عن سيّدنا موسى: (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر:26]. 
  • قال قوم سيّدنا صالح للنّبي صالح: (كَذَّابٌ أَشِرٌ)، قال الله: (سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) [القمر:26].

 (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)) من هو المفتون منكم؟ من صاحبُ الفتنة؟ هو المفتون بعقله اغترارًا، أو بعلمه أو بشيءٍ من أحوال الناس لربّه الذي خلق. (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6))؛ فتكون وَقائع، وتكون مُنازَلات، وتكون تَحويلاتٌ في الأحوال، (وَيُبْصِرُونَ)، ثُمّ يكون موت، ثُمّ تنكشف الستارة، ثُمّ يعلم كل منهم أين هو، وماذا يقول؟

 (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6))؛ كلٌٌ سيرى، فكان من جُملة تلك الوَقائع؛ وقعة بدر، وأبصَرُوا؛ من القويّ؟ ومن الضّعيف؟ من الصّادق؟ من الكاذب؟ من المَنصور من المَخذول؟ و أبصروا دَعاَويهم و ما كانوا يقولون؟ إلى غير ذلك من الشّؤون التي تتبيّن فيها بعد ذلك الحقائق؛ وهذه أسسٌ لمن يسلك طريق الحقّ:

  • ولا تهتز لأقاويل الناس ولا لأراجيفهم. 
  • ولا لِكثرة البلابل ولا لِكثرة الدعايات. 

هل أنت صادقٌ معه؟ هل أنت مُخلِصٌ لوجهه؟ امضِ .. امضِ، يقولون: هؤلاء عندهم مشاكل كبيرة، وعندهم خطط، منها ما يُذهِل العقول، وشيء..هل أنت صادق معه؟ هل أنت مُخلِص لوجهه؟ هل أنت على بيّنة وتَبعيّة للإيمان فيما تعمل؟ امضِ .. امشِ .. اثبتْ .. اصدُقْ؛ لا تلتفت.”

 (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)) ولو اجتمع أهل الأرض كُلّهم عليك وأنت معه مُخلِصًا لوجهه على قدم نبيّه؛ أنت المنصور، أنت المُؤيّد؛ العاقبة لك، لو اجتمع جميع أهل الأرض عليك من أوّلهم لآخرهم شعوبا ودُولا، أنت -وأنت مُخلِص لوجهه صادق معه مُتَّبِع لنبيّه- أنت المؤيد، أنت المنصور، أنت الغالب، أنت القوي، أنت العظيم، أنت العزيز، أنت الجليل، أنت الرابح، أنت الفائز..

(فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)) -الله أكبر- لا تهتز بالأقاويل ولا بالأراجيف، وما شاهدتها، ماذا كانت نهايتها في قرونٍ مَضت من أيام آدم إلى اليوم؟! وليس لأراجيف زمانك غاية، إلّا ما كان للأراجيف في القرون السابقة: (لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَّلْعُونِينَ ۖ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا) [الأحزاب:60-61] ، الله أكبر. 

وهكذا،، لقد أعزَّ الله ياسر وزوجتَه -أم عمّار-، ورفعَهم وأكرمَهم، ولقد أهان مُعذبيهم وطاعِنيهم؛ أبي جهل وجمعهُ وقومه، وما كانت العزة لأبي جهل، ولا الذين عذّبوا ولا الذين قتلوا تحت التعذيب؛ ولكن العزّة لآل ياسر الذين خاطبهم لسانُ النبوة "صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة". وكان من نسلهم نجلُهم بَضعتهم عمّار بن ياسر، هاجرَ وكبرَ وعَظُمَ شأنه، وأعماله كانت في صحيفة أبَويه؛ ياسر وسمية -عليهم رضوان الله-. 

وكان أوّل شهادة في أمة النبي محمد لأم عمّار -سُميّة-، أوّل شهيد في أمة النبي محمد؛ فعليها تاج الشّرف والعِزّة، لو انكشف لك عن حقيقةِ حالها الآن؛ لرأيت عزّةً تَهُولُك، وفي القيامة هي أعزّ! وياوَيل من عذّبها وياوَيل من طَعَنها، ولو انكشف لك عن حاله الآن لرأيت مهانةً وذلّة ما أبعد منها. وعرفت أنه خَسيسٌ بَئيس ما اختار لنفسه إلّا الأسوأ والأحقر.، هذا الآن وهم في البرزخ، وفي القيامة سترى؛ أين سمية وأين ياسر وأين أبو جهل -الذي طعنها- وأين مُعذِّبوهم الذين عذّبوهم في مكة؟.

 (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)) اصدُقْ معه وأخلصْ الوجه، وكُن على بيّنةٍ وعلمٍ من تبعيّّة نبيّه ولا عليك. ولا عليك بعد ذلك ولا تخف من شيء ولا من أحد؛ فالله هو الأحد معك..

  • (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ۖ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [غافر:51-52]. 
  • (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الصافات:171-173].
  • إنّ الذي باتَ في غارِ ثورٍ ليالي، وخرج في الطريق يترقّب ويبتعِد عن العيون، يقول وهو في الطريق: " كيف بِك يا سُراقة وأنت تلبس سِوَارَي كسرى وقيصر"؟  وقُوى الطُّغيان في العالم ستذِلّ لهذا الذي باتَ في الغار ثلاث ليال، و الطلبُ وراءه من الدولة التي بجانبه وجَنّدت كل قُواها للوصول إليه: (إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) [التوبة:40]. 

الذين أذلّهم الله من زُعماء قريش ثُمَّ من زُعماء الكُفر الذين أصرّوا عليه في العالم من الدُول الكُبرى في ذلك الزمان، ربّما أحدهم طول عُمرِه ما بات في غار، ولا بات إلّا في السّرير وعلى الفُرُش الوَطيئة؛ لكن والله ما نالهم إلّا الذلّ والهَوان، ألا وإنَّ تربةً تحت نَعلِ الذي بات في الغار أعزّ منهم عند الله، وأكرمُ مكانةً لدى المولى. 

هذا الذي قال: ولقد مرّ عليّ هِلالٌ في هِلالٍ في هلال -ثلاثة أهِلة في شهرين- ما كان لي ولبِلال ما يأكل ذو كبد، إلّا كفًّا من شعير يُوارِيه إبْطُ بلال، يغطيه إبط بلال، لن يُرى من قِلَّتهِ، مدة الشهرين هو وبلال أكْلهم هذا، ماعندهم غيره؛ فلا والله ما نقص ولا ذلّ، وهو الأعزّ (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون:8]؛ فلْتُصَحّح المفاهيم، ولتُقام الموازين كما ينبغي، إنّ الدَّجاجلة يُغرُوننا بأن الأمر كله يدورُ مع اللُّقَم والخُبز والمظاهر، وهكذا الدَّجال يعمل عندما يظهر، والحق يقول: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات:13]؛ فصدق اللهُ وكذَبوا.

 قال: (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5)) -يَنظرون ويُعَاينون- (بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)). إنّ ربَّك هو أعلم، (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ). فيا مَن آمنت بالإله، حقِّق إيمانَك من أعلم من الله؟!

  • (قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ) [البقرة:140].
  • (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة:216]: 
    • إذًا فسترجع بأيّ ذرّة شُعور من مشاعرك في تحكيم الأمر وإقامة الميزان إلى من؟ 
    • فإنّ هذا خير أو هذا؟ أو إنّ هذا أفضل أو هذا؟ أو إنّ هذا الحق أو هذا؟ سترجع إلى من؟ 
    • إلى أي واحد غير الله ورسوله؟ إلى دول، إلى حكومات، إلى شعوب، إلى هيئات، إلى مؤسات، إلى مفكرين، إلى من؟ 
    • الله! الله! الله! (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ).
  • (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك:14]؟ 
  • (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)).

اللهم اهدنا فيمن هديت، اللهم إنّ العلم عندك وهو مَحجُوبٌ عنّا، ولا نعلم أمرًا فنختاره لأنفسنا، وقد فوّضنا إليك أمورنا، ورجوناك لفاقتنا وفقرنا فأرشدنا اللهم إلى أحبّ الأمور إليك وأرضاها لك وأحمدها عاقبة لديك، بحقك عليك لا تكلنا إلى أنفُسِنا ولا إلى أحدٍ من خلقك طرفة عين، و(سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [البقرة:32]؛ فعلِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا، ربّ زِدْنا علمًا، وارزقنا فهمًا، وهب لنا حُكمًا، وتولّنا بما أنت أهله ظاهرًا وباطنًا يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.

 بسرِ الفاتحة 

وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه، 

الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

13 رَمضان 1440

تاريخ النشر الميلادي

18 مايو 2019

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام