تفسير الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة القلم، من قوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ }، الآية: 1
نص الدرس مكتوب:
﷽
(ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ(2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ(3) وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ (13) أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14))
الحمدلله مولانا ذي الجود الوسيع، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، السّعادة لكل عبدٍ منيبٍ إليه مُطيع، ونشهد أنَّ سيّدنا ونبيّنا محمّدا عبده ورسوله أكرم شفيع، صاحب الجاه الوسيع والقدر الرَّفيع، الّلهم أدِم صلواتك على عبدك المُجتبى المُصطفى مُحمَّد البصير السَّميع، وعلى آله الأطهار وصحبه الأخيار الجميع، وعلى من تَبِعهم بإحسان على مَمَرِّ الأزمان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين مَنْ رَفَعْتَ لهم المنزلة و القدَرَ والشأن، وعلى آلهم وصحبهم والملائكة المُقرّبين وجميع عبادك الصّالحين ذَوي العِرفان، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين يا كريمُ يا منّان.
وبعد،،
فإنّا في مِنَن الله المُتوالية علينا في غُدْوةِ أو غَدْوةِ يوم الجمعة -الجمعة الثانية من شهر رمضان الكريم المُبارك- نُواصل تعرُّضَنا لنفحات الربّ بتأملنا لكلماته وآياته وتعليماته، وما أنزل على خير بريّاته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. يذكر الحقُ -جلّ جلاله- سورة القلم وكُنا أنهينا تأمّلاتنا في سورة الحاقة.
وسورة القلم ابتدأها الحق -جل جلاله- بعد البسملة؛ بذكر حرف من حروف الهجاء التي تَعدَّدَ ذِكرُها في صدر عدد من السُّور، من سورة البقرة إلى ما تتابع من السُّور التي افتتحت بالحروف المقطعة، وقال: (ن ..(1)) وتحدث أهل التفسير:
- وكان أسلَمهم فيما من قال: الله أعلم بمراده.
- وكان فيهم من يُشير إلى أنّ النون هو آخر حرف من أحرف اسم الرحمن.
- وفي من يُشير إلى أنَّ النُّون هو الحوت:
- وقال تعالى عن سيدنا يونس: (وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا) [الانبياء:87]، صاحب الحوت.
- يقول: (وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ) [القلم:48]، وذا النون: أي صاحب الحوت، النون: الحوت.
- ومن قائلاً أنه لوح من نور (ن)، إلى غير ذلك ممّا تحدّث به عن معنى النون.
- ومن المقطوع به أنّه لا يُحيط بمراد الله به إلّا هو، وأنه -سبحانه وتعالى- علّم من شاء من خلْقهِ شيئًا من المُراد بهذه الحروف، وأعلمهم هو من أنزلت عليه؛ نبي الله مُحمّد.
- ومن قائلٍ أنّها عنوان للسُّورة، وإلى غير ذلك ممّا ذُكر في (ن).
- ومنهم من جعل فيها تصريف الأقدار وتقديرها (ن).
والنُّون المّرتبط بالكاف؛ يقوم عليه أمر التّسيير والتّدبير: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [يس:82].
وبعد ذلك، فلهيبة الجبّار- جلّ جلاله- عند قراءة هذه الأحرف؛ تحريك لدواعي الفهم ومعاني العلم عند من يقرأ كلام الرحمن: وهو معظّم، مجلّ، مكبّر، موحّد، حامد، مسبّح؛ يتهيأ به لأنْ يُدرك معنى..
- وإذا سرتْ سِراية الإجلال والتّعظيم والإكبار والتّكبير للحقّ -جلّ جلاله وتعالى في عُلاه- فهي من أعظم فوائد التّلاوة للقرآن.
- وإنْ صفا القلب والفؤاد والذّهن وانكشف وراء ذلك سرّ من أسرار مُراد الحق -تبارك وتعالى-:
- فـ(ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ) [الجمعة:4].
- وفهم يُؤتاه أحدُهُم في كتاب الله.
يقول جلَّ جلاله: (ن ۚ وَالْقَلَمِ ..(1))؛ أي ويُقسم بالقلم، جعل الله لنا في عالم الحسّ ما نسطّر به أخباراً وشؤوناً وأحوالاً:
- فتصير ذلك توثيقا وتذكيراً.
- ويصير ذلك مرجعًا يُرجع إليه.
- ويصير ذلك أنباء وأخبار عن وقائع وعن أحوال.
إلى غير ذلك.. كلها تُكتب بما يُسمّى: القلم، فأقسم الله -تعالى- بالقلم، وهذا القلم الذي هو جنس القلم: ما يُكتب به، مُتصل بالقلم الأوّل:
- والقلم الأول من أوّل ما خلق الله -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-، القلم هو الّلوح المحفوظ.
- وأمر القلم أن يخطّ في الّلوح ما هو كائن وما يُريد أن يُحدثه ويُوجده -جلّ جلاله- إلى يوم القيامة.
هذا هو القلم، حتى كان من جُملة الأقوال القريبة في معنى (ن ۚ ) أنّه أراد بها الدّواة أو المِدَاد الذي يكتب به القلم.
(ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1))
- فقيل أراد به الّلوح من نور.
- وقيل أراد به الدواة.
- (وَالْقَلَمِ)، والله أعلم بمُراده..
ولكنّها لفَتَاتٌ للتّعظيمات والإكبار، والمُنزَل عليه القرآن ﷺ:
- لم يكن قارئًا من قُرَّاء الحروف، كان بين النّاس أُمّيّ: (وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) [العنكبوت:48]، ولكن مع ذلك ينطِقُ بالحروف في محلّها كما علّمه الله -سبحانه وتعالى-.
- بل وإذا أملأ شيئًا من الآيات على أحدٍ من كَتَبة الوحي قال له: أكتب هذه المَدَّة بالواو، أكتب هذه المَدَّة بالياء -هو يقول لهم ﷺ عندما يكتبون-!
وبهذا جاء الرّسم الذي نُسب لسيّدنا عثمان لاعتنائه بنشره، وإلّا بتوقيف منه -عليه الصلاة والسلام-، يُملي عليه يقول:
- الزَّكاة (ٱلزَّكَوٰةَ)، يقول: أكتبها هنا بالواو.
- الصَّلاة -الصَّلواة-، يقول: اكتبها هنا بالواو.
- في آية أخرى: (الصَّلاة) يكتبها صلاة من دون واو.
- الرّبا -الرّبوا- يكتبه بالواو.
بتوقيفٍ منه ﷺ فما أعظم مَن علّمه! (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) [النساء:113].
وكان من جُملة الآيات لعَظَمة هذا القرآن؛ أنَّ هذا الأُمّي:
- يُقطّع حروفا هنا وهنا وهناك.
- ويفرّق بين ألم، وألف لام ميم ﷺ.
- ويَضَع كُلّ شيءٍ في موضعه.
(ن ۚ وَالْقَلَمِ ..(1)) شؤون القلم فيما يظهر في الحسّ من هذا القلم الذي به يُكتب؛ تحفظ به الأقوال.. وأرشد الحق إلى الكتابة فيما يتعامل به الناس لتنتظم أمورهم، وأنزل -آية المُداينة- وأكّد فيها على الكتابة:
- وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ۚ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ۚ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ)، قال: الذي يعرف الكِتابة منكم لا يتمنّع ولا يمنّ على من لا يكتب، وَلَيَكْتُبْ.
- (كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ۚ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ) يُمْلِي الْكَلَامِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقِّ، يقول: عليّ لفلان كذا، وأنت أخذت من فلان كذا، هو بنفسه يُمِلِي.
- (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ)، لا يزيد ولا ينقص؛ يضبط الكاتب والمملي.
- (وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا)، لا يبخس من الحقّ الذي عليه شي؛ يَذكُر جميع ما عليه.
- (فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ۚ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ ۖ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ ۚ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ۚ وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا) [البقرة:282].
فبيّن مُهمّة القلم، وتأثيرها على استقامة الأمور، ووضوحها وعدم دخول الشّك والرّيب وتُهمة النّاس لبعضهم البعض؛ قال: أكتب..
- ولمّا تأمّل بعض العارفين الآية قال: هذه أرجى آية في القرآن.. قال: كيف أرجى آية في القرآن؟
- قال: هذا الإهتمام والتأكيد كله للحقوق الحقيرة فيما بيننا وبين من في الدنيا، وإذا بعناية الله بنا وصلت على ذلك.
فكيف بعنايته بنا في الأمور العُظمى الكبرى؟ هذه عناية الله لنا بنا في هذه الشؤون الحقيرة!!
قال: (وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا ۖ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا ۗ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ۚ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ۚ وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ) -تعمل رهن تَمسِك رهن؛ مُقابل الدّين- (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ۗ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ۚ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) [البقرة:282-283]؛ هذا كلام مُتعلّقٌ بشؤون القلم وأثره في الحياة والواقع، وكم جعل -الله تعالى- لهذا القلم من شؤون.
ثُمّ إنْ يَبطُنُ وراء هذا القلم:
- قلم؛ فإنّه لا يَكتُب الكاتب إلّا بعد أن يتحرّك قلمُه الذي يُملىَ عليه من أسرار الإرادة والقدرة والتمكين بشؤون في باطنه.
- فيسبق القلم، قلم! يَخُطُّ في عقل هذا وفي قلب هذا، إرادة وبثّ تصور وتمكين، وقدرة على أن يخط..
الله، إنّ الأقلام شغاّلة، منها ما لا يُرى ومنها ما يُرى! هو كذلك، الله أكبر..
والكائنات كُلُّها لوائِح ولوحاتٌ يكتب فيها القلم: كل تقدير، كل تصوير، كل تنوير وكل إظلام وكل إسعاد وكل إشقاء وكل شكل:
- مكتوب بقلمٍ للقدرة والإرادة الربانية.
- فما أعجب ما تقرأه القلوب من المَخطوط بقلم القدرة والإرادة في صفحات الكائنات!
حتّى يتأمّل مُتأمل منه يقول:
وَلِلَّهِ فــي كُــــلِّ تَــحريكَـةٍ *** وَتَـسكـــينَةٍ أَبَــداً أثرٌ شـــاهِـدُ
فَيا عَجَباً كَيفَ يُعصى الإِلَهُ *** أَم كَيفَ يَجحَـدُهُ الجاحِــدُ
وَفي كُــلِّ شَـيءٍ لَــهُ آيَةٌ *** تَـــدُلُّ عَــلـى أَنَّــهُ واحِـدُ
وَلِلَّهِ فــي كُــــلِّ تَــحريكَـةٍ *** وَتَـسكـــينَةٍ أثرٌ شـــاهِـدُ
- (وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:13].
- (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ)، (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى) [الأنعام:60]؛ فالقلم يكتب.
وما جعل الله -تبارك وتعالى- من صحف الملائكة:
- وما يكتبونه ويَخُطُّونه: رقيب وعتيد والحفظة؛ (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) [المطففين:10-12]، ما أعجب شؤون أقلامِهم!
- يكتبون الحق بالعدل والقسط.
- ولا يزيد حرف ولا ينقص عليهم سلام الله.
- ومَن فوقهم من الملائكة الذين يتناولون ويكتبون الواقع قبل أن يقع، وهؤلاء يكتبون الحادث بعد أن يَحدُث، وقبل أن يَحدُث الحادث ففي صحف الملائكة قد كُتب.
وينقل من اللوح المحفوظ، هذا يعطي هذا، وهذا يعطي هذا..
- والكل في كون واحد؛ تحت حكمِ واحد.
- وعلمِ واحد، وتقديرِ واحد، وهيبةِ واحد.
- وجلالِ واحد؛ هو الله -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-.
ولا أحد من هؤلاء جميعهم يُحيطُ بالكائنات وما فيها، غيرُه:
- ولا أحد من هذه الكائنات يحيط بشيء من علمه إلا بما شاء -جلَّ جلاله-.
- ومهما اتسع علمه في هذا الجانب فهو يجهل جوانب أخرى.
- فحالهم من أولهم إلى آخرهم، (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) [يوسف:76].
- إلى أن يجتمع علم الخلق كلهم، وما عندهم.
- فإذا نُسِب لعلم الله؛ صار كلا شيء.
"يا موسى -يقول سيدنا الخضر- ما نقص علمي وعلمك من علم الله؛ إلّا كما نقص هذا الطائر بمنقاره من البحر"!
وقف على طرف السفينة طائر وقال بمنقاره في البحر هكذا.. قال: كم نقص من البحر؟ ماذا نقص من البحر!! عسى ما غاب الماء عليهم من منقار العصفور! ماعملَ شيء، ما أثَّر شيء! قال سيدنا الخضر لسيدنا موسى: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلّا بمقدار ما نقص هذا العصفور بمنقاره من البحر! يعني ما نقص شيء.. (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة:216].
(ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)) عَرَفت القلم، والتفتَ نظرك إلى قلم القدرة والإرادة، وقلم التّكوين، وقلم التّقدير والتصوير -لا إله إلا الله- وكم في القلم؟!
(ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ):
- (مَا يَسْطُرُونَ): ما يكتبون.
- (وَمَا يَسْطُرُونَ: وكتابهم؛ القلم والكتاب.
- وعلى قول: أنّ الـ(ن) الدواة والقلم والكتاب.
- (وَمَا يَسْطُرُونَ) ما يعلمون من معاني، ما يعلمون من علم .
(ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)) ما تُسطّر الملائكة، ما يُسطّر القلم الأعلى في الّلوح المحفوظ..
وفي اطّلاعه عليه ﷺ على أسرار القلم جاء في أوصافه وخصائصه: أنه سمع صرير الأقلام تخطّ في الّلوح المحفوظ..
- سمعُه؛ يسمع صرير القلم.
- بصرُه؛ إلى السّبع الطّباق ثاقب.
وجاء في حديث المعراج:
- "حتى ظهرتُ لمستوى، أسمع فيه صرير القلم يكتب"؛ وإنّما هي إشارة لأن نعلم أنّ وراء ما نعلم علم؛ خصّ الله به من شاء، والأمر أكبر من كل تصوّر -فسبحان من عَلّمه-
- وجاء في رواية: "سمعتُ تصاريف الأقلام تخط في اللوح المحفوظ"، صلى الله على سيدنا محمد.
(ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) وما يحصل من الأثر والحركة فهو من السُّطور.
(ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)) حبيبَنا؛ ما لهؤلاء في شكوكهم وظنونهم واوهامهم؟! (مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2))
- خلقنا العقل وجعلناك الأعقل، وأعطيناك الأتمّ والأكمل والأفضل.
- ويُروى أنّ الله خلق العقل فجزّأه مئة جزء:
- فأعطى تسعة وتسعين لعبده محمد.
- وقسّم الجزء بين العقلاء من الملائكة والإنس والجن.
فهو أعقل الخلق، ومع ذلك يقولون له: مجنون! الرحمن يقول: أُقسِم بعظمتي والكائنات وخلقي وما كوّنتُ وما قدّرتُ وما كُتب وما يُكتب وما يكون؛ (مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)):
- ما أنت -والنِّعمةُ لربِّك عليك- ما أنت بمجنون.
- أنت الواعي الذي لم يستوعب عقلٌ وعياً.
- كما استوعب عقلك عنّا فيما أنزلنا، وفيما خلقنا، وفيما أوجدنا، و أسرارنا في التّكوين والوجود.
(مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)):
- بِنِعْمَةِ رَبِّكَ: بالنبوة التي أتاك.
- بِنِعْمَةِ رَبِّكَ: بالفضل الذي تفضل عليك.
- والنّعمة لربّك هو المُنعم كما تقول: سبحان الله وبحمده؛ الحمدُ له.
(مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) ما أنت بمجنون والنّعمة لربّك.. أنت مُنعم عليه، عبد مخلوق لكن آتاك أعظم النّعم
- (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)، عندنا مِنَن و منها: النُّبوة التي أتانا والرسالة.. فلماذا؟
- لكوننا بشر تريدون أن تسلبوا النِّعمة علينا؟ تسلبون الخصوصية التي أتانا الله؟!
- يأتي إلى عند نبي يقول: بَشَر، يأتي إلى عند نبي يقول: بشَر، نعم!
- و الولاية أين هي؟ والنُّبوه أين هي؟ هو بشر؛ ولكن هو بشر لا كالبشر!
- (إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) [إبراهيم:11] ومن قال لك أنّ البشر سواء؟ ومن قال لك أنّ مصيرهم سواء؟ ومن قال لك أنّ منزلتهم عند الله سواء؟ من الذي قال؟!
- (أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا ۚ لَّا يَسْتَوُونَ) [السجدة:18].
- (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص:28].
- (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ) [فاطر:19-21].
كلهم بشر! تريد أن تسلب الخصائص عن البشر التي أتاهم الله؛ لأنهم بشر! ما هذا التفكير الغريب؟! ما هذا الجهل الفظيع؟!
- بشر.. بشر؛ ولكن البشر ما استووا؛ لا في علومهم ولا في أعمالهم ولا في أخلاقهم ولا في معارفهم ولا في مراتبهم ولا في درجاتهم ولا في صفاتهم..
- ولماذا الجنة درجات؟ والنار دركات؟ من شأن أنّ الناس سواء؟! سواء في ماذا؟! يتناقضون النّاس مع أنفسهم، ويتكلمون بما لا يَعقلون.
أتت الأديان بالعدل بين الخلق، فأرادوا أن يَدّعوا القيام بالعدل قالوا: المساواة:
- المساواة بين المُحسن والمُسيء، و الظالم والعادل، هل ممكن؟! أليس كلهم بشر سواء؟
- ليس سواء، عادل وظالم سواء؟! مؤمن وكافر سواء! مُحسن ومُسيء سواء! ضار ونافع سواء! من قال سواء؟
- يتحدَّثون عن المساواة، قل لهم: كيف تقيمونها؟ يتكلمون بما لا يعقلون.
- تعالوا يا صغار، يا كبار، يا حضارات، ما هي المساواة؟ ما معناها؟ كيف؟
تريدون العدل؟
هذا الذي جاء به الحقّ ورسله؛ عدل:
- فإذا أقيم ميزان العدل؛ تمّت المساواة في إقامة العدل على الجميع، لا أنّ الناس صاروا سواء:
- ولا أفضلُ الناس وهم الرسل سواء: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ) [البقرة:253].
- ولكن الذي يُدَّعى في المساواة بين الناس، إقامة العدل على الكل:
- (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) [النساء:58].
- (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۚ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) [النساء:105]،
- يقول -سبحانه وتعالى-: (فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ۖ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا ۖ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ ۚ وَمَا أُولَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) [المائدة:42-43].
(مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ(2)) وهل يمكن أن يُنسب إلى الجنون أقوم الناس خُلُق؟!
(وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)):
- (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ) يقول: حبيبنا، إن تكلموا عليك وإن قالوا وإن عملوا وإن آذوا؛ أعددتُ لك ما لا يُوصف.
- (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ) أجر أعطيك، غير منقطع.
- (لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ) ما يمنّ به أحد عليك، منا مباشرة إليك، لا فضل لأحد غيرنا عليك فيه.
(وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ) -الله أكبر- وإذا كان الفرد من أتباعه، له "ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" كيف هو وأجره؟! ما هذا الأجر هذا؟!
(وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ) فسبحان مُعطيه، سبحان مُشرِّفه. الّلهم أكرمنا بمحبّته وحُسن مُتابعته، وأدخلنا في دائرته، واحشرنا جميعًا في زمرته.
(وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)) وكم حوت من معاني:
- نَبي عَظيم خُلقه الخَلق الَّذي *** لَهُ عَظم الرَحمَن في سَيد الكُتب
- و "إنَّما بُعثتُ لأتمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ".
(وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)) في عظمة هذا الدّين القويم، والقرآن الذي أنزل عليك؛ أنتَ المثل الأعلى، وأنت القدوة الأشرف:
فكله فضل أتى ورحمه *** وكلـه حكم هدى وحكمه
وهو إمام كل ذي مهمه *** وقدوة في سائر الخصال
اللهم ارزقنا حُسن متابعته، خلّقنا بأخلاقه. يقول نبينا: "إنَّ من أحبِّكم إليَّ وأقربِكم منِّي مجلسًا يومَ القيامةِ أحسنَكم أخلاقًا":
- وكم يُحسّن الله من أخلاق قوم في رمضان، يكونون في العشر الأواسط أحسن خلقاً منهم في العشر الأوائل.
- ومن كان في العشر الأواسط أحسن خلقاً منهم في العشر الأوائل؛ فهو في العشر الأواخر أحسن خلقًا منه في العشر الأوسط.
فارتقِ مع من يرتقي، ولا تمرّ عليك الأيام ولا تستفيد من كنوزها ولا تفوز بما خبأ الله فيها، أنت تدري ما خبأ لك في هذه الأيام والليالي، لا تمُر على الكنوز من دون أن تفوز، ولها تحوز؛ بحسن وجهتك إليه، فحسّن خُلقك، ولو خُلق واحد من الأخلاق الكريمة حلّاك بها وقوّاك فيه؛ لكان شرفاً لك وعزاً، تفخر به في القيامة، وتقرُب به من المُظلّل بالغمامة.
- "أحاسِنُكم أخلاقًا، المُوطَّؤون أكنافًا".
- "وإنَّ أبغَضَكم إليَّ وأبعَدَكم مني مجلِسًا يومَ القيامةِ الثَّرثارونَ المتشَدِّقونَ" و المفرقون بين الأحبّة.
الّلهم خلّقنا بأخلاق هذا النّبي وأدّبنا بآدابه، وما تهب من الخير في رمضان في تقويم الأخلاق فخُصّنا منه بنصيب وافر يا خلّاق؛ نرقى به مع كل راقّ، إلى مراتب القُرب منك والدُّنو إليك مع خيار الرّفاق، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة