تفسير الفاتحة وقصار السور - 34 - تفسير سورة القدر
للاستماع إلى الدرس

تفسير الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لقصار السور بدار المصطفى في شهر رمضان المبارك من العام 1436هـ.

نص الدرس مكتوب:

إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)

الحمدُ لله نستفتح شهر رمضان المبارك وأول أيّامه بوجهتنا إليه تبارك وتعالى في علاه، وحضورنا بين يديه فيما شرع وفرض وكتب وسَنَّ على يد الحبيب الأكمل والنبي الأفضل محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، من ذكرٍ وصلاةٍ لفريضة الصبح وأذكارٍ بعدها، ومِن علمٍ جاءنا عنه في الشرع المصون المطهّر، بارك الله لنا ولكم وللأمة في القرآن وفِي شهر القرآن، وجعل لنا ولكم نصيبًا وافرًا وحظًا كاملًا من جوده الواسع، وإمداده الكبير لأهل التعرُّض لنفحاته في لحظات وأيام هذا الشهر المبارك، اللهم اثبتنا في خيار أهله.

 

أنواع العتق في الشهر الكريم

وفي صباحنا،، والوقت الذي جاء في الخبر أنَّه موعد العِتق من النار، أحد الساعات التي يكْثُر فيها العتق من النار عند طلوع الشمس، كما هو عند الغروب وعند الإفطار يكثر عدد العتقاء لله تعالى من النار، ولله عتقاء من العذاب، وعتقاء من الذنوب، وعتقاء من الحُجُب، إلى غير ذلك من أنواع العتق التي تسري سرايته في الشهر الكريم.

نكون مع القرآن الكريم وتفسير السور التي انتهينا منها في العام الماضي منها من سُوَرة الناس إلى سورة البينة، فنفتتح عامنا هذا بالتأمل في معاني سورة القدر ثم ما بعدها إن شاء الله -تبارك وتعالى-.

 

ولَا يُحْرَمُ خيرَها إلَّا محروم

سورة القدر؛ سورةٌ معظمةٌ كريمة تحدَّث الرحمن فيها عن إنزال القرآن وتخصيص الأمة بليلة القدر وما يجري وما يكون فيها، غَنَّمَنا الله خيرها وسِرها وجعلنا من المدركين لها القائمين فيها المخلصين لوجه الله، وهي الليلة التي جاء في الخبر عنه ﷺ في شأنها "ولَا يُحْرَمُ خيرَها إلَّا محرومٌ"، لا حرم الله منا صغيرًا ولا كبيرًا.

يقول الله -جلَّ جلاله- بِسم الله الرحمن الرحيم (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر (1)).

(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ ..(1)) جاء بتعظيم هذا القرآن والكتاب بالنسبة إليه بضمير العظمة، (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ) نحن الذين أنزلناه.

(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ) وما هو؟ القرآن الكريم، أين ذِكره؟ تقدّم له ذكر (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ)

  • إمَّا لاتصالها بالسورة قبلها (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) [العلق:1]؛ فالذي تقرأ (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ) وهو القرآن.
  • وإمَّا لأن القرآن الكريم يجب أن يكون حاضرًا في الذهن وأن يكون في بالِ كل المؤمنين والمسلمين، فإذا قال (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ) انصرف الانزال إلى ذلك القرآن وذلك الكتاب؛ لمكانته ومنزلته في ذهن وعقل قلب كل مؤمن.

(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ) يقول نحن الذين أنزلنا هذا الكتاب -الحمد الله- ما أعظم المُنَزِّل! وما أكرم من نُزِِّلَ عليه!، فما أعظم هذا القرآن مأدبةُ الله التي انبسطت لنا، وفّرَ الله حظنا وإيّاكم من التدبر فيه والتأمل لمعانيه والاغتراف من بحر علمه، وألَّف بيننا وبين الحرف منه والكلمة والآية والسورة ائْتِلافًا لا يفارقنا طرفة عين، يظهر سرّهُ في القلوب والعقول والأرواح، يا مجيب الداعي وَيَامغيث المستغيثين شفِّع فينا القرآن ومن أنزلت عليه القرآن واجعلنا من أصحاب القرآن، واجعلنا من أهل القرآن.

 

كل ماقضى به الله يبرزه في ليلة القدر

(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)) في ليلة القدر تأتي معاني للقدر (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ(1)) أي ليلة الحُكمِ، والقدرُ يقال: قدْرًا وقَدَرًَا، كنهرٍ ونهَرَ، وقدَّرَ تقديرًا بمعنى واحد؛ وذلك أنَّ الله يُبرم الأحكام في ليلة القدر من كل ما قضى به أن يقع في الأنام والخلق إلى مثلها في ليلة القدر من العام الآتي.

(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)) فهذا أحد معاني الْقَدْر الحُكم، وقد قال تعالى فيها في سورة الدخان (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) [الدخان:3-4] فيُلقى إلى صحف الملائكة ويتجَدَّد الكتاب لِمَا قدَّر الله أن يكون من الحوادث للكائنات والمخلوقات لما يحدث لهم إلى مثل ذلك من العام المقبل إلى ليلة القدر في العام المقبل.

(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)) ليلة القدر: ليلة الشرف والعظمة والمكانة، وقال فلان ذو قدر، أي لَهُ شرف ومنزله.

  • ليلة القدر الليلة ذات الشرف والمكانة والعظمة (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)).
  • ليلة القدر التي يَعظُم فيها ثواب الأعمال والصالحات والطاعات، فتكون مقبولة ومضاعفة الأجور؛ ليلة القدر.
  • ليلة القدر يعلو ويعظُم شأن من اغتنمها وقام فيها وأدى واجبها، فهي ليلة القدر تُحَوِّلُ ذلك الموضوع إلى مرفوع ذي قدر.
  • ليلة القدر ليلة الرفع والإعلاء فتحوّل القائم فيها من موضوعٍ إلى مرفوعٍ شريف.

(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)) وكما فخَّم الكتاب العزيز وعظَّمه بقوله (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)) فقد لفت النظر إلى عظمة الليلة المباركة ليلة القدر، غَنَّمَنَا الله إيّاها ورزقنا قيامها إيمانًا واحتسابًا "مَن قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ".

فخَّم شأنها فقال (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2)) ما الذي يجعلك محيطًا بالفضل العظيم الذي جعلناه في تلك الليلة؟ والتجلّي والغفر والإحسان والرضوان والفضائل والفواضل التي أشار في السورة إلى معانٍ منها ومظاهر كريمة تحدّث عنها جلَّ جلاله (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2)) 

 

ذكر فضائلها ومكانتها ومنزلتها.

   ابتدأ بذكر فضائلها ومكانتها ومنزلتها(لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)) (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ..) أفضل وأعلى من ألف شهر، يعني: العمل الصالح فيها يفوق العمل في ألف شهر، ومن عَبَدَ الله فيها فاقت عبادته العابد لله مدة ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وهي خصوصية لهذه الأمة.

   (لَيْلَةُ الْقَدْرِ ..(3)) هي ليست مثل ألف شهر بل، (..خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ) وقد جاء في الأحاديث أنَّ النبي ﷺ عُرِضَ عليه وأُلْقِىَ بين يديه التذكرة بأعمار الأمم السابقة وأعمالهم، ولما طالعها تقاصر أعمار أمته وخاف أن يَقصُرَ بهم العمل عن أن يدركوا الدرجات، فأُعطيَ ليلة القدر.

    في الحديث أيضًا أنه حدَّث الصحب الأكرمين عن رجل من بني إسرائيل حمل السلاح يجاهد في سبيل الله، فاستمر في الجهاد في سبيل الله لمدة ألف شهر -ثلاثة وثمانين سنة وأشهر- فقال الصحابة: ما تَبلغُ بِنَا أعمارنا هذا فيزيد علينا هؤلاء في الثواب والمنزلة!!

   وكذلك جاء في الحديث أنَّه تحدث عن أربعة من بني إسرائيل تفرغوا لعبادة الله ألف شهر، فحزِن من حزن من الصحابة لقصرِ الأعمار، فأعطاهم الله تعالى هذه الليلة وخصهم بها، فرمضان مرَّ على الأمم كلهم ولكن الخصائص فيه ما كانت إلا لهذه الأمة؛ لمكانة نبيها صلوات ربي وسلامه عليه، فحمدًا للرب خصنا بمحمد.

(لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)) ‏العابدُ من أمتك لنا في هذه الليلة الواحدة، نعطيه ‏من ‏المَثوبةِ ‏والجزاءِ والأجرِ والحسناتِ والدرجاتِ والمَنِّ ‏والإحسانِ ما يفوق عمل العابد ألف شهر من أولئك الأمم الذين ‏لم نعطهم ليلة القدر (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)) ‏فلذا قال "نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"

وقد صح في الحديث أيضًا وجاء في الصحيحين أنه ﷺ قال: "مَثَلُنا ومَثَلُ أهل الكتاب ‏من قبلنا، كمَثَلِ رَجُلٍ استأجر أُجَراء‏ فَعَمِلوا له من الصباح إلى الظهر فأعطاهم أجرهم قِيرَاطًا قِيرَاطًا، -عجزوا- فاستأجر أُجَراء آخرين، فَعَمِلوا له من الظهر إلى العصر، فأعطاهم قِيرَاطًا قِيرَاطًا، فلمَّا كان آخر النهار استأجر أُجَراء، فَعَمِلوا له إلى المغرب فآتاهم أجرهم قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، فقال الأولون: نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ أجرًا، فقال: هلْ ظَلَمْتُكُمْ مِن أجركم شيء؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضلي أُوتيه من أشاء".

الحمد لله الذي جعلنا في هذه الأمة، ورزقنا الله حُسن العمل وبمضاعفته بما هو أهله تعالى، فتكون ‏المضاعفة للعمل في بعض الأوقات كما هي في بعض الأماكن عامة لجميع المؤمنين، كل مؤمن يعمل فيها تضاعف فيها الأجر، بعد ذلك (وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ) [البقرة:261] هذه متعلقة بالذوات، هناك متعلق بالأوقات وهناك متعلق بالأماكن.

  • ومتعلِّقٌ بالأماكن "صلاةٌ في مسجدِي هذا خيرٌ من ألفِ صلاةٍ في ما سواه إلا المسجدَ الحرامَ، وصلاةٌ في المسجدِ الحرامِ أفضلُ من مائةِ ألفِ" "صلاةٌ في بَيْتِ الْمَقْدِسِ بخَمْسُمِائَةِ صَلَاةٍ"، رمضان بمكة كمائة ألف رمضان، هذا أمر متعلق بالمكان، ومن حصل ووصل إلى ذلك المكان من المؤمنين حصَّل المضاعفة.
  • ولكن أمرٌ متعلِّق بالذوات والأشخاص الذين يحبهم الله (وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ) [البقرة:261] فيجعل عمل هذا مضاعفًا كما قال ﷺ في حق الذين سبقوا إلى الإسلام، وآمنوا من قبل الفتح بالنسبة لمن أسلم بعدهم من الصحابة أنفسهم فَضْلًا عن بقية الأمة: "لوْ أنَّ أحَدَكُمْ أنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، ما بَلَغَ مُدَّ أحَدِهِمْ ولا نَصِيفَهُ".

ترى الواحد من هؤلاء يتصدّق بِمُد من الطعام ونصف مد شطر من الطعام، ومن غيرهم يتصدّق بمثل أُحد! هل سمعتم أحد يتصدّق بمثل أُحد ذهب!؟ أي دولة؟ أي مَلك؟ ولا على مدى القرون ما سمعنا بهذا، فَلَو فرضنا أنَّ أحدًا يَمْلِك مثل أُحد ذهب، جبل طويل ممتد، جبل أحدٌ، يقول لو كان أحد يملك مثل جبل أحدٌ ذهبًا فتصدق به فمُدَّه، ونصف المد يفوق هذا، وفِي الحديث "سبق درهم مائة درهم" فهذه مضاعفة تتعلق بالذوات والأشخاص، وفي هذا قال العارفون:

يا رب كم عبد قربته *** دائم لياليه قدريه

فهذا الذي ضاعف له هذه المضاعفة، إذا جاءت ليلة القدر كان مضاعفة فوق المضاعفة، لِمَ؟ (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [آل عمران:74] يؤتي فضله من يشاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ، فكما كانت الإفضالات على الأمة دون الأمم السابقة، فبيْن الأمة وأفرادها مفاضلات، وبين أماكنها وبين أزمنتها، فزمان يضاعف فيه كالعمل في رمضان؛ العمل في رمضان كله يُضاعف على غيره، في ليلة القدر؟ يضاعف أكثر وهكذا (وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ).

يقول سبحانه (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا) [النساء:40] وفي الحديث "إنَّ عملِ ابنِ آدمَ يُضاعفُ له؛ والحسنةُ بعشرِ أمثالِها، إلى سَبْعِمائةِ ضِعفٍ، قال اللهُ تعالى: إِلَّا الصَّوْمَ؛ فإنَّه لِي، وأنا أجزي به".

كَمَالكٍ غني ثري سخي جواد كريم، قال: أعطوا العمال أجورهم إلا فلان أنا أعطيه، ماذا سيعطيه؟ مثلهم! سيضاعف لك، فقال: اكتبوا ثواب الأعمال المختلفة إلا الصوم، فإذا صام الصائم مخلصًا لوجه ربه وقُبِلَ عند ربه، قال الله للملائكة ما تكتبوا عددًا معينًا ولا شيء من هذا "لي وأنا اجزي به".

ومن عظيم معاني كونه لي وهو يجزي به، أنَّه لو تعرّض المؤمن الذي قُبِلَ منه الصيام لأخذ التبعات عليه في القيامة، فأُخِذَت حسناته يبقى الصوم، يقول: يا ربنا فَنِيَت حسناته ما بقي إلا الصوم وعليه مطالبة ومآخذة، يقول له الصوم لي، يقول: فكيف نعطي هذا؟ فيعطي أصحاب الحقوق ما يستحقون من فضله، ويحفظ الصوم فيضاعفه لعبده -جلَّ جلاله- "إِلَّا الصَّوْمَ؛ فإنَّه لِي، وأنا أجزي به".

فهناك مضاعفات ومنها ليلة القدر، غَنَّمَنا الله فضلها وخيرها وبركتها، ولقد سألت السيدة عائشة رسول الله ﷺ "أرأَيْتَ إنْ أدرَكْتُ" -وافقت- "ليلةَ القدرِ" وجاء بألفاظ أُخَر تُفيد أنهم كانوا يستشعرون ليلة القدر ويحسون بها، "فبِمَ أدعو؟ قال قولي اللهمَّ إنك عفوٌ تحبُّ العفوَ فاعفُ عني"

اللهمَّ إنك عفوٌ تحبُّ العفوَ فاعفُ عنا، اللهمَّ إنك عفوٌ تحبُّ العفوَ فاعفُ عنا، اللهمَّ إنك عفوٌ تحبُّ العفوَ فاعفُ عنا يا كريم.

(لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (2)) قال خذ مظهر من مظاهر فضيلتها، غير هذه المضاعفة للأعمال فيها، فيصير أن تصلي فيها ركعة كأنك صليت هذه الركعة مدة ألف شهر؛ يعني ثلاثين ألف ركعة، فالركعتان بستين لك، خير من ستين ألف ركعة في غير ليلة القدر، والأربع الركعات خير من مائة ألف ركعة وعشرين ألف ركعة في غير ليلة القدر وهكذا.

تتصدّق بدرهم في ليلة القدر خير من ثلاثين ألف درهم في غير ليلة القدر، تتصدّق بدرهمين خير من ستين ألف درهم في غير ليلة القدر وهكذا.

تسبِّح تسبيحة أفضل من أن تسبح ثلاثين ألف تسبيحة في غير ليلة القدر، تُكَبّر تكبيرة في ليلة القدر خير من أن تكبر ثلاثين ألف تكبيرة في غير ليلة القدر، فهي ليلة قدر يُضَاعف فيها الثواب.

كذلك حيثية أخرى قال؛ تحضرها ملائكة كثير، كلما كَثُرَ الأخيار كَثُرَ الخير وكثر العطاء والمدد (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ..) أي (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم.. ) فيخرج من ملائكة السموات في تلك الليلة أعداد كبيرة، حتى يكون عدد الملائكة في الأرض أكثر من عدد الشجر والحجر فيملؤون الأرض، حتى قيل في بعض معاني القدر، أنَّ القدر الضيق، ويقدر ويبسط رزق من شاء، يُضَيِّق: أنَّ الأرض تضيق بكثرة الملائكة فيه في تلك الليلة.

(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)) قال: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ.. ) فملائكة كُثُر كثر كثر لا يخرجون إلى الأرض إلا في تلك الليلة، فينزلون فيُسَلِّمون على المؤمنين ويشهدون معهم في تلك الليلة صلواتهم وجموعهم ودعواتهم، ويُؤَمِنُّون على دعواتهم ويذكرون الله معهم، فما أعجب اختلاط الأرض بالسماء في تلك الليلة، حتى إذا تصافح المؤمنون تصافحوا معهم.

وفي الحديث: "من فطَّرَ صائماً من مالٍ حلال صلَّت عليه الملائكةُ ليالي رمضان وصلَّى عليه جبريلُ ليلة القدر" بل جاء في رواية أخرى بسندٍ أيضًا حسن قال: "وصَافَحَهُ جَبرائيلُ ليلةَ القَدرِ ، ومَن صَافَحَهُ جبرائيلُ عليهِ السَّلامُ يَرِقُّ قَلبُهُ ، وتَكْثُرُ دُموعُهُ" أثر الاختلاط والصحبة والمجالسة والمصافحة "يَرِقُّ قَلبُهُ ، وتَكْثُرُ دُموعُهُ".

فتجد هذا الذي ظَفِرَ بصحبة جبريل مع مصافحة الناس ليّن القلب رقيقًا كثير الدمعة، فتتفرّق الملائكة على مواطن المؤمنين بل يدخلون كل دار للمؤمنين، وتكثر اجتماعهم وحضورهم حيث اجتمعوا للذكر وللصلاة وللدعاء وللتضرع وللعلم فيتكاثرون، ففوق الملائكة السيّاحين التي تنزل لحِلَق الذكر، ملائكة جُدد نزلوا من السماء ملَؤُوا الأرض، وإنما يتزاحمون على ما كان من المجالس والأماكن، أعظم عند الله وأعظم نظرًا من الله ورسوله، فيكثرون هناك

 

مامعنى "الروح"؟

  • (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ) جبريل الأمين عليه السلام ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ *عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ) [الشعراء:193-194]، فهذا أصح الأقوال.
  • وقيل الروح: صنفٌ من الملائكة لا تراهم الملائكة ولا ينزلون إلا تلك الليلة.
  • وقيل أنَّ الروح: مَلَك واحد عظيم الخِلْقة، إذا جاءت القيامة فاصطف الملائكة صفًا كان هو صفًا يُقابل الملائكة كله (اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) [آل عمران:47].
  • ولكن الأصح أنَّ الروح جبريل (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا ۖ لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًا) [النبأ:38] 

فلا يفتتح الكلام للحضرة الإلهية بعد ذلك الموقف الجَلل إلا بمحمدٍ، لا مَلك ولا نبي ولا غيرهم يتكلمون، محمدٌ يتكلم فيفتتح الكلام (..أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًا) ثم يُفتح الكلام للمقربين من النبيين والملائكة والصالحين (..لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًا).

 

نزول الملائكة إلى الأرض 

(تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم..) الله أكبر، بأمره -سبحانه وتعالى- وهل يحصل شيء إلا بإذنه؟ ولكن هذا أذن خاصٌ فيه معاني الرضا وإرادة إفاضة العطاء على أمة خير من وطِئ الثرى، من أظلته الخضراء، وأقلته الغبراء، محمد خير الورى.

إذنٌ من الله، يا ملائكتي هؤلاء الذين في الأرض من أتباع نبيي محمد، إليهم أخرجوا، أحضروا معهم خالطوهم! صافحوهم! اقرؤوا معهم! فإذا نزلوا كانت القيادة للمؤمنين من أتباع النبي، إن سبّحوا سبّحت معهم الملائكة، وإن حمدوا حمدت معهم، وإن كبروا كبّرت معهم، وإن صلوا على النبي صلوا معهم على النبي، وأن دعوا أَمنوا على دعائهم، فينزلون إلى الأرض فيتبَعون خيارنا على ظهر الأرض، إن ذَكَروا ذكروا، وإن قرأوا قرأوا، وإن دعوا أمنوا-الله أكبر-.

  • (بِإِذْنِ رَبِّهِم) قال اخرجوا إلى هؤلاء الفريق من أتباع النبي محمد في الأرض أخرجوا إليهم.
  • (بِإِذْنِ رَبِّهِم) اذهبوا إلى عند هؤلاء اجلسوا معهم، أنظروا أحوالهم، أدعوا أَمنِوا على دعائهم، اشهدوا إفضالي عليهم وجودي ومَنِّي وغفري لهم.

 فكم يتحسروا هؤلاء الملائكة النازلون ليلة القدر على من كان معهم في السجلات في العام الماضي على حال طيب ثم سقط، هبط أعرض وأدبر! وكم يفرحون لمقبلٍ كان في السنة الماضية مُعرضًا فأقبل على الله واغتنم شأنه مع الله -تعالى- فيكون لها أمر جَلَلٌ كبير.

 

متى تكون ليلة القدر؟

 ثم إنَّ هذه الليلة كما هي عند جمهور العلماء، واقعةٌ في كل سنة في شهر رمضان في شهر رمضان، ثم أنَّها متنقلة؛ سنة تكون أول ليلة، سنة تكون ثالث ليلة، سنة تكون خامس ليلة، سنة تكون في النصف، تكون في العشرين، والغالب أن تكون في العشر الأواخر، والغالب من العشر الأواخر الأوتار، ومن هذه الأوتار الحادي والعشرين والثالث والعشرين والخامس والعشرين والسابع والعشرين، في كلها جاءت أحاديث تدل على أنَّها وقعت ليلة القدر في مثل هذه الليلة، فعند التحقيق: لا تُلازم ليلة القدر ليلة بعينها، ولكن تتنقل في كل عام ما بين ليال الشهر من أوله إلى آخره، وإن كان الغالب أنَّها في العشر الأواخر وفي الأوتار أرجى.

فمن ذلك مالَ من مالَ أهل العلم أنَّ ليلة الحادي والعشرين ولهم في ذلك حديث، ومالَ من مال الثالث والعشرين ولهم في ذلك حديث.

والواقعتان وقعتا في علامةٍ ذكرها ﷺ في ليلة القدر في ذاك العام "أنَّه يَسجُدُ صبِيحتَها على ماءٍ وطِينٍ"، فثارت السحب من ليلة الحادي والعشرين وسجد، وفي سنة أخرى أخبر عن نفس العلامة فثارت السحب ونزل المطر في ليلة الثالث والعشرين.

حتى أنَّ بعض أصحابه يقول أنا في البادية يا رسول الله أصلي مع ابن عمي اختر لي ليلة أخرج فيها إلى مسجد قومي فأصلي فيها في رمضان، فقال: أخرج ليلة ثلاث وعشرين، إنما أرشده الى ذلك لأنه في ذلك العام تكون هي الليلة الكريمة المباركة، ولكن الصحابي استمر في كل عام يخرج في ليلة الثالث والعشرين بوصية رسول ﷺ إلى مسجد قومه فيُحيي تلك الليلة في المسجد.

وقد مال بعضهم إلى أنَّها ليلة السابع والعشرين، واستأنس بسورة القدر وقال: إنَّ سورة القدر فيها ثلاثون كلمة على عدد ليالي الشهر، وأن كلمة (هِيَ) السابعة والعشرين.

(سَلَامٌ هِيَ )هي السابع والعشرون كلمة السابعة والعشرين ليلة، هي ليلة القدر، (سَلَامٌ هِيَ ) فقال: في (هِيَ) هيَ، وقد علمتَ إنَّ التحقيق في الأصح أنَّها متنقلة، وقال بعضهم: لو صادف شيء من أوتار العشر ليلة الجمعة، فهي أرجى أن تكون ليلة القدر، وإذا كان ليلة وترٍ وهي ليلة جمعة في أثناء أوتار ليلة العشر ففي الغالب أن لا تتخطاها ليلة القدر.

وقد كان صُلحاء الأمة لهم شعور بها وإحساسٌ ومدارك، فمنهم من يُحس كثرة الملائكة النازلين، ومنهم من يرى الكائنات في سجودها لرب العالمين حتى الأشجار والأحجار ومنهم ومنهم.

 

هل لليلة القدر علامات؟

وقد ذكر الرسول ﷺ من علاماتها أنَّها ليلة ساكنة ما بين حرٍ وبرد، لا يكون فيها برد شديد ولا حرٌ شديد، وأنَّه تصبح الشمس في صبيحتها كأنَّها القمر، ضعيفة الشعاع قليلة الشعاع بيضاء، لِمَ؟ لكثرة الملائكة في الجو الصاعدين لأنه بعد الفجر وصلاة المؤمنين الفجر على ظهر الأرض، عندما يُصَلَى في المدينة ومكة المكرمة يأمر جبريل بالرحيل فإنه رئيسهم في خروجهم إلى الأرض ثم في صعودهم من الأرض فيبدأ صعودهم طوائف طوائف، زمر زمر، وجماعات جماعات، فتصبح الشمس تراها ولا سحاب، كأن عليها سحاب من كثرة أرواح الملائكة الصاعدة فتصير ضعيفة الشعاع كأنَّها بدر منير وهي شمس هكذا.

(تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4)) أي بكل أمر يُقضى إلى مثلها في العام المقبل ( ..مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ..) سالمة من الشرور والآفات والأهواء.

(..حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)) ثم يكون ليوم القدر من الثواب مثل ما لليلة القدر، فهو اليوم الذي يلي الليلة فيلحق بها في الثواب والمنزلة والمكانة (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3))، (سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)).

اللهم غَنِمنا قيامها وغنمنا خيرها وسرها وبركتها وجودك فيها ونظرك إلى أهلها ولا تحرمنا إيّاها ولا تجعل في بيوتنا محرومًا عنها ولا عن بركتها، يا أرحم الراحمين يا أرحم الراحمين يا أرحم الراحمين.

وإذ ابتدأنا أيام شهرنا بذكر سورة القدر وليلة القدر ونتفاءل أنَّ الله لا يحرمنا بركة ليلة القدر، ويوفر حظنا منها إنه أكرم الأكرمين.

 اللهم وبارك لنا في أعمارنا، وضاعف لنا مضاعفة في أعمالنا والأجور من حضرتك العليّة بلا حد ولا حساب ولا حصر (..وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا..) [النساء:40] لكن غير المضاعفة شيء أعظم، قال (..وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ.. ) انتهى الأمر، المضاعفات كلها مهما كبرت إذا كانت (..مِن لَّدُنْهُ..) الأمر فوق، فوق الخير (..وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ) [النساء:40].

اللهم آتنا من لدنك أجرًا عظيمًا، واجعل حظنا عظيمًا، ونصيبنا من خير رمضان واسعًا فخيمًا جسيمًا، برحمتك يا أرحم الراحمين.

 بسرِ الفاتحة 

وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه 

الفاتحة

 

إذا قَبِلَ الله منَّا صلاتنا وقراءتنا ودعاءنا حتى تطلع الشمس ثم صلينا ركعتين أو أربعًا وقد طلعت علينا الشمس كتب الله لنا أجر حجة وعمرة تامة تامة تامة، والعمرة برمضان كحجة مع النبي، "عُمرةٌ في رمضانَ كَحَجَّة معي" والله يقبل منَّا أجمعين إنَّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

تاريخ النشر الهجري

03 رَمضان 1436

تاريخ النشر الميلادي

19 يونيو 2015

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام