تفسير الفاتحة وقصار السور - 24 - تفسير الآيات الأولى من سورة القارعة
للاستماع إلى الدرس

تفسير الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لسورة الفاتحة وقصار السور بدار المصطفى ضمن دروس الدورة الصيفية العشرين في شهر رمضان المبارك من العام 1435هـ.

 

نص الدرس مكتوب:

﷽ 

(الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ(4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ (5))

 

الحمد لله المُتولّي تَمشِية وتَقضِيَة وتَتابُع الأيام والليالي والساعات والشُّهور والسنوات، فهو خالق الأوقات والأزمِنة والمُبرِزُ لها والمُتحكّم فيها، والذي جعلها بحكمَتهِ ظَرفاً لعجائب وغرائب من الحوادث والإبْرازات والإظْهارات لشُؤون رَحمته وحِكمته في البَرِيّات، صُوراً وأرواحاً وأجساماً ومَظاهِر وجَواهِر وحِسّاً ومَعنى ودُنيا وآخرة، لا إله الا هو... بهِ آمنَّا وعليه تَوكّلنا وإليه المَصير، بيده المُلك وهو على كلِّ شيء قدير.

 

بيان مدى قِصَر عمر الدنيا وحقارتها 

ولقد جَعل لنا أعظم العِبر، في تَوَالي الأيام في هذا العُمر، الذي مهما طال فمَوصُوفٌ بالقِصَر، وإن كان مِن أعمار الأُمم السابقة التي هي إذا نُسِبت إلى أعمار هذه الأمة عُدَّت طَويلة، فإذا نُسِبَت إلى الوقت قَبلها وبعدها عادت إلى القِصَر، فما كانت إلا قصيرة.

فيروى أن النَّبي نُوح -على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام-، وقد عاشَ أكثَر مِن ألف عام أو مِن ألف ومِئتين عام -فمُدَّة البَلاغ كانَ ألف سنةً إلا خَمسين عاماً- وقَبلها أي قبل أن يَنزِل عليه البلاغ عاش سِنين وبعد أن أهلَكَ الله قومَه عاش سِنين، فقد فاق الألف من السِنين عمرُه، سُئِل: كيف رأيت الدنيا؟ قال: "كَدَارٍ لهُ بَابان دخلتُ من أحدِهما وخرجتُ من الآخر" فما هذه الأعمَار إلا قصيرة وإنْ طَالت، فلا بد أن تُوصَف بالقِصَر بالنسبة لِما قبلها ولما بعدها.

(هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا) [الإنسان:1]، وقال تبارك وتعالى: (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) [المعارج:4]، خَمسين ألف سنة هذه تَقصُر عِنده الأعمار لنا وللأُمم السابقة، كم تَعَمَّروا؟ فإذا نُسِب عُمُر أحدِهم إلى مَوقف القيامة خمسين ألف سنة، صار قَصيراً. وما موقِف القيامة بالنسبة أيضاً لِما ورَاءه إلا قصيرٌ أيضاً، فهذه خَمسُون ألف سنة ولكن إذا نُسِبت إلى ما بعدها من الاستِقرار في الجنة أو النار بانَت أيضاً قصيرة.

فإنما يَحِقُّ أن يُنسَب إلى الطول عُمُر الجنة وعمر النار، لأنه لا آخر له: " حين يُنادي المُنادي يا أهل الجَنّة خُلوداً فلا موت، ويا أهل النار خُلوداً فلا موت "  اللهم اجعلنا من أهلِ جَنّتك يا أرحم الراحمين. تأتي ساعة النِّداء ونحن في الجَنة وفي الفِردَوس الأعلى يا ربِ مِن الجنة، لأن مَن جَاءتْ عليه ساعة هذا النّداء وهو في النّار فلا خُروج له من النار، لأنّه ساعة ذَبح الموت و" يُنادي المُنادي: يا أهل الجنة خلوداً فلا مَوت و يا أهل النار خلوداً فلا مَوت ".

وتَبادَل صُلَحاء الأُمّة بينهم قَولَهُم إنّما أحْزَن وأبْكَى وخَوَّف العارفين حتّى من كَثرة بُكائِهم صَيَّروا عُيونَهم في خُوَرِهِم، إنّما أوصَلَهم إلى ذلك؛ ساعة ذَبْح المَوت.. لماذا؟ خَشْية أنْ تَأتِي وأحدُهم لَيس في الجَنة، الساعة التي يُذبَح فيها الموت لأن بعدها يَيأس أهل النّار من أن يخرج أحدهم من النار (إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ) [الهمزة:8-9]، اللهم أجِرنا من النار واجعلنا من أهل جَنتك برحمتك يا أرحم الراحمين.

 يقولُ : ومِن غَرابَة هذه الأعمار القَصيرة، أنَّ كلَّما يَدُورُ ويحصل ويبرُز في العُمر الطَويل الذي هو عُمُر الجنة وعُمر النار؛ نتيجة وثَمَرة وعاقِبة لِمَا كان في هذا العُمر القصير كلُّه -مع طولِه وامتداده- جَعَله الله كنتيجة وثمَرة وعاقِبة لِما كان مِنّا في هذا العمر القصير، فهو مع قِصَرِه إذًا خَطير شديد الخُطورة؛

  •  إمّا من خِلاله تُخَلّد في النعيم والجنان بأنواعٍ من النعيم لا يُكَيَّف؛ ولا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطر على قلبِ بَشر
  •  وإما عذاب شديد لا يُطَاق ولا يُكَيَّف مِن غير نهاية كذلك والعِياذ بالله

 وكلُّه نتيجة ما قُلتَ وفَعلتَ ونويتَ في العمر القصير. فهذا العمر القصير خطيرٌ جداً خطير، إذ يتّرتب عليه كل ما سنُلاقيه في العُمر الطويل.. فما أجْدَرَ العاقِل أن يغتنِم عُمُره. 

 

حُسنِ عِمارة العُمر واغتنامه

ومِن خير ما نَخرُج بهِ من رمضان، فإنّه لم يَبقَ معنا -إن كَمُلَ لنا الشهر بعدَ هذا اليوم- إلا يومٌ واحد وليلة واحدة، هي الليلة المُقبلة هذه علينا ثم ينتهي ويخرُج وينقَضي ويرحل إلى الرَّب، فإن خرج وقد استفَادَت عُقولنا ومشاعِرُنا قيمةَ هذا العمر وخُطورته، صِرنا نستعد لأن نَعْمُرَ البقيّة من العمر في الخير فقد أفَدنا من رمضان وحصَّلناه حَصيلة طيّبة تليقُ بعظمة الشهر عِند الرحمن -جل جلاله-.

أما مَن خرجَ عليه الشهر ومِن يوم العيد بَدأ يبحث عَن إضاعة العمر وتفْويت العمر وصَرْف العمر في المعصية، في الغَفلة، فكأنّه لم يستفِد من رمضان فائدة تُذكر ولم يُحَصِّل ما فيه مما يُدَّخَر ومما هو حقيقة المَتجر لمن اتَّجَر. 

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الصف:10]، هذه التِّجارة لا يُمكن أن يَدلُّك عليها المُخطِّطون الاقتِصاديُّون في العالم ولا غَيرهم، ولكن ربُّ العالَم الباقي الدائِم على أيدي رُسُله المُنتقَين -صلوات الله وسلامه عليهم- (أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) أول مِيزَة لها؛ تُنجِيك من العذاب الأليم فقُل لي: أيُّ حضارة تدلُّك على تِجارة تُنجِّيك من العذاب؟ أكثر التِّجارات التي يَدلُّونك عليها تُوصِلك إلى العذاب، تُوقِعُك في العذاب! لكنْ أوَّل ميزة للتجارة هذه (تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) عَجَبْ! هذه التي حَمَلتها إلينا أسواق ومخازن الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الصف:10].

وقال عمَّن اغتَرَّ بتِجارتِه في الدُّنيا: (أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [القلم:14-15] وحدَدَّ الله فيمَن نزلَت فيه الآية (سَنسِمُهُ) نَجعل عليه وَسْم وعَلامة بالضَّرب والإهانة في الدنيا (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) [القلم:16] ومَرّت سنوات على نُزول الآية، ووصَل أُميّة ابن المغيرة إلى بَدر وعلى الخُرطوم وُسِم وقُتِل وشُقَّ هناك بضربةٍ على الخُرطوم (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) هذا الذي حصل في الدنيا، وكيف العذاب في الآخرة؟ (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ..) [طه:127] -والعياذُ بالله تعالى-.

فما أحسن أن يغتِنم الإنسان عُمره، وإن شاء الله نَخرُج من رمضان بفائدة حُسنِ عِمارة العُمر واغتنامه في ساعاتِه ولياليه وأيامه، ليُحظى كلٌّ مِنا بإكرامه، وبجودِ الله وإنعامِه، وليُقبل على الله فيَلقاه وهو راضٍ عنه.

يا الله رضى يا الله رضى *** والعفو عما قد مضى 

يا الله رضى يا الله رضى *** يا الله بتوبة والقُبول

 

بعض ما جاء من المعاني في سورة التكاثر:

 وقد قرأنا في أقوال ربنا -سبحانه وتعالى- وتأملنا بعض معاني سورة التكاثر: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) [التكاثر:1-2] وعَلِمنا أن الالْتِهاء بمِثل هذه الشُؤون لا يَتطابق مع مَكانة الإنسان التي أرادَها الله له وكرامَتِه وإمْدَادِه بالسَّمع والبصر والعقل والقُوة الحافِظة والذاكرة، إن كان غايتها أن تُصرَف لفانٍ زَائِل يََتفاخرُون به آناً ووقتاً محدوداً صغيرا -هو بالنسبة لِوقت الدنيا نفسه الذي قَبله والذي بعده صغير قصير- فماذا من كرامة عند هذا الإنسان؟ خُلق يَتفاخَر مع غيره من بني جِنسه على شيء يقعُد له أربعين سنة، خمسين سنة ويروح؟ ما هذا؟! هل هذا إنسان كريم هذا!!، هذا تَافِه، هذا ساقِط هذا هابِط.. ليست هذه كرامة الإنسان ولم يُرِد الله لهُ أن يكون بِهذا الانحِطاط أبداً.

ولهذا ذكر لنا خلاصة عن أعمار الكفار على وجه الأرض قد تمتد عقولهم:

  • إلى ما يَتعلَّق بصِحّة أجسادِهم في بعض الشُؤون، 
  • وإلى ما يتعلق بتَلبية أغراضِهم وأهوائِهم 
  • وإلى ما يتعَلَّق بتوفير شيء من المال، 

وهذا أيضاً لا أحد مِنهم فيه يبلُغُ درجة النَّجاح الكامِل مائة في المائة كما يقولون. هذا كافِر أم مُسلم؟! لا أحد يبلُغ فيه في الدنيا! مَن هذا الذي يعيش في الدنيا.!!. قل لي مَن هو أي مُتقدِّم؟ أي مُتطوّر؟ أي رئيس دولة؟ أي رئيس شركة؟ أي مَسؤول مؤسسة؟ أي قائد جيش؟ يعيش في الدنيا؛ بِلا مَرض، بلا هَم، بلا غَم، بلا كدر، بلا أزمات.. في؟ ما هو موجود! ولا وُجِدَ ولا يوجد. سبحان الله..

مع ذلك غُرور كبير وتفاخُر في وقت قصير ويروح، أهذا الإنسان بِرُوحانيته وبعقله!! وبالجهل هذا! إذاً هذه التّفاهة. 

 

حياة الكفّار باختصار: 

لخَّصَ اللهُ لنا حياتهم قال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ ) [محمد:12] ما هذا.. ما هذا.. وبَعدين؟ تَصوير وتَحليل لَك، ليس مِن جِهاز مَخلوق بيد مَخلوق، مصنوع بيد مخلوق، ولا هو مِن عَقليّة بَشر لِيكون لك هذا التَحليل والنهاية، المُنشِئ للكَون المُوجِد له الله ويقول في الآية الأخرى (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ..) [آل عمران: 196-197]  قليل.. تعرفوا ما معنى قليل؟؟ قليل (ثمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) [آل عمران:197].

إذاً أين العاقبة؟ أين الإعداد للمُستقبل؟ اقرأ بعدَها مباشرة (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا..) [آل عمران:198] كَسَبوا شيء يَبقى يدوم ( نُزُلًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۗ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ  لِّلْأَبْرَارِ) [آل عمران:197].

(أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ) [الشعراء:205-206]  حُطَمة وهاوية وعذاب (مَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ) [الشعراء:207] ما فائدة السنين هذه؟ ما مَكسَبها؟ ما نتيجتها؟ ما مَصلَحتها؟ (أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ *مَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ) ما الفائدة؟ 

يقول: (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) لكن (وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ ۗ ..) [البقرة:96] تَقعد ألف سنة وبعدها عذاب أليم ما الفائدة؟ ما فائدة الألف السنة هذه؟ وبعدها شيء ما تُطيقُه أصلاً.. ما تقدر عليه.. تعاسَة، بُؤس، سوء، هول، شِدّة، ألم، إهانة. وما مَنفعة الألف السنة؟ من أجل ماذا؟ ماذا أفادَتك؟ ماذا كسَبت من ورائك؟ (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ ۗ ..) [البقرة:96] لو تَعَمَّر بالعُمر ما يزحزحه عن عذاب الله شيء، إذاً ما الفائدة؟.

 

وأين الفَوز؟ 

(فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ..) [آل عمران:185] هذا هو الفوز.. الله الله الله، وكم كرّرت الآيات لنا هذه المعاني.

 ولكن الشأن؛ أحبابنا إخواننا أهل الايمان بالله ورسوله،، إن هذه المعاني نتلقاها من قِبل حكيم عليم قدير خبير رب إله، ما هي تحليلات سياسية ولا علمية كما يُسمُّونها، هذا أكبرُ من كل ذلك، يجب أن تحِل محلها مِنَّة، نحن الذين شُرِّفنا بالإيمان به، وما أجد يُشرّفك بشيء أغلى ولا أعلى من الإيمان به، فإذا أعطاك الإيمان به حافظ على هذا الإيمان وأقِمْه مَقامه، فلا يكون عندك أغلى من الله ولا أعلى.

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ) [الأعلى:1-2] تقوم تتعجّب في الخلق وتنسى الخالق، هو الذي خلق هذا ورتّب هذا ( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ ) علم العالمين وسِحر الساحرين وقُوة المتقوّين وفِكر المفكّرين، خلْقهُ من عنده.. ما الذي يعجبك في هذا وتنسى الذي خلق؟ هذا غاية البلادة، ولكن كم من البُلداء في العالم يرون أنفسهم هم أعقل الخلق؟ بل كلما نقص عقل الإنسان رأى نفسه أعقل وهكذا!!.

 

كلما عقلَ الإنسان عرف قدر نفسه

بعض الأطفال الصغار يرى نفسه أكبر ممن حوله كُلهم، وكانوا يضحكون معه العائلة ويسألونه يقولون له: أنت أكبر أم أخوك؟ يقول: أنا.. يسأل: أنت أكبر ولا عمك؟ يقول: أنا.. يسأل: أنت ولا أبوك.. قال: أنا.. بعد ذلك، ذكروا له السّارية يقول هو أكبر، وذكروا له الجبل قال: هو أكبر، بعد ذلك بدأ يكبر قليلا، صار ماعاد يرضى يكبّر نفسه على إنسان فوق سنّه بقليل فضلاً عن أبيه.. جاءه العقل! 

كلما جاء العقل عند الإنسان يعرف قدر نفسه ويعرف شأن المآل.ولكن كلما يضعف عقله، يقول: من أعقل مني؟ من أعلم مني؟ سواء في دين أو في دنيا، فالبعيدين عن عقل الدّين وفهمه، وصفهم النبي ويظهر منهم طوائف في آخر الزمان يقولون: قد قرأنا فمن أقرأ منا؟ قد علمنا فمن أعلم منا؟ وذكر النبي أنهم من أهل سوء المصير، ما عِندهم حقيقة الدّين وهم يرون نفسهم أعلم، يرون نفسهم أعقل والعياذ بالله تعالى.

إذاً فلنُصغي إلى كلام ربنا لتَعِيَ مِنا الآذان وما قُدِّر لها من ذلك الوعي، هذه تتّرتب عليه المعرفة الخاصة والمحبّة الخالصة والدرجات العُلا، فإن نعيم أهل الجنة في الجنة على قدر ما وَعَوا وذاقوا وعلِموا وعرفوا أيام كانوا في الدنيا؛ كلما قَوي الوعي هنا والإدراك والذوق اتسع تلذذهم هناك والحلاوة للنعيم، فأنت تتنعّم في جنة ربِّك على قدر معرفتك بربك، كما يتعذّب أهل النار في النار على قدر جهلهم بالله (وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ) [فصلت:23] 

ومن أشدّ الجهل أن يتبيّن له وجه الحق ليعرف ربه فيُغالِط ويُعانِد تلْبيةً لحسدٍ عنده أو لحقدٍ أو لتتبع شهواتٍ لا يريد أن ينفك منها فيُناكِر، فهؤلاء من أشد الناس عذاب، وأشد من ذلك أن يُظهر أنه عرف الله بلسانه ويُناكر ذلك ويناقضه بقلبه وجَنانه فيُظهر الإسلام ويُبطن الكفر (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ..) [النساء:145] والعياذ بالله -تبارك وتعالى-.فوجب أن نعيَ.

 

جهْل الإنسان وعدم وعْيه فيما يجري له في تقلُّبات الزمان

قال الله تعالى فيما قَصَّ علينا من الأخبار، ومن جُملة ذلك ما جرى لنا في سفينة نوح، أو أحد منكم انتوا الموجودين أو يسمعنا ما كان في السفينة؟!! وإلا أين كنت؟!! إذا ما مرِّيت في السفينة، لن تكون على وجه الأرض، اللي ما دخلوا السفينة كُلهم أصلاً لم يبقَ لهم نسل ولا ذرية هلكوا ولا عاد أحد، انتهت المسألة لا هم ولا أولادهم إلا الموجودين هؤلاء كلهم -كنا في السفينة-.

 يقول الله: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ..) [الحاقة:11]، على ظهر الأرض (طغى)  كيف ما يطغى؟ (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ..) [القمر:11-12] يقول هذا الهول الذي ما تقدرون تُحصونه، وكميات الماء عندكم حتى تطوّرتم إلى آخر الزمان هل تقدرون تُحصون المياه هذه كم؟

لو يأتون لك بميزان دقيق عن ماء البحر هذا فقط، خلك من ماء البحر الآن (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا)، والسماء انهلّت بماء مُنهمر، ولكن قال هذه كله  بالنسبة لقُدرة العظمة الإلهية (فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قد..) بِقُطرهِ مُقدّر، ولا تزيد قطرة ولا تنقص، الله.

 وبعد ذلك لما أراد أن يغيب بسرعة، كيف يروح هذا الماء؟ بسرعة (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي..) [هود:44]، أنتِ أقلعي وأنت أبلعي (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ..) [هود:44]، نزلت، ثم كم ارتفعت هذه الى فوق -سبحان الله- ونزلت ورجعت إلى الجودي -جبل الجودي- وخرج النبي نوح بعد ستة أشهر وهو في الماء، بين الأرض والسماء من رجب إلى مُحرم، فحمل قومَه في السفينة، وستة أشهر إلى شهر محرم؛ (يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي) سُبحان المُوجد المُعدِم كما يشاء بما يشاء (.. إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) [الحج:18]، (..إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) [المائدة:1]، (فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ) [البروج:16]، "ما شاء الله كان " هذا هو الإله ولا إله غيره سبحانه.

 

مقدمة في تفسير سورة القارعة

إذاً فلنستعد حتى إذا جاءت القارعة كُنا في أمن ربّ القارعة، مامعنى في أمن رب القارعة؟ زيّدوا الكلام في وقتنا الأخير؛ أمن أمن أمن أمن. ويقولون هناك أمن عام، وهناك أمن قومي وهناك أمن سياسي، و أنواع؟!! وعبأوا الناس بكلمة الأمن وفزّعوا الناس بكلمة الأمن، يريدون من ورائها أمن ولكن جاءت لهم بأخواف، صار إذا الواحد رأى الأمن يطمئن، الآن إذا رأى الأمن يتقلقل. على كل حال، ونوَّعوا أخبار الأمن.

لكن أمن رب القارعة هو الذي يُؤمِّنكَ من القارعة ولا أمن غيره، لايوجد أمن ثاني غيره، ما أحد في يوم القيامة سيلجأ إلى أي نوع من أنواع الأمن، إلا إذا كان شيء من عنده، وفي أيام نوح نفسه طريقة التفكير عند ولده الكافر.. لماذا؟ (.. يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ) [هود:42]، قال هل هذا من شأن الماء الذي سيأتي؟ (قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ۚ) [هود:43]، يقول سيدنا نوح هذا رب الجبال، اترك الجبال، إذا قد جاء أمره ما عاد يعصم منه  جبال ولا سماء ولا أرض ولا غيرها إلا هو قال له (.. لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ  ..) [هود:43]، (إِلَّا مَن رَّحِمَ) -لا إله الا الله-.

يقول عن عذاب القيامة: ( مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ) [الأنعام:16]، إن  وُجدتْ الرحمه هناك أمن وإن لم توجد ما في.

 

من أحقُّ بالأمن؟

سيدنا إبراهيم يُبَيِّن حقيقة الأمن مع قومه قد تباحث في قضية الأمن من قديم، يقول: (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ) ألا تشركون مَن عندكم (وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا ۚ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ )، ( فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [الأنعام:81]، فريق عبارة عن فرد واحد، تتجمع عليه قُوى؛ الدولة والشعب، وبعد ذلك أيّ الفريقين أحق بالأمن؟ يطلع هذا الفرد الواحد هو أحق بالأمن، يوقدون له النار (حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ) [الأنبياء:68]

لكن من أحق بالأمن؟ هو ذاك الواحد لأنه آمن بالله وصدق مع الله فأمّنه الله وبعد ذلك (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ) [الأنبياء:69]، وكان في قدرة الله إنه ما يمكِّنهم أن يمسكوا إبراهيم فهم ان يمسكوه. 

ما يُمكِّنهم -سبحانه وتعالى- من سحابة فوق النار قليلا وروّحت واختفت النار، ولكن يريد أن يُرَيَهم مقدار أمن مَن يستحق الأمن كيف يكون، كانوا يقولون أووه لو ما جاءت المطر لكنا اتعبناك وعملنا بك، ولو ما فلت علينا وقدرنا نمسكه ولكن قدرة الله؛ نمسك إبراهيم ولا شيء مطر ونضعه داخل -النار- وسنرى ماذا يحصل، ماهذه  العظمة!! هذا هو الأمن (يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ)، (وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ) [الأنبياء:70]، والآية التي قبلها (فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ) [الصافات:98] وقعوا هم الأسفلين والأخسرين، لأن ما في أمن جاءهم، كيف ما في أمن والقوة كلها عندهم!! وذاك واحد، لكنه واحد متصل بالواحد، واحد متصل بالواحد، الذي ليس قبله شيء.

 

قصة سيدنا جعفر الصادق مع الملحد

جاء واحد ملحد يقول لسيدنا جعفر الصادق يقول: أنتم تقولون أن الله خلق السموات والأرض، قال: نعم، قال: طيب، إذاً من خلق الله؟ -يقول هكذا الملحد- قال: يا هذا أتعرف العدد؟ قال: نعم قال عُدَّ من الواحد صعوداً، عَدَّ واحد اثنين ثلاثة إلى عشرة، طيب تعدّ من العشرة هبوطاً قال: نعم قال: عد من الواحد هبوطاً، عد من الواحد هبوط قال: ليس قبل الواحد شيء، هذا الملحد قال: ليس قبل الواحد شيء. قال: يا هذا فهو كذلك، ليس قبل الواحد شيء! 

 

ليس قبل الواحد شيء

 عندك عدد أنت تقول لا بد يتكوّن منه، لكن الواحد الأول كيف؟ لاشيء قبله قال: هذا هو، أنت تُنكِر علينا، قلنا لك واحد خلق كل شيء، تقول لي؛ من قبل الواحد؟!! قلت ليس قبل الواحد شيء! فهو كذلك ليس قبل الواحدِ شيء!.. مثال عجيب في العدد، الناس كلهم يعدون لكن بعد ذلك يقفون، انتهى، ماذا قبل الواحد؟! ما في قبل الواحد..

وبعد ذلك، هذا الواحد إذا تجلَّى مرتين رجع اثنين، إذا تجلَّى ثلاثة رجع ثلاثة، إذا تجلَّى أربعة… وستكتبه بعد ذلك بأي رقم كان من أرقام اللغات المختلفة، هو ذا الواحد شكله يتقلّب؛ ساعة يتقوّس، ساعة يترفّع، ساعة ينقلب جهتين، هو ذا الواحد، فإذا جئت تكتب الواحد خط هكذا، تريد اثنين، نفس الخط تقوِّسه إلى جهة اليمين يصير رقم إثنين. إذا تريد ثلاثة؛ نفسه زد في التقويس هنا وهنا،. تريد أربعة؛ نفس الواحد قوِّس الطرفين الأوليين والآخريين يتكوَّن لك الرقم أربعة، لو أريد خمسة، تعال لنفس الواحد اجمع طَرفهِ الى طرفهِ الآخر وصار دائرة ورجع خمسة. نفسه أريد ستة، مرحباً، نفس الواحد قوِّسه إلى جهة اليسار وفوق. أريد سبعة؛ الواحد نفسه مدهُ إلى الجانبين؛ هذا الجانب وهذا الجانب تكوَّن لك سبعة الى الجهة الفَوقية. بل أريد ثمانية نفسه بس حوِّله إلى جهة تحتية. أنا أريد تسعة؛ نفس الواحد من فوق قَوِّسه مدوّر، رأسه تسعة، وبعد ذلك ما تحصِّل رقم إلا هو راجع إليها كلها؛ عشرة، إحدى عشر، اثنا عشر هو نفسه، لا توجد أرقام ثانية، زيِّد كذا كذا، لا يوجد إلا واحد، إثنين، ثلاثة من عند واحد لعند تسعة لا يوجد غيرها، والأصفار ذي التي تزيد الرقم..

اسمع إن كان فيها تجلِّي الواحد واعتباره تتكوَّن لك أرقام كبيرة، أما من الشقِّ الثاني من دون أن تعتبر الواحد هذا، ضع لك أصفار لمَّا تشبع؛ صفر صفر، لا شيء، ضع صفر صفر لما تشبع، بعد ذلك إذا جئت من الجهة الأخرى؛ الصفر بعد الواحد يردّهُ لعشرة،الصفرين تصبح مائتين. لكن لما تريد تتقدم على الواحد من الشق الثاني، تقدم الى أن تشبع يبقى صفر، لا شيء.

 لا بد من الواحد "وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد" جلّ جلاله وتعالى في علاه.

 

كلما زاد إيمان المؤمن، زاد وعْيه في فهم خطاب ربه

فيقول الله لنا؛ وجِّهْ الخطاب لأقدر الخَلق في وَعيه وفهمه وترجمته للخلق ( الْقَارِعَةُ  (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3)) الله، خطاب عظيم تهيأ له قلب النبي وذاته وأدَّاه إلينا وإلا لتفطّرت منا الأجساد والعقول وما قدرنا نحتمل هذا الخطاب، في مسألة السفينة التي ذكرناها قبل أن نخوض في الكلام يقول: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً) [الحاقة:11-12]، الآن لو رجعت إلى روحك بشيء من الصفاء واخلصت النية، أو لو أدركت نصيب من الصفاء في رمضان تتذكر؛ كنت في السفينة (لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً  وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) [الحاقة:12].

وكانت من أوعى الآذان لهذه المعان، آذان الذين استمعوا القرآن من عند من أنزل عليه، فالصّحب الذين كانوا حواليه يقرأ عليهم القرآن كانوا أوعى لمعانيه، وهم على مراتب ولما نزلت هذه الآية أشار النبي لسيدنا علي قال: (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) [الحاقة:12]. قال: " اللهم اجعلها أُذنُ علي بن أبي طالب " فكان عنده من الوعي في أسرار الكتاب ما لا يتّسع له غيره، ولهذا السر جاء حديث: " أنا مدينة العلمٍ وعليٌ بابها " 

ولهذا السر كان ساداتنا أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- في خلافتهم ثم عثمان إذا اختلفت الآراء في مسألة من مسائل العلم في الدين، نظروا إلى رأي علي فلم يكن أحد منهم يخالفه، يقضون برأيه في مختلف من الحوادث حصلت والمواقف إذا تباينت فيها أنظار الصحابة، الخليفة ينظر إلى ما قال علي يمضي عليه -عليهم رضوان الله- هم أوعى الناس لأسرار القرآن

 

خصوصية خصَّها رسول الله للصحابة دون الناس 

وأشار سيدنا علي بهذه الخصوصية هل خصكم رسول الله دون الناس بشيء؟ قال: لا إلا فهماً يُؤتاه أحدنا في كتاب الله، ولذلك جاؤوا مرة بامرأة تزوجت بعد ستة أشهر ولدت، عرضوا على سيدنا عمر فهمّ بإقامة الحد، كيف ستة أشهر وتولد ولد؟ وأقبل سيدنا علي قال: اعرضوا علي المسألة، قال: المسألة.. قال: هو ولد الزوج ومنسوب إليه قال: من أين جئت بهذا؟ قال: من كتاب الله، قال: أين هو؟ قال: إن الله تعالى يقول:(وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) [الأحقاف:15]، ثم يقول في الآية الأخرى (وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) [لقمان:14]، والعامان أربعة وعشرون شهر فكم بقي من الثلاثين شهر؟ ستة أشهر (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) [الأحقاف:15]، خلاص، إذا ولدت بعد أن تزوج بها بستة اشهر فالولد ولده ومنسوب إليه، وكان الحُكم كذلك، وفي كلام سيدنا عمر: "بئس المُقام بأرض ليس فيها أبا الحسن " عليهم رضوان الله.

 

لماذا سُمِّيت السورة بالقارعة؟ 

وهكذا يقول الله لنبيه (الْقَارِعَةُ (1)) اتفقوا أنه إسم من أسماء القيامة، لماذا سميت بالقارعة؟ القرع ضرب الشيء بقوة -ضرب- ولماذا يوم القيامة قارعة؟ قارعة وحاقة وواقعة، أسماء جاءت تدل على الهَول، لأن فيها معانٍ من القرع الشديد كثيرة، فبداية القيامة تتناثر الكواكب وتتقرّع بعضها ببعض، الله، وكيف صوت الكواكب إذا تقارعت؟ (وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ) [الانفطار:2]، (وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ) [التكوير:3] (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ) [الحاقة:14]، ما القرع هذا؟ ما الضرب هذا؟ ما هو صوت انفجار في الدنيا هذا (يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا) [الطور:9]، وفي قرع (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ) [الفرقان:25]، (إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ) [الانشقاق:1] شق سماء، ما عاد شق جبال، شقُّ سماء: (إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ) (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ  * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ) [المعارج:8-9]؛ هذا قرع..

بعد ذلك أهوال في القيامة تقرع القلوب، والكفرة والفجرة شأنهم شديد (يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَٰذَا يَوْمٌ عَسِرٌ) [القمر:8]، ماذا يقول؟ عسر صعب لأن أهواله شديدة، يقول الله تعالى (الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2)) ما القارعة؟ أي شيء هو القارعة؟ وما معناها؟ معناها أنه كل ما تصورت من القرع عندك في الدنيا هو بالنسبة لذاك اليوم ما هو شيء، ما يساوي شيء، ماهي القارعة في الحقيقة؟ الله.. (مَا الْقَارِعَةُ) أي شيء هي القارعة، القارعة أي شيء "ما" خبر مقدم "والقارعة" مبتدأ.

يكرر الأمر ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3)) يعني شؤون هذه القارعة فيما تقرع به القلوب من أهوال لا تكاد أن تحاط بها أو أن تدرك لعظمتها (وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) [الزمر:47]، فما هناك قوة تستقل بإدراك جميع أهوال ذلك اليوم ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ).

 

وصف يوم القارعة

فذكر من وصفها بعد ذلك (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ (5))، هو ذاك يوم القارعة، اذكر يوم يكون الناس كالفراش المبثوث هذا الفراش المنتشر المفرّق والذي يتهافت على النار؛ الناس في كثرتهم في القيامة مثل هذا الفراش المبثوث زمر زمر والأيدي كل واحد منهم يتبعون الداعي من شدة الهول (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ) قال في الآية الأخرى: (..يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ..) -من القبور- (..كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ) [القمر:7]، في الكثرة شبههم بالجراد، وفي التفرّق شبههم بالفراش (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ).

 

الشفيق الرحيم بنا يريد انقاذنا من النار

وقد ضرب النبي المثل لنا وله بما بلَّغنا عن الله قال: " إن مثلي ومثلكم كمثل رجلٍ أوقد نارًا فجعل هذا الفراش يتهافت عليها قال: فأنتم تتهافتون علي في النار وأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقحمون علي فيها "، أبلغكم رسالات ربِ أنقذكم من النار قال: وأنتم تتقحمون مثل الفراش الذي يقع في النار وذكر حتى كيفية الإنقاذ بالتعبير "أنا آخذ بحُجَزِكم" الذي يأخذ بحُجزتك يكون رفيق حكيم بك، يمسكك من مكان يسلم به جسدك كله، أما لو مسك بإذنك ستنقطع وإلا بيدك يخلعها من محلها وإلا برجلك وأنت ستسقط -يخلع رجل من محلها بعد ذلك لن تسلم وستسقط- لكن بحُجْزَتك؛ كلَّك ترجع تمام سالم، "وأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقحَّمون عليَّ" تتناسون كلامي وأمري وسنتي، وكأنما قلت تلبية لشهواتكم الفانية أو لشيء من أغراضكم الفاسدة، تقحّمون علي فيها، اللهم ارزقنا حسن اتباعه وامتثال أمره.

(يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4)) وتكون الجبال الصلبة القوية الآن (كالعهن) صوف منفوش مندوف رطب وندف صار رطب يفِر به الهواء الجبال في الصلابة تصير مثل هذا الصوف ( وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ (5)) صوفاً قد نُدِف فصار متطايراً رقيقاً خفيفاً ، الله

 

صورة من صور يوم القيامة

(وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ) فتمر الجبال بمراحل:

  • تُقلع من الأرض وتُدَك مع الكرة الأرضية واحد
  • بعد ذلك تصير كالعهن المنفوش 
  • وبعد ذلك تُنسف نسفاً وتصبح ماعاد لها أثر(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا) [طه:105-106] مستوية تماماً.

(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ) [ابراهيم:48] (فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا) [طه:106-107] لا طلوع ولا نزول، أرض بيضاء مستوية يحشر الناس عليها، تمتد الكرة الأرضية تتسع تبدأ أرض المحشر من فلسطين عند بيت المقدس يبدأ التجمع هناك ويساقون إليها، لكن ما عاد فلسطين فلسطين، معالم الأرض تغيرت وتبدلت.

ويبقى ما اتصل بالباقي يُحافظ عليه ويظهر من أجل أن يعرف الناس جزاء ما عملوا وما لقوا في أيام الدنيا، وكل الأعمار توصل بالناس إلى هذا اليوم يوم القارعة (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ (5)) فعسى بركة العمر حتى إذا جاء ذاك الوقت كنا مع الأخيار في ظل عرش الله، وفي دائرة محمد بن عبد الله، إلى دار الكرامة عند الله، اللهم آمين.

 وبعد ذلك كلٌّ يعرف ميزانه كما نقرأ بقية السورة إن شاء الله تعالى مما يقبل علينا ولعله وهو الغالب أن يبقَ معنا رمضان في يوم الغد فيكون يوم الثلاثين ونختم به الشهر الكريم ونستعد لما بعده إن شاء الله  بنورانية الشهر وبركته التي تكسبنا حسن إقبالٍ وترتيباً لبقية الأعمار كما يحب واهب العمر لنا كما يحب منا، حتى نلقاه وهو راضٍ عنا، اللهم آمين.

 

الدعاء والفاتحة 

بارك لهم في مجالسهم وبارك لهم في لقاءاتهم فإننا قعدنا وإيّاهم على هذه الموائد نطلبك ونقصدك ونسألك نطلب رحمتك ونؤم نفحتك ونتعرّض لمنّتك، فتوفيقك قادَنا بالإيمان بك حتى وقفنا في مجالسنا هذه نطلب ما عندك، وحاشاك أن تخيّب من قصَدَك وتَرُدَ من طَلبَك أو تحرِم من رَجاك لا إله إلا أنت.

 وفر حظنا من رمضان أيامه ولياليه والساعات الباقية فيه، واجعلنا عندك من خواص أهليه ولا تجعل آخر العهد من رمضان يا رحمن، واعدنا إلى أمثاله في صلاح وفلاح ونجاح وسعادة وحسنى وزيادة ونيل غايات الآمال في استقامة وتحب الكرامة  وتفريج لكروب المسلمين ودفع للبلاء عن المؤمنين أجمعين في خير ولطف وعافية.

 

 بسرِ الفاتحة 

وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه، 

الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

29 رَمضان 1435

تاريخ النشر الميلادي

26 يوليو 2014

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام