(536)
(228)
(574)
(311)
تفسير الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لسورة الفاتحة وقصار السور بدار المصطفى ضمن دروس الدروة الصيفية العشرين في شهر رمضان المبارك من العام 1435هـ.
﷽
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ (5))
الله لا إله إلا هو، به آمنا وعليه توكلنا وإليه أنبنا، وعليه اعتمدنا وإليه استندنا وهو ربنا وإليه المصير، كما كان منه المبتدأ لا شريك له في ملكه ابتداءً ولا انتهاءً، لا إله إلا هو (وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ * وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا * وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَىٰ * وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ * وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَىٰ * وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَىٰ * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَىٰ * وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ ۖ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَىٰ * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىٰ * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّىٰ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَىٰ) [النجم:42-55].
ولله الحمد أنْ جعلنا في خير أمة، وأكرمنا بنبي الرحمة، حَفِظَ لنا كتاباً أنزلَهُ عليه جعله منهاجه ومعجزته، وجعله مهيمنا على جميع الكتب التي أنزلها على أنبيائه ورسله صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، وعلى آله وصحبه وآلهم وصحبهم، وعلى أهل محبته وقربه ممن سار في دربه إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وفي نعمة ما آتانا الله مِن هذا الكتاب الذي نتشرّف فيه بِسامي وشريف وعالي وكريمِ الخِطاب مِن ربِّ الأرباب، يتولّى البيان لنا والتعليم لنا والهداية لنا والإرشاد لنا والنُّصح لنا، سبحانه وتعالى على لسان رسوله أمينِ الأمناء، وفَطِنِ الفُطَنَاء، سيد المرسلين وخاتم النبيين محمدٍ أحسنِ من بلَّغ عن الله النبأ، ومَن شرَّفَ الله به طَابةَ ووادي قُباء، صلِّ اللهم وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أبداً سرمداً، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين طُولَ المَدَى.
وبعدُ،،
فقد تأملنا بعض معاني سورة قريش وما امتنَّ الله عليهم بالإطعام والأمن، وهما القِوَامَانِ في الحياة التي يتباهى الدول وأرباب السلطاتِ في العالم أنهم يوفرونهما أو يأمنونهما، ثم لم نجد بقعة في العالم إلا وفيها كثيرٌ من حوادث الإخلالِ بالأمن وكذلك الاعتداء ووجود أرباب الفقر والحاجة، فما شأن دعاوي جميع السلطات على ظهر الأرض، إلا نوعٌ من اللعب والضحك واللهو وهو كذلك.
ولكن لا نجدُ ممَن أحسنَ تطبيقَ منهج ربِّه في نفسه إلا ونازَلَهُ مِن معاني الأمن وتيسير الرِّزق ما يجعلهُ تحتَ دائرةِ الخصوصيّة وإنجازِ الوعود الربانيّة في سيرةٍ سويةٍ وحالةٍ عليَّة حتى تأتيَه المنيَّة؛ (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْض)، فمن أين الخلل؟ (وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف:96]؛ (وأن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا) (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم) [المائدة:66]؛ هذا الواقع في حياة البشر.
وكلُّ ما مُدِحَت شيء من مظاهر الرفاهية أو تيسير المعيشة أو وجود نصيبٍ مِن الأمن في بقعة مِن البُقَاع، كان ذلك جُزئياً ونِسْبياً ووقتيَّاً، تُسَلَّط عليه الأضواء للدعايات وأمثالَها ثم لا تخلو البلدان مِن عصابات وشدائد وآفات وما إلى ذلك.
وأخونا الذي أكرمه الله بالإسلام من ألمانيا كان قبل سنوات هنا سُمِّي مُخلِص، ثم تكلَّم بعد إسلامه -عنده بعض الناس- وتحدثوا عن بعض المشاكل التي تواجه الناس في الأَمِن، قال: أنا ذهبت الى بلدان كثيرة، ولكني ما تعرضتُ للنهبِ ولا أخذ ما عندي إلا في بلدٍ من بلدان التقدم والتطوّر، في أكبر دول العالم ما بين أمريكا وأوروبا نتعرَّض، أخذوا كل ما عندي وأخذوا كل شيء ولا قتلوا العصابات؛ هذا واقع ومظهر من المظاهر الذي ربما لا يُعطيه إلى الأذهانِ دعاياتُ الإعلامِ وما إلى ذلك.
ولكن حُكمٌ صدرَ مِن حين نزول آدم برزَ إلى الأرض: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ) [طه:123-124]؛ لا تقوى قوةٌ ولا تقدِّر، قوةٌ في الأرضِ ولا في السماء أن تُعطِّل هذا الحكم أو تُبَدِّلُه، فإنه حكم خالقِ السماء والأرض وموجدِ كل شيء سبحانه وتعالى، فهو القائم على ظهر الأرض، تبقى الاغتراراتُ كثيرة؛ ومن جملةِ ذلك في هذه الحوادث التي نجد الله امتنَّ على قريش عند ذكر الأمن من الخوف وذكر الإطعام من الجوع (أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) [قريش:4].
يقول الله سبحانه وتعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل:112]، وهذه نتيجة لصنع الجرائم وصنع المخالفة لأمر الله -لَمَّا كفُرَت بأنعمِ الله- كانت دولة عربية مشهورة بكثرة الأموال وكثرة الرفاهيات والحريات وما إلى ذلك، وغدَق من الأمطار ومن الأشجار ومن توفير أنواع المأكولات والخضار وأعمال والتجارة وما إلى ذلك، مرَّت عليها فترة على ذا الحال، وبعد ذلك قامت بينها مشاكل وحروب ودقدقة وأشياء، وكان الذي يريد أن يتفرَّج ويتسيَّح حتى يتوسَّخ على قولهم وشيء مِن هذا يذهب إلى تلك البلد، فصار إذا أراد أن يسمع أصوات البنادق والمدافع يذهب إليها أيضاً.
وفي فترة من الفترات، قال لي بعض الذين خرجوا إلى تلك البلدة للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، يقول: جاءوا جماعة إلى مسجد كبير وسط السوق قالوا هذه الفرصة سيكون فيه الجمع مِن أجل أن نتذاكر وإيّاهم ندعو إلى الله، قال: فدخلوا بعد أذان المؤذن منتظرين حد يدخل، ما أحد.. والمؤذن وحده جالس إلى أن جاء الإمام، وأقام الصلاة فما أحد إلا هم؛ -الذين سيدعون أهل هذا المسجد الكبير- وكان محيطة به الديار والسوق من حواليه، لا أحد إلا هم، ولا أحد دخل من أهل البلد الى المسجد.. عجيب! قال: لا أحد إلا المؤذن والإمام وهؤلاء الغرباء من خارج الدولة هم. اصطفُّوا في صف، وفي أثناء الصلاة اختفى المؤذن! تعجبوا ماذا طرأ عليه؟ وإلا ذهب الى مكان آخر؟ عجيب.. وسلَّم بهم الإمام، بيذكِّرون الإمام وحده ويتكلمون وإياه، وتكلموا وخرجوا. قال ولما خرجنا وجدنا المؤذن على الدِكَّة قاعد يتفرّج على السوق! هذا الذي أذَّن وما عاد صلى معنا؟! أنت الذي أذَّنت؟ قال: نعم، وأقمت الصلاة؟ قال: نعم، مارأيناك؟ قال: أنا مُستأجَر على الأذان والإقامة ليس على الصلاة! أنا موظّف عندي أجرة على الأذان وعلى الإقامة، وليس على الصلاة!
وكان إذا ذُكرِت تلك الدولة ذُكر الحبيب عبد الله بن حسن بلفقيه عليه رحمة الله، أحد شيوخنا توفي في عام 1400، يقول ما ينطبق عليها إلا قوله: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل:112]، قال تمام منطبق على هذا. وبذلك الطغيان أقاموا أماكن الفساد وأماكن الشر وأماكن الضُر وأباحوا ما حرَّم الله إلى غير ذلك، فهذه النتيجة الحتمية، وليست لهم وحدهم -تقع عربية تقع عجمية تقع غربية تقع شرقية- هذه نتائج صاحب الحُكم، ما هذا الاغترار بالصور القائمة؟!
(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا) [العنكبوت:41]، أيها المؤمن الصائم رمضان، أترضى الاستناد على بيت عنكبوت؟! اعتماد على بيت عنكبوت؟! كُلُّ مَن يُستند إليه غير الله منْقطع عن الله بغير بيانٍ ولا هدىً من الله كمثل العنكبوت اخذت بيتًا وإن كان حزب وإن كان دولة وإن كان خطة وإن كان جماعة - اذا كان مخالفة لأمر الله، هل ستعتمد عليها؟ أنت مثل من يعتمد على بيت عنكبوت، إذا اغترّيت هذه السنة فلن تغترّ السنوات القادمة- خذ لك سنتين، خذ لك أربعة، خذ لك خمس، وسترى غرورك أنك كنت تعتمد على حصن من بيت العنكبوت (كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا ۖ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ ۖ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت:41].
لكن كلمة "لا إله إلا الله" التي أنزل الله بها آدم إلى الأرض وبعث بها الأنبياء، انظر إليها كيف هي مُدَويَّة في الوجود وقائمة وباقية والمرجع إليها في الآخرة أيضاً لا ينجو إلا أهلها، ولا يدخل الجنة إلا أهلها، اللهم حققنا بلا إله إلا الله. (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا) [ابراهيم:24-25]؛ كم شِعارات قامت غير لا إله إلا الله ومضادة لـ "لا إله إلا الله" من أيام آدم إلى اليوم، لا تُحصى، شعارات شعارات شعارات وعليها صياح وعليها وسائل نشر وإعلام وو، وتذهب تذهب تذهب، وهذه الكلمة ما ذهبت ولن تذهب، وهي مفتاح الجنة، ثبتنا اللهم عليها، مرّ من عمرنا القصير نحن فقط ورأينا كذا كذا شعار، وانتهى سقط روَّح.
وسط هذه البلدة؛ أنا حضرت جمعة، كان الخطيب بالقوة يُمجِّد ويعظم واحد مسؤول عظيم فيها ويدعو له بالقوة، ونفس القوة في الأسبوع الثاني يسبُّه! الخطيب نفسه الجمعة الماضية كان يجيب ألقابهم وهذه الشعارات الفاسدة الي ليس لها شيء، في الأسبوع الثاني تغيرّت السلطة حصل بينهم صراعات ونزاعات، يقول: انحرف فلان وو وسب عليه! هو نفسه، عجيب! والسلطة التي فرضت مدحه في الأسبوع الثاني فرضت ذمه وسبُّه! ماهذا الاغترار بسلطات الدنيا هذا؟! هذا في عمرنا، طيب عاد في عُمُر أبي قبلي وعُمر جدي! يا كم عجائب!! في بلدتي وحدها! فكيف باقي البلدان؟! أين العقول؟!
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1))، أمَّن القوم من الخوف وأطعمهم من الجوع -جلّ جلاله وتعالى في علاه- تيسيرٍ وتدبيرٍ، وذلك أن كُلَّ ما تمَّ تحتَ ظِلالِ الأسباب فالقوةُ الحقيقيةُ المُصَرِّفة له والمُتَصرفة فيه والمقيمة له المُسبِّب.
وهذه قريش هنا بهذه الصورة وعندهم بيت عجيب وتعظيم له هنا وهناك ويمشون آمنين بالقوافل ويرجعون. لا البيت ولا القوافل ولا رحلة الشتاء والصيف ولا أوصافهم هم وشيَمهم وما عندهم من خير ومن شر، ولا الحكام الموجودين في ذاك الوقت، الله كان يرعى هذه الدائرة، وهذا البيت، وهؤلاء الساكنين حولَه وهو(الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ)، (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) [قريش:4-5]، ليست الدول القائمة ولا القبائل التي تهابهم هي التي أطعمتهم.
كل شيء تراه بعينك قائم تحت ظِلِّ أسبابٍ كثيرة، فاعلم أن القوة الفعّالة لتدبيره المسبب نفسه، وبمجرد أن يريد، لا هذا السبب ولا ذلك السبب ينفع، ينتهي كل شيء، فهو الفعَّالُ (إنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ) [ البروج: 13].
وتأمل هذه الثورات القائمة في البلاد العربية منذ خمسين، ثمانين سنة، هذه الثورات كم مرّت عليها أوجُه وتعاقبات ورؤساء؟ وما ثبتت على وجه من يوم قامت؛ بعد ذلك وجه ثاني ثم وجه ثالث ثم وجه رابع، وأصبح تاريخ عجيب وكلها حديثة جاءت في العصر الحديث ولها تاريخ غريب عجيب مذهل وصراعات قامت بينهم وكل واحد رفس الثاني وكل واحد كذب على الثاني ومخادعات ومكيدات، وذا يروح وذا يروح بعد ذلك، لكن المُلْكُ القوي بيد القوي، والمتَّقِي يؤيده هذا القوي، حتى لو انطبقت السماء على الأرض لجعل الله للمتقي منها مخرجاً (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق:2-3]، هذا ليس وعد دولة، هذا ليس وعد مؤسسة، هذا ليس وعد أنظمة في العالم، تقول لك يوم كذا وثاني يوم تقول لك كذا، تغشّك بذا وتأتيك من هنا ثم من هنا، تِتْقَلَّب لك (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا) [العنكبوت:41].
يقول سبحانه وتعالى في سورة الفيل قبل ذلك -وسمّاها سورة الفيل نسبة لهذا الحيوان الكبير الذي كان مقدما في الجيش- ومعه أفيلة؛ قيل 8 قيل 12 قيل غير ذلك، ولكن وحَّد الفيل الى واحد لأن العظيم الذي تبالَغ في العِظَم واحد، وهو مقدّم كان يسمى "محمود" وهو محمودٌ على اسمه، عظَّم حُرمة هذا البيت هو هذا الفيل، لكن ليس من فعله هو أيضاً في النهاية فيل، لكن خالِقُه رب البيت هو الذي رتَّب المسألة، وليس الفيل ولا غير الفيل.. سبحان الله.
وأصحاب الفيل هؤلاء جيشُ أبرهة، ومَن أبرهة؟ أبرهة: ملك في اليمن تابع للحبشة، ما الذي جاء بالملك من الحبشة يحكم اليمن؟ كانت حِمْيَر تحكم اليمن، حتى كان فيهم واحد يُسمى "نَوَاس" مشرك، وهو الذي قام على أصحاب الأخدود في نجران هذه، وقتَل الغُلام والذين كانوا مؤمنين نصارى تلك الأيام، وتتبَّعهم يُقتِّلهُم، ففر منه بعضهم وتوجَّه إلى ملك الشام وكان نصرانياً، وبحكم عاطفة الدين عرضَ عليه الأمر يستنصره فأرسله إلى ملك الحبشة لأنه أقرب إلى اليمن وأقدر على القيام بالشيء، فكتب إلى ملك الحبشة.. فملك الحبشة أرسل إثنين؛ أرسل أبرهة هذا وأرسل معه أرياط -أمراء على جيش- وجاءوا إلى نواس وأخذوه وقاتلوه وأنهوا حكم حمير وحكموا اليمن، ثم تنازع الاثنان -أرياط وأبرهة- وخذ لك من خبر عالم الدنيا، تظن إلا حديث الساعة؟ فالساعات كلها متشابهة، من أيام آدم إلى أن تقوم الساعة.
الساعات متشابهة والحوادث متشابهة في العالم (..كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ ۘ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ..) [البقرة:118]؛ هذه النفسيات وطريقة التفكير واحد، حكم وسلطة وكرسي ذا يبغى وذا يبغى، أو لا؟ صلَّحوا لك حزبين بعد ذلك، وحزبين أحسن من مائة حزب، وعلى كل حال، حياة البشر هكذا، بعضهم يفتخر بكثرة الأحزاب! كثرة أحزاب على أسس قويمة سليمة؟ تحفظ الكل من الكل؟ نعم. لكن كثرة الأحزاب على البليات التي نراها أمامنا هذه؟ّ! مظهر حرية ديمقراطية؟! هذا مظهر لعب بالعالم، هذا مظهر سفَه واستهانة بالإنسان في الوجود ويفتخرون! قل لهم: ارجعوا إلى محمد، اتركوا اللعب هذا والسَّفَه والضحك على العقول، الله ورسوله هم الذين يعرفون ماالذي يصلحنا ومالذي سيقيم الناس على الأرض على المنهج القويم، فيا ربِّ ثَبِّتنا على الحق والهدى.
(قَوْلُهُ الْحَقُّ ۚ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ ۚ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) [الأنعام:73]، (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا ۚ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ) أنا ولا أنتم (إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [الأنعام:81]، يا متحصّنين ببيت العنكبوت وأنا متحصّن بالحي الذي لا يموت (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)؟ (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) [الأنعام:82]، اللهم اجعلنا منهم.
تنازع أرياط وأبرهة، كل واحد يريد أن يحكم، وإلى أن اصطفَّت الجيوش هذا تبع هذا وهذا تبع هذا كما يفعلون، وقد يأتي قليلا من العقل أحياناً إلى هؤلاء المتنازعين يصون بعض الدماء، قال اسمع بدل ما نترك الجيش يتقاتلون بينهم البين، أحسن أنا وإيّاك نتقاتل، أنا وأنت، وهذه أقرب إلى الديمقراطية من ديمقراطية هذا الزمان، أو لا؟ قال: لا تدع الخلق يتقاتلون وأنا قاعد في القصر، ما هذه الديموقراطية؟ زمان قديم. قال: دع الجيش، إذا أرادوا أن يتقاتلون وأنا وإيّاك سنتقاتل والذي يغلب يأخذ الجيش وانتهينا، فأجابه الثاني إلى ذلك.
لازالت بعض عقلية الناس ليست ملطخة كثيرا بالبلبلة الموجودة الآن: تقدُّم تطوُّر حرية كلام فارغ، كذب في كذب.. لكن هذا قال: قبِلنا، تقابلوا.. وقام أرياط وضرب هذا وشَرمَهُ في أنفه وفي جبهته، وشقّهُ، صار يسمى الأشرم بعد ذلك أبرهة الأشرم، وهذا حمل عليه وجاء مساعده وقتل أرياط، فتحوَّل مُلكُ اليمن إلى أبرهة.
ولمَّا بلغ المَلك في الحبشة أنهم عمِلوا هكذا غضِب، وكتب إلى أبرهة يهدده وأنه سيطأ برجله بلده وسيقص ناصيته -سيحلق ناصيته- حلف له على ذلك، وكان صاحب سياسة ويريد الكرسي، ترفَّق وتلطَّف بالمَلك وأرسل إليه: أنا تحت أمرك وما قمت بهذا إلا من أجلك وسأجعل اليمن في حكمك وأنا ووو، وجَزَّ ناصيته ووضعها في وعاء وأحضر مِن تربة اليمن ووضعها في الوعاء والناصية وكتب إليه: ولأجل أن تبرَّ بيمينك، هذه تربة اليمن وهذه ناصيتي أتيتها لك ضع رجلك عليها وأنا تحت أمرك ويتنفّذ يمينك، ولما وصلته هذه الأخبار أُعجب بهذا وفرح منه ورضي عنه، واكتفى بهذا ووطأ برجله تراب بلاده وفي الناصية.
والنتيجة أهل السياسات قصصهم مثل هكذا، على كل حال، مكَّنه من اليمن وأقرَّه على المُلك، واتسع مُلكه ورأى الناس في كل سنة؛ أَرسال أَرسال يذهبون الى مكة -الى الكعبة- قال: دع جميع العرب يأتوننا، سنبني كنيسة كبيرة، بيت لهذا المَلك، والعرب جميعهم بدل أن يذهبوا إلى مكة نحوِّل حجّهم إلى هنا في صنعاء والى الكنيسة الكبيرة التي سنبنيها، وهكذا الإنسان سيبني كنيسة مقابل بيت الله! الإنسان هذا غريب الأطوار! قبل قليل كنت مهددا من ذلك الملك والآن تريد أن تواجه مَلك الملوك؟ هكذا الإنسان (إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ) [العلق:6-7]، رأى اليمن تحت حكمه وأمره والمملكة تتسع، فكّر أن يعمل كل شيء.
على كل حال، يريد أن يبني له بيت بدل بيت الله سبحانه وتعالى!!! بنى كنيسة ضخمة، إذا نظر إلى جدارها تسقط قلنسوته من ارتفاعها، حتى سموها "قلْسوَّه" تِسَقِّط القلانس من طولها وزخرفها، وكتب للملك: إني بنيت لك كنيسة لم يُبنَ مثلها، ولا أزال حتى أصرِفْ حجّ العرب إليها، والعرب غضبوا وتأثروا، لأن لهم عهد ببيت الله، حقيقة من أيام آدم، ليس ملك للعرب ولا لغيرهم، (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) [آل عمران:96]، من ربِّ الناس للناس ولكن هؤلاء بقوا محافظين من بعد إبراهيم، وهذا رتَّب هذا الترتيب فغضِبَ العرب.
فجاء بعض العرب مُتخفّيًا حتى دخل في الليل الى الكنيسة ووضع قذَرُه ووسخه فيها وقعد يوسِّخ فيها وفي قبلتها وفي كل محل، وجاء الساسة في اليوم الثاني فوجدوا هذه القاذورات والأوساخ فبلَّغوا الخبر لأبرهة، ما هذا! من الذي تجرأ على كنيستي! قالوا: واحد منهم هؤلاء العرب من أهل ذلك البيت الذي تريد أن تصرف الناس عنه، سمع ما قلتم فجاء، قال: الآن لأذهب إلى بيتهم هذا وأُهَدِّمُه حجرا حجرا ولن أترك فيه شيء، وكتب إلى َملك الحبشة: عمل العرب كذا وكذا وعملوا في كنيستك وعملوا والآن أمدني بجيش من عندك وبالفيل.
احضر الفيل، وقد كان مشهورا عندهم، فيل كبير عظيم ما يُرى مثله عظمة، إذا أرادوا أن يُهدِّموا قصر كامل يسلسلونه بالسلاسل ثم يربطونها بالفيل فيزجرونه فيمشي فيُسْقِط القصر على دفعة واحدة من شدة قوة هذا الفيل. أرسل الفيل والأفيلة معه وأرسل له الجيش وجاءوا، وتسامع العرب ففزعوا- قالوا: ما المصيبة هذه؟ وهذه قوة تعتبر من القوى الكبرى في ذاك العالم، دولة كبرى يعني عندها سلاح والعرب في الجزيرة ليس عندهم ما يقابل هذه من القوة المادية والعسكرية، ماذا سيفعلون!
ومع ذلك تعرَّض الى أول قبيلة وثاني قبيلة في الطريق له يقاتلونه ويقتَّلهم ويمسك أميرهم، ووصل الخبر لآل مكة، ماذا نعمل الآن؟ سنحارب ولكن ما عندنا قدرة، فكان ما كان، مع أنهم كانوا نصارى أقرب إلى الملَّة من المشركين من قريش، ولكن مع ذلك، الله يرعى حُرمة هذا البيت الذي عظَّمه، ووجود موحدين مثل عبد المطلب وغيره هناك من ناحية؛ والسبب الأكبر في أن الله رتَّب هكذا، أنها سُنّة مولد نبيِّه والعام عام ميلاده، أفيولد محمد والكعبة مهدمة؟ أيكون عام ميلادِه عام تحطيم للبيت الحرام؟ أبى الله ذلك، أبى الله ذلك.
ولذا عبّر في القرآن بتعبيره (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ ..(1)) مَن؟ (رَبُّكَ) وليس "ربهُ" ولم يقُل رب البيت ولا رب الناس، عبّر بكلمة (ربُّك) الذي يربيك ويرعاك والذي حفظ حرمة البيت من أجلك، (الم تر كيف فعل ربُّك ..(1))، سر تربية الله له بحفظ البيت، فالعام عام ميلاده، فحاشا أن يخيب الله سبحانه وتعالى أهل بيته ورواده، العام عام ميلاد محمد لا تُهَدَّم الكعبة (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ). أكثر أهل السيرة يقولون كان قُبيل الولادة، والإمام عبد العزيز الدبّاغ: أنه كان في أيام الولادة بعد الولادة بأسبوع، وعلى كل الأحوال.. فالعام متفق عليه بين أهل السيرة أنه عام ولادة النبي -عام الفيل- حتى يقول في نظم مولد ابن كثير: ولا يشك أحدٌ أن الرسول ولد عام الفيل، قالَهُ الفحول.
وصل الفيل من الحبشة ووصل الجيش ومشوا، فقابلتهم أول طائفة من العرب يقاتلون ويرون أنه عليهم واجب جهاد لنصرة بيت الله وغلبهم وأخذ أميرهم وكان يريد أن يقتله، قال: لا تقتلني، وكان عنده شيء من الحِلم فأبقاه وأخذه معه، قابله آخرين؛ نوفل بن حبيب، حيث جمَّع جماعة من قومه وخثعم، وقابلوا هذا الجيش وغلبوهم أيضاً، وكثيراً من أهل الشر والظلام، في البداية مَدَّ الله لهم مكراً منه وكيداً، فيفرحوا ولكن "إن الله ليملي للظالم حتى يأخذه"، ففي البداية من قابله غلبه وانتصر، اصبر إلى أين ستذهب؟!! اصبر، لن تصل إلى البيت؛ "للبيت ربٌّ يحميه". وقابل الثاني وأسرَ قائدهم هذا وأراد أن يقتله، قال: استبقيني فهو خير لك سأدلك أنا على الطريق وأعرف أنا الطريق وأنا مطاع في قومي، قال: اتركوه.
وهذا نوفل بن حبيب كان صديق لعبد المطلب يعرفه، مشوا معه من بلاد إلى بلاد حتى مروا عند الطائف، وأهل الطائف خرجوا إليه خايفين على صنم عندهم حتى لا يهدموه، وقالوا: نحن تبع أمرك وكذا وصانَعوه وأعطاهم هدايا، خرجت له بنو ثقيف، وقالوا له: هذا عندنا دليل يدلك على الكعبة، الطريق الى البيت الذي تريد هدمه، وأعطوه واحد يُسمّى أبو رغال، ليدلهم على الطرق إلى أن وصَّلهم عند المحصب هذا ومات هو، وهم قد وصلوا حوالي مكة. وهناك غارت جماعة على سَرْح مكة وحيث تسرَح أنعامهم فأخذوا الأنعام واستاقوها، وفيها مائتي بعير لعبد المطلب أحرزها القوم .
أرسل أبرهة واحد من أصحابهم وقال له: اذهب وأبحث لي عن شريف مكة -الرأس فيهم أشرفهم- وقل له: إنا جئنا لهدم هذا البيت وما أردنا قتالكم إلا إن منعتمونا وصددتمونا عن هذا البيت سنقاتلكم، وإن خلَّيتم بيننا وبين البيت فنحن سنهدمه وسنرجع ولن نقتل أحد منكم.
فدخل إلى مكة ويسأل عن كبيرهم وشريفهم وأشرف واحد فيهم فدلوه على عبد المطلب، فجاء إلى عبد المطلب؛ أنا أرسلني أبرهة الملك ويقول كذا وكذا، قال له: إننا لا نريد القتال ولا طاقة لنا به، والبيت بيت الله وبيت خليله إبراهيم -هو سيمنعه منه- وأما نحن فلا طاقة لنا بقتاله ولا نريد ذلك. قال: فاذهب معي إليه أخبره وتكلم معه، إنه يطلبك فحمله معه، ورأى عندهم نوفل بن حبيب، قال: نوفل، أعندك لنا غنى الآن فيما نزل بنا؟ قال: ما غنى أسير بين القوم، يُتوقّع أن يُقتل بكرة أو عشية، ولكن سائس الفيل هذا واحد اسمه أُنيس صديقي سأُكلمه لكي يكلم لك الملك، قال: يا أنيس هذا شريف قريش الذي يُطْعِم الطعام للناس والوحوش في البرِّية والجبال، يُطعمهم هذا، يذكر له مكارم عبد المطلب، وأنه يعتني حتى بإطعام الحيوانات وأنه سيد قومه وأن له مائتين بعير أخذها القوم هنا، فقل له يُراعيه ويكلِّمْهُ ما استطعت، قال: مرحبا.
وراح سائس الفيل ودخل على الملك وقال: إن الذي جاء إليك الآن يستأذن للدخول عليك وأرى أن تأذن له، إنه سيد قومه وإنه الذي يُطعِمُ الناس في البلاد والبرية ويُطعم الوحوش في الجبال والبراري وأنه وأنه.. وأخذ يوصفه له، وأنه جاء لا يناقضك في أمرك ولا يقاتلك في شيء ولا.. قال: إئذن له، فلما أقبل عليه..
وكان على عبد المطلب وسامة ووضاءة في وجهه وأثر نور، هابَهُ المَلِك وكَرِه أن يجلس تحته وكره أن يرفعه معه على سريره، فنزل هو عن السرير وجلس هو على الأرض ودعا عبد المطلب وأجلسه بجانبه وأخذ يكلمه بالترجمة، ثم قال للترجمان: قل له ماهي حاجتك الآن؟ ماذا تريد منا سنعطيك؟ كلّمه.. قال له: قل له أن قومك أصابوا مائتين جمل لي فردُّوها عليّ. قال له هكذا المترجم. قال له: قل له كنت أجللتُك وعظَّمتك لما رأيتك وهِبْتَك والآن زهدت فيك. قال: قل له لماذا؟ قال: لأني جئت لأهدم هذا البيت وهو دينك ودين آبائك وعزَّكم وفخركم وما كلمتني فيه، كلمتني فقط في إبِلك. قال له: أنا ربُّ إبلي هذه وللبيت ربٌّ يمنعك منه. كلًمه المترجم، قال: ليس بمانعي أنا قال: أنت وذاك. قال: ردوا عليه إبِلَه. فردوا عليه أبله وأخبره، وأخذ منه ماهو مقصده وسياسته من الدخول وترتيبه، فسبَق إلى مكة ودعا القوم وقال لهم: لا تصيبكم معرَّة الجيش فاطلعوا إلى الجبال، خرجوا وتشاور بعض الزعماء هناك وأشاروا عليه بالسمع والطاعه، وطلع هو وجماعة وكان آخرهم طلوعاً من مكة.
وفيه يقول أهل السيرة: أن السيدة آمنة كانت حامل وأوشكت على الوضع، ولمَّا طلع الناس إلى رؤوس الجبال أرادت أن تطلع معهم فكلَّمها من بطنها يقول: "لا تخافي أماه امكثي مكانك في البيت وإن الله سيردهم وأنا هنا أؤانسك"؛ فبقيت ما طلعت مع مَن طلع، وكان من آخرهم طلوع عبد المطلب، مرَّ بجانب البيت، وأخذ يدعو ربّه سبحانه وتعالى ويلقي عدد من الأبيات ويقول:
اليوم لا أرجىو لهم سواكــــــــا *** إنَّ عدو البيت من عاداك
إلى غير ذلك:
لاهم -يعني الله- إن العبد يمنعُ *** رحلــــــــــــه فامنــــــــــع رِحـالك
لا يغلبنَ صليبهم -الأنصار هؤلاء- *** ومحالهم عــــذراً محالك
إن كنتَ تاركهم وكعبتنا *** فأمر ما بـــــــــدا لك
إلى أبيات أُخَر ذكرها في خطاب ربه -جل جلاله- وهذا يدل على أنه كان من الموحدين، وكذلك كان آباء النبي كلهم من عبد الله إلى آدم عليهم السلام كانوا كلهم على قدم التوحيد.
وطلع إلى جبل حراء ومعه جماعة من زعماء قريش، ومن جبل حراء ينظرون إلى مدخل مكة إلى عند مِنى هناك والفيل، ما كانت هناك شيء يمنعهم من الرؤية مِن قصور، ومدخلهم إلى مكة، والكعبة تُرى من جبل حراء، ولهذا اختار النبي العبادة في حراء لأنه كان فيه شق في الغار الذي يتعبد فيه وينظر منه الى الكعبة، فكانوا هناك يراقبون ماذا يحصل.
فجاء الموعد للدخول إلى مكة والفيل يتقدَّم، وألْهم الله نوفل بن حبيب وجاء إلى عند أُذُن الفيل يقول: يا فيل أَبْرُكْ وانتبه أن تدخل، هذا بيت ربك، هذا محل عظَّمَهُ الله وشرّفه، والقوم يريدون جريمة فانتبه لنفسك أحسن لك لا تدخل حرم الله، يُكلم الفيل هكذا في أذنه، وهرب بعد ذلك وطلع في الجبال مع أصحاب مكة.
فَبَرَك الفيل.. يريدونه أن يقوم ما يرضى! هددوه .. ضربوه .. نَخَزُوُه .. جاءوا بجميع الوسائل لكي يحركونه بها فلم يتحرَّك! والملِك زعلان على سائس الفيل: حرِّكه لا بد أن ندخل مكة به، وهذا يحاول لكنه ما يرضى.. يوجهه إلى نحو اليمن يقوم بسرعة يهرول، يرجعه إلى الشام يمشي بسرعة، إلى المشرق يمشي.. يرده إلى جهة مكة يبرك! ما المشكلة هذه؟! يحاول يحاول.. يوجهه للجهة الثانية يقوم يهرول.. يوجهه للجهات الثلاث كلها يروح فيها.. يرده نحو مكة يبرك محلُّه! الجيش ارتبكوا والفيل ما رضي يدخل.. هذا "محمود" على اسمه.
فبينما هم كذلك في مصارعة الفيل والربكة فإذا بالطيور؛ جماعات، جماعة من الشق هذا وجماعة من الشق هذا. ما هذه الطيور الغريبة الشكل؟! منهم من يقول إنها صفراء وأحد يقول سوداء، من أي نوع هذه الطيور!! دون الحمامة وفوق الفرخ؟! رموها فلم تمشِ.. يسلطون عليها بعض الدخان ما تتحرك! ما هذا؟! والفيل ما يمشي والطيور من فوقهم.
بدأت الطيور ترمي الأحجار، كل طير معه في منقاره حجرة وفي رجله هذه حجرة وفي الثاني حجر، ثلاثة أحجار وهم من الجهة هذي ومن الجهة هذي.
فالكثير منهم في نفس البقعة ماتوا، وهؤلاء؛ لا رمي ينفع أمام الطيور ولا تخويف ولا أي شيء ولا تخاف من أحد، وإذا بالجماعة؛ هذا مرميّ هنا وهذا مقطّع تناثر جسده وهذا هنا وهذا هنا وهذا هنا وجماعة نحو اليمن ذهبوا يهربون ماشيين، وواحد من الأفيلة قام متوجه نحو مكة، وحصب نزلت فوقه حجرة واحدة من الطيور سقَّطته مكانه. فرَّت بقية الأفيلة، وفرَّ محمود -فيلهم الكبير- وكان إمامهم مُقدّم لكي لا يدخلون، وفر جهة اليمن، ورجع إلى اليمن سالم؛ لأنه ما رضي يدخل بيت الله فسلِم ورجع.
وحتى أبرهة -ملكهم- لما أصابته الحجرة أخذ يتقاصر ويتناقص ويتساقط عضو عضو منه ويمشي حتى وصل إلى اليمن مثل العصفور، انشق صدره حتى بدا قلبُه ومات، فتولى أحد أولاده فمات، ثم تولى الثاني.
قام سيف بن ذي يزن وذهب إلى الفُرْس يستنصرهم على القوم، وأمدوه بالجيش وأنهوا حُكم الحبشة من اليمن وأبعدوه، ورجع المُلْك إلى سيف بن يزن وإلى حِمْيَر، وقد زار عبد المطلب سيف بن ذي يزن وكان عنده أخبار عن النبي المنتظر، ثم لم يلبث وقد قال له: أنا ما أدري، أدرك بعد أن يُبعث، ومات قبل ذلك.
وكان لفارس إشراف على اليمن في تلك الأيام، وهو الذي بعث مَلك الفرس -كسرى بن شروان- إلى عُمّاله باليمن يقول: اذهبوا آتوا لي بمحمد هذا، فأرسل اثنين من فارس معهم جاءوا وتوجّهوا إلى المدينة ودخلوا، وكانوا يربون شواربهم ويحلقون لِحَاهُم كما عادة آل الفرس، وكرِه النبي النظر إليهما، وقال: من أمركما بهذا؟ قالا: ربنا، يقصدون ملكهم. قال: "لكن ربي أمرني أن أُحفي الشارب وأعفي اللحية". قالوا: إنه يطلبك أن تجيء معنا نأخذك إلى فارس. قال: انتظروا إلى الصباح.
جاء الصباح، قال: "إن ربي بلّغني أنه قتل ربَّكما". سلَّط عليه ابنه البارحة، وهذا الكلام في فارس هناك، وهذا الخبر يستغرق ثلاث أشهر حتى يصل إلى الحجاز، فارجعوا ارجعوا إلى الملك في اليمن وقولوا له: "إن محمد يقول إن ربه قتل ربكم وأنه سلّط عليه ابنه فقتله البارحة بالتحديد"، ورجعوا.. حتى جلس ملوك اليمن يقولون: هذه آية، إن كان صِدِق ووقع هذا فمن أخبر محمد؟ فانتظروا حتى تجيء الأخبار.
وانتظروا وبعد نحو شهرين وزيادة جاء الخبر، وأنه في نفس الليلة ولده قتله كما أخبر النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ) [النجم:3-4].
فأنزل الله السورة يخاطب نبيه محمد: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1))، قل لهؤلاء الذين يحاربونك ويؤذونك وما يعرفون قدرك، قل ربي بسط هذه النعم وأنا واسطة لكم واليوم تُحاربونا وتقاتلونا؟ آمنوا بربكم (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذي أطْعَمَهُم مِن جُوع) [قريس:4]،
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2)) خططهم ومكرهم وتخطيطهم وسلاحهم وعدَّتهم وقوتهم وقدرتهم (فِي تَضْلِيلٍ) ذهبت هباء، لا قوة ،لا عظمة ،لا فيل، ذهبت كلها (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2)) سبحان القوي.. سبحان القوي، لا تعتمدوا إلا عليه ولا تستندوا إلا إليه.
ربي عليكَ اِعْتِمَادِي *** كَمَا إِلَيْكَ اِسْتِنَادِي
صِدْقَاً وَأَقْصَى مُرَادِي *** رِضَاؤُكَ الدَّائِمُ الْحَال
يا رب إن لم يكن بك علينا غضب فلا نبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لنا، نعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بنا غضبك أو يحل بنا سخطك، لك العتبى حتى ترضى.
(وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3)) جماعات جماعات متفرقة ومن كل جهة (تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ) صغيرة مثل العدسة (مِّن سِجِّيلٍ) قوية، تقول هذه من حجر؟ من طين؟
(فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ) نبات وزرع -تِبِن- أكلَت منهُ الأنعام وبقي مُفَرَّق هكذا، فشَبَّه تناثر أجسادهم وتقطُّعها وتفرقها في ذاك المكان، بمحل العصف المأكول، أي الزرع الذي دخلت فيه الغنم وأكلته وفرقته ومزقته هكذا، تحداهم هكذا في ذاك المكان (طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ (5)).
هذا يقول على آزر أبو إبراهيم، آزر عمه، آزر عم سيدنا إبراهيم، لم يكن أبوه الذي خرج من صلبه، والعرب يسمون العم أبا؛ (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً) [الأنعام:74]، أمّا عمه اسمه تارِخ، هذا إبراهيم ابن تارخ، فأبوهم هذا ال ي نزل من صلبه كان على قدم التوحيد، فإن سيدنا الخليل إبراهيم كما أخبرنا القرآن تبرأ من عمه هذا أبوه الذي هو عمه (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) [التوبة:114]، أما أبوه الذي هو من صلبه بقي يدعُو له إلى آخر أيامه يدعو له بالمغفرة.
وجاء بسيدنا إسماعيل ووضعه وأمه أين؟ عند البيت الحرام، ثم وهب له إسحاق ووراءه اسماعيل وقصَّ لنا دعاءه: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) [أبراهيم:39] ... (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ) من هذا والديّ؟ ذاك الذي تبرأ منه؟ يقول هكذا!! عيب عليك!! ذلك الذي تبرأ منه ذاك عدو لله (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) [أبراهيم:41]، هذه دعوة إبراهيم آخر عمره بعد أن رُزِق إسماعيل وإسحاق؛ فلا بد أن يكون والديه مؤمنين وإلا ما يدعو بالمغفرة (لوالدي) وهم غير مؤمنين. إذًا فوالده هو الذي من صلبه هو الذي دعا له في آخر عمره، وأبوه الذي هو عمه آزر تبرأ منه (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ) [التوبة:114]، وتركه، والله أعلم.
ما عاد يستعملون الفيل الآن في هذا، ولهم استعمالات ثانية وسخَّرَه الله مع عِظِم كبره مذلل للإنسان هذا الفيل سبحان الله، فالمسألة ما هي بالكبر ولا بقوة. يُذَلل لك الفيل ويسلط عليك البعوضة، مَن أكبر؟ الفيل كما كم بعوضات؟ قد هي مسلطة عليك وذاك مذلل لك اركب عليه وامش عليه، وذي تقوم تلسعك وعادها تصلِّح لك مادة قبل اللسع تفتِّرك ما تحس إلا بعد ما تمص الدم وتقوم، لمَّا تمص الدم وتقوم.. أنت تحس الحين تقوم تضرب نفسك! هي قد طلعت شربت وطلعت في الهواء وأنت تضرب هنا وتضرب هنا، هذه مسلطة عليك وهذاك مُسخر لك سبحان الله، والجمل قعَّد الطفل الصغير يقعده يقومه ويركب عليه ويمشيه مُذَلل (وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ) [يس:72]، إذًا هذه قواعد التسخير في الوجود من الجبَّار المسخّر سبحانه وتعالى، فلنؤمن به.
اللهم ارزقنا كمال الإيمان واليقين، واجعلنا في الهداة المهتدين، وزدنا يقينا بالوحي الذي أوحيت، والنبي الذي أرسلت واصطفيت، واجعلنا ممن اصطفيتهم لخالص الإيمان بك وبه، ولكمال محبتك ومحبته ولنصرتك ونصرته، احينا على ذلك وتوفنا عليه، واحشرنا في زمرته في عافية..
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
22 رَمضان 1435