(536)
(228)
(574)
(311)
يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1436هـ.
﷽
(كَلَّا ۖ بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ۚ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26))
الحمد لله على نِعَمِ التَّنَقِّي والتَّرَقِّي، بأيدي الإقبالِ والتَّلَقِّي، له الحمد أبداً سرمداً على ما هَدَى إلى الهُدَى وبيَّنَ الطريقَ الأرشدا، على يَدِ حبيبِهِ أَسْعَدِ السُّعداء، ذي الجَاهِ الأكبر عند الإله الأكبر هنا وغدا، صَلَّى عليه ربنا وسلَّمَ أبدا سرمدا، صلاةً وتسليماً عظيمين كبيرين جليلين دائمين أَتَمَّينِ لائقين بجود الله ومكانة حبيبه عنده من الله إليه عَنَّا في كُلِّ لحظةٍ أبداً، وعلى آله الأطهار وأصحابه السُّعَدَاء، ومَن أحبَّهم وبهديهم اقتدى، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل المنازل العُلا لدى ربِّ العالمين، وآلهم وصحبهم وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعد..
فإنَّ مع توالي الأيام وقُرْبِ الختام، لشهر الجود والإكرام، نَتَلَقَّى الإفضال والإنعامَ، من ذي الجلالِ والإكرامِ؛ بتأمُّلِ كلامه الذي هو خير كلام، والبلاغ الذي حمله إلينا بدر التمام، خير الأنام، عليه وآله أفضل الصلاة والسلام؛ قد انتهينا إلى أواخر سورة "الفجر".
وقلنا إنَّا نترقَّبُ في خلال هذا الوقت القصير الباقي من الشهر طلوع فجرٍ في سماوات قلوبنا لا يَغِيبُ ضوءه ولا يُطمَسُ نوره من المعرفة بالله، والمحبة من الله ولله، والفهم عن الله. اللهم أكرمنا بنور ذلك وبطلوع ذلك الفجر الذي شأنه شأن، ومكان أهله عند الله خير مكان.
وفي أواخرها يذكر الرحمن -جَلَّ جلاله- طبيعة هذا الإنسان وما يلزمه أن يُعَدِّلَها وأن يُقَوِّمها وأن يُرَبِّيها بِتَذَكُّرِ المصير ما دام ينفعه التَّذَكُّر ويُفِيده التَّبَصُّر ويَسلَمُ به من التَّحَسُّر، وقد قال عن ذاك اليوم: (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) [مريم:39-40]، اللهم أجرنا من حسرة يوم القيامة.
يقول -جَلَّ جلاله-: (كَلَّا ۖ بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20))، وهذه الأحوال والصفات والمساعي فيها مظاهر إكرامنا لخَلْقِنا وإهانتنا لهم، فَمَن حَلِّيناه بحميدِ الصفات وكريم الأخلاق والنُّعوت فقد أكرمناه. ولذا يقول شاعرهم:
لا تَحْسَبَنَّ العلمَ ينفعُ وحده *** ما لـــم يُتَوَّج رَبُّـــهُ بِخَـلَاقِ
فإذا رُزِقتَ خَلِيقَــةً محمـــودةً *** فقد اِصْطَفَاكَ مُقَسِّمُ الأَرْزَاقِ
وإذا ألحَحْتَ عليه أجابك سبحانه وتعالى وجاءك الخير من يديه حتى لا يخرج رمضان إلا وقد أخرج عنك كُلَّ الأدران والصِّفات غير الحِسَان، وحَلَّاكَ بما هو أجمل وأكمل وأفضل. "اللهم اهدنا لأحسن الأعمال والأخلاق لا يهدي لأحسنِهَا إلا أنت، واصرف عَنَّا سيِّئها لا يَصرِفُ عَنَّا سيِّئها إلا أنت" يا الله.
يقول: (كَلَّا ۖ بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحُضُّون عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18)) وفي القراءة الأخرى: (كَلَّا ۖ بَل لَّا يُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا يَحُضُّون عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18)) يُقَصِّرُونَ في اكتساب الفضائل وفيها الإكرام، وفيها رفعتنا لعبادنا (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ) [يوسف:76]، بحميد الصفات، ومن أظهَرِها:
وهي خِصَالٌ لا تَتَأصُّل في مؤمن إلا وقد أراد الله إكرامه.
وفي مسار المذمومات والصفات القبيحات: (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)) تأخذون المواريث ما يَحِقُّ لكم ومالا يَحِق، ما يَحِلُّ ومالا يَحِل، نصيبكم ونصيب غيركم (أَكْلًا لَّمًّا) وتتركون نفوسكم لتسلُّطِ حُبِّ المال عليها، ومَن غلَبَ على قلبه حُبّ المال مالَ عن سواء السبيل، ومن هنا جاءنا في الخبر:
وذلكم الحُبُّ للدنيا رأس الخطايا بأصنافها؛
يقول: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)) وقد اختبرنا الله بمحبة المال، ثم عَرَّفَنا أنه خلَقَنا، وبيده الأمر وإليه مرجعنا وأَمَرنَا أن نحبه؛ فما كان صِحَّةُ المحبة له إلَّا بأن نؤثره على المحبوبات الطَّبْعِيَّة إلى نفوسنا، ولذا كان إخراج المال في سبيله ومن أجله أقوى أسباب صدق محبة المؤمن لربِّهِ وأقوى عناوين ذلك؛ ولذا قال: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ) -على حب الله- (مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) [الإنسان:8].
ولذا قال عمّن يَتَشَبَّثُ بظواهر العبادات وقلبه يَغِل على المكاسب الحقيرات ويعظِّمها ويَبْخَل بها، يقول: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) [الماعون:4-7]، يمنعون العطاء، يمنعون المال، يمنعون الزكاة، يمنعون ما يحتاج إليه القريب، ما يحتاج إليه الجار؛ وهم مُصَلِّين، قال ويلهم! (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ) [الماعون:4-5]، ما أحكموا الصلاة ولا أقاموها كما ينبغي وفي قلوبهم رياء وفي أيديهم بخل (يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) [الماعون:6-7]، لذا جعل وصف المشركين؛ منع الزكاة (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ) المشرك مشرك خلاص: (الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) [فُصِّلَت:7]، يعني من عناوين شركهم: بغضهم للإنفاق في سبيل الله، فانظر كيف صار هذا عند المؤمنين الصادقين حتى صار الإنفاق أحب إليهم: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [الحشر:9].
وجاء بعض الصالحين في وادي عَمْد يقول لأهله: ما أدري ماهذه مثل العقارب في ثوبي تلسعنا، ما هذا؟ فتحوا حَصَّلوا واحد عَصَب له قروش -أيام عملة القروش هذا من الفضة- عَصَب له قرشين أو ثلاثة، قال انظر انظر عقرب عقرب يلسعنا هنا، قال خَرِّجوه خَرِّجوه أبعدوه من عندي، بينما طبيعة النفس البشرية: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)) هذا صار المال عنده مثل العقرب والحيَّة؛ من قوة زكاة نفسه؛ إنما يَلْتَذُّ بالعبادة والطاعة والقرآن.
(وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)) والكفار الذين يحبون المال حُبَّاً جَمَّاً يحبون أن يُعَلِّمون المسلمين حب المال مثلهم، بل فيهم مَن حالهم كما قال الله: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً) [النساء:89]. يحبون أنكم تكفرون؛ فإذا ما قد وعى الكفر، قال فقط، نحَبِّب إليهم المال كما نُحِبُّ حتى تضعف محبة ربهم هذا ونبيهم ودينهم عندهم، وبمحبة المال والجاه والدنيا يتسلَّطون على كثير من فئات المسلمين ويضربون بعضهم ببعض، ولولا هذه المحبة ما قدروا! لكن لمَّا لم يُزَكِّ هؤلاء المسلمون أنفسهم وتركوا أنفسهم لعقاربِ مَحَبَّةِ الفانياتِ ونَمَّاها لهم الشيطان وتغلَبَت عليهم صاروا أُلعوبة بأيدي الكفار؛ فهم يعلَمون إلى ماذا يَصِلُون إذا مَكَّنُوا من قلوب المسلمين محبة الفانيات؛ يَصِلُون إلى مبلغ كبير، ولذا قال ﷺ: "والله ما الفقر أخشى عليكم، لا توجد مشكلة لو كان المسلمين ما عندهم مال، ما في مشكلة ولا أن يُسَلَّط عليهم كفار ولا غيرهم وسَتُسَخَّر لهم الأموال وغيرها؛ المشكلة ليست عدم وجود المال-ولكنِّي أخشى- وهذا مِنظار النبوة: "أخشى أَنْ تُبْسَط عليكم الدُّنيا كما بُسِطَتْ على من كان قبلكم، فتَنَافَسُوها كما تنافسوها"، ذلك التنافس الأهوج الأعوج الأحمق الشَّرِس الساقط التنافس المنحط، "فتَنَافَسُوها كما تَنَافَسُوها، فتهلككم كما أهلكتهم" هي أهلكت الأمم قبلكم.
ومن أجل حبها ينشأ في القلوب الداء الذي سَمَّاه النبي: "داءُ الأمم"، مرض الأمم، مشكلة الأمم، عِلل الأمم؛ "دبَّ إليكُم داءُ الأمَمِ قبلَكم" يعني المرض الذي يُفنِي الأمم.. يُهلِك الأمم، "دبَّ إليكُم داءُ الأمَمِ قبلَكم الحسَدُ والبغضاءُ"، ولن تتمكن إلا من قلب يحب الدنيا، أمَّا مَن لم يتزكَّ؛ مصيبة المسلمين: ضعف التزكية. يقول: "الحسَدُ والبغضاءُ هيَ الحالِقَةُ لا أقولُ تحلِقُ الشَّعَرَ ولكن تحلِقُ الدِّينَ"، "تحلق الدين": تترك الإنسان بلا دين؛
يقول ﷺ: "لا أقولُ تحلِقُ الشَّعَرَ ولكن تحلِقُ الدِّينَ"، وسَمَّى هذا: "داء الأمم" أي الأمم قبلكم هلكوا بهذه الصورة؛ انظر بعقلك هل هلاك الناس إلا بمثل هذا!.
يقول: (كَلَّا ۖ بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)) وبالاسترسال في ذميم الصفات يكون الإهانة؛ إهانة الإنسان، ليست الإهانة بقلة المال، ولا الإكرام بكثرة المال؛ لكن الإكرام بحميد الصفات، والإهانة بذميم الصفات. فكلما ساءت أعمالك وصفاتك فقد أُهِنت، والهُون يُوصِل إلى عذاب الهون؛ وهو الخزي: (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ) [الأحقاف:20]، (رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) [آل عمران:192]، الهوان والخزي بدخول النار، ولا يدخل النار إلا صاحب أعمال سيئة وصفات سيئة، مَن ليس له أعمال سيئة وصفات سيئة ما يدخل النار ولا تمسه النار؛ تمس أهل الأعمال السيئة والصفات السيئة القبيحة الخبيثة، هناك الكرامة والإهانة، فلنعقل هذا، ولنُقيم الميزان كما أقامه الرحمن (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) -مقاييس الأشياء- (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) [الرحمن:1-9].
فَمُصَدِّقُ الكفار في هذه الشؤون؛ وهي شؤون لا علاقة لها باختراع ولا بصناعة ولا بمادة ولا بدين، ليس لها علاقة بشيء؛ هذه قِيَم، حقائق، أذواق، ليس لها دخل، لكن يقولوا نحن أهل الصناعة؛ اقبلوا مِنَّا هذا! أهل الصناعة! تكلَّم معي في الصناعة، نعمل أنا وإياك مصنع مرحبا.. لكن تجيء إلى قيمي وأخلاقي وفكري وأُسُس حياتي وتلعب بها! ما لك حق! هو ما له حق لكن المشكلة نحن سلَّمنا له الزِّمام؛ قلنا يا كافر اِلْعَب بنا، وما قلنا يا كافر اِلْعَب بنا إلا عقوبة لنا على أنَّا لعبنا بديننا، لَمَّا لعبنا بديننا، لعبنا بأمر ربِّنا قلنا يا كافر اِلْعَب بنا، وما كان للكافر أن يلعب بنا لو لم نلعب بأمر ربِّنا ولو لم نلعب بأمر ديننا ما كان للكافر يلعب بنا، ولكن يتمكَّن من اللعب بنا إذا لعبنا نحن بأمر ربِّنا وأمر ديننا (جَزَاءً وِفَاقًا) [النبأ:26]، إذا تلعب بدينه يسَلِّط عليك الكَفَرَة يلعبون بك، وإذا تقيم دينه يُقِيمُ شأنك وأمرك ويسخِّر لك مَن عَدَاك من الخلق.
يقول سبحانه وتعالى: (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)) بِشَرَهٍ، بحِرْصٍ، لا تطاوعكم نفوسكم في إنفاقه في سبيل الله، "لا يؤمن مَن بات شبعان وجاره بجنبه جائع وهو يعلم به" ولو أخذ المسلمون هذا الكلام النبوي بتصديقٍ وبما يليق بمكان نبيهم، لتدانى من عند الفرد، إلى عند الأسرة، إلى المجتمع؛ كُلَّاً يرى جاره، إلى الدول من دولة إلى دولة، فما أصبح في المسلمين فقير، ولكن أوامر مُعَطَّلَة! أوامر مُعَطَّلَة! أنظمة مُهمَلَة! وما حَقَّها أن تُعَطَّل ولا أن تُهمَل وهي أوامر وأنظمة الحق ورسوله! ورَكَّبنا أوامر وأنظمة لمن دونهم! طبَّقناها ونفَّذناها فما جنينا منها إلا التعب! أهملنا وعَطَّلْنَا أوامر الله ورسوله ونظام الحق ورسوله ثم قَوَّمْنَا في الحياة، نَدَّعِي الفوز والتقدُّم وتحصيل الفائدة بأنظمة غير الله ورسوله وأوامر غير الله ورسوله وطَبَّقناها فما جنينا منها خيراً!.
(كَلَّا ..(21))، ليس الأمر كما تظنون من الظنون الواهمة الباطلة؛ لَمْ أُعطِي المال مَن أُعطِيه إكراماً مني له، ولم أمنعه مَن أمنعه إهانةً مني له، ولقد ترون أنَّ أصفى أصفيائي من الأنبياء والمرسلين، كم عَرَّضتهم لجوعٍ؟ وكم عَرَّضتهم لِقِلَّةِ ذَاتِ يد؟ بل ميزاني ما قال نبيي: "لو كانت الدنيا تَزِنُ عند الله جناح بعوضةٍ ما سَقَى كافراً منها شربة ماء"، لو كان لها وزن مقدار جناح البعوضة لن يشاركنا الكافر في شربة ماء منها ولَحُرِّمَت عليه؛ ولكن لهوانها. يقول في الآية الأخرى: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا ۚ وَإِنْ كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) -يعني حقير لا وزن له- (وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) [الزخرف:33-35]. للمتقين.. لا وزن لهذا.
فلابد نُقَوِّم الميزان كما ذكر الله ورسوله في شعورنا، في أحاسيسنا، في أذواقنا، في وجداننا، في أفكارنا وأفكار أُسَرِنا المظلومة المنهوبة المُغتَصَبة؛ مُغتَصَبَة فِكْرَاً، مُغتَصَبَة خُلُقَاً ببرامج الكفرة التي اشتريناها بالفلوس وفتحنا لها الأجهزة وسط الديار، وانتُهِكَت حُرُمَات قلوب أولادنا وعقولهم بهذا السَّيْلِ الجَّارِفِ وهذا الجندي الغازي الظَّالِمِ الغَاشِمِ من المناظر ومن الأقوال الفاسدة الباطلة الحاملة للفكر الخبيث، اُنتِهَكَت بها حرمات القلوب والعقول للأسر والديار! فلتقم أسرنا وديارنا على ميزان الحق ورسوله.
وهنا حقيقة التحرر؛ إذا تَحَرَّرَت أُسر المسلمين خضع لهم الكفر وسلطانه وأُهين أمامهم، ولكن أهانوا أنفسهم بـ: قُبول سموم الفجرة والكفرة؛ ولعبوا بدين الله وسنة نبيهم فاختلَّت الموازين في أفكار ناشئتهم وأُسرهم فَحَلَّ ما حَلَّ بهم (جَزَاءً وِفَاقًا) [النبأ:26]، (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ) [آل عمران:165]؛ لأن لكل شيء ميزانه عند الله.
ولولا وجود القلوب الصافية والعقول المنوَّرة الطاهرة بين الأمة لكان الأمر أشدُّ وأعظم! ولَمَا تُرِك على ظهر الأرض من دَابَّةٍ؛ ولكن الله تعالى يدفع الناس بعضهم ببعض (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج:40]، ومَن الذين ينصرونك يا رب فأنت تنصرهم؟ قال: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ)
وبعد ذلك؟ وبعد ذلك يُنَفِّذُونَ نظامي ويُطَبِّقون أحكامي (وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ) انتهى؟ هم هذا الصنف؟ قال هؤلاء هم أنصاري أنا أنصرهم (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ) [الحج:40]، قوم قلوبهم معلقة بالربِّ، معظمة لأمره مولعة بذكره؛ "تقيم الصلاة"، مُحَرَّرَة من رِقِّ المَالِ والشَّرَهِ على المتاع الفاني (يؤتون الزكاة) يُنَفِّذُونَ نظام الحق في واقع الحياة لا نظام غيره، (وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ) خلاص؟ هؤلاء هم ينصرون الله وهؤلاء ينصرهم الله، (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج:40-41].
وأن يوجد في الأرض طوائف تُكَذِّب، فهذا يقول الله أيضاً من سُنَّتِنَا نُوجِدُ أصنَافَاً تُكَذِّب (وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ *وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ ۖ وَكُذِّبَ مُوسَىٰ فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ ۖ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ* فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ *أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج:42-46].
فالله يُعَالِج ويُخَلِّص ويشفي الأمة من عمى قلوبها التي في الصدور، يا رب داوي هذه الأمة من عمى القلوب، بَصِّرها بعد العمى، بَصِّرها بعد العمى (أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ) [الرعد:19]. مَن لم يعلَم أنَّ الحق فيما جاء به "محمد"؛ هو أعمى: (وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا) [الإسراء:72]، الله يبصِّرنا ويفتح بصائرنا.
والحمد لله الذي أرسل إلينا محمد، فاجعلنا يا رب خَلْفه مُقتَدِين مؤتَمَّين مُتَّبعين مُنقَادِين، أمرُنا تَبَعٌ لأمره، تقول له أرواحنا: حبيب الرحمن، ليس سعْدٌ وحده الذي ادركك في الحياة؛ نحن من بعده نقول لك: أمرنا تبع لأمرك، واصل حبال مَن شئت واقطع مَن شئت، حارب مَن شئت وسَالِم مَن شئت؛ نحن حربٌ لِمَن حاربت وسِلْمٌ لِمَن سَالَمْت، ما سالمته من كُلِّ معروف وحسن وجميل نحن نُسَالِمه، وما حاربته مِن كُلِّ سيءٍ وقبيحٍ في المناظرِ والأقوالِ، نحن حربٌ له، سِرْ بِنَا على بركة الله، لو استعرضتَ بنا هذا البحر فخضته لَخُضْنَاه معك، ما تخلَّف مِنَّا رجل واحد ولو سِرْتَ بنا حتى تبلغ بِرْك الغِمَاد من الحبشَّة لسرنا معك، ما تخلَّف مِنَّا رجل واحد" وهذا مخاطباتٌ للقلوب تُعرَض على حبيب الله المحبوب يُمَيَّزُ فيها بين أهل الصدق من أمته ومَن لم يَصدُق.
فهؤلاء الصادقون من الأنصار وقفوا هذا الموقف الكريم الشريف وقالوا؛ الموجود على ظهر الأرض عند الشعوب والحكومات والدول في العرب والعجم لا اعتبار لها من دونك "حارب مَن شئت، سَالِم مَن شئت، نحن حربٌ لِمَن حاربت، سِلْم لِمَن سالَمت" ما نعرف أنظمة غير نظامك، ما نعرف قانون غير قانونك، ما نعرف دين غير دينك، ما نعرف أعراف في الأرض غير عرفك -هذا الإيمان- لسنا نُملَكُ للفرسٍ ولا للرومٍ ولا لمن تحتهم من الدول؛ عرب ولا عجم، نحن عبيد الله وأنت حبيب الله ونحن أتباعك لبسنا ثوب العِزَّةِ وتاج الشرف والكرامة فلا نَتَدَنَّس بتبعيَّة أحد، نحن أهل شهادة أن "لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله".
كيف يَستَذِلُّنا بعد ذلك نظام شرق أوغرب؟! "آمَنَّا بك وصدقناك وعَلِمنَا أنَّ ما جئت به هو الحق فَامْضِ لِمَا أمرك الله، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً". يعني مكاره النفوس لا تأسرنا ولا تقطعنا عنك؛ كل ما هو شديد على النفس في جنب اتباعك ومحبتك هَيِّن "ما نكره أن تَلْقَى بنا عدونا غداً، إنَّا لَصُبْرٌ في الحرب صدْقٌ عند اللقاء، ولَعَلَّ الله يريك مِنَّا ما تقر به عينك"، فما بقي لنا طمع في الحياة غير: قرة عينك، وما بقي لأرواحنا بعد أن تَزَكَّت وتَطَهَّرت أن يكون لها مقصد ومُرَاد وهوية وهواية وأمنية في الوجود غير: قرة عينك، هذه أمانينا، هذه أمنياتنا، هذه هوايتنا، هذا مرادنا، هذا قصدنا؛ قد تحرَّرنا والآن الأمنية اجتمَّعت فيك "ولعل الله أن يريك مِنَّا ما تقر به عينك"
رأى حقائق تُواجِهُهُ من قلوب صدَقَت مع الخالق فاستنار وجهه فكأنه قطعة قمر، قال كل مَن يتعامل بهذه المعاملة؛ خذ الجواب: "سيروا وأبشروا، وأمِّلوا ما يسركم، فإن الله وعدني إحدى الطائفتين إما العير وإما النفير، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم"، وهكذا كل مَن تعامل معه بهذه المعاملة يقول: "سيروا، أبشروا، وأملوا ما يسركم"؛ هو البشير؛ إلا أنه بشير حق، بشير صدق، إذا نالتك بشارته حلَّت عليك سعادته؛ سعادة الأبد.
ومقابلهُ الخبيث عدو الله: (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ ۖ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا) [النساء:120]. ماعنده شيء، ولكن سَعْد قائل هذا القول، من يوم فاضَت روح جسده اِهتَزَّ عرش الرحمن لموته طَرَبَاً به، لا تقول لي اهتزت دولة ولا جبل ولا كواكب بين الأرض والسماء؛ عرش الرحمن! عرش الرحمن فوق السماوات السبع! أعظم كائن صُورِيٍّ جَسَديٍّ مَادِيٍّ خلقه الله: العرش، اِهْتَزَّ لموت سعد بن معاذ، طَرَبَاً وفَرَحَاً بلقاء روحه، فماذا حَصَّلَ سَعْد؟ سَعْد سَعِد، سَعْد سَعِد، وتَمَّ سُعْدُه وتَكَمَّل وعَظُم واَمْتَد بمحمدٍ، خرج وهو في الخيمة يُعالَج من الجرح وجبريل يأتيه إلى منزله الشريف ببيته يقول: رسول الله؛ مَن هذا الصالح؟ فاضَت روحه الآن اهتز لموته عرش الرحمن؟!. خرج مباشرة من البيت إلى خيمة سعد وجده حين فاضت روحه -عليه رضوان الله- وماذا حَصَّل بعدها سعد؟ وإلى اليوم من سعادة؟ والسعادة مقبلة عليه الكبرى، روح سعد كغيرها من أرواح المؤمنين والمقربين تستبشر بقرب السَّاعة "ابشروا فإن الساعة قريب“، وهذا من قوله إذا زار أهل المقابر يقول: "أبشروا فإن الساعة قريب"، بَشِّروا المؤمن فإن المؤمن يحب قرب الساعة للنعيم الذي أمامه.
ولا يتمنّى الكافر والمنافق أن تقوم الساعة، فيكفيه العذاب الذي هو فيه في القبر، فهو يعلم أن ما وراءه عذاب أشد، كما قال الله في قوم فرعون هؤلاء الذي شقوا بتكذيب موسى، يقول تعالى: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا) هذا في البرزخ، وبعد ذلك: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) [غافر:46].
يقول تعالى: (كَلَّا ..(21))، اِنْزَجِرُوا عن هذا الاتجاه المُعوج، قَوِّمُوا صفاتكم، أكرموا الأيتام، حَسِّنوا الأخلاق، حُضُّوا على طعام المساكين بينكم، لا تنسونهم، قَدِّموهم، كان سيدنا يوسف بعد ما تَوَلَّى خزائن الأرض يصوم يوم ويفطر يوم، يصوم يوم ويفطر يوم - ما كان عادته- قالوا: ما لك؟. قال: أخشى أن أشبع فأنسى الجائع.
يقول الله قَوِّمُوا صفاتكم، حُضُّوا على طعام المسكين، لا تجعلون أكلكم للتراث أكلا لَّمَّا؛ كلوا بِحِلْ، كلوا بضبط، باعتدال، بميزان، ولا تغلبكم محبة المال فتهوي بكم عن الاستقامة وعن محبتي.
يقول: (كَلَّا) وتذكرون هذه الحقيقة وتذكَّروها الآن (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21))، (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا) [الكهف:7-8]، ماالذي معه؟ الجبال، القصور، والأعمدة، وناطحات السحاب والقريب والبعيد منها.. دك دك دك دك
(كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)) جاءوا ببعض الآلات تدكدك، تدك الطريق؛ تسوِّيها تصفِّيها عدة مرات، حتى الأرض بِكُلِّها تُدَك:
أنت الآن تعرفهم؛ يدَكُّون لك الطريق، يصَلِّحون لك اِسْفِلْت، يُصلِّحونه مستوي كذا، والأرض كلها مستوية (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا) [طه:105-106]، (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ) [القارعة:5]، (لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا) [طه:107]، لا صعود ولا هبوط؛ مسْتوية، من طرفها إلى طرفها؛ تمتد، تكبر (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ) [لانشقاق:3-4]، واستوى كل شيء، ماذا يبقى الآن؟ باقي في وسطها الأجساد تعود كما كانت تدخل إليها الأرواح فتخرج منها -هذا آخر ما يخرج- وإذا بالأرض قاع صفصف، انتهى؟!.
(كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ..(22)) ظهرت آياته، بَرَزَت عظمته، عرفه مَن لم يعرفه، خضَع له مَن لم يخضع له (وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَٰنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا) [طه:108]، (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ ۖ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَٰنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا * يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا * ۞ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ۖ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا) [طه:108-111].
(إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ) جاء أمر ربك، بَرَزَت عظمة ربك، عرف الله كُلٌّ من الجاحدين والملحدين والمنافقين والكافرين يقولون: الله .. الله، لا إله إلا الله (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22))، (وَالْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَائِهَا) [الحاقة:17]. أرجاء الأرض والسماوات، صُفُّوا في صفوف؛ سبعة صفوف كل صف يُدرَج بمن قبله، يستوي (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)) مُصطَفِّين صفوفا منتظمة يحيطون بأهل الموقف من كُلِّ جانب.
ويُروَى أنَّ أول ما يُحشَر بنو آدم، ثم الجن يحيطون ببني آدم، ثم حيوانات البر تُحِيطُ بالجن، ثم حيوانات البحر تحيط بحيوانات البر، ثم الملائكة، وأين أنت؟! في الجموع هذه كلها؟! والمخصوصين المُكْرَمِين؛ هذا في ظلِّ عرش الرحمن، هذا في جواره، والباقين هنا في المعمعة، وأي معمعة هذه! والشمس تدنو من الرؤوس، والعرَق يسيل! وشِدَّة وأحوال عظيمة..
في هذا الموقف: (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ..(23)) أَبرِزُوا لهم النار (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ) [النَّازِعَات:36]. كل مَن تَتَأَتَّى منه الرؤية يرى (ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ) [التكاثر:7]، كل واحد يرى (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ):
يروي الإمام مسلم في صحيحه، قال: "يؤتى بالنار لها سبعون ألف زمام، كل زمام يمسكه سبعون ألف ملَك، فإذا أقبلَت على أهل الموقف -ولها زفير صوت غليانها يُسمَع من مسافة مائة عام" يقول: (إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا) [الفرقان:12] فيزداد غيظها ويشتد شوقها للكفرة والفجرة أعداء الله ورسوله وقد خُلِقَت لهم؛ فتتفلَّت من أيدي الزَّبانية! كل زِمَام عنده سبعين ألف من الملائكة! وكل ملَك به خِلْقَة عظيمة ولكن من شِدَّةِ شوقها وغَيْظَها تتفلَّت من أيديهم! تُقبِل، في تلك الساعة يكون كلًّا مُكِبٍّ على قدميه ونداء الرسل: "ربِّ سَلِّم سَلِّم، ربِّ سَلِّم سَلِّم، ربِّ سَلِّم سَلِّم، ربِّ سِلِّم سَلمِّ“.
حتى قال في الحديث أنه كان ﷺ يُحادِث سيدنا جبريل ويناجيه طويل، ثم قام وهو مُنَكِّس رأسه وطرفه، وقف، فسأله سيدنا علي: ما بالك؟ قال: هذا جبريل آتاني بالآيات: (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ۚ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ (23)). يقول سيدنا علي: كيف يُجاء بها يا رسول الله؟! قال: "لها سبعون ألف زمام يقود كل زمام سبعون ألف ملَك، ثم إنها لتشرُدُ عليهم، فلو لم يُمسكها الله لأحرقَت مَن في الموقف" وفي لفظ: "لأحرقت السماوات والأرض" من شدة ما جعل الله فيها، قال: "فتعود إلى أيدي الزبانية بأمر الله تعالى، ثم إنها تستأذن ربها تقول يا رب، فيقودها في الزبانية إلى يسار العرش ولها زفير، ثم هي الطريق إلى الجنة" يُنصَب الصراط فوقها من أجل المرور إلى الجنة، الله الله..
"تستأذن ربها" تقول؛ يا رب كبار الجاحدين بك المكذبين لرسلك المستهزئين بدينك وآياتك؛ أتأذن لي اختطفهم من بين الناس؟ ما أمسّ غيرهم -ألْقطهم- فيؤذن لها في أعدادٍ فَتَمُدُّ لها خيوط أعناق كأعناق الإبل فتخطفهم من بين الناس، تأخذهم إليها والناس ينظرون، هؤلاء كبار الفسقة والفجرة المستهزئون بآيات الله، وما يتكلّم يومئذ في تلك الساعة إلا الرسل؛ ما يقدر أحد يتكلم من شدة الهول، وكلام الرُّسُل: "ربِّ سَلِّم سَلِّم، ربِّ سَلِّم سَلِّم، ربِّ سَلِّم سَلِّم". إلا سيدهم فيقول: "أمتي أمتي أمتي“ وقت ما أحد يذكرك إلا هو، ولا أم ولا أب ولا صغير ولا شيخ ولا قريب ولا بعيد؛ لكن ”محمد“.
(وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ۚ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ..(23))، يَتَّعِظ، يُدرِك الحقيقة، يتوب، ينزَجِر.. قال الله: الآن ما عاد هو وقت الاتِّعاظ ولا الذكرى ولا تنتفع بشيء من هذا ولا عاد توبة..روَّح.. وقتها كان معك، كان، روَّح…
(وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ (23) يَقُولُ) -هذا الإنسان- (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24))، (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ) [العنكبوت:64]، الآن عرف الحقيقة، وتلك التي كنت فيها، ماهي؟ قال هذا فرصة صغيرة ومتاع غرور، بسرعة مَر، الحياة هنا الآن، (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)) قَدَّمت عمل صالح، إيمان، تقوى، وأخلاق، صفات حسنة وأعمال صالحة لهذا اليوم، لهذه الحياة.
(يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25)) يعني يعذبهم الله عذابا ما خطر على بالهم ولا وقع مثله، ولا أحد يعذب مثل عذاب ربك، تصوَّر وتخيَّل أنواع التَّعذيبات الصعبة في الدنيا بالكهرباء وغيرها من الجبَّارين المتكبَّرين وظالمين الناس في السجون وغيرها، تصوَّر ما تتصوَّر.
(فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25)) فوق هذا كله أكبر من كل ما تتصوَّر من أي عذاب، ما يقدر أحد يعذِّب مثل الجبار؛
(وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)) وبمجرَّد أن يأتي الأمر على واحد بدخول النار، والزبانية أمامه؛ تربيط: (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُّقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لَّا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا) [الفرقان:13-14]، (وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ)، لا أحد يحكم الرَّبط والضبط مثله، تصوَّر أنهم يصَلِّحون لك رصد متابعة وأجهزة وصور؛ كاميرات خَفِيَّة تصورك من هنا وهناك، دع هذا لهم هذا كله، هذا فوق (وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ)!.
ما الحاصل؟ تفوز أهل النفوس المطمئنة (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)).
سيأتي بعض الشرح لمعنى لهذا الكلام العظيم البديع، وقد قال سيدنا أبوبكر الصديق، قرأ مرة الآية عند النبي ﷺ: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29)) وعجبه الكلام، قال: يا رسول الله إن هذا لحَسَن. قال: أمَا إنه سيُناديك به الملَك عند موتك، النبي يقول لسيدنا أبو بكر: أمَا إنه سيُناديك به الملَك عند موتك، أنت عند الموت سيقول لك هكذا: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28)).
ويروي ابن أبي حاتم والطبراني عن سيدنا سعيد بن جبير يقول: مات عبد الله بن عباس بالطائف فخرجنا في جنازته، قال؛ وإذا بطائر جاء ما رُؤِيَ مثل خِلْقَتِهِ، دخل نعشه ثم لم نرَه يخرج، قال ثم جيء بجنازته فدفنَّاه، فسمعنا على شفير القبر تَالٍ يتلو: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)) ما رأينا أحد، قال ما نعرف مَن هذا التَّالِي، نسمع صوت ما نرى شخص على شفير القبر، يقول: (يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)).
الله يجعل عاقبتنا خير، ويجعل خاتمتنا بالحسنى، يجعل نفوسنا مطمئنة، تؤمن بلقائه، تقنع بعطائه، ترضى بقضائه، انقلنا يا رب في الدرجات العُلَا مع أهل النفوس المطمئنة الراضية المرضية الكاملة، ندخل في عبادك الذين لا خوف عليهم ولا يحزنون إلى جَنَّاتٍ في جوار الأمينِ المأمون.
يا مَن يقول للشيء كن فيكون، حقِّق لنا ما أمَّلنا وأعطنا ما رجونا، وما سألناك ذلك، لا باعتقاد استحقاقٍ مِنَّا لشيءٍ منه ولا أهليَّةٍ لشيءٍ مما فيه، لكن ما عَلَّمتنا من طَلَاقَةِ قُدرَتِك وَسِعَةِ رحمتك وإمكانك أن تُعطِيَ مَن لا يستحقُّ من خَلْقِك، وحُسنَ ظننا بك وما أودعتَ في قلوبنا من ذلك هو الذي جَرَّأَنَا أن نسألك ذلك، ولولا ذلك ما سألناك ذلك.
فيَا ربَّ المَمَالِك أعذنا من جميع المهالك، وسِرْ بِنَا طريق كل صادقٍ نَاسِكٍ سَالِكٍ في زمرة الحبيب، في زمرة الحبيب، في زمرة الحبيب، وهل مثل تلك الزمرة؟ في دائرة الحبيب، وهل مثل تلك الدائرة؟ في رفقة الحبيب، وهل أطيب من تلك الرّفقة؟ (وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا) [النساء:69] (وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا).
رافق اللهم بنا معه، مع مَن كان صدّيقا ونبيَّا في جنتك التي لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيَّا يا حي يا قيوم، ولا تجعل رمضان يخرج عنَّا إلا وقد أخرجتَ مِنَّا ذميم الصفات، وأبعدتَ عنَّا ذميمَ السيئات، وجعلتنا في أهل الإيمان التامِّ والأعمال الصالحات، يا رب خِلْعَة نلبسها تبقى معنا إلى أن نلقاك، وفي يوم الوقوف بين يديك يا الله؛ من تقواك ومن رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي محمد
اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
29 رَمضان 1436