(536)
(228)
(574)
(311)
يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1436هـ.
﷽
(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ(15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ(16) كَلَّا ۖ بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا(19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا(20))
الحمد لله على ما يجعله في بطون الليالي والأيام، وهي سبب الارتقاء إلى أعلى مقام، وسبب انحطاط في دركات البعد بالآثام، وكم طوى الله فيها ما طوى من عطايا عِظام، ومن شؤم يصل أهل الشؤم اللئام ممَّن اغترَّ فأقبل على غير الله ونسي الحق والاستعداد للقاه، ونسأله أن يجعل بركة أيامنا وليالينا من أسمى البركات، وأن يوفِّر حظَّنا فيها من الهبات والعطيَّات، ويجعلها لنا مُرتقى إلى رفيع الدَّرجات، فنسعد في كلِّ ساعة من ساعات العمر بوافرٍ من السَّعادات حتى تكون لنا خير السَّاعات، ساعة لقاء كلٍّ منَّا لربِّ الأرض والسَّماوات.
ونسأله أن يُصلِّي ويُسلِّم على مَن به عرفناه فخاطبناه، وآمنَّا به فدعوناه، فأنقذنا به من الظُّلم والكفر والشِّرك والشَّك والنِّفاق، وجعلنا به خير أمَّة أُخرجت للنَّاس باصطفاء إلهه الخلَّاق، نسأله أن يُديم الصَّلوات والتَّسليمات الكاملات التَّامات من حضرته العليَّة عليه، وأن يهديها -سبحانه وتعالى- عنّا منه إليه، وأن يُفيض فائضاتها على آله أهل الطَّهارة، وأصحابه أرباب الصِّدق والإمامة والنَّضارة، وعلى مَن اختطَّ خِطَّته وسار مساره، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أرباب المراتب العُلا سادات أهل الطَّهارة، وعلى آلهم وصحبهم ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم وضع الميزان.
وبعد،،،
فإنَّنا في نعمة تأمُّل القرآن، والقرآن كلام الرَّحمن، وصل إلينا بأعذب لسان، وأطهر جنان، بلسان المصطفى من عدنان، وحُفظ لنا، فبقي لا يستطيع مهما حاول أعداء الحق ورسوله أن يزيدوا فيه حرفاً واحداً ولا أن يُسقطوا منه حرفاً واحداً، فهو معجزة شاهدة بصدق مُحمَّد ودعوته إلى الهدى على مدى هذه القرون، وقد لعب النَّاس بكتب ربِّهم توراةً وإنجيلاً وزبوراً وغيرها، وبدَّلوا وحرَّفوا وطوَّلوا وعرَّضوا وأَخْفوا وأبدوا، حتى أنّه في زماننا يُقرأ صفحات من الإنجيل في الصَّباح بألفاظ ثمَّ في المساء بألفاظ أخرى! نفس الكلام نفس الصَّفحات تتبدَّل صباحاً إلى مساء! لكن كلام العليِّ الأعلى القرآن المُنزل على مُحمَّد حُفظ، قال ربي: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9].
فكانت أوجه الإعجاز فيه متعدِّدة ومتنوِّعة ومنه هذا الحفظ، بل وسرى هذا الحفظ إلى بيان القرآن وهو السُّنة، فحُفظت السُّنة ونُقّيت وطُهِّرت فلا نزال نملك أقوى وأقوم وأشرف وأوثق الأسانيد إلى جامع المحامد سيِّد الأجاويد لنقرأ قوله باللفظ الذي خرج من بين شفتيه -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-، وليس ذلك لغيرنا من الأمم فلا يجدون أسانيد إلى أنبيائهم متَّصلة يحكون فيها أقوال الأنبياء كما خُدِمت السُنّة المطهَّرة حفظاً من الله للكتاب وبيان الكتاب، فإنَّ الله قال لسيِّد الأحباب في كريم الخطاب: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل:44]، فلو اقتصر الحفظ على الكتاب وضاعت سنَّته لقيل أين البيان؟ وكيف نتبيَّن؟ قال: هذا الكتاب وهذا بيانه، حُفظ بحفظ الله- تبارك وتعالى- الحمدلله على ذلك.
وكان أعلى الحفظ لهذا القرآن، ومع الحفظ لهذا القرآن، فيُبقيه الله ما شاء من الزَّمان، ثمَّ يغار على كتابه فيرفعه من على ظهر الأرض، لكنَّا لازلنا ننعم بوجوده وبقائه في الصُّدور وفي السُّطور -فالحمد لله- ولكن حقائقه ليست في صدور الغفَلة ولا مُؤثري غير الله على الله -كائنين مَن كانوا- وإن حفظوه، وليست في الصدور الموجودة، فحقائقه (فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ)، قال ربيّ: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) [العنكبوت:49]؛ وهذا مركز حفظ القرآن، وعليه يترتَّب حفظ ألفاظه المقروءة بالألسن، والمحفوظة بالأذهان، والمودعة في الصُّدور، والمكتوبة في الأوراق، فإذا ذهب هذا الصِّنف من القلوب التي تُؤثر الله على كلِّ ما سواه وهم أهل العلم.
مراتب العلم: إيثار كلّ الحق على ما سواه؛ ولذا جعل الله علامة العلم؛ الخشية، قال: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر:28]، وتمام الخشية: أن تُؤثره على كلِّ شيء، وهو تمام الرَّجاء، وهو تمام المعرفة، وهو تمام المحبَّة، أن تؤثره على كلِّ شيء.
هذه الصُّدور التي آثرت العزيز الغفور على كلِّ ما سواه:
إذا غابت من الأمَّة وانقرضت من بين أظهرهم؛ رُفع القرآن، ولم يبقَ منه لفظ ولا كتابة فيُصبح النَّاس في صبيحة يوم من الأيام أوراق المصاحف بيضاء لا حرف فيها، والصُّدور قد ارتفعت منها الألفاظ! فلا يدرون، ولا آيةً ولا بسملةً ولا فاتحةً ولا إخلاصاً ولا معوِّذتين ولا شيء على ظهر الأرض من القرآن! غَيْرة من الله على كتابه، لكنَّا لا زلنا ننعم بوجوده بيننا، وهذا دليل أنَّ الصُّدور التي استوعبت سرَّه موجودة في الأمَّة، فالحمد لله على ذلك.
والله يُنعِّمنا بتفهُّم معانيه، والإرتقاء بمصاعده مع أهْليه؛ لنُدرك سرَّ ما فيه: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) [الكهف:109]، (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) [لقمان:27]، ولكن قلَّ المؤمنون الذين اتَّصلوا بسرِّ القرآن، وعرفوا عظمة القرآن، وتنوَّروا بنور القرآن، فالله يُكثِّرهم في زماننا، يُكثِّرهم فينا وفي واقعنا حتى يرتفع الواقع من الوقوع والوضع، إلى الارتقاء والرَّفع، يا محوِّل الأحوال حوِّل حالنا والمسلمين إلى أحسن حال.
ونحن في هذا التَّأمل والتَّنعم الذي هو تكرُّم من قِبل المُنعم، نتدبَّر من آيات الله، وقد مررنا على بعض المعاني في سورة الفجر، مرتقبين أن لا ينقضي بقية رمضان إلا وقد طلع في سماوات قلوبنا فجر المعرفة بالله، فجر الصِّدق مع الله، فجر المحبَّة لله، وذلكم فجرٌ إذا طلع بقي نوره أبداً، واستمرَّ ضياؤه سرمداً، فالله يُكرمنا بذلك، ويسلك بنا أشرف المسالك، ويُعيذنا من جميع الزَّيغ والمهالك.
يقول ربي جلَّ جلاله: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14))، فلينتبه أهل الغفلات وأصحاب الرَّقدات والذين تُلهيهم الشَّهوات ومظاهر وزخارف الحياة الفانيات؛
الذي لا تعلمه أنتَ الآن، ما يخطر عليك إلا وقد عَلِمُه قبل أن يخطر عليك، وما يتبعه من نيّة وعزم، وما يلحقه من فعل ونزوع قد علم كلَّ ذلك؛
وليس حقيقة السَّميع البصير إلا هو، فإذا نظرنا إلى ما يهبُ من معنى السَّمع والبصر بداية مما يغيب عنَّا من الجمادات، الجمادات ممدودة بسرٍّ من السَّمع والبصر خفيٌّ عنّا! فنوعية السَّمع والبصر الذي عندنا، ليس عندهم -صح- لكن حقيقة من الإمداد بالسَّمع والبصر عندهم، وكيف يشهدون يوم القيامة على هذا وعلى ذاك إن لم يسمعوا ولم يُبصروا؟ فإذا نفينا عنهم الأسماع والأبصار فالمراد مستوى ورتبة في السَّمع والبصر صحيح ليست عندهم -لم يُمدَّهم الله بها-، ولكن معنًى من المعاني -نعم- ثمَّ ما فوق ذلك.. ثمَّ ما فوق ذلك.. ثمَّ ما فوق ذلك.
والنَّاس في أسماعهم وأبصارهم وأنظارهم يختلفون اختلافات كثيرة ودرجات -نعم-، وفوق ذلك كلِّه فهناك انفتاحٌ لسمع وبصر القلب، هو في وُسعه لا يُساوي البصر الحسِّي عنده شيء، فالبصر الحسِّي محصور في الحسِّيات، وإذا نُسبت الحسِّيات إلى المعنويات لم تكن العُشر، ولا عُشر العُشر، ولا ذرَّة من عُشر العُشر! ولهذا قال الله:
فنسأل الله أن يُنوِّر قلوبنا وأن يفتح أبصار قلوبنا، وأن يفتح أسماع قلوبنا، فإذا انفتح ذلك فعند الصَّالحين من الأولياء والعارفين في أمتّنا خاصة وفي الأمم كلها، أسماعٌ وأبصار عجيبة! أسماعٌ وأبصارٌ عجيبة!
وقد صحَّ في الحديث: وقد مُرَّ برجل بين يديه غلمان وجند وله شامة، فقالت: اللَّهم اجعل ابني مثل هذا، قال ﷺ: "ففكَّ الثَّدي من فمه وقال: اللَّهم لا تجعلني مثله!" أووه، عجيب طفل صغير يتكلَّم! ولا يريد مثل هذا! فأخذت تُرضعه، عاد إلى الرَّضاع فمُرَّ بامرأة تُُضرب يُقال لها: سرقتِ، كذبتِ، فعلتِ، قالت: اللَّهم لا تجعل ابني مثلها، قال ﷺ: "ففكَّ الثَّدي من فمه، وقال: اللَّهم اجعلني مثلها"، وهذا يسمع ويُبصر، ولازال طفل صغير ويتكلَّم أيضاً! قالت: عجب! رجعت إليه تتكلَّم، قالت: عجب.
أوَّل مرَّة مرَّوا برجل عنده جُند وعنده غلمان وعنده كرامة وشرف ومظهر، قلنا: اللَّهم اجعله مثله، قلت: لا! وهذه امرأة يضربونها يهينونها، قلت: اجعلني مثلها، كيف هذا؟! رجعت هي تكلِّمه -والآن هذا طفل يتكلَّم-، قال: "يا أماه، أما الأول: فهو من الجبَّارين، وهم وقود النَّار لا أحب أن أكون مثله، وأما الثَّانية: فهي برئية عند الله، يقولون لها كذبتِ وهي ما كذبت، سرقتِ وهي ما سرقت، فأحبُّ أن أكون مثلها" آمنَّا بالله.
وفي هذا أيضاً بيان لحقيقة الميزان التي تتحدَّث عنه الآيات التي أشرنا إليها أمس، أهل النَّظر القاصر والمكذِّبين باليوم الآخر مثل مَن جاء عنده مال وعنده مظهر يقولون: أُكرِم، سُعِد، ومَن قَصَر عليه مظهر، يقولون: هذا أُهين وبُخس؛ وهذا ميزان باطل. والطِّفل يتكلَّم عن هذا أيضاً، قال: الميزان هذا باطل! تريدينني أن أكون مثل ذاك! وما تريدينني أن أكون مثل هذه؟! هذا ميزان باطل! حقيقة هذا عند الله، خبيث وهو من أهل النَّار، وحقيقة هذه طاهرة مبرَّأة وهي من أهل الجنة، إذاً فالعبرة ليست بالمظاهر ولا بالصُّور التي يقول عنها الإنسان الكافر: (إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)) هذا كلام باطل.
وهكذا، أسماع وأبصار كانت في صُلحاء الأُمم ومنها: يقوم سيدنا عمر بن الخطاب على المنبر: يا سارية الجبل، والسارية في الشَّام يسمع الكلام، ويلتفت إلى الجبل يجد العدو، أقبلوا من جهة الجبل فقابلهم وهزمهم، وإلا لجؤا وهم لا يشعرون. وعمر على المنبر في المدينة ويوم جمعة، -وذاك في جهاد- فلما رجع، وكان سيدنا علي في الخطبة حاضر وجماعة من الصَّحابة، النَّاس سمعوا سيدنا عمر يقول: ياسارية الجبل! -ما هذا؟ يعني يذكِّرنا، يعضنا-؟ ويذْكر سارية ! أي سارية؟ وأي جبل هنا؟! أين سارية؟ وأين الجبل؟! عجبوا! بعضهم بجوار سيدنا علي، قالوا: ما بال أمير المؤمنين؟ يخرج من الكلام، أين ذهب؟ ضحك سيدنا علي، يعرف طيِّ المسألة، قال: سيخرج عما قال -سيرجع هو لكن اسكنوا محلّكم- سيرجع إلى الخطبة الآن وسيكمل، رجع إلى الخطبة وأكملها، وهابوا يسألنوه، فلمَّا كان رجوع الجيش حدَّثوا بأخوانهم، قالوا: كنا في يوم الجمعة فاستدار العدو من حيث لا نشعر من خلفنا من الجبل، وجاء يُريد أن يقع علينا، فما شعرتُ -يقول سارية- إلا بصوت عمر يخرق مسامعنا، يقول: يا سارية الجبل، فالتفتُّ فرأيت العدو، فقابلناهم وهزمهم الله.
والآن هذا يرى من هنا وذاك يسمع من هناك! أي سمع؟ وأي بصر هذا؟! ووسِّع..ووسِّع..ووسِّع آفاق السّمع والبصر إلى أن تصل إلى الأنبياء فتصل إلى سيِّدهم..
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، الله أكبر، فأولى مَن يُسمَّى في العالم الخلقي سميع بصير: مُحمَّد.
أسرار السَّمع والبصر عنده، مع ذلك كلِّه، فكلُّها موهوباتٌ من السَّميع البصير، أما حقائق سمع الحقِّ وبصره فلا يُحيط بها أحد من أهل الأرض ولا من أهل السَّماء، ويُمثِّلون هذا للمؤمنين ليستوعبوا معنًى من الإيمان، لا أن يُحيطوا.
يقول: لو أنَّ -ذرَّة- نملة سوداء وُضعت وسط صخرة صمَّاء، ثُمَّ جيء بهذه الصَّخرة الصَّماء وسطها داخل -الذرَّة- النَّملة السوداء إلى في ظلمة اللَّيل إلى أعماق البحار، فإنَّ الرَّحمن -تعالى- يرى هذه النَّملة ويسمع دبيبها ويرى عِظَامها ومَعِيها وما في بطنها ومخَّها؛ النَّملة هذه السَّوداء وسط الصَّخرة الصَّماء في اللَّيلة الظَّلماء، سبحانه هو السَّميع البصير.
والسَّمع والبصر جعل له حدود، وإن كانت هذه الحدود تتهاوى أمام ما يكون في البرازخ، ثمَّ ما يكون في القيامة، ثمَّ في الجنة والنَّار، ولكن مع ذلك كلِّه، فأيضاً هي مع اتِّساعها محدودة، والسَّمع والبصر المُطلق للحق؛ الله..الله ..الله.
(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)) إن كان بعض مَن أُمدَّ بالسَّمع والبصر لروحه وقلبه، يعلم من أحوال بعض ما لا أعلمه أنا من نفسي، وهو مخلوق مثلي! لما يُطلعه الله عليه، كما يطّلع صاحب الطِّب على شؤون في جسدي وصحَّتي أكثر مما أنا أعرفها واطّلع عليها، وأنا ما أعرف تفسيرها وهو يعرف بعض تفسيرها وهو مخلوق مثلي، ولكن هذا الذي بالمرصاد أعلم بما جرى ويجري وكان ويكون منك من كلِّ وجه ومن كلِّ جانب علماً إحاطياً لا يصل إليه علم أحد! لا إله إلا هو.
إذاً خسر مَن لم يُراقب هذه القوَّة الغالبة القادرة، وإن كان اليوم محجوب، محجوب في الدُّنيا بوسوسته وبشهواته وبهذه الحجب المضروبة عليه؛ فسيعود وينظر عظمة هذه القوَّة ويقول: (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)) ويندم على ما فرَّط في جنب الله، لا إله إلا الله، فكم مَن سخروا بأمر الدِّين وأمر النُّبوَّة وأمر الرِّسالة ثمَّ كان هذا مصيرهم!
(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)) والعجب والغرابة -مع إحاطته وعلمه وسمعه وبصره- يتنزَّل إلى الخلق ويجعل لهم شهود منهم، وشهود من ملائكته، وشهود وكتب مكتوبة، وصور مصوَّرة؛ توثيقات وهو لا يحتاج إلى شيء من ذلك، تنزَّل إلى خلقه في عظمته تنزُّلاً عظيماً، حتى أقام الشُّهود عليهم: من الملائكة، ومن الكتب، ومن الصُّور، ومن أعناقهم مسجَّلات،
الله!، أين ستذهب إذاً! (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى) [العلق:8]، (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) [التكوير:26]، (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)) لا يفوته شيء! جلَّ جلاله.
(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)) ويذكر بعض العامَّة من البادية، عنده معنى إيمان ولا يعرف التعبير، ولا تعلَّم بعض الأحكام التي يجب أن يتعلَّمها، فلقي واحد يدخل، يريد أن يُصلِّي في المسجد، ويقرأ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص:1]، قال: الله الصَّمد، قاعد على الرَصَد، ما يفوته أحد، -هو يقول هكذا-.. لمَّا سلَّم يقول له واحد: اسمع، هذا ليس قرآن الذي جئت به، هذا كلام تبطل الصَّلاة، ما يقبل الله منك هذا، قال: ما يقبل منِّي لماذا؟ هو ربِّي سفلى مثلك إنت! أنا أقصده وأجي إلى بيته ويردَّنا -لا-، قال: هذا حسن ظن بالله، والله ينفعك به ولكن صحِّح صلاتك، -صلَّح الصَّلاة- وقم كذا، وابقِ على حسن ظن بالله، لكن لابد تصحِّح، -تجي بألفاظ من عندك ومن رأسك وإن كان معناها صحيح- لكن يستشعر هذا أنَّ ربه بالمرصاد.. قال: قاعد على الرَّصد، ما يفوته أحد؛ ما عرف يكمِّل السُّورة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) [الإخلاص:1-4]، جلَّ جلاله.
(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)) والآن سينختم رمضان، نيَّات الواحد منَّا، مقاصده، حالته في قلبه، في قالبه، في سمعه، في بصره بالرَّصد، الذي يعلم الملائكة يكتبون شيء، لكن علمه أوسع وأكبر! كم وكم من خفايا على الملائكة تخفى! لكنها ما تخفى عليه سبحانه! (إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ) [آل عمران:5]، فإذا كان بعظمته وألوهيَّته وكبريائه وكونه بالرَّصد؛ رصد في المجمع قلباً مُقبلاً، متوجِّهاً، مُنيباً، خاشعاً، يرجوه، يندم على ما كان منه؛ فتح له بابه، ووهب له وهبه. (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)).
يقول الله تبارك وتعالى: (فأمَّا الإنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ):
(فأمَّا الإنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15))، (ابْتَلَاهُ) بمعنى اختبره، والاختبار يكون بالغنى وبالفقر، فالاختبار بالكل، الابتلاء بالكل، يبتليك بالغنى؛ فينظر كيف تفعل؟ يبتليك بالفقر؛ ينظر كيف تفعل؟ ما ينطوي عليه ضميرك؟ ماتُقدِّمه يداك؟ كيف تتصرَّف؟
فصاحب الغنى:
صاحب الفقر:
قال نبينا: "وأنا أوَّل من يأتي باب الجنة فأحرِّك حلقها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر"، "ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر" صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، هنيئاً.
إذاً ليست الكرامة ولا العز بالغنى، ولا الإهانة والضَّعة بالفقر؛ (كلَّا ..(17)) قال الله، أي: لم أُعطي هذا المال وأُغنيه لكرامته ولا لأكرمه به، قال: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات بَل لاَّ يَشْعُرُونَ) [المؤمنون:55-56]، وأين أهل الخير؟ قال: (إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون:57-61]، .
وهؤلاء يقول: (أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ) [الشعراء:205]، سنوات أعطيناهم مال وأعطيناهم صحة، (ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) [الشعراء:206-207] ماذا استفادوا؟ السِّنين هذه التي تمتَّعوا بها (ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) لا إله إلا الله!
إذًا، إذا أكرمه ونعَّمه بالأموال وبالمتاع الضَّال يقول: (رَبِّي أَكْرَمَنِ (15))؛ يقول: (كَلَّا) ليس كذلك! ليس الإكرام بوجود المال، (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ..) اختبره بالفقر، وضيَّق عليه رزقه (فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ)؛ يقول الله: (كلَّا ..(17)) لاأهنتُ هذا ولا أكرمتُ هذا!
اللَّهم أعزَّنا بطاعتك، ولا تُذلَّنا بمعصيتك،
اللَّهم أعزَّنا بطاعتك، ولا تُذلَّنا بمعصيتك،
اللَّهم أعزَّنا بطاعتك، ولا تُذلَّنا بمعصيتك،
إذ كان يُنادي بعض العارفين: ما أعزَّت العباد أنفسها بمثل طاعة الله، ولا أهانت أنفسها بمثل معصية الله.
ويأتي أرباب الكفر، وَعَرَض الله لنا صورهم في القرآن، فعجب بعد هذا العرض القرآني يأتي واحد منّا في القرن الحادي والعشرين يغترّ بحضارة غرب أو شرق ويقول: هؤلاء عملوا، وهؤلاء طلَعوا و نزلوا! -قليل جدا!- خذ النَّظر الواسع من طرف إلى الطرف، والحاضر والمستقبل والماضي؛ كن إنسان .. إنسان .. إنسان يعلم لمَ خُلق، ومَن خلقه، وبدايته من عند آدم، وما أخبار القرون؟ وما شأن هذا الحاصل؟ وإلى أين يمضي؟ وإلى أين يصير؟ وإلى أين يكون؟ كُن إنسان.
الله عرض لنا قصصهم والأخبار:
(قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ)؛ ليفهِّمه، ليدلُّه، ليدعوه إلى الله، ليُنقذه من ظُلمه: (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ) [الكهف:37]، أنت من أين جئت ؟! إعقل، ما الكلام هذا؟!! تتكلَّم بلا عقل؟! (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَكِنَّا) -لكن أنا مسلكي وطريقي غير هذا- (هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا) [الكهف:38]، وأنت لولا إذ دخلت بستانك هذا الممتاز الملآن (قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) [الكهف:39]، هذا أحسن لك! سيحفظ لك البستان، وستنعم به، وسيبارك لك فيه (مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ).
وأخذ العلماء منها: أنها دواء من العين، ومن كل استكثار لشيء، إذا قلت: (مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) انصرف الشَّر عن الأمر الذي قلت عليه كذلك، ومن أقوى ما يدفع العين لفظة: (مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ)، (وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ).
اسمع: (إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا) [الكهف:39] وأنتَ نظرتك هذه المعوجَّة؛ أنَّ المسألة كلَّها بالمال والولد وبالبساتين والمظاهر (إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا)، فأمام عينك تحويل الأحوال ليس ببعيد، مالك تنسى؟! تقول: (مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا)؛ يقول: (فَعَسَىٰ رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ) أن يُعطينا بستان خيراً من بستانك هذا وأحسن (وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا) -على بستانك هذا والجنَّة- (حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاءِ) -ريح حارة أو برد شديد- (فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا) [الكهف:40-41]، هل تريد ماء؟ لن تجد، كيف ستسقيها؟ ستموت (فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا) [الكهف: 41]؛ اذهب .. أنا..أنا؛ هذا منطق ناس كثير!.
قال الله: (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) [الكهف:37] ليلة واحدة وهلك كلّ ما فيها! وجاء يتفرَّج وإذا لا يوجد شيء؛ (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا * هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ) [الكهف: 42-44]، الله مَن تولَّاه هو المُعَز والمَنصور، ولكن مَن أعرض الله عنه، مَن يتولَّاه؟ ما له ولي غير الله! (ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ) [محمد:11]، (هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ).
وهكذا.. ذكر الله لنا أصحاب الجنَّتين أيضاً في بستانين ثانية، يقول -سبحانه وتعالى- في ذكر ذلك في سورة "ن" -ماذا يقول؟-: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ) -أيضاً بستان كبير- (كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ) مبكِّراً في الصَّباح، بستان ممتاز، وأثمر ثمر ممتاز، والعادة في أثناء النَّهار يقطعونه ويصرمونه، ويأتي الفقراء ويعطونهم ويعطونهم.. يعطونهم ويأخذون. قالوا: اسمعوا هذه المرة نخرج في الصَّباح مبكِّراً قبل أن يأتي أحد، (لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ)،] ولا يقولون: إن شاء الله. قالوا: قبل أن يأتي أحد وناخذ الثَّمر كلُّه، نضعه إلى مخازننا وبيوتنا، قال: (فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ) [القلم:19] في اللَّيل وهم نائمون، (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) -هلكت كلها- (فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ) -مبكِّراً- (فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَىٰ حَرْثِكُمْ) -قوموا بسرعة!- (إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ) -تجزُّون وتأخذون الثَّمر- (إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ * فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ) [القلم:17-24] ولا واحد اليوم نُعطيه! مساكين! هم مساكين، بخلوا بشيء، لم يعطوه للمساكين.
ففنيت المزرعة بكلِّها: (أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ) في ظنِّهم وترتيبهم كلِّ شي أمس كان ممتاز، الشَّجر مليان بالثمر- جاءوا! أين الـبساتين؟ أهذا مكانها؟ أخطأنا في الطَّريق؟ هل في مكان ثاني هذا؟ أين نحن الآن؟ (أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ) [القلم:24-26]، ليس هذا مكاننا، أين بستان أمس؟ أين المزرعة التي رأيناها أمس؟ أخطأنا في الطَّريق؟ ذهبنا إلى مكان آخر (إِنَّا لَضَالُّونَ) تأكدوا أن الطَّريق نفسها، الدِّيار نفسها، (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) مصيبة جاءت ولم يبقى شيء منها!.
(قَالَ أَوْسَطُهُمْ) -أفضلهم- (أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ)، حافظوا على أموالكم بذكر المموِّل! تعاملوا مع الكائنات باتِّصال بالمكوِّن! لا تغركم ولا تقطعكم (أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) انتهى، ذهب كل شيء، سبّحوا من أجل ثاني مرَّة! أمّا هذه الجنة فقد ذهبت.. (قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ * قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ) [القلم:27-31]، تفكيرنا السابق خطأ، وهم يقولون كذا وحدهم! أنظر أكثر الأفكار الموجودة التي يروجون لها اليوم، ثم يقولون: خطأ.. خطأ.. خطأ! (إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ) ما الطريق؟ ما عاد شي إلا رجعوا إليه هو (عَسَىٰ رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ)، قال الله: (كَذَٰلِكَ الْعَذَابُ) هذا ما نعمله بالنَّاس إذا انحرفوا في الدُّنيا (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [القلم:32-33].
وأين المُكْرمين، والنّاس الممتازين الطَّيبين؟ (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)؛ هذا حكم باطل يشعشع اليوم في أذهان المسلمين -الله ينقذهم-، ظُلمة وكلام باطل من الكفَّار تسرَّب إليهم فصدَّقوه! (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) من أين جئتم بهذه الأخبار؟ (أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ) كتاب جاء من عند الله، من عند الرَّب -سبحانه وتعالى- وهم ألَّفَوا لكم أفكارهم واستعبدوكم بذلك! لا خلقوكم، ولا رزقوكم، ولا بيدهم أمركم، ونسيتم خالقكم ورازقكم ومن بيده أمركم (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ) [القلم:34-38].
يقول تعالى: (فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا) والنَّبي ﷺ أكَّد هذا المعنى: "رُبَّ أشعث أغبر مدفوعٌ بالأبواب لو أقسم على الله لأبرَّ قسمه" لأبرَّ قسمه.. الله أكبر.
فكم خفي في النَّاس من مسكين *** قد امتلى من صفوة اليقين
وهان بين النَّاس ذي الطمرين *** وهو لدى الحق عظيم عالي
وسيُرى علوّه إلى الأبد! وفي القيامة كلُّهم يرى النَّاس علو هذا الذي كان ما يعرفون له قدر في الدُّنيا! أكثر الذين تُنشر لهم الدِّعايات اليوم في زمننا يُحشرون في صورة مُزرية على صور الذَّر، مُحتقرين.. مهانيين في القيامة، ولا ينجو من أهل عصرنا من طرف إلى طرف، بلا استثناء:
فقط، فقط، والله فقط! غيرهم يسمُّونه ما يسمُّونه! هالك..هالك، خاسر خاسر، شقي شقي، مُعذَّب مُعذَّب.. هذا بلاغ النَّذير، هذا بلاغ النَّذير ﷺ (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) [الأحزاب:45] قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، والله لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون وإنها الجنة أبداً أو النار أبداً، -فالله يجعل مصيرنا خير، ومآلنا إلى خير، وإلى مرافقة نبي الخير-.
قال ربنا: (كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18)) يعني يتركون الطَّاعات والقربات إلينا وفيها الإكرام؛ هنا الإكرام، ويقصدون التَّافهات والسَّيئات وهناك الإهانة! (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا (19)) التُّراث: الإرث، (تَأْكُلُونَ التُّرَاثَ) يأكلون التُّراث، -الإرث إذا مات الميت-،
(وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ) سكرانين وراءه! -سكرانين وراء المال- (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا(20)) كثيـر! وأنتم أخزيتم أنفسكم بهذا وأهنتموها، ونحن بهذه الإهانة، وبالطَّاعة والتَّقوى الكرامة (كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) بتفقُّد الأيتام ومراعاتهم؛ الكرامة عندنا، بالبذل من أجلنا (بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ(18)) يعني لا يحثُّ بعضكم بعضاً (وَلَا تَحَاضُّونَ) لا تحثّون وتنتبهون من إكرام اليتيم.
هكذا، ولا نزال في معاني سورة الفجر، والله يُشرق نور فجر الصِّدق على قلوبنا، ولا ينصرف عنّا رمضان إلا وقد طلع هذا الفجر في سماوات القلوب لنرتبط بمَن أُنزل عليه الكتاب حبيب الله المحبوب، اجعل ربطنا به أقوى الرَّبط، وارزقنا الاستقامة في منهاجه بأحسن الضَّبط، واجعل ربطنا به لا انفكاك له ولا انحلال أبداً، واجعلنا به في الدُّنيا وغداً من أسعد السُّعداء، يا حي يا قيوم.
يا ربَّ رمضان، يا مُعطي العطايا الحسان، يا كريم يا منان، كم تعتق في هذه الأيام من النَّار؟ وكم تعتق من العار؟ وكم تعتق من رقِّ النُّفوس؟ وكم تعتق من الذُّنوب والمعاصي؟ فنسألك العتق كله، نسألك العتق الكريم الشَّريف كلَّه، من كل ما تكره، ومن كل ما لا تُحب حتى نكون محض محبة لك؛ بأرواحنا وأجسامنا، وأقوالنا وأفعالنا، وأخذنا وعطائنا، يا حي يا قيوم.
واجعلنا من الذين آمنوا وعملوا الصَّالحات، الذين تتحوَّل أولادهم إلى قُربة إليك، وأموالهم إلى قُربة إليك، (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا) [سبأ:37]، اجعلنا ممَّن آمن وعمل صالحاً، فأصبح سعيه ناجحاً، وأصبح بيعه رابحاً (وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ) [التوبة:111]، فاجعلنا ياربِّ من الموفين بعهدك، الظَّافرين بمحبَّتك وودِّك، وصلِّ وسلِّم على حبيبك وعبدك خاتم رسلك سيدنا محمَّد، وانصر أمَّته، واجمع شملهم بعد الشَّتات، والطف بهم فيما تجري به المقادير، واجمع قلوبهم على حُسن الإقبال عليك، والسَّير في خير مسير، ليكونوا في أحسن المصير، برحمتك يا أرحم الرَّاحمين
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
دعوناك كما أمرتنا فاستجب لنا كما وعدتنا،
دعوناك كما أمرتنا فاستجب لنا كما وعدتنا،
دعوناك كما أمرتنا فاستجب لنا كما وعدتنا،
إنَّك لا تُخلف الميعاد برحمتك يا أرحم الرَّاحمين.
28 رَمضان 1436