(228)
(536)
(574)
(311)
تفسير الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لسورة الفاتحة وقصار السور بدار المصطفى ضمن دروس الدروة الصيفية العشرين في شهر رمضان المبارك من العام 1435هـ.
﷽
الحمدُ لله على هُبوبِ النَسَمات وحُصول النَفَحات وإهلالِ شَهر النَفحَات والرَحمات والعَطِيّات الجَزيلات، شهر القرآن الكريم والآياتِ البَيِّنات، الحمدُ لله على ما تَفَضّل ولَه المِنّة على ما تَطَوّل وهو الآخرُ الأول وعليه المُعَوَّل.
نشهد أنه الله الذي لا إلهَ إلاَّ اللَّه وحْدهُ لاَ شَرِيكَ له، ونَشهدُ أن سَيدنا ونَبينا مُحمد عَبدهُ ورَسوله، ونَبِيهُ وحَبيبُهُ وصَفِيهُ وخَليلُه، كان يَجتَهد في رَمضان ما لا يَجتَهِدُ في غَيره، ويَجتَهدُ في العَشرِ الأوٱخر من رَمضان ما لا يَجتَهِدُ في غَيرها من رَمضان، اللهُم صَلِّ وسَلِم وبارك وكَرِم على عَبدكَ المُصطفى سَيدنا مُحَمد وعلى آله وأصحابه وأهل حَضرة اقتِرابه من أحبابه وآبائِه وإخوانه من النَبيين والمُرسَلين، وآلهم وصَحبهم أجمَعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يَوم الدين.
ونَستَفتِحُ بِدُعائِه الذي كانَ يَدعو بِه وعَلَّمَنا إيّاه ونَقول: "اللَّهُمَّ سَلِّمْنِا لِرَمَضَانَ، وَسَلِّمْ رَمَضَانَ لِنا، وَتَسَلَّمْهُ مِنّا مُتَقَبَّلًا، اللهم وسَلِّم رَمَضان مِنا"، "اللَّهُمَّ سَلِّمْنِا لِرَمَضَانَ، وَسَلِّمْ رَمَضَانَ لِنا، وسَلِّم رَمَضان مِنا، وَتَسَلَّمْهُ مِنّا مُتَقَبَّلًا"، يا ذا الجَلال والإكرام، "اللَّهُمَّ سَلِّمْنِا لِرَمَضَانَ، وَسَلِّمْ رَمَضَانَ لِنا، وسَلِّم رَمَضان مِنا، وَتَسَلَّمْهُ مِنّا مُتَقَبَّلًا"، يا ذا الجَلال والإكرام.
أما بعدُ،،
فَنَفتَتِح تَأَمُل الآياتِ وتَدَبُرها في شَهرِ الآيات ونُزولِها: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ) [البقرة:185]، ونَفتَتِحُ بالفاتِحة ومِنها نَمُرُّ من سُورَة الناس إلى ما قَبلَها مِنَ السُوَر. ولَقَد جَعَل الله -سُبحانهُ وتَعالى- فاتِحة الكِتابِ أعظَم سور القُرآن، وأودَعَها من المَعاني ما لا يُستَطاع حَصرُه ولا يُقدَر على استيعابه كُله لأحدٍ من الخَلقِ على مَدى الزَمان وإلى الأبد، ومن هنا قيل:
كما أن الله جَعَل أَصل الكُرة الأرضية عندما دَحاها مَكةَ المُكَرَمَة، ومنها تَم دَحوِ الأرضِ من أطرافِها إلى أطرافِها، فَصارت أمَ القُرى، فكانت مكةُ أمُّ القُرى، كما أنه تَعددت أسماءُ هذه السورة العَظيمة التي تَعَدَدَت الرِوايات أنها أعظم سُوَر القُرآن.
وقد نادى ﷺ بَعضَ الصَحابَةِ وكان يُصَلي، فَخَفَفَ صَلاتَهُ ثم جَاءَ مُجيباً لِنِداءِ النَبي فَسَألَهُ: ما مَنَعَك أن تُجيبَني؟ قال: كُنتُ أُصَلي. قال: أفلا قَرَأت قَوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) [الأنفال:24]. ثُمَ قال لَه: لا أَخرُج من المَسجِد حَتى أُعَلِمك أعظَم سورةٍ في القُرآن، قال وجَعَل يَمشي إلى جِهَةِ البابِ ﷺ، وجَعَلَ الصَحابي يَتَباطأ لِيُخبِرهُ بِأَعظَم سورةٍ مِن القُرآن حتى دَنا مِنَ الباب فَذَكَّرهُ، و قال يارسول الله: قُلتَ لا أَخرُج مُن المَسجِد حَتى تُعَلِمني أَعظَم سورة في القُرآن؟ فَقال صلى الله عليه و ٱله وسلم: ما تَقرَأ في صَلاتك؟ قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2))، أي: سورة الفاتحة، وهو أَحَد أسمائِها الحمدُ لله رَبِ العالمين. قال: "فَتِلْكَ هي أعظَم سورةٍ في القُرآن صلى الله عليه وعلى ٱله وصحبه وسلم".
وأما قِصَةُ: "وما يُدريكَ أنها رُقية"، فَهِي المَشهورةُ في البُخاري وغَيرِه أن جَماعَةً من أصحابِ النَبي ﷺ خَرَجوا في الجِهاد في سَبيلِ الله، وفي أثناءِ رُجوعِهم مَروا على حَيٍّ من أحياءِ العَرَب فاستَضافوهُم؛ فَأبوا أن يُضَيِفوهم فَجَلَسوا حَولَ القَرية. فأرسَلَ الله إلى رَئيس حَيِّهم حَيَّةً تَلدَغُه فَلَدَغتُهُ الحَيَّة، فَلما لَدَغَت سَيِدهُم الحَيَةَ لَجَأوا إلى الصَحابَة، وجَاؤوا يَقولون: هَل عِندَكُم مِن راقٍ؟ هَل عِندَكُم مِن رِقيةَ؟ فَإنَ صاحِبُكُم بُعِثَ بِخير أو جَاءَ بِخير؛ وفيه طُغيانُ هذه النُفوس وإبائِها أن تُضَيّف هؤلاء القَوم، خروجاً حتى عن الفطرة وعن شِيَمِ العَرَب وعاداتِهم باستِقبال الضَيف وإكرامِه؛ اتباعاً لِهوى النَفس لكَراهَتِهم مَسلَك الدِين. فلما وقَعَت بِهم الواقِعة ونَزَلت بِهم الضَرورة رَجعوا إلى هؤلاء القَوم، وهم يُقِرُّون في أنفسهم أن النَبي جَاء بالخَير "وبُعِثَ بالخَير"، "إنَّ صاحِبُكم جاء بِخَير"، ولَم يَكُن بَينَ القَوم من تَخَصص في الرُقية أو كان يَستَعمِل الرُقية ولكن الإيمان يَفعَل الأعاجيب ويَصنَع الغَرائِب في أصحابه -رَزَقَنا الله كَمالَ الإيمان-، سيدنا أبو سَعيد الخُدري قال: نَعم نَرْقِي، ولكن استَطعَمناكُم فَلَم تُطعِمونا، استَضفناكم فَلَم تُضَيِّفونَنا، فَلَن نَرْقي لَكُم ألا بِأجر، قالوا: اطلُبوا ما شِئتُم، فاتَفَق مَعَهُم على قَطيعٍ من الغَنَم نَحو ثَلاثين أو أربَعين رَأس، ولو كانوا أضافوهُم ما ذَهَبَت هذه الأغنام وما أَخرَجوا مِنها إلا رَأساً أو رَأسين أو ثَلاثة وانتهت المَسألة. فَلَما اتفَقَ مَعَهُم على ذلك جاء إلى سَيِدهُم اللَّديغ وقَرأَ سورة الفاتِحة وجَمَع ريقَهُ ووضَعَهُ على مَحَل اللَسعة، وثاني مرة، فثالث مرة، فكأنما نُشِطْ من عُقَال وذَهَبَت الآلام وكُل شَيء، فقال: إن هذا راقي كَبير؛ ولم يَرقَ قَبلها قط-عليه رضوان الله تعالى-؛ ولكن إيمانُه بِفاتِحة الكِتاب.
والأُمةُ لو حَسُنت صِلَتها بالحَقِ وعَرَفت عَظَمَة الكِتاب لَفَعَلَت بِه الأَفاعيل في شُؤون الحَياة المُختَلِفة، ولكنها كنوزٌ فاتتهم بالحُجُب التي طَرَأت وطَلَعَت على قُلوبِهم وأفئِدَتِهم، فَأَفقَدَتهُم سِرَ التَعظيم والإجلالِ والإكبار فَحَرَمَتهُم أسرارَ الآياتِ المُنزَّلة. اللهم تَدارَك الأُمة واغِثها واكشِف عَن قُلوبِها العَمى والحِجاب وارزُقهُم تَعظيم ما عَظَّمت يا ذا الجَلال والإكرام.
كانَ هذا من أبي سَعيدٍ وتَحَرَكَت في النُفوسِ شُؤونُ التَأمُل والتَدَبُر في الوَرَع؛ فَيَحِل لَهُ أخذُ هذا القَطيعُ من الغَنَم على قِرآءةٍ قَرَأها ورُقيَةٍ اختَرَعَها ورَقى بِها، فامتَنَعَ بَعضُ الصَحابَةِ مَعهُ من أن يَأكُلَ شَيئاً من تِلكَ الأغنام، واستاقوا أغنامَهُم وذَبَحوا منها ما ذَبَحوا وأكَلوا ما أكَلوا وطَعِموا ما طَعِموا، وامتَنَع المُمتَنِعون مِنهُم حَتى وصَلوا المَدينةَ المُنَورة وأخبَروا نَبِينا المُصطَفىﷺ. فَلَما أخبَروه، التَفَت إلى أبي سَعيد: "وما يُدرِيك أنها رُقية؟ كُلوا وَاضْرِبُوا لي معكُمْ سَهْمًا"، "فمن أكَلَ بِرُقيَة باطِل فَقَد أكَلتُم بِرُقيَة حَق"؛ هذه رُقيَة الحَق، وفيه تَقريرُ رُقيَةُ الحَقِ في سُنتِهِ صلى الله عليه وٱله وصَحبِه وسَلَم.
وقد عَرَضَ عليه بعض الصحابة رُقيَةً كانَ يَرقي بِها في الجَاهلِية فاستَفتاهُ فقال: أعرِض عَلَيَّ رُقيَتَك، فَعَرَضها عَليه، فلم يرَ بِها بَأساً، فَأَقَرَّهُ عليها،
وقالَ لأمرأةٍ -كانت تصاب بالعين- : "استَرقوا لها؛ فَإنَ بِها النَظرَةَ"، أي العين، "استَرقوا لها؛ فَإنَ بِها النَظرَةَ".
" لعَمري من أكلَ بِرُقيَةِ باطِلٍ فقد أكلتـُم برُقيَة حَق"، وطَيَّبَ نُفوسَهُم بِقوله: "وَاضْرِبُوا لي معكُمْ سَهْمًا"، إن بَقي شَيء مما عِندَكُم أعطوني نَصيباً مِنه ﷺ، يُطَمئِنهم أنها حَلالٌ خالِص.
فَهِي الرُقيَةُ وهي الشافِيةَ ولكن لِمَن قَرَأها بالتَعظيم، لِمَن قَرَأها بالإجلال لِمَن قَرأها بالإكبار لِمن قَرَأها مُستَشعِراً؛ مِن عِند مَن جاءَت؟! وعلى مَن نَزَلَت؟! وما احتَوَتهُ من مَعاني.
فاتِحَةُ الكِتاب، تُسَمى الصَلاة لِما جاء في الحَديث: "إن الله يقولُ: قَسَمتُ الصَلاةَ بَيني وبَينَ عَبدي، فإذا قالَ عَبدي: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2))، قال الله: حَمِدَني عَبدي، إذا قال: (الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (3))، قال اللهُ: أثنى عَليّ عَبدي، فإذا قال: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4))، قال اللهُ: مَجَدَني عَبدي، وإذا قال: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5))، قال الله: هذا بَيني وبَين عَبدي ولِعبدي ما سَأَل، فإذا قال: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7))، قال الله: هذا لِعَبدي ولِعبدي ما سَأل"، "قَسَمتُ الصَلاةَ بَيني وبَين عَبدي"، أي فاتِحَة الكِتاب. فَمِن أسمائِها: الصَلاة.
وهكذا تَعدَدت الأسماءُ لفاتحةِ الكِتاب، ومن أسمائِها الكافِية، وافتَتَحها الحَقُ جَلَّ جَلاله: بِـ(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (1))، وقد اجمَعوا على كِتابَتِها عِندما كُتِبَت المَصاحَف في عَهدِ الصَحابة في أولِ كُلِ سورةٍ إلا سورَةَ بَراءة -سورة التوبة- فَلَم يَكتُبوها في بدايتها، فاختَلَفَ بَعدَ ذلِك الفُقَهاءُ والعُلماء هَل هِي آيةٌ من الفاتِحة ومَن كُلِ سورة؟ أم آيةٌ مُستَقِلة للفَصلِ بَينَ السُوَر؟
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (1))، يَأتي الإبتِداء: (بِسْمِ اللَّهِ)، (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ)؛
فإذا أُضيفَت إلى الحَق انحذَفَ الأَلِف. وقيلَ: (بِسْمِ اللَّهِ)، فَإنَهُ عِندَ تَأَمُل حَقائِق اسم الله ينحَذِفُ من الإنسانِ شُهودُهُ نَفسُه وسِواه، ويَسقُطُ ذلك الألف.
وافتُتِحَ بالباء المَكسورَة: (بِسْمِ اللَّهِ)، بالباء المَكسورَة؛ إشارةً إلى الإنكِسار التَذَلُل الذي هو مِفتاحُ القُرب من الله ونَيلِ العِندِيّة من الله تعالى القائل: "أَنَاْ عِنْدَ المُنكَسِرَةِ قُلُوبُهم مِنْ أَجَليْ"، بِسم الله، بِسم الله.
افتُتِحَ القُرآن (بِسْمِ اللَّهِ) يَقومُ الشَأنُ تَعليماً من الله لنا في كُلِ أحوالِنا بِمُقتَضى الإيمان، فَبِسمِ الله استَقبَلنا رَمضان وبِسمِ الله ابتَدَأنا بِالصِيام، تَقَبلَهُ اللهم مِنا وحَقِقنا بِحَقائِقه، بِسمِ الله اجتَمَعنا، بِسمِ الله يَأكُلُ المُؤمِن ويَشرب ويَنام ويَقوم ويَدخُل ويَخرُج ويَلبَس ويَأخُذ ويُعطي، (بِسْمِ اللَّهِ):
(بِسْمِ اللَّهِ) إذا تَأمل مَعناها المُؤمن كَشَفَت لَهُ عن مَظاهِر عَجزِه في تَسيير الأمور، فإذا جاءَ إلى ما أُعطيَ في الظاهِر الاستطاعَةَ والقُدرَةَ عليه؛ قيل لهُ: لا تَغفَل عن الفَعّال على وَجه الحَقيقة، لا تَغفَل عن المُكَوّن المُسَخِّر لِلّخَليقَة وقُل: بِسمِ الله، ويَكونُ ذلك حِصنٌ لَك وحَيلولَةً بينك وبين الشياطين؛ فلا يَقدِرون على شَيءٍ ذُكِرَ اسمُ الله عَليه، "بسمِ اللَّهِ الَّذي لا يضرُّ معَ اسمِهِ شيءٌ في الأرضِ ولا في السَّماءِ وَهوَ السَّميعُ العليمُ".
وأنواع الشُرورِ تُساقُ وتَنهالُ على الناس وتُصيبُهم وتُنازِلُهم من اجتِرائِهم على شُهودِ الأشياءِ بِغيرِ اسم الله، وعلى انطِلاقِهم في الأشياء بِغَير اسم الله سُبحانَهُ وتَعالى. ولَقَد ظَهَرت الفِرَقُ المُلحِدة والمُكَذِبَة بالقُرآن والدِين، وصاروا يفتَتِحون خِطاباتِهم باسم كذا وباسم كذا وباسم كذا من أحزابٍ مما يُضحَكُ أيضاً به على الشُعوبِ، ويُقالُ فيه باسم الشَعب وما إلى ذلك من الألاعيب التي نَخَرَت في واقع البَشَرِية بِزَهلَقِة وزَخرَفَةٍ في القَولِ والشِعارات ولا طائلَ تَحتَها، ولَيسَ فيها إلا الإنقِطاع عن الحَقِ سُبحانَهُ وتَعالى؛ وحينئذٍ لا يُصاحِبُهم التَوفيقُ فيما يَقومونَ بِه، ويُصيبُهُم سوء جَراءَتهم والتِفاتِهم إلى غَير اسم الله وقِيامِهِم بِغَير اسم الله.
(بِسْمِ اللَّهِ) -جَلّ جَلالُه وتَعالى في عُلاه- يَجِبُ أن يَقومُ كُلُّ شَأنِنا وأَمرِنا من حَيثِيِة استِحضارُنا نَحن وشُهودِنا نَحن، أما في حَقيقَةِ الأمر فما هُناكَ شَيء قَائم إلا (بِسْمِ اللَهِ)، ومن فَعَلَ ما فَعَل فتَحتَ حَقيقَةِ (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) [الأنعام:112]، وما أَطاعَ من أَطاعَهَ إلا بِتَوفيقِه وفَضلِه -جَل جَلاله وتَعالى في عُلاه-، ولا كانَ كائِنٌ إلا بِه، فإسمُ الله على كُلِ شَيء حَتمَاً وقَطعَاً، ولكن شُهودُنا، مَشاعِرُنا، أحاسيسُنا، وجدانُنّا هو الذي يَقوى ويَضعُف ويَحسُن ويَسوء ويَصِحُ ويَبطُل، فَعَلى قَدرِ صِحَةِ هذا الشُعورِ (بِسْمِ اللَّهِ) والتَحَققِ (بِسْمِ اللَّهِ) بَعدَ التَعَلقِ (بِسْمِ اللَّهِ) -جَلَ جَلالُه وتَعالى في عُلاه-.
(بِسْمِ اللَّهِ) كانَ ما كان ويَكون ما يَكون ولا شَيء إلا قائِمٌ (بِسْمِ اللَّهِ)، فَعَلَيَّ إن قُلتُ أن أَقولَ: (بِسْمِ اللَّهِ)؛ فَأتَجَنَبَ كُلَ قَولٍ لا يَرضاه واتَجَنَبَ أن يُخالِطَني قَصدٌ لا يُحِبهُ، أن أُظهرَ قَولاً وأُبطِنَ غَيرَ مَعناه.
(بِسْمِ اللَّهِ) إذا صَدَرَ القَولُ (بِسْمِ اللَّهِ) سَلِمَ من كُلِ تِلكَ الآفات، مَن كان يَتَكَلمُ (بِسْمِ اللَّهِ) لا يَغتاب، من كان يَتَكَلم (بِسْمِ اللَّهِ) لا يَكذِب، ولكن من تَجَرأَ وأَخَذَ يَتَكَلمُ بإسم نَفسِه وبِإسمِ هَواهُ؛ هو الذي يَكذِبُ وهو الذي يَغِشُ وهو الذي يَسُبُ وهو الذي يَلعَن وهو الذي يَخرُج عن حَقيقَة العِبادَة.
مِثلُ هذه العِبادَة لَنا عِبادَة الصَوم التي تَكتَنِفُها هذه المَعاني: "وإذَا كانَ يَوْمُ صَوْمِ أحَدِكُمْ فلا يَرْفُثْ ولَا يَصْخَبْ ولا يَفسُق، فإنِ امْرُؤٌ شاتَمَه أو قاتَلَهُ فَليَقُلْ إنِّي صائمٌ"، "إنِّي صائمٌ"، أي ما دُمتُ صائِماً مُتَعَلِقاّ بالعِبادةَ فَإنَما أَتَكَلم (بِسْمِ اللَّهِ) فَمَهما دَعَتني الدَواعي لِتَستَجِرَّني إلى أَن أُخاصِم وهو شَأنٌ لا يُحِبهُ رَبي فَلَن أَخضَعَ لَها ولَن استَجيب "إنِّي صائمٌ"، "إنِّي صائمٌ"، مَهما كان الإستِفزازُ لأن أُخاصِم، لأَن أُشاتِم، لأن أُقاتِل، مَنَعَني مانِعٌ وهو حُضوري مع الله وهو عُبودِيتَي لله وهو قِيامي بِحَق العِبادة لله، فأنا (بِسْمِ اللَّهِ) أقولُ وأَفعَلُ وآخُذُ وأُعطي وأَقبَلُ وأَرُد: (بِسْمِ اللَّهِ).
و(بِسْمِ اللَّهِ) تَعالى، إستَقبَلنا شَهرَنا الكَريم و ابتدأنا هذا الإجتِماع على هذا الخَير في بُكرةِ كُلِ يَومٍ في أيامِ الشَهرِ الأبرَك، وأبركُ اليومِ بُكرَتُه؛ "بُورِكَ لأُمَّتِي في بُكورِها". افتَتَحنا بِصَلاةِ الجَماعَة للصُبح التي من مَنزِلَتِها عِندَ الله أَن يُدخِلَ في كَنَفِه من صَلاها جَماعة فقَبِلَ مِنهُ ذلك فَيكون في ذِمَة الله حَتى يُمسي، وكأَنما قَامَ نِصفَ الليلِ مَع صَلاةِ العِشاء في جَماعَة فَيَكَتَمِلُ الليل، يَكتَمِلُ ثَوابُ قِيام الليل فَكَأنَما قامَ الليلَ كُلَه، إن كانَ قَد صَلى العِشاءَ في جَماعَة ثُمَ صَلى الصُبحَ في جَماعَة.
ومَع هذه الجَماعة قُمنا بالأَعمالِ الصالِحة حَيثُ صَلينا في مُصَلانا مِن ذِكرٍ لله، ومن مُصافَحَةٍ يَتَعَرّضُ بها الواحِدُ منا لِمَغفِرَة الله عِندَما يُصافِحُ أخاهُ المُسلِم، ويُسهِمُ في رَفعِ كَآبَة وسوءِ الغِلِ من القُلوب الذي يَنبَغي أن تَمتَدَ في نِياتُنا؛ لأن يَرتَفِع ذلك منا ومِمَن حَوالَينا وممن يَلوذُ بِنا ومن الأُمة؛ و "تصافَحوا يذهبُ الغِلُّ"، "إذا إلتقى المُسلِمان فَتَصافَحا غَفَرَالله لَهُما قَبلَ أن يَتَفَرَقا".
(بِسْمِ اللَّهِ) أيضاً نواصلُ اعتِكافَنا على الذِكرِ والعِلم حتى تَطلُعَ الشَمس ثُمَ نُصَلي رَكعَتين فَنَحوزَ ثَوابَ حجة وعُمرَهَ في شَهرِ رَمضان؛ بشاهِدِ ما صَحَ في الحَديثِ عَن نَبِيِنا ﷺ في رِوايَة التِرمِذي وغَيرِه: "من صلَّى الصبحَ في جماعةٍ ثم قعد -في مُصَلاهُ- يذكرُ اللهَ حتى تطلعَ الشمسُ، ثم صلَّى ركعتين -أوأَربعاً- كانت له كأجرِ حجةٍ وعمرةٍ تامَّةٍ تامَّةٍ"
(بِسْمِ اللَّهِ) نَحوزُ هذه الخَيرات هَيَأنا الله لَها، بِسْمِ اللَّهِ تَعالى نُواجِهُ نَفحاتِ شَهر الصِيام والقِيام ونُوَسِّعُ النِيات، فَقَد أمَدَ الله في أَعمارِنا حتى أدرَكنا هذه الأيام، كَم عَرفنا مِمن لَم يُدرِكها ممن ماتَ خِلال العامِ إلى الأيام القَريبة إلى يوم أمس فارقوا الحَياةَ ولم يُدرِكوا هِلال هذا الشَهر.
فيا مَن بَلغتَنا إيّاه بَلغنا خَيراتِه وأَوصِل إلينا بَرَكاتِه وإجعَلنا من المُساهِمين القاسِمين في جَميعِ رحماته، فلهم حظٌ من كُل ما تَرحَم به عِبادَك وتَنظُر بِعَين الرَحمة إلى عِبادِك وتُكرِم بِه عِبادَك يا رَب العِباد، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين، اجعَلهُ من أبرَكِ الرَمَضانات علينا وعلى أهل لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أجمَعين، إكشِف به سوء ما يَنطلِقون به بأسماء غَيرك وإرادة سِواك و رُدَّهم إلى اسمك يا من لا يَضُر مع اسمه شيءٌ في الأرضِ ولا في السَماء وهو السَميعُ العَليم، باسمك نَحيا وباسمك نَموت باسمك وبك نَأخُذ ونُعطي ونُحِبُ ونَبغَض ونَقوم ونَقعُد ونَنّام ونَستَيقِظ ونَأكُل ونَشرَب ونَمضي في جَميعِ شُؤونِنا ونَتَحَرَك ونَسكُن.
اللهُم أشرِق نور هذا الشُهود في أفئِدَتِنا وقُلوبِنا وفِر حَظنا من شَهرِنا هذا ومن مَجالِسنا هذه في بُكرة كُلِ يَوم من أيامه، بارك لنا فيها بإفاضَة فَيضِ سِر دَعوَة نَبِيك مُحمد في قَولِك: "اللَّهمَّ بارِكْ لأمَّتي في بُكورِها".
اللهم وبارك لنا في شَهر رَمضان و اثبِتنا في أَهلِ الإحسانِ والإيقان، وارفَعنا مَراتِب الصِدق والعِرفان وَفِر حَظَنا من الرَحمة والمَغفِرة والعِتق من النيران يا أرحم الراحمين. وعِندَ طُلوعِ الشَمس لَكَ عُتَقاء كما أن عِندَ غُروبِ الشَمس لك عُتقاء، فأكرمنا اللهم بِكمال العِتق من النار ومن الغَضَبِ ومن المَعصِية ومن العار ومن البَلايا في الدُنيا والآخرة، يا مُعتِقَ الرِقاب يارَبَ الأرباب يا أرحم الراحمين وأكرَم الأكرَمين وأصلح شُؤون الأُمة أجمعين، واثبِتنا في خِيارِهِم وفي أنفَعهم لَهُم وأبرَكهم عليهم.
بسرِ الفاتحة
إلى حضرةِ النَّبي مُحمد ﷺ
اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه
الفاتحة
01 رَمضان 1435