(536)
(228)
(574)
(311)
يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1437هـ.
﷽
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20))
الحمدُ لله على الساعات المباركات في الشهر المبارك من مراحل أعمارنا التي نقدِّمها للعمر الأطول المديد الذي يواجهنا بعد هذا العمر القصير السريع الانقضا؛
اللهم اجعلنا من أهل جنتك وأهلينا وأولادنا وأحبابنا وأصحابنا وذوي الحقوق علينا ولا تعرّض أحدا منّا ومنهم لنارك الموقدة المطلِّعة، على الأفئده يا رب العالمين ياأ رحم الراحمين.
وقد حدّثنا تبارك وتعالى فيما أنزل على نبينا عن أخبار ذلك العمر المقبل علينا بعد هذا العمر القصير، وربط النتائج التي تكون في ذلك العمر بما يكون منّا في هذا العمر القصير، وذكّرنا سبحانه عن الغاشية وعن الوجوه العاملة الناصبة، وعن الوجوه الناعمة التي هي لسعيها راضية، جعلنا الله وإياكم منهم.
يقول جل جلاله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8)) ناعمة؛ ذات حسن وبهاء وجمال ورونق (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) مانازل قلوبهم في البواطن من السرور والأنس والحبور، يُقرأ سطوره في الوجوه، وما قوبلوا به من لذيذ النعيم وعظيم التكريم يُرى أثره على وجوههم وقد بيضّها الله في الموقف (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آل عمران:106].
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8)) عليها أثر النعمة؛ حسنًا وبهاءً ونظارة يقول: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9)) ارتضت مسعاها، فكان ما سعت فيه في الدنيا صامت، صلت، زكّت، حضرت محاضر الذكر، محاضر العلم، تصدقت، واصلت، جاهدت في سبيل الله كل ما كان من سعيها وجدت له خير الثمار فرضيت لسعيها لِما شاهدت من ثماره وثوابه وعاقبته فهي راضية، صار قوة رضاها موصوفة به تلك الوجوه، والمراد فيضانه من تمكّنه من القلب حتى يُرى هذا الرضوان، كما قال تعالى: (فَهُوَ فِى عِيشَةٍۢ رَّاضِيَةٍ) [القارعة:7] لقوة رضوان أصحابها؛ سمّى العيشة نفسها راضية.
كذلك قال عن هذه الوجوه: (لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9)) كيف والحق -تبارك وتعالى- يرضيهم ويتابع استرضاءهم، وهو من هو؟! -جلّ جلاله- حتى إذا استقرّوا في دار الكرامة ومستقر الرحمة في الجنّة، يخاطبهم تفضّلا وتكرّما: عبادي يا أهل الجنّه، يقولون: لبّيك ربّنا وسعديك، يقول: هل رضيتم ؟ :يا ربنا كيف لا نرضى !! ألم تنجّينا من النار! ألم تدخلنا الجنة ! ألم تعطينا!! ويقول: ألا أعطيكم ما هو أفضل من ذلك؟ أحلُّ عليكم رضوانى فلا أسخط عليكم بعده أبدا، نِعم الوجوه (وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ) [التوبة:62].
فحُق لكل مؤمن يؤمن بهذا المصير وهذا الحساب وانقسام الناس لهذا القسمين أن لا يحب ولا يتعلق إلا بالقلوب الناظرة، الناعمة، الراضية، الوجوه المسفرة، الضاحكة المستبشرة في ذاك اليوم، ونِعم تلك الوجوه، ألحقنا الله بها وأربابها، إنّه أكرم الأكّرمين وأرحم الراحمين.
وفي معاني تلك الوجوه جاء في الحديث، وقد سئل رسول الله ﷺ؛ من أولياء الله؟ قال: "الذين إذا رؤوا ذُكر الله"، قد قال ربنا تعالى عن ظهور الأثر في الوجوه في الدنيا قبل الأخرة، عمّن حاز سر المعية لخير البرية؛
الوجوه التي مآلها أنْ تُذَل وتكون خاشعة عاملة ناصبة لا تجد لها سلطة على هؤلاء القوم، لا يستجيبون لهم، كلّما دعوهم إلى خلق دنيء وعمل سيئ، قالوا: لا إن عندنا ميزانا من الرحمن ورسوله، فضلًا أن يشابهوهم أو يتابعوهم، "من تشبّه بقوم فهو منهم".
لكن أشداء على الكفار؛ لا يجدوا أهل الكفر سبيلا لإغوائهم وإضلالهم؛ لا بالإغراء والتمني، ولا بالتهديد؛ فهم يعيشون ما عاشوا في أي مكان كان وأي ظرف وحال، ولهم قلوب متصلة بالرب لا يزعزعها زمجرة مَن كفر ولا من كابر ولا من عاند ولا من جحد.
ولذك يذكر لنا عن امرأة فرعون، ويضرب بها مثل للذين أمنوا (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ) كانت في قصر فرعون ولكن لها قلب مع الرب، ذكر لنا الحق هذه الحقيقة: (إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ) عندك .. عندك، قبل ان تذكر البيت قالت: عندك، ما قالت: ربِّ ابني لي بيتا! (ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا)؛ لأن الجار قبل الدار. (رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ)؛ فهي تطلب العندية، من أين هذا الطلب؟ وهذا الرغب بهذا المستوى؟ في وسط قصر فرعون!! (إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ) -إغراء فرعون وملكه هذا وسيطرته ما أثّر فيها- (وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ) -الله الله الله- من داخل قصره، لا تأثرت بزهو ولا بقصر ولا مملكة ولا زمجرة ولا ملك ولا ادعاء ربوبيه ولا كثرة جنود ولا أموال ولا شيء (وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ) -ومن تبعه- (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [التحريم:11].
فهي من الوجوه الناعمة وسط ذلك الدار -سبحان الله- كم جعل في هذا القصر، القصر هذا فيه فرعون الطاغي المدّعي الربوبية ومعه الملأ من قومه والمصفقين له واتباعه يترددون إليه الذين يتخذونه إله، ووسط القصر آسيا وماشطة تمشط بنات فرعون، وموسى تربى وسط هذا القصر.
وهكذا كما ترى في بقعة واحدة يُقبر أكثر من واحد، سبحان الله شقي وسعيد من أهل الجنة ومن أهل النار و لذا يقول ابن المعرّي:
رُبَّ لَحْدٍ قَدْ صَارَ لَحْدًا مِرَارًا *** ضَاحِكٍ مِنْ تَزَاحُمِ الْأَضْدَادِ
وهكذا يمر بعضهم يسلّم على واحد صاحبه في المقبرة يقول: أحمد، أحمد، سمع صوت من القبر، يقول: نحن في هذا القبر وحده سبعين من اسمه أحمد، من الي اسجمهم احمد سبعين قُبروا هنا، تريد أحمد من ؟ -لا إله إلا الله-
خَــفِّــفِ الْــوَطْءَ مَــا أَظُــنُّ أَدِيــمَ الْـ *** أَرْضِ إِلَّا مِــــنْ هَــذِهِ الْأَجْـسَــــــادِ
صَــاحِ هَــذِهْ قُــبُــورُنَــا تَــمْـلَأُ الـرُّحْـ *** ـبَ فَــأَيْـنَ الْـقُـبُـورُ مِـنْ عَـهْـدِ عَـادِ؟
القبور من القرون القريبة قد انطمست ولا عاد لها أثر، يأتي الناس أحد بيحفر بيت واحد بيحفر شركة؛ يجد قبور
مَــا أَظُــنُّ أَدِيــمَ الْأَرْضِ إِلَّا مِــــنْ هَــــذِهِ الْأَجْـسَــــادِ
ولكن يخرج من مكان واحد؛ شقي وسعيد، وقريب وبعيد؛ من بيت واحد ودار واحد،
عندنا أول من يستلم كتابه بيمينه من هذه الأمة، بعض الصحابة البدريين، أخوه مشرك؛ أول من يأخذ كتابه بشماله، من بيت واحد من أم واحدة وأب واحد، هذا أول من يأخذ كتابه بيمينه، وهذا أول من يأخذ كتابه بشماله، يالله بحسن الخاتمة، يا الله بالتوفيق.
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9)) السعي المرتضى ماكان مُرضيًا للرب، فإن سعيتَ تطلب رضاه فيا بشراك بما يرضيك هذا الإله، ستكون راضيا، ستدرك سر الرضا في الحياة قبل الوفاة، وفي هذا المعنى جاء ما سبق معنا عن سيدنا أبوبكر قد أنفق أمواله في سبيل الله وصار على قناعة بما يتيسر له من العيش.
وأوحى الله لنبيه: "قُل لأبي بكر: أأنت راضٍ عني في فقرك ذاك أم ساخط ؟ قال أبوبكر: أعَلى ربي أسخط؟! أنا عن ربي راض، أنا عن ربي راض"؛ فأنزل الله على نبّيه قوله تعالى: (وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَىٰ * وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ) [الليل:18-21]، قال له: نحن نرضيك.
وهكذا سنة الله فيمن طلب رضاه؛ يملّيه رضى هو الذي يطلب رضى الله، هو بنفسه يحصل رضاه في الحياة وعند الممات إلى أن ينتهي، "أحلُ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا"؛ فيا فوز الطالبين رضى الله: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُوا مُؤْمِنِينَ) [التوبة:62]. (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9)) نِعْمَ السعي ونِعْمَ الرضى الذي نازل قلوبهم.
اتصل بعض علمائنا -الحبيب محمد الهدار- إلى بعض علمائنا -الحبيب محمد الشاطري- كان في آخر أيامه، ومع مروره بعدد من الأمراض، فكان في حديثه معه قال: أشهدك أني راضي راضي راضي بكل ما جرى عليّ، قال: أنا راضي، يذيقهم لذة الرضى وهم في الدنيا، بسرّ رضاه عنهم، وعنوان ذلك أنه وفّق قلوبهم لأن يكون مقصودها رضاه؛
وسيدهم قال: "إن لم يَكُن بِكَ غضبٌ عليَّ فلا أبالي".
قال سيدنا موسى الكليم: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ) [طه:84].
يا الله رضى يا الله رضى *** والعفو عما قد مضى
في مثل ذي الأيام والليالي، يفتح الله رضوانه لمن يشاء -جل جلاله- ناس ما أدركوا سر هذا الرضى قبل، ولكن في الليالي هذه يدركوه، يعطيهم الله ما يرجونه، فعسى أن نكون ممن يحظى بهذه العطوات والعطيات الكبيرات من ربّ البريات.
(لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9)) -الله أكبر- وبعد مسكنهم في الجنة، في جنة عالية ما تتصوره ومن معك من المتصورين من جميع الأنس والجن معهم، والملائكة معهم؛ كل ذات نفس؛ فليتصوروا ما يتصورونه والجنة فوق ما تصوروا، والجنة:
(فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ)، أي نفس ولو لملك، والملائكة الذين في الجنة، الموكلين ببناء الجنة يبنون وينظرون عجائب، وهناك خبأ الله أنواع من النعيم ما هو خاطر عليهم، ولا رأوه بأعينهم (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ) أي نفس، (مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) كيف ما تكون لسعيها راضية؟ وموطنها في الجنة، كلما وصف النبي الجنة يقف ويقول: "فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" إقرأوا إن شئتم قوله: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ).
وكلما جاء رمضان أوحى الله إلى الجنّة؛ تزيّني وتوسّعي لأمة محمد، حتى لمّا تُقابل هذه الإرادة الإلهية وهذا الإبراز منْ حضرة الرحمن لهذا السر، أنه يريد اكراماً لمن يشاء منْ أمة محمد، تصيح بعض مواضع الجنّة وتقول: أجعل لنا نصيبا من عبادك في هذا الشهر، وتقول الحور العين أجعل لنا أزواجا من عبادك في هذا الشهر، فكم يُكتب من أسماء في هذا الشهر، وكم يُكتب من مواطن في هذا الشهر ماكانت مُسْجّلة في دواوين أهل الجنة قبل الشهر، تزيّني وتزخرفي، -يقول الله للجنة في شهر رمضان-، تُفتح أبوابها ولم يُغلق منها باب في هذا الشهر كلّه، اللهم اجعلنا من أهل جنتك.
(فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10)) رفيعة القدر رفيعة المكان رفيعة الشأن؛ عالية، جمعت معاني العلو بكل معانيه بكل وجه (فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ) ثم ذكر لنا أوصاف، يشوّقنا الحق يقول: ما أملي عليكم مما أعدتُ ومهما تصورتم فهو وراء هذا ما لا تتصورون.
(فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11)) أي لا تسمع تلك الوجوه لغواً باطلا ولا سوءًا ولا شرا، لا تسمع يا حبيبنا لاغية، لا تسمع أيها المخاطَب في تلك الجنة لاغية، لا يُسمع لاغية: باطل ولا سوء
(لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11)) لا وجود للغو فيها، حديث أهلها عن صفات الحق وعجائب القرب منه والنعيم الذي أعطاهم والأسباب التي كانت موصلةً لهذا النعيم؛ أتذكر يوم كذا؟ يوم كذا؟ يوم فعلنا كذا؟ يوم حضرنا مجلس كذا؟ يوم صلّينا بمكان كذا؟ يوم قرأنا من القرآن كذا؟ هذا حديثهم في الجنة.
إذًا فمن شريف ما يكرم الله به عباده، أن يتساموا عن اللغو وعن الرفث وعن الباطل وعن السوء وعن السب وعن الشتم، وبذا تجدُ وسط هذه الأرض من لو عشت معهم، شهراً بل سنة بل سنين لاتسمع منهم لأغية، فهم أقرب ما يكونوا من أهل هذا الموطن، من أهل تلك الدار، تجلس مع أحدهم سنة وسنتين وثلاث ماتسمع غيبة، ما تسمع سب، ماتسمع شتم، حتى ولو سُبّ، حتى ولو شُتم ما تسمع منه -الله أكبر- ينتقون أطايب الكلام، امتثلوا أمر الرب: (وَقُل لِّعِبَادِى يَقُولُواْ ٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ) [الإسراء:53]، فما يخرج منهم إلا الأحسن -عليهم الرضوان-.
وهكذا كان يلاحظ بعضهم سيدنا عمر بن العزيز؛ كلام رفيع شريف وحَسن، حتى أصابته يوم في إبطه جراحه، كان عنده بثره فجعل الرجل يسأله: من أين خرج البثرة والجراحة؟ قال: من باطن اليد، حاول يريد يسمع منه إبطي ما سمعها منه؛ بانتقائه أطيب الكلام حتى هذه الألفاظ ما يتلفّظ بها؛ فكان هو أشد بني أمية المخصوص بالخصائص -عليه الرضوان- كما قال: إن لنفسي التواقة ذواقة، كلما ذاقت شيء اشتاقت إلى ما فوق، حتى ذاقت من هذه الدنيا اشتاقت الى ما فوق.
ومن هنا تعلم معنى قول النبي: "إلا أدلك على ملاك ذلك كله، كف عليك هذا":
فإذا وصف الله الجنّة (لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَة (11))، وبذا تجدُ مجالس أهل الخير والنور والعلم، وارثة من سر مجالس المصطفى، لا يكون في مجالسه لغط تؤبّن فيه الحُرم، لا يُذكر أحد فيه بسوء لا يغتاب، وتجد عليها سكينة وطمأنينة وهدوء، فتتعجب! وفي مجالسهم قال: "إذا مررتم برياض الجنّة فأرتعوا، قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حِلق الذكر".
(لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11)) إذًا فمختلف ما يوصل اليك اللغو، سوء وشر عليك؛ سواءً كان إنسان مباشرة أو بواسطة شريط أو بواسطة شاشة أو بواسطة جهاز؛ كلُّما يحمل فيه اللغو والكلام الخبيث والسب؛ سوء وبلاء عليك إن مِلتَ إليه، خِفْنَا أن لا تكون من أهل المكان الذي لَا يُسْمَعُ فِيه لَاغِيَة، فاحذر من ذلك ولاتميل لأهل اللغو ولا تجالسهم، فأحدهم يستّلذ الكلمة الخبيثة القذرة، فما أشد عذابهم في الآخرة، قال الله عن اليهود المتكلّمين بالكلام الخبيث: (وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا) [المائدة:64] بالكلام الذي قالوا.
وذكر كلام الطيبين الذين اذا سمعوا القرآن: (تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ۖ يَقُولُونَ) -هذا الكلام الطيب- (يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) -الوجوه الناعمة هذه- (وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) [المائدة:83-85]، (فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا)؛
فما أخطر القول إذًا!
كلمة طيبة؛ نصرَ بها مسلم، نصر بها شريعة، أنقذ بها ملهوف؛ كلمة واحدة تخرج منه يرتفع قدره.
"ومن أعان على قتل مسلم بغير حق ولو بشطرِ كلمة، لقي الله مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله" نصف كلمة ويصير في هذا المصير الصعب، أيس من رحمة الله -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، الله يرزقنا حسن القول وحسن العمل ومن خير القول هذا ماترددونه في رمضان: أشهد أن لا إله إلا الله، نستغفر الله، نسألك الجنة ونعوذ بك من النار.
فاستكثروا قال النبي: من أربع خصال؛
وهكذا أحْبُّ الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمدلله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ أحب الكلام إلى الله.
"وكلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان للرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم"، فيا فوز من يتردد على ألسنتهم هذه الكلمات العجيبات المحبوبات للرب.
(لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11))؛ ولذا أدّب الله الصحابة:
أن لا يرفعوا أصواتهم (فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) [الحجرات:2]،
وأن يحسّنوا ألفاظهم عند خطابه وندائه (لَّا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا) [النور:63]؛ ليتهيئوا لمرافقته.
يقول: وكان ﷺ يعلّمنا التشهد كما يعلّمنا السورة من القرآن، يعلّمهم تحية الحق، كيف يحيّونه بألفاظ: "التحيات المباركات الصلوات الطيبات الزاكيات لله" …إلى غير ذلك، "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله" يعلّمهم ﷺ.
(لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11)) ماشاءالله حيث الهدوء والطمأنينة والسكينة -الله- (لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12)) عين جارية: واسعة فياضة؛ بماء، بلبن، بنهر من عسل؛ ماء، لبن، عسل، خمر لذّة للشاربين، فتجري أنهار، (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا) [الانسان:6] تعال هنا، أمشِ هنا، تمشي من دون أخاديد في الأرض، عيون الجنة وأنهارها ما لها أخاديد في الأرض ترتفع، تمشي مرتفعة فوق الأرض، سبحان الله بمنظرها العجيب.
(فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12)) وتحت أمر صاحبها، أنت نهر العسل كذا مُر هنا تحت القصر هذا، أنت تعال يانهر اللبن هنا (يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا).
(فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12)):
(فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13)) سرر مرفوعة: جمع سرير، مرتفعة ترتفع بصاحبها إلى ما شاء الله، فإذا أراد الجلوس عليها تطامنت له، فإذا جلس ارتفعت به، يحاولون في الدنيا يعملون أسرَّة يصنع لها أزرار، ترفعهُ من هنا وتنْزلهُ من هنا، من نفسها ولا تحتاج كهرباء ولاغيرها ولا أي شيء، وليست خاصة لمريض أو تعبان، تفضّل أنت أيها المنعَم في دار الكرامة، سرير على كيفك، تطمّن، ينزل لك، يطلع بك؛ بكفيك، ويتحول يتبدل بمجرد الخاطر، قبل ما تكلّمه، فقط أطلب بقلبك، أخطر بقلبك يمشي معك، الله أكبر (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ) [الزخرف:71].
(فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14)) أكواب: الأواني التي ليس لها سلسلة (أَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ) حاضرة محلّ الشرب ماتغيب عنه، موجودة، معدّة، مهيأة (أَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ)، قال في الآية (بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ) [الواقعة:18] إبريق وكوب وكأس؛
(وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14)) تجيء عند النهر تريد أن تشرب على حافة النهر، موجودة عندك الأكواب التي تشتهي، لونها يعجبك، ومقدّرة تقديرًا، لا يزيد منه ولا ينقص شيء، تأخذ فيها مقدار ما يرْويك وتتهنّى به، ولاشيء زائد عن حاجتك ثم تردّهُ، ولاشيء ناقص؛ زد (قدَّرُوهَا تَقْدِيرًا)
(وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ) -وسائد، طنافس، فرش، نمارق وسائد يتكئون عليها- (مَصْفُوفَةٌ) صفًا بديعًا حسنًا متناسباً، (وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ(15) وَزَرَابِيُّ) بُسط، فرش؛ مبثوثة متوفرة في كل مكان، هنا يأتي بعض الملوك يفرش فرش عند مدخل بابِهِ، وفي حوشِهِ؛ هذا مكتوب في كل مكان متوفر. (وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةًٌ (16)) وأين هذه من هذه؟ وتلك الأسرّة؛ ذهب، فضة، زمرّد، زبرجد، ياقوت، مرجان .. الله ! والزرابي المبثوثة؛ حد يأتيك بقطعة صغيرة؛ لاتساوي حرير الدنيا، ولا أي شيء، ورائحتها تعبّق الأرض كله (وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) وصفَ الحق الجنة بهذه الأوصاف -اللهم أجعلنا من أهلها- نسألك رضاك والجنة ونعوذ بك من سخطك والنار لا إله الله.
تتعجبون من هذا العطاء والنعيم، وأمامكم في الحياة الدنيا مايدلّكم على عظمته: (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَت (20))،أمامكم دلالات على عظمته وقدرته وأن بيده كل شيء، فمن ماذا تتعجبون؟ من ماذا؟.
سيأتي معنا ما لفت الحق أنظارنا إليه، مما نعيش معه، ويعيش معنا في خلال هذا العمر؛ لنتسنّم عليها، لإدراك حقائق، نَدرك بها من عظمة الخالق ما نرغب به رغبة الصادق في مرافقة خيار الخلائق.
اللهم أكرمنا بذلك والمشي في أشرف المسالك، واجعلنا عندك من أهل القرآن وتأمله وتدبره، واحشرنا في زمرته في أهله الذين هم أهلك وخاصتك، برحمتك يا ارحم الراحمين وجودك يا أجود الأجودين .
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
02 رَمضان 1437