(536)
(228)
(574)
(311)
يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1437هـ.
﷽
(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ (3) تَصْلَىٰ نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَىٰ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ (6) لَّا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ (8) لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9))
الحمدلله الذي بلّغنا وإيّاكم الشهر الكريم، وبارك الله لنا ولكم ولِأمة هذا الحبيب في شرق الأرض وغربها، صغيرهم وكبيرهم، ذكَرهم وأنثاهم، أنسهم وجِنهم؛ بركة كاملة في حلول هذا الشهر الكريم المبارك، ورزقنا أوفى وأوفر الحظ فيه مما يهبه لخاصة أهليه ممن يجتبيهم ويرتضيهم ويصطفيهم -تعالى في علاه-. اللهم بارك لنا وللأمة في هذا الشهر المبارك، بركة واسعة تكشف بها عنّا وعنهم الضراء والبأساء والبلوى، وتصلح لنا ولهم به السر والنجوى، وتخلع علينا وعليهم أسمى خِلَع التقوى، برحمتك يا أرحم الراحمين وجودك يا أجود الأجودين.
وهانحن بانتظار أول طلوع شمس في اليوم الأول من أيام رمضان المبارك، ولله عند كل طلوعٍ للشمس وغروب، عتقاء كثيرين من النار، يعتق عند الإفطار، ويعتق عند طلوع الشمس، ومن كان أكثر وجهةً وأحضر قلباً مع الله كان أولى بأنْ يعتقه -جل جلاله وتعالى في علاه-.
ومِنْ مِنَنِ الحقِّ -تبارك وتعالى- علينا بلوغنا الشهر بالعافية وبالسلامة وبالقدرة على القيام بالصيام وبالقيام وما دعانا إليه على لسان رسوله الذي كان يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره، ويجتهد في العشر الأواخر منه ما لا يجتهد في غيرها من رمضان.
ونبدأ مجلسنا ودرسنا الأول في هذه الدروس المباركة الرمضانية في القرآن الكريم وتأمّل بعض معانيه وآياته، وقد انتهينا في العام الماضي إلى سورة الغاشية إلى قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9))، نعود في تذكّر معاني هذه السورة إن شاء الله -تبارك وتعالى- بعد أن نتوجّه ببعض الدعاء شكراً للحق وطلباً للفضل والمزيد من حضرته العليّة:
الحمدُ لله الذي هدانا لحمده، وجعلنا من أهله، لنكون لإحسانه من الشاكرين، وليجزينا على ذلك جزاء المحسنين، والحمد لله الذي حبانا لدينه واختصّنا بملّته وسبَّلنا بسبلِ إحسانه، لنسلُكها بمنّهِ إلى رضوانه، حمداً يتقبّله منّا ويرضى به عنَّا.
الحمدُلله الذي جعل مِنْ تلك السُبُل شهرهُ شهرَ رمضان شهر الصيام وشهر الإسلام وشهر الطُهُور وشهر التمحيص وشهر القيام، الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان فأبانَ فضيلته على سائر الشهور بما جعل له من الحرمات الموفورة والفضائل المشهورة؛ فحرّم فيه ما أحلَّ في غيرهِ؛ إعظاما، وحجر فيه المطاعم والمشارب؛ إكراما، وجعل له وقتاً بيّنَا لا يُجيز -جلّ وعزَّ- أنْ يُقدّم قبله، ولا يَقبل أنْ يُؤخر عنه.
ثم فضَّلَ ليلة واحدة من لياليه على ليالي ألف شهر، وسمّاها ليلة القدر (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ) [القدر:4-5] دائم البركة إلى طلوع الفجر على من يشاء من عباده وبما أحكم من قضائه.
اللهم صلِّ على سيدنا محمد وآله، والهمنا معرفة فضله وإجلال حرمته، والتحقق مما حضّرت فيه، وأعنّا على صيامه بكفِّ الجوارح عن معاصيك واستعمالها فيه بما يرضيك؛ حتى لا نصغي بأسماعِنا إلى لغو، ولا نسرع بأبصارنا إلى لهو، وحتى لا نبسط أيدينا إلى محظور، ولا نخطو بأقدامنا إلى محجور، وحتى لا تعي بطوننا إلاَّ لما أحللت ،ولا تنطق السنتنا إلاَّ بما مثلت، ولا نتكلف إلاَّ ما يدني من ثوابك، ولا نتعاطى إلاَّ الذي يقي من عقابك، ثم خلّص ذلك كله مِنْ رياء المرائيين، وسمعة المسمّعين، لا نشرك فيه أحداً دونك ولا نبتغي به مراداً سواك يا الله.
اللهم صلِّ على سيدنا محمد وآله ووفقنا في هذا الشهر، وأوقفنا على مواقيت الصلوات الخمس بحدودها التي حددت، وفروضها التي بها فرضت، ووظائفها التي وظفت، وأوقاتها التي وقَّتَ، وانزلنا فيها منزلة المصيبين لمنازلها، الحافظين لأركانها المؤدين لها في أوقاتها على ماسنَّه عبدك ورسولك صلواتك عليه وآله وصحبه، في ركوعها وسجودها وجميع فواضِلها على أتم الطُهور وأسبغه وأبين الخشوع وأبلغه
ووفّقنا فيه أن نصل أرحامنا بالبرِّ والصلة، وأنْ نتعّهد جيراننا بالأفضال والعطية، وأن نخلّص أموالنا من التبعات، وأن نطهرها بإخراج الزكوات، وأن نراجع من هاجرنا، وأن نناصف من ظلمنا، وأن نسالم من عادانا، حاشا من عودي فيك ولك فإنّه العدو الذي لا نواليه والحزب الذي لا نصافيه، وأن نتقرّب إليك فيه من الأعمال الزاكية بما تطهرّنا به من الذنوب وتعصمنا به مما نستأنف من العيوب؛ حتى لا يورد عليك أحد من ملائكتك إلاَّ دونما نُورد من أبواب الطاعة لك وأنواع القربة إليك.
اللهم إنّا نسألك بحق هذا الشهر وبحق من تعبّد لك فيه من ابتدائه إلى وقت فنائه؛ من ملَكٍ قرّبته، أو نبي أرسلته، أوعبد صالح اختصصته؛ أنّ تصلّي على سيدنا محمد وآله وأصحابه، وأَهّلْنَا فيه لما وعدت أولياءك من كرامتك، وأوجِب لنا فيه ما أوجبته لأهل المبالغة في طاعتك، واجعلنا في نظم من استحق الرفيع الأعلى برحمتك ياأرحم الراحمين، ياأرحم الراحمين ياأرحم الراحمين، وجودك ياأجود الأجودين.
وصلِّ على عبدك المصطفى وآله وصحبه وأهل حضرة إقترابه من أحبابه وعلينا معهم وفيهم وعلى جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين وعبادك الصالحين برحمتك يا أرحم الراحمين.
الحمدُ لله على إفضالهِ العظيم، ونواله الجسيم وعطائه الفخيم، وهو الذي يهدي مَنَ يشاء إلى صراطٍ مستقيم، أرسل إلينا ذا الخلق العظيم، والنهج القويم، سيد أهل الصراط المستقيم، الداعي إلى الحق بالحق حبيب الحق منْ بين الخلق، سيدنا إمام أهل الصدق محمد ابن عبدالله محمد ابن عبدالله؛ الرحمة المهداة والنعمة المسداة.
اللهم إنا نسألك أن تصلّيَ وتسلّم على مَنَ أنزلتَ عليه القرآن، وكرّمتنا به بالخصائص في رمضان، وهديتنا به إلى الصلاة والزكاة والصيام، والحج والفضائل وحميد الشمائل وكل خير، ونهيتنا على لسانه وحذرّتنا من كل بؤس وشر وضير، ظاهرا وباطنا في الحس والمعنى.
اللهم أدم صلواتك على هذا الحبيب المحبوب، طبِّ الأجسام والقلوب، وعلى آله وصحبه ومن إليه منسوب، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا ارحم الراحمين
أما بعد،،،
فإننا في تأمل كلام ربنا -جل جلاله وتعالى في علاه- في أيام الشهر الذي أنزل فيه القرآن هدى، هدىً للناس يهدينا الله به إلى شرعه ومنهاجه وسبيله، وإليه تعالى وإليه تعالى وإليه تعالى، هدىً للناس وبينات واضحات جليات تكشف العمى عن القلوب وتبعد الظلمات وتذهب الكدرات حتى تتصفّى المرايا ويعلم البرايا خَبَر ربِّ البرايا على يدي خير البرايا، فيا لها من مزايا؛
ونحن في هذا الشهر الكريم، تأملنا في سورة الغاشية قوله جل جلاله مخاطبا لحبيبه محمد: بسم الله الرحمن الرحيم، (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)) يا عبدنا الذي علّمناك، وبالحق أرسلناك، أنبأناك عن أخبار من الغاشية، وأمرناك أن تبلّغ أمتك عنها ما يكفيهم للإستعداد وحسن التزود بأشرف الزاد، والتنقّي عن الأكدار والأقذار، فهل أتاك ذلك؟! هل بلغ ذلك مبلغه؟! ووصلك الخبر وبلّغت ما أوصلنا إليك؟
(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ(1)) ذكِّرهم من عظيم ما في حديث الغاشية هذه الأخبار المهمة: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ لَا تَسْمَعُ) أو (لا تُسْمِعُ) أو (لا يَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (10)) هذه أحاديث الصدق والحق عن الغاشية المقبلة علينا وعلى جميع المكلّفين، الناس فيها:
ووجهتنا إلى الحق بالقرآن الذي أنزل ومَنْ أنزله عليه، أن يجعلنا جميعاً وأهلينا وأحبابنا ومَنَ يسمعنا من الوجوه الناعمة التي هي لسعيها راضية، والوجوه المسفرة الضاحكة المستبشرة، الوجوه الناضرة التي هي إلى ربها ناظرة، اللهم اجعلنا كذلك، واحشرنا مع أهل ذلك، في ذلك اليوم يا ملك الممالك ياأرحم الراحمين.
فأمّا الوجوه السيئة وهي التي لم تتوجّه إلى ربها، ولم تصدُق مع إلٓهِهَا فيغشاها مايغشاها مِنْ الذلِ والهوان، شرح الحق لنا كيف تكون هذه الوجوه، وقد حذّرنا أَنْ ننظر إلى الصّور الحسّية السريعة الإنتقال والزوال إلى ظهور الحقيقة، قال: لا تعجبك أموالهم ولا أولادهم، وقال سبحانه وتعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ) [المنافقون:4] بالنظر الحسي أي فأحذر الإغترار بذلك فإنّه محلُّ الإنخداع.
إنّهم كثيرون في عصرنا ومِمّنْ قبلنا، مِنَ الوجوه التي ستذل ويظهر عليها حقيقة الذل والهوان العظيم، يعرضون أجسامهم في الدنيا للناس؛ إمَّا على سبيل الرياضة وإمّا على سبيل المصارعة والقوة، وإمّا على سبيل الزينة؛ فلا تنخدع، هذا محل إنخداعات لِمَنْ قَصُرَ نَظره، لِمَنْ ضعف ذكرهِ، لِمَنْ لَمْ يتدبّر أمره، لِمَنْ لمْ يَعرف الآخرة، فلا تنخدعوا بها ولا تغترّوا بها، هذا العجب بالأجسام الذي هو مقتضى النظر القاصر والطبع البشري.
قال الحق للنبي: ومن آمن، ارتفعوا عن هذا، فلا تعجبكم حدود هذه الأجسام ولا صورها، فجسم آخرهُ أن يُصْلَى بنار جهنم بئس الجسم! جسم قبيح! جسم ساقط! هابط! مهما استعمل مِنْ أدوية، ومهما استعمل مِنْ رياضة، ومهما تزين به من زينة؛ جسم خبيث قبيح، إذن فلا تقف عند هذه الحدود القاصرة التي أُخذت بها كثير مِنْ عقول وقلوب المسلمين التي لم تتشرّف بالتأثّر بالوحي، لم تتشرّف بالانتماء إلى الخبر الرباني، لم تُكرَم بالاستسلام للتوجيه الإلٓهي والنبوي، فتخطّفها هؤلاء بمثل هذه الصور.
يقول تعالى: هذه الوجوه التي لم تؤمن به، ولم تتوجّه إليه، وهو خالقها -جلَّ جلاله- وتوجّهت مُعرضة عنه، رامية بأوامرهُ ونواهيه خلف ظهرها، مُقبلة على شهواتها وآفاتِها؛ سيكون مآلُها هكذا (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2)). يقول سبحانه وتعالى: (يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ) [الشورى:45] خاشعة ذليلة مُهانة، عليها الأثر بادٍ أنّها نادمة، أنها متحسرة، أنَّها خاسرة، أنَّها ساقطة، تعرفها، بمجرّد مايقع النظر على واحد كان متكبراً، وكان مترفّعاً وإذا بأثر الذلة والمهانة على وجهه عندما تنظر إِليه.
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2)) ولمَّا كان الذُلُ والمهانة يُستجلى في تقاطيع الوجه وقسماته؛ سمّى الله تلك الوجوه خاشعة، الذُل والمهانة كلّه يُقرأ في صفحات وجوههم -نعوذُ بالله مِنْ ذلك، نعوذ بالله مِنْ ذلك الخزي- ويا كَمْ مِنْ وجوه على ظهر الأرض اليوم مَعنا ومصيرُها هو هذا ومرجعها إلى هذا.
فإن تعقل، متّع عينك بالنظر بالتعظيم في وجوه من أدركت في زمنك مِنْ أهل الخشية والتقوى، لايفوتك النظر إليهم فإنّها الوجوه المسفرة يوم القيامة، ويوشك إنْ نظرت إليهم محبّةً وتعظيماً أنْ تحشر معهم، ويوشك إذا نظرت إليهم محبّة لأجل الله أنْ تمتد صلتك بسلسلة تلك الوجوه إلى أنْ تأتي إلى أوجه وجهٍ فِيها؛ وجهُ محمد..وجه محمد وجه أحمد صفي الله، وجه أحمد حبيب الله، أوجه الوجوه وأنظرها وأصفاها وأنورها وأبهاها وأبهرها، فلا وربك لو لم تُشرّف مِنْ النعيم إِلاَّ بالنظر الى طلعته الغرُاء لكفاك ذلك عِزاً وشرفاً ولذادةً وفخراً، والويل لمن لايراه يوم القيامة! والويل لمن لا يراه يوم القيامة!
أنظر خبر الوجوه مِنْ عندِ خالق الوجوه إلى ماذا تصير هذه الوجوه؟ وماذا يكون مألُها وعاقبتها؟
(عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3)):
(عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3)) يخرج من الدنيا؛ بنى كم من قَصر؟ وصلّح كم من طريق؟ وعمل كم اختراع؟ وجاء بكم جهاز وصلّح؟ وبعد ذلك نار وعذاب.
(عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3)) وأين العمل هذا؟! وأين الذي كنت تفتخر به؟! (عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ) متعبة، (عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ)، مرة من المرات، سيدنا عمر بن الخطاب مرَّ بدِير بعض الرهبان من النصارى، قيل للراهب: هذا أمير المؤمنين، فأشرف عليه ينظر إلى سيدنا عمر، نظر سيدنا عمر وبكى، قالوا: يا أمير المؤمنين هذا نصراني. قال: نعم بكيت، رأيتُ على وجهه التعب من عبادته التي يعبدها هذه، ومن أثر أيضا حتى زهده في المتاع والحياة ووراءه النار، وقرأ قوله: (عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ) يعمل في غير معمل، مسكين مكّذب بمحمد، لا يفيده رهبنته هذه والعبادة.
(عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3)) وكذلك كلّ الكفار الذين بلغتهم الدعوة فأبوا أن يؤمنوا بإلههم، لا ينفعهم شيء من أعمالهم، ولو كان أعمالاً في حد ذاتها تدخل في دائرة الخير أو الصلاح، فهذه الأعمال إنْ جُوزُوا؛
تُعاند الذي أوجدك! وأكرمك برسالة رسول كريم شريف عظيم، تجعله وراء ظهرك وترمي بها ثم تريد أنْ ينعمك ياأبله؟! مَنْ يكرمك وأنت الذي عملت هذا العمل؟! قل لي بأي عقل عندك؟! فماذا تستحق وأنت جاحد مُكابر لمنشئك وفاطرك وخالقك ورادٌ لرسالته بأكرم خلقه عليه؟! ماذا تستحق؟ خلوداً في العذاب، خلوداً في النار، خلوداً في الغضب، فبئس الحال حالهم. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام فثبتنا عليها زدنا منها واجعلنا من خواص أهلها واحشرنا في زمرة محمد برحمتك يا أرحم الراحمين.
(عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3)) وهذه نهاية أعمالهم في الدنيا بكل مشاريعهم وخططهم، يا ويل من كذب بالله ورسوله؛ ولكن كيف يسْتَجِرئون أبناء المسلمين في تمجيدهم وتمجيد أعمالهم؟! وهذه حقيقة أحوالهم ينبأنا عنها خالق منشئ فاطر بيده الأمر وإليه يرجع الأمر (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) [النساء:87]، (عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ).
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3)) يقول جل جلاله: (تُصْلى)، وفي قراءة: (تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4)) الصليُ هذا مباشرة للنار في ملازمة بها تمُ الإحراق، وقد كانوا يجعلون في طريقة في بعض طبخهم -العرب- يجعلون مِنْ الجمر في مكان مخصوص، يَصلُون فيه الشاة بعد ذلك صَلْياً.
قال: (تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً(4)) هذه الوجوه بجميع أجزاء أجسادها تلاقي النار ملاقاةً مباشرة فتلازمها وتَحترق بها -تشوى بها شيَّاً بعد شي- (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ) [النساء:56].
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4)) وجوه تَصلى نار حامية: شديدة الحرارة، إنَّ نار الدنيا جزءٌ مِنْ سبعين جزء في الحرارة مِنْ نار الآخرة، فُضلّت عليها بسبعين درجة في الحرارة. قالوا: وإنْ كانت لكافية هذه النار، قد جعلها الله تذكرة لنا (أَفَرَأَيْتُمُ النار التي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ المنشئون * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ) [الواقعة:71-73] للمسافرين، تذكرة بنار الآخرة إنْ كانت كافية يارسول الله قال: فإنّها فضلت عليها بسبعين ضعف في الحرارة، ولذا لو وقعت شرارةٌ مِنْ نار جهنم على الكرة الأرضية في المشرق، وُجَدَ حرارتها بأقصى المغرب ولدُكّت لها الجبال (إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ* كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ) [المرسلات:32-33] اللهم أجرنا مِنْ النار.
فهذه الوجوه نفسها المفتخرة، المتكبّرة، المدّعية؛ هذا مصيرها ونهايتها: (عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4))؛
فأمّا أنْ تجعل وجوه هؤلاء الفسقة في ذهنك وفي قلبك وفي عقلك وفي جوالك وفي كتابك وفي كبتك، ثم تريد ترى وجوه الأنبياء -فأنت أبله، بليد- بعيد عن إدراك الحقيقة، تعيش مع المُبْعَدين، ثم تريد أنْ تدخل مع المقرّبين! أبعد هؤلاء وصورهم عنك وعن ذهنك وعن بالك، وارسم صورة الحجرة وصورة الروضة وصورة الكعبة في ذهنك وبالك وعقلك ولا يوجد في جوالك ولا في كبتك ولا في ألبومك إِلاَّ صور الصلاح والصالحين والأخيار والخيّرين؛ إنْ كنت تريد الحشر معهم هناك وإلاَّ ما أدري ما يتعرّض وجهك له؟! ماذا يتعرض له وجهك إذا جاء هذا اليوم؟! ومع أي الوجوه تكون؟!.
هذا خبر الوجوه عن خالق الوجوه حق وصدق، خذه بقوة وارعَ حقه، يقول تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2)) ذليلة مهانة، عاملة ناصبة، ماأفادتها أعمالها في شيء، (تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً (4) تُسْقَى) ولها سقي أيضاً، تُسقى لكن تمام ما دام في سقي لكن إسمع: من عين آنية، بالغة الحرارة. (تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5)) شديدة الحرارة، الله، عين لا يزال يوقد عليها مِنْ حين خُلِقت النار -بالغة الحرارة- ثم ينكب في تلك العين أيضاً ما يخرج مِنْ فروج الزناة والزانيات مِنْ القيح والصديد ويفور مع فوران هذه العين الآنية شديدة الحرارة ويقرب إليهم إذا قرب من وجه الواحد شواه، فإذا أُسقيه قطّع أمعاءه (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ) [الكهف:29] يشوي الوجه فقط مِنْ الإناء، مِنْ دون مايلاصق؛ يشويه مِنْ شدة الحرارة!! ما الحرارة هذه! يقرب ويشْويك دون أن يلصق بالوجه، من بعيد يشويه، مِنْ شدة حرارته؛ (وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ) [محمد:15].
والله هذا مصير مَنْ بلغته دعوة نبيّنا فأباها وأعرض عنها، لن يغني عنه ملكه ولا شركته ولا مؤسسته ولا دولته ولا حضارته مساكين.. مساكين.. مساكين..يا حسرةً عليهم، ويل لمن لا يؤمن بالله ورسوله، وهذه العواقب المحتّمة المقطوع بها لكل مَنٌ أعرض عن منهج الله فيا رب ثبّتنا على الإيمان ومتابعة محمد بن عبد الله.
(تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5)) -شديدة الحرارة- (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6)) إلاَّ من ضريع!.. إلاَّ مِنْ ضريع.. ماالضريع؟ قال: نبت شوك معروف عند العرب يبدأ؛
ففي بدايته قد تأكله بعض الأنعام من الجمال وغيرها؛ لكن إذا قوي وصار ضريعاً تَعَافُه ولا تقدر عليه، هذا إسمٌ عندهم ولكن الكلام عن طعامهم في النار إنّما لأجل التشبيه ذكره لهم، هذا الموجود عندهم في الحياة الدنيا، أمَّا هناك فشوك مِنْ نار يشبهه هذا الذي لا ينتفع منه حتى الحيوان ولا يستسيغه ويبعد عنه ولا يفيده.
(لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6)) وأخذ بعض الكفار لمّا نزلت الآية يقول: ضريع! ضريع -هذا عندنا يعني بدايته لمّا يسمونه شبرق- هذا عندنا تُسْمِن عليه إبلنا -كذابين ما هو ضريع، هذا في بداياته ما يسمى ضريع بعد- ولكن قالوا هكذا.
فأنزل الله: (لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ (7)) طعام في النار، شوك من نار لا يسمن، ما يؤثر السمَن في البدن ولا قوة ولا يغني من جوع ولا يذهب الجوع -نعوذ بالله من ذلك-
كلّه موجود في النار، وقد يختلط بعضه ببعض، وقد يكون في الدركة هذه زقوم، وفي الدركة هذه غسلين، وفي الدركة هذه ضريع؛ وفي كلِّ دركة من دركات النار عقوبة على قدر ذنوب أهلها -أجارنا الله من ذلك- يغصون بشوك ونار ويذكرون أنهم أيام في الدنيا إذا غصوا بلقمة يطلبون الماء فيطلبون الماء فيستغيثون ف ـ(يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) [الكهف:29].
يا فوز الذين من أجل الله يصومون ويتركون الطعام والشراب ثم يسقيهم شراباً طهورا: (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا) [الإنسان:21] وياويل الذين يأكلون الحرام ويشربون الحرام ويفطرون ويشربون في رمضان، ثم يأكلون الضريع ويسقون الحميم -نعوذ بالله من غضب الله-
(جَزَاءً وِفَاقًا) [النبأ:26] مَنْ عَطّش نفسه لله في يوم صائف؛ كان حقاً على الله أن يسقيه يوم العطش الأكبر -سقيا طيبة- وينتظر الصادقين من المؤمنين حوضاً طيبا لنبيهم، لكل الصادقين من الأمم لأنبيائهم حوض، لكل نبي حوض يَرْد عليه الصادقون من أمته -من مات على ملته- ونبينا أعظمهم وأكثرهم وروداً، وحوضهُ -ماءهُ- فيه ميزابان يصبّان مِنْ الكوثر: "أشدُّ بياضًا منَ اللَّبنِ وأحلى منَ العسَلِ وأطيبُ رائحةً منَ المسكِ من شربَ مِنهُ لم يظمأ بعدَهُ أبدًا"، اللهم اسقنا مِنْ ذلك الحوض.
قال سبحانه وتعالى: (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7))، والمقابل الفريق الثاني: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ (8)) عليها حُسنْ وبهجة وجمال وبهاء (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) [المطففين:24] الله، (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ) -اللهم اجعلنا منهم وألحقنا بهم- (لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9)) رأت السعي الذي اتبعّت فيه منهج الربّ صحيحاً طيبا؛ وفرحت، وجدت له ثمرة؛
فهي مملؤة سروراً، فرِحة راضية، الحمد لله. ما مقدار ما تعبنا؟! ما مقدار ما نصبنا في الدنيا؟! الحمد لله، رضيت بسعيها؛ يعني بنتيجة سعيها، بثواب سعيها.
(لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9))، (وَلَسَوْفَ يَرْضَى)، قال الله: (وَلَسَوْفَ يَرْضَى) نزلت في سيدنا أبي بكر يقول: (وَسَيُجَنَّبُهَا) -يعني النار- (الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى) [الليل:16-21]؛ ستحصّل الذي يرضيك، يعني عطاء عظيم مِنْ عظمةِ ما فيه من النعيم، العيشة نفسها سماها الله، راضية (فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ) [القارعة:7] والوجوه راضية، أصحاب الوجوه الناعمة هذه راضية، بنتيجة سعيها (لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ).
فاسعَ السعي الذي نتيجته الرضى في القيامة، اللهم وفقنّا لذلك ومنه إن شاء الله اجتماعنا في فجر أيام رمضان على التعرّض لنفحات الله والتدبر لآياته، اجعله اللهم من السعي الذي يُرضى، ترضاه وترضى به فترضينا بجزائه، تملأ به نفوسنا بهجةً وفرحاً لا يعلمها إلا أنت، برحمتك يا أرحم الراحمين وجودك يا أجود الأجودين وبوجاهة حبيبك الأمين.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
01 رَمضان 1437