(536)
(228)
(574)
(311)
يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1437هـ.
﷽
(أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم (26))
الحمدُ للهِ مُكرِمِنا بالقرآنِ وآياتِهِ، وأحكامِهِ وعِظَاتِهِ، وبَرَكَاتِهِ وخَيْرَاتِهِ، وأنواره وإضاءاته، ومعانيه ودلالاتِهِ، وعجائبه التي لا نهاية لها،
صلَّى الله وسلَّمَ على القلب الذي تَهَيَّأ لإنزال هذا القرآن ولم يتهيأ له سواه، فحَفِظَ عن الله -تبارك وتعالى- من سِرِّ ما أوحاه وما خُصِّصَ به دون غيره من جميع خلائق الله، سيد المرسلين وخاتم النبيين -محمد بن عبدالله- الرحمة المُهداة والنعمة المُسداة، فتلا علينا لسان ذلك القلب ماأوحى الرّبّ، فكان ذلك أقوى أسباب القُربِ، وأعلى المراتب في القُرَب
وصلَّى معه على آله مَنْ كُلِّ مُطَهَّرٍ أطيب، وعلى أصحابه مَن كُلِّ ذي صِدْقٍ وَاسِعٍ أَرْحَب، وعلى أتباعه بإحسانٍ إلى يوم وضع الميزان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم والتابعين، وعلى ملائكته المقربين وجميع عباده الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعد..
فإنَّا في فضل الله علينا في تأمُّلِ آياته، مَرَرْنَا على معاني مُتعلّقة بسورة "الغاشية"، وما ذَكَّرنا الله من مَآلِ الوجوه في القيامة، وحُلول كُلٍّ منها فيما استحقّته وتهيَّأَت له أو قُدِّرَ لها وكُتِبَ لها وتهيَّأت له في مساعيها أيام كانت في الدنيا، وذَكَرَ لنا العجائب التي تكون في جنَّتِهِ، جعلنا الله وإيّاكم من أهل جنته، مما يُمَتِّعُ الله به عباده من أنواع النعيم الذي لا يُكَيَّف ولا يأتي على الإحاطة به وَصفُ مَن وَصَف
يقول -جَلَّ جلاله- بعد أن ذَكَرَ هذه الأنواع من النعيم؛ لا يَبعُدُ عن أذهانكم تيسير قيام ذلك أو يُسرَتُه وسهولته على الإله الذي خَلَق؛ فقد جعل بين أيديكم وعندكم وفيما تَنظُرُونَ وتُعَايشون عجائب واسعاتٍ مِنْ قدرته، وبدائعِ صَنْعَتِهِ وحقائقِ إرادته، فلا غرابة فيما حَدَّثكم عنه في المآل من مصير أهل سوء الأعمال وأهل صالح الأحوال، هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار.
وَذَكَرَ - تبارك وتعالى- أربعة أصنافٍ من خلقه: الإبل، والسماوات، والجبال، والأرض. وهي التي كانت أقرب الأشياء إليهم ومحلُّ انبساط نظرهم؛ فأمَّا الإبل فكانت أعزَّ أموالهم، وكانت مَحَلَّ إكرامهم، وكانت مَحَلَّ تنافُسِهم، واجتمع فيها من المنافع ما لم يجتمع في غيرها من الحيوانات، حتى إنَّ الناس ليَدَّخرون من الحيوان ما يكون لأجل الجَمَالِ والزِّينة، ويَدَّخِرون من الحيوان ما يكون من أَجْلِ الركوب، ويأخذون من الحيوان ما يكون من أَجْلِ الشُّربِ والحليب، ويَدَّخِرونَ من الحيوان ما يكون من أَجْلِ نَقْلِ المَتَاعِ؛ وكل هذه الأنواع من الحيوانات مجموعُها المنافع في الإبل التي خلقها لهم -جَلَّ جلاله وتعالى في علاه- ثم أنها أيضاً مع عُلُوِّها -وقد ذكر سبحانه السرر العالية- تَنزِل فيركبون عليها ثم تقوم بهم، كما جعل الله الأَسِرَّة في الجنة تتبع أصحابها نزولاً وطُلوعاً كما يَهوَون ويشتهون.
ثم ذَكَّر بذلك المؤمنين إلى وجود الانقياد في هذه الإبل، تذليلها وتسخيرها، يقول: (وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ) [يس:72] أي من أجل الذبح ومن أجل الأكل والشرب والركوب والحمل؛ كلّه فيها، وقال في الآية الأخرى: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا ۗ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ ۚ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ) [النحل:5-7]، يقول: أن هذا الحيوان مع كِبَرِه وضخامته في الجسم وارتفاعه يقوده الصغير منكم والطفل، حتى ذُكِرَ أنَّ فأراً أمسك بخِطَامِ جَمَلٍ فسَارَ معه الجمل إلى فَمِ غاره، ويأخذه الطفل الصغير فيلفِته يَمْنَةً وشِمَالاً ويُقعِدُه ويُقِيمُه؛ ويَنقَاُد له، وترون هذا بضخامته؛ أمَا تستَحيون في واجب انقيادكم لربكم!؟ فيما أنزل عليكم من أوامر ونواهي؟ أما تُحسِنون التَّذَلُّل لهذا الإله؟ ذَلَّل مخلوق لمخلوق فرأيتموه كيف تَذَلَّل! أمَا تأخذون من ذلك عبرة فتُحسِنونَ التذلل للجليل الأعلى! للعليّ الأكبر! تتأبَّوْنَ عن أوامره، تقعون في نواهيه من غير حياء!.
ومع ذلك كله ففي كُلِّ ذرَّةٍ من ذرَّاتِ الوجود عجائب لا يُحَاطُ بها، إلَّا أنَّ الذي ينكشف للناس يختلف مِنْ واحد إلى واحد، ومن جزءٍ إلى جزءٍ من أجزاء الكون. وإلَّا:
إنَّ الوُجُودَ بِأَسْرِهِ *** بالأحَدِيَّةِ مُعلِنَاً
بَهَرَت بَدَائعِهُ العُقُول *** فَغَدا المُوَفَّق مُوقِنَا
وتَشَكَّكَ المُتَثَبِّطُون *** فكأنهم ليسوا هُنَا
(سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) [الأعراف:146]، وإلَّا:
فَيَا عَجَبَاً كيف يُعصَى الإله *** أم كيف يجحده الجاحدُ!
ولله في كل تحريكةٍ *** وتسكينةٍ أَثَرٌ شَاهِدُ
وفي كُلِّ شيءٍ له آيـــة *** تَدُلُّ على أنَّهُ الوَاحِدُ
-جَلَّ جلاله- رزقنا الله الاعتبار والاِدِّكَار.
(أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18)) وكم مسافة؟ ولا يتناولونها ولا يصلها شيء منهم، (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا) يا أهل الحضارات انفذوا، يا أهل التكنولوجيا انفذوا، يا أهل التقدم والتطور انفذوا!! (لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ) نعطيه مَن شِئنا كمعراجنا بحبيبنا محمد، نفذ مِنْ أقطار السماوات والأرض كلها، فَبِمَا أوتيتم مِنْ قُوَى؛ انفذوا (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ) [الرحمن:33].
والأشِدَّاء في الطيران من الجن كانوا يقتربون من السماء فيسترِقون السمع ثم مُنِعُوا:
أنتم تحت هذا القهر والسيطرة؛ تُكَابِرون! تَجحَدُون! تُعَانِدون! تَغفُلون! تُهمِلون! تُعرِضُون! يا ماأقبح هذه الحالة ممّن أعرض وتولَّى! لا أقبح حالة ممن عصى الله! لا أقبح من الإعراض عن الله! غاية الجفاء، وغاية اللُؤم، وغاية سوء الأدب أنْ يَنسَى مَن أحاط به، وأحاطه بكائناته مِن كُلِّ جانب وأظهر ضعفه في كل شيء، وأمَدَّه بنِعَمٍ لا تُحصَى فينساه ويُهمِلُ أمره ويَتَجَاسَرُ على إنكار فضله وإحسانه ولا يتأدّب معه! ما أقبح ذلك!!.
(قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ) عندك بصر؟ (مِن نُّطْفَةٍ)!، عندك سمع؟ (مِن نُّطْفَةٍ)!، عندك عظام؟ (مِن نُّطْفَةٍ)!، عندك جهاز تنفسي؟ (مِن نُّطْفَةٍ)! .. ما الذي حوَّل نطفة إلى هذا كله!؟ عظمةُ العظيم، عظمة الخالق القادر: (مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) [عبس:17-20] صَفّى الله قلوبَنا، وجعل الله لنا بصائراً تُبصِر عظمته في كُلِّ شيء، حتى نُحسِن الأدب ما دُمْنَا في قيد هذه الحياة فنلقاه وهو راضٍ عَنَّا.
(وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18)) أين صيانتها؟ ما في صيانة؟ ما في شركة؟ مايحتاج شركة تعمل صِيانة للسماء؟! لها كم سنين! لها كم قرون! يمكن نزلت قليلا عن موقعها أو تشققت؟!! إذهب وأصْلح أجهزتك، أمّا هذا لا يحتاج إلى صيانة منك ولا من غيرك، (خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا) [الملك:3]، يقول سبحانه وتعالى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا)، ملايين السنين لا تحتاج زيادة ولا تَقوية ولا ترميم ولا.. (شِدَادًا * وَجَعَلْنَا سِرَاجًا) [النبأ:6-13] مُحكمة الصُنع مُتقنة بشدة؛ (وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) واعتلتْ هذا العُلوّ البديع.
بعد ذلك، كلّ ساعة يذكرون؛ المسافة بيننا وبين كذا، والكوكب الفلاني المسافة بيننا وبين الكوكب سنة ضوئية، مائة سنة، ألف سنة ضوئية.. بعدد أعمارهم وأعمار أباءهم وأجدادهم ولا وصلوا.. وبعد ذلك؟! سبحان القوي، سبحان المكوِّن، سبحان الخالق، سبحان العظيم.
يقول تعالى: (وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19)) وُطِّدت قال: (وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا) [النبأ:7]، والوتد يغرَق في الأرض، ويكون أكثره تحت الأرض مستور؛ وهكذا الجبال (أَوْتَادًا)، وما مِن جبل تراه إلا وداخل الأرض مثل المُرتفع مرتين أو أكثر ”أوتاداً" ورَسَّى بها الكرة الأرضية فصارت في دورانها وسباحتها و(كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [الأنبياء:33]، في سِباحتها وفي دورانها مُتّزنة غير مضطربة غير متحرّكة، يبرح عليها الطير ويطمئن عليها الحيوان والإنسان، مِهَاد، مُمهدة.
أرسى بأوتادٍ لها فرَسَت *** وفي الرجال جبالٌ بل وأوتَادُ
وكما أرسى هذه الأرض بهذه الجبال
فأراضي المعارف والعلوم *** إنمـا تَرسَــى بالرجــال
أرسى البلاد بأوتَادٍ لها فَرَسَت *** وفي الرجالِ جِبَالٌ بل وأوتَادُ
لذا لمَّا ذكر البوصيري أصحاب النبي قال:
هم الجِبَال فَسَل عنهم مُصادِمهُم *** ماذا رأى منهم في كُلِّ مُصطَدَم
(وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ(19)) هذا الانتصاب، ومرّت سنين وأمطار والرياح وهي محلَّها! ثابتة! ما هذا العَجب! ما هذه القوَّة! وأين مصدرها؟.
(وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ) حيث يمشون، وهم يركبون الجِمَال ويمشون في القِفَار والصحاري، وعندها قوة تمشي مسافة وتصبر عن الماء يومين، ثلاثة، أربع، خمس، إلى عشرة؛ أيام ما تشرب، تصبر عن الطعام مدّة طويلة..وتمشي، وإذا مشى عليها يرى فوقه السماء وحواليه الأرض، وأول ما يقع نظره على جملهِ الذي هوعليه، وإذا رفع حَصَّل سماء، وإذا التفت يمين شمال وجد جبال، وإذا نزل الى أسفل وجد أرض.
(أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)) أنت على جملك تمشي، أين تريد أن تذهب؛ ترى أمامك الآيات.
وهكذا الإنسان في كل أحواله مُحاطٌ بكل آيات الله البديعة، وهو يتغافل وهو يتجاهل! ما أنت؟ من حواليك؟..ناس، كيف خُلِقوا؟ جُدران، أعمدة، حديد، ورق.. هذا كله كيف تَكَوَّن؟ من أين جاء؟ وبأي مراحل مَرّ؟ دليل على ماذا؟ هواء، مايكرفون، سراج، وآلة تصوير تصوِّرك، وكيف ترَتَّبَت؟ ولماذا هذه لوحدها تُصوّر؟ وكيف اهتدوا إليها؟ ولماذا الزجاج الثاني الكبير في الجدار عند النافذة ما يصوِّر؟ لماذا؟ آياته، قدراته، تدبيراته، تصويراته، تركيباته، صناعته؛ أنت محاط بها من كل جانب لكنّك تَغفل، لكنّك تنسى، لكنّك تخون!.
(أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)) وكل كُرَة كَبُرَت، كل جزء منها كان سطحاً، سطح الكرة الأرضية انبساطها وامتدادها (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) أي كيف بُسِطَت ومُدَّت؛ دحاها الله تعالى، بدايةً من تلك البُقَعة التي تحت الكعبة ودحى منها الأرض؛ فهي سُرَّةُ الأرض هذه الكعبة، وجعل الله فيها بيت (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) [آل عمران:96].
يقول تعالى انظروا إلى العجائب والغرائب، فيقول لحبيبه:
وما أعجب إيصال أحبّ الأحباب إلى ربِّ الأرباب، سَلِّم له زمامك؛ يمحو ظلامك، ويُبعِد خيالك وأوهامك، ويوصِلك إلى مولاك، فلا والله ما وَصَلَ مَن وَصَل إلَّا باتباعِ محمدٍ فيما قال وما فَعَل، اللهم ارزقنا حُسْنَ متابعته.
(فَذَكِّرْ) -يقول له- (إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ(21)) يحمل الذكرى عنك مَن يحملها مِن كُلِّ مَن تَنَوَّر، فصَارَ بإذننا وبما سَرَى إليه من نورك يُنَوِّر، فقل لهم: "بَلِّغُوا عَنِّي ولو آيَةً"، وقل لهم: "مَنْ دَعَا إِلَى هُدىً كانَ لهُ مِنَ الأجْر مِثلُ أُجورِ منْ تَبِعهُ لاَ ينْقُصُ ذلكَ مِنْ أُجُورِهِم شَيْئًا".
(فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ(21)) فإذا جاءت كثافات النفوس وظلُماتها فأعرضت وتولَّت فما عليك (لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ(22)) لست عليهم بجبَّار كما قال له في الآية الأخرى: (وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ) [ق:45]، لست عليهم بوكيل، لست عليهم بحفيظ ، لست عليهم بقاهر، تُكرِههم وتُجبِرهم على الإسلام والإيمان (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) [يونس:99-100] فَأدِّ دورك في سِرِّ رحمتِنَا وقُمْ بالتذكير، وعلينا أن نهدي مَن نشاء.
(فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ (23))، (إِلَّا مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ) إمّا بمعنى؛ لكن مَن تولَّى وكفر، وجاء في قراءة (أَلا مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ). كما جاء في قراءة لسيدنا علي وبعض الصحابة: (أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خَلَقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رَفَعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نَصَبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سَطَحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (22)) وفي هذا المعنى جاءت الشريعة بقول الله لحبيبه: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) [البقرة:256] اُدْعُهُم علِّمهم أقم الحُجَّة بَيِّن ولا عليك؛ نهدي مَن نشاء ونُضِل مَن نشاء -اللهم اهدنا فيمن هديت-.
ولم يزل سِرُّ تذكيره قائم؛ ليُقبِل مَن يُقبِل، ويَسعَد مَن يَسْعَد، ويتنوَّر مَن يتنوَّر، وينكشف الحجاب عمن ينكشف عنهم الحجاب، بتذكيره ﷺ أين تذكيره؟ هذا تذكيره، سُنّته الغرَّاء. أين تذكيره؟ قلوبٌ حمَلَت النور عنه، تواتر فيها النور منه حتى صارت منتشرةً في الآفاقِ والأقطار في كُلِّ الأزمنة.
وبهذا التذكير من قِبَلِ البشير النذير وانتشاره في البَرِيَّة للصغير والكبير داَمَ سِرُّ عناية الله ليُوصِل مَن شاء ويُقَرِّب مَن شاء ويَفتَح على مَن شاء؛ فإنما الهادي عن الله بإذن الله المُزَكِّي لعباد الله: السراج المنير، الطُّهْرِ الطاهر، النور الزَّاهِر، سيد الأوائل والأواخر محمد الطّاهر ﷺ.
(فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ(21)) وإن سَرَى في مجالس الأخيار على مدى الأعصار سِرَايَةُ استنارة أو تَبصِرة أو تقريب أو تحبيب فمن سِرِّ ذلك التذكير؛ فتذكيره قائم، وهذا من معاني قوله: (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ) [الإسراء:106] سِرُّ قراءتك يَتَنَاقَلُ في أُمَّتِكَ من قَلبٍ إلى قَلبٍ. وقال سبحانه وتعالى: (لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) [الرعد:30]؛ فنِعْمَ التَّالِي: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) [الجمعة:2].
وإذا حضرتَ في رمضان في دار المصطفى تتأمّل معاني القرآن فقد حضرتَ إلى نور المصطفى، ومُخَلَّف المصطفى، وتَرِكَة المصطفى، وضياء المصطفى؛ فدونك إن كنت من أهل الصفاء، سلوك مسالك الوفاء لتُدرك كمال الشِّفاء، وليُقَرِّبُكَ الحقُّ إليه زُلْفَى.
(إِلَّا مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ(23)) فليس عليك تذكير أو لا تَصِلُ إلى تذكير قلبه وفؤاده؛ لأنَّا أغفلنا قلبه عن ذكرنا.
(إِلَّا مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24)) يقول: فنحن نتولَّى التعذيب وما قَصَّرتَ أيها الحبيب، قُمتَ بالواجب، فَنِعْمَ المُلَبِّي والمُستجيب وإن عليك إلا البلاغ: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (22))، وهذا يُوقفنا أيضاً وجميع الصادقين والمخلصين في الأمّة في كُلِّ زمان أنَّ عليهم:
(لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24)) وما عليكم حسابهم، ولا عليكم عِقابهم، ولا عليكم صَرْفُ شرِّهم ولكن نحن نتولَّى كل ذلك.
(فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (22)) ومَن لم يَهتَدِ إلى عُمْقِ المعنى، ظَنَّ أنَّ قيام الجهاد والقتال لمن قاتل سيطرة، وليس الأمر كذلك. فادَّعى نسخ الآية وليس الأمر كذلك. الآية كما هي وما نسخها شيء،
وقد كان إلى آخر عُمْرِه يستشهد بالآية -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- في مواقف، ويقول: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (22)).
وقد قال للمشركين بمكة بعد أنْ تَمَكَّن منهم: "اذهبوا فأنتم الطُّلَقاءُ" فأين نسخ الآية؟ ما نُسِخَت الآية، الآية كما هي، ولم تَزَل، وشرحُها في قوله: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) -لأن الأمر واضح- (قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) [البقرة:256]، والحق ليس بحاجة لأحد ورسوله ليس بحاجة لأحد؛
قال تعالى: (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25)) سيرجع الكل إلينا، وأين سيذهبون؟ أ يرجعون إلى بعضهم البعض؟! هذا يموت وهذا يموت.. أين يرجعون؟ يرجع الميت إلى ميت؟! كيف يعني؟ إلى أين يرجعون؟ وإذا مات أحدهم، ماذا تستطيع حكومته أن تعمل؟ -امسكوا روح الرجّال؟!.. أين راحت روحه؟ وجسده!- وأحسنهم هدياً من يدفنونه ويضعون فوقه التراب (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ) [طه:55] -وهذا يُعَلِّقُهُ وهذا يُحَنِّطُه وهذا يحرقه- والروح أين هي؟ أين راحت الروح؟ هل يستطيعون أن يعملوا شيء؟! يعملون له شيء؟!
(وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ)؛ لأنه لا مرجع ثاني لهم أين سيذهبون؟! عند ربهم، لكن مُنكِّسين رؤوسهم لأنهم على خباثة، على سوء أدب، ما لقَوه على طِيبة، ولا رضي عنهم.. يُنكّسون رؤوسهم؛ (وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ) [السَّجدة:12] ذاك فكرنا كذب باطل، وذلك تخطيطنا كذب باطل، وتلك دولتنا كذبٌ باطل، وذلك حِزبنا كذب باطل: (فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ) أيقنّت أنَّك الله، ورسلك هم الرسل وكتابك هو الحق، قال الله؛ انتهت الفرصة، (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَٰكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا) -مصيبة الناس نسيان الآخرة- (إِنَّا نَسِينَاكُمْ ۖ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا) [السَّجدة:13-15] ناس ممتلئين بتعظيمنا وإجلالنا، هؤلاء هم الذين آمنوا بالآيات ولهم الفوز اليوم، ولهم الفوز الأبدي.
(إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم (26))، (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47].
اللهم اجعل مآلنا ومرجعنا إليك مآل ومرجع المحبوبين لك، والمقربين إليك، ظافرين بإفضالك وجزيل نوالك، يا حي يا قيوم انفعنا وارفعنا بالقرآن، واجعلنا عند من أهل القرآن، وبارك لنا في القرآن في شهر رمضان الذي أُنزِلَ فيه القرآن، وأصلح لنا كل شأن، وارفعنا إلى أعلى مكان، واختم لنا بأكمل الحسنى يا وليَّ الإحسان، وشفِّع فينا نبيّك المصطفى من عدنان، الذي أنزلتَ عليه الفرقان، واجعلنا ممن اهتدى به وسار في دربه وشَرِبَ من شربه وأنت عَنَّا راضٍ في لُطفٍ وعافية.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي محمد
اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
03 رَمضان 1437