(536)
(228)
(574)
(311)
يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1436هـ.
﷽
(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ (3) تَصْلَىٰ نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَىٰ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ (6) لَّا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ (8) لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9))
الحمد لله رب البدايات والخواتيم وقد ابتدأ الوجود أجمع من لا شيء بل كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان الله ولم يكن شيء معه، وهو على ما عليه كان، يُحدث ويُبدّل ويُغيّر ولا يتبدّل ولا يتغير وليس كمثله شيء سبحان الملك الحي القيوم.
كان شأن البداية مؤذنًا بعظمة، والمتأمل له يتهيأ لحُسن النهاية، وأن لا تنزل به النقمة ومن نسي البداية، اغترَّ وضرّ نفسه وهدم أُسّه وتعرّض لسوء الخاتمة والنهاية، ومُبتدأ كل شيء من الحق وإليه يعود: (كما بدأنا أول خلق نعيده) [الأنبياء:104]، (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم (26)).
وإنا لنشاهد في أيامنا وليالينا وأسابيعنا وأشهرنا، يبتدئ الواحد منها بدايةً بأمر رب محيطٍ قديرٍ حاكم قوي سميع بصير تجري بأمره، فلا ندري إلا وقد خُتم اليوم وخُتمت الساعة وخُتم الأسبوع وختم الشهر، وإليه يعود، إلى ربه الذي خلقه سبحانه وابتدأه.
وهكذا نجد بداياتٍ ونهايات لحركات منَّا وسكنات، ولمطعوماتٍ ومشروبات، ونجد بداياتٍ ونهايات لحيوانات ونباتات وجمادات، نجد بداياتِ ونهايات لأنظمة ولدول ولأحزاب، وإذا تأملنا وجدناها من بداياتها إلى نهايتها وعنوانها: أن الجبار فوقها؛ فاز من أطاعه وخاب من عصاه.
والبداية لهذا النوع الكريم -الإنسان- بداية تحدَّث عنها الحق المُبدئ المُعيد-'جلّ جلاله- وكان خلق الأرواح، وبدأ خلق الإنسان في جسدانيته ومادته من طين:
وإذا انتهى الأجل المسمى أخرجه إلى الأرض:
والذين نسوا بداياتهم أخذوا يتكلمون على غير بصيرة في النهايات:
أصناف المغرورين غفلوا عن البداية وتناسوا حقائق النهاية فما معهم حقيقة، لا عن البداية ولا عن النهاية، ولكن في هذا الوسط يغفلون ويلهون ويغترون ويقوِّمون أشياء وأسباب ويمضون على غير بصيرة، فيخسرون الدنيا والآخرة: (ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [الحج:11].
سبحانه من ملِك عظيم، نسأله تعالى أن يجعلنا ممن سبقت لهم منه الحسنى وختم لهم بها، وأن يجعل الحسنى منه لنا في أقوالنا وأفعالنا، وفي أيامنا وليالينا، وفي أسابيعنا وأشهرنا وأعوامنا وفي أعمارنا، وأن يبدأها ويختمها لنا بالحسنى؛ ومنها شهرنا الذي نختمه راحلاً عنا -شئنا أم أبينا-.
فأما قلوب المؤمنين فتودّ أنه يدوم ويبقى، وأما قلوب المنافقين والكافرين فتفرح بذهابه وزواله "ولو تعلم أمتي ما في رمَضانَ لتمنَّت أمَّتي أن يَكونَ السَّنةَ كلَّها رمضانُ"، وإن تمنّي زوال رمضان من كبائر الذنوب، فالله يُحسن خاتمته لنا ويجعلنا من أسعد الناس بخاتمة هذا الشهر الكريم.
ولقد أرسل إلينا أحسن خلقه، أعظمهم وأحسنهم في البدء والختام خير الأنام، وكان بمعنى من معاني التخصيص والإكرام هو في الخلق أول وهو في الخلق آخر وقال: "نحن الآخِرون السابقون يوم القيامة" ونالت أُمته وإن كانت آخر الأمم أفضلية، فهي في القيامة أول الأمم، وهي في الدنيا آخر الأمم، فمعها معنى من الأولية ومعنى من الآخرية إرثاً من نبيّها الأول الآخر.
فلئن برزت إلى الشهادة آخرًا *** فوجود روحك للورى قُدّام
وفي قصة الإسراء والمعراج أن بعض الأنبياء تلقّته أرواحهم "ليلة الإسراء وحيّوه بهذه التحية فقالوا لنبينا خير البرية: السلام عليك ياأول، السلام عليك يا آخر، السلام عليك يا ظاهر، السلام عليك ياباطن" -صلوات ربي وسلامه عليه-، صلّ اللهم على هذا الحبيب سيّد أهل التقريب ووفّر ووفِّ لنا منه الحظ والنصيب، واجعلنا من أسعد أمته به، ثابتين على دربه، ممتلئي القلوب والجوانح بحبه، شاربين من شُربه، داخلين في حزبه، حتى نحظى برفقته وصحبته في يوم القيامة وفي دار الكرامة برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلِّ معه على آله وصحبه، وصلِّ على أهل محبته وقربه، صلِّ على آبائه وإخوانه من النبيين والمرسلين وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد،،
فإننا في نعمة بساط الفضل في تأمل القول من الربّ الحق -جلّ جلاله- وصلنا إلى تأمل سورة الغاشية، بعد أن طُفنا بِمعانٍ كانت في سورة الفجر، وسورة الغاشية وَرَد عنه قراءتها في صلوات؛
فيقرأها مع "سبح اسم ربك الأعلى"، وقد يقرأها مع سورة الجمعة ﷺ .
يُخاطب الحق فيها نبيه:
الحق يقول لحبيبه: اعجب لما آتيناك ونبّأناك عن أخبار المرجع والمصير إلينا وأحوال الناس في ذلك اليوم، وأطلعناك على ما لم نُطلع عليه غيرك، وأمرناك أن تُحدّث بأشياء عنه تبلغها عبادنا نذكرها على لسانك في هذا التنزيل (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ).
يقول الحق جلّ لحبيبه: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ(1)) فهو استفهام فيه معنى التعجب والملاطفة وحسن الحديث بين مُحبٍ وحبيب.
يقول: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ(1)) الغاشية، الغاشية: القيامة لأنها تغشى كل شيء بهولها، فأهوالها تغشّي كل شيء؛
(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ(1)) ومن معاني الغاشية: النار الموقدة، قال تعالى: (وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) [إبراهيم:50]، (لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ) [الأعراف:41].
(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ(1)) ومما يقوي أن المراد بالغاشية يوم القيامة قوله تلوها: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ(2)) أي في يوم الغاشية في يوم القيامة (وجوه يومئذ خَاشِعَةٌ(2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ(3) تَصْلَى)، وفي قراءة: (تُصلى نَارًا حَامِيَةً(4) تَسقى)، وفي قراءة: (تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ(5)) -تَصْلى وتُصلى.
(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ(1)) يقول الله الناس في ذاك اليوم على أنحاء ومراتب وفرق: (وُجُوهٌ يومئذ خَاشِعَةٌ(2)عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3)) ولمَ وجوه؟ لأن الله جعل بحكمته في هذا التكوين والخلق أن كل ما يجري ويدور على جسد الإنسان وروحه يتعلق بوجهه، وأقوى ما يتعلق منه في وجهه؛ بَصرهُ، ولذا تجد أنه عند الإتقان في التأمّل في الطب وغيره، يمكن من خلال العين أن يُعرَف ما في الجسد، من كل داء وصحة، فكم من عجائب لهذه العين الصغيرة الحجم، الكثيرة الكبيرة الخطر، وعامة ما يكتسبه الناس من المنافع ويرتقون فيه من الدرجات يكون بحسب الترتيب الإلهي -غالبا- مبدأه من العين، ولذا قال شاعرهم:
كل الحوادث مبدأها من النظر*** ومعظم النار من مستصغر الشرر
إلا أنه ليس المراد العين هذه المجردة، لكن العين مع ذلك القلب، فإن العلاقة بين القلب والعين من أقوى العلاقات، هناك علاقة لجميع أعضاء الإنسان بقلبه وروحه ولكن علاقة العين أقوى؛ فالسمع، فاللسان مؤثرات؛
لذا كان اختيار المسموعات والمنظورات أقوى عُدة لارتقاء الإنسان وصفائه ونيله السعادة وارتفاعه في الرُتب وحيازته لحقائق الشرف والكرامة، أن يختار منظوراته ومسموعاته.
فإذا حسنت منه المنظورات فلا ينظر إلا إلى الحسن فإنه يحسن منه موارد الفكر في قلبه وإذا طابت موارد الفكر تفتّحت لها غيوب بعد غيوب من أمر الله تبارك وتعالى في حقائق الخلق والإيجاد وحِكم التدبير من رب العباد -جل جلاله وتعالى في علاه- وفي ذلك يقول الإمام الحداد:
وصفِّ من الأكدار سرّك إنه إذا *** ما صفا أولاك معنى من الفكر
تطوف بـه غيب العوالــم كلهـــا *** وتسري به في ظلمة الليل إذ يسري
ولكن من مدّ عينه إلى ما يضرّه وإلى المُفسدات والفاسدات والساقطات؛ أنّى له أن يصفو فكره؟ وأنّى له أن يتطهر سِرّهُ! فلا يزال مُوسخًا بقاذورات سيئات النظر، سيئات النظر، فيتأثر بذلك تأثرًا كبيرًا.
ومن هنا إذا يركّز الإنسان على النظر في شيء، فيتابع ذلك إلا كان تفاعل المخ والدماغ والقلب والعقل والفكر كله مع ذلك النظر؛ خيرًا كان أو شرًا صلاحًا أو فسادًا نفعًا أو ضُرًا عُلويًا أو سُفلياً نقيًا أم مُوسخًا؛ يذهب كله إليه، حتى لو تتأثر أعضائه بالتفكير في الشيء، ويَقوىَ التفكير في الشيء عند تركيز النظر عليه فكأنه بنفسه يمارس ذلك الشيء أو يفعل ذلك الشيء بمجرد نظره فتتفاعل معه بواطنه وقواهُ كلها فيتأثر؛ لذلك جاءنا الإرشاد الرّباني:
وجدوا تأثير ذلك على الجماد، فكيف عليكَ أيها الإنسان؟! الجماد إذا قابل منظرًا سيئًا سَرَى إليه السُّوءَ من هذا المنظر أو جاوره وهو جماد وهو جماد، بل وجدوا التأثير حتى في مثل الماء لِما يُقال من كلام، إن كان كلام طيب، عناصر الماء تَطيب ويُحسن وضعه، ولو أخذنا ماءا من عين واحدة، من مكان واحد، هذا في إناء ومثله في الإناء الثاني؛ واحد يتكلم كلمة واحدة فقط في هذا الماء، يقول: طيّب طيّب طيّب، يقول في هذا الماء: خبيث خبيث خبيث، ويكرر هذا على الماء، حلّل المائين تجد في اليوم الثاني اختلفت عناصر هذا عن عناصر هذا، طاب هذا وخبُث هذا، وهكذا الآن يُكتشف إلى عالم الحس هذه التأثيرات.
ومن هنا سمعنا ما يقول سيدنا الحسن عليه رضوان الله: "سألتُ خالي هند ابن أبي هالة وكان وصّافا أن يصف لي رسول الله ﷺ وهيئته ما كان يعرفه ولكن أحبّ أن يستزيد من أوصافه، قال وأنا أحبّ أن يصف لي منها شيئا أتشبث به، أتعلق به"، يتعلق قلبهُ وفكرهُ -الله أكبر- قال: "وكتمتها أخي الحسين زمانًا ثم أخبرته فوجدته قد سبقني إليه وحدّثه واستفسره وزاد فسأله عن مدخله ومخرجه وعن... وسأل أباه أيضًا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فكانوا يتناقلون هذه الأوصاف"، فمحل أفكارهم وأنظارهم عُلوية شريفة كريمة فهم الوجوه الناضرة، وهم الوجوه الناعمة، طابت مجاري أفكارهم وأنظارهم.
ولهذا لما قال الله: (وُجُوهٌ يومئذ خَاشِعَةٌ(2)عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَىٰ نَارًا حَامِيَةً(4))، قال: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ (8) لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9)) ثم قال في آية أخرى لما أراد يحكي حالتهم؛ اقتصر من الوجوه على الأبصار، يقول سبحانه وتعالى: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ) [النازعات:6-9]، هناك يقول: وجوه خاشعة، هنا قال: أبصار خاشعة؛ لأن الذلة الواقعة عليهم من هول ما ترجف قلوبهم في ذاك اليوم، تُقرأ في صفحات وجوههم وتتركّز في عيونهم (أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ) [النازعات:9]، (وُجُوهٌ يومئذ خَاشِعَةٌ(2)) الذلة التي ينتهون إليها تقرأها تمامًا في صفحات الوجوه وأبرز ما تكون في الأعين -الله-.
تجد صاحب الهم، صاحب الغم، صاحب الكدر، صاحب الضجر؛ بارز الأمر على وجهه وفي عينيه أبرز: (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ ) [النازعات:8-9]، (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ(2)) عليها الذِل قال سبحانه تعالى وَالَّذِينَ (كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) [يونس:27] بئست الذِلة، ذلة يوم القيامة لو عقلوا وتذلّلوا لربهم في الدنيا، لأُعزّوا لكنهم ذلّوا أنفسهم بمعصية الله في الدنيا باتباع الشهوات، بتصديق الفجار والكفار؛ ذلّوا أنفسهم، فتظهر الذِلة عليهم في الآخرة (كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا) [يونس:27].
وهذا حالة الكثير ممن يَعتنون اليوم في عالم الأرض بالمظهر والصورة، ومنهم الذين يعملون عمليات التجميلية لوجوههم في الدنيا وغيرها، ومنهم الذين يستعملون المواد التجميلية، ومنهم ومنهم سَترى وجه الواحد منهم كأنه قطعة من الليل المُظلم يغشاهُ الذل (أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ) [النازعات:9]، (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ(2)). قال سبحانه تعالى: (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) [المعارج:44] -يالطيف- فما ينفعهم ما يستعملونه لما كانوا في الدنيا من التجميل، ولا يجدون أماكن في القيامة لإجراء عمليات تجميل، العمليات قد أُجريت في الدنيا؛
وهناك يظهر هذه عمليات خطيرة قوية ناجحة أثرها دايم بعدين -يا لطيف-.
قال: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2)) يعني عليها الذلة والمهانة والسقوط والانكساس والوجل والخوف وكل معاني السقوط والذِّلة.
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ(3)) عاملة ناصبة، عاملة يعني تعمل عاملة، لكن نتيجة العمل نصب وتعب -لا حول ولا قوة- لا يوجد فائدة. (عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ(3)) أصناف الكفار اليوم عندنا مثلا على ظهر الأرض، عندهم أعمال، بعضهم عنده أعمال حتى نومه قلّله، والمؤمن ما قلّل نومه من أجل القيام ولا من أجل القرآن، وذاك من أجل شُغلهُ في الدنيا قلَّل نومه، كافر من الكُفَّار ليس لديه وقت مشغول من شأن مشاريع عنده متراكمة، بعض مشاريع يصلِّحها يقول؛ مصلحة البشرية، لتربية وتطوير البيئة، عاملة ويسهر ويتعب ويطلع وينزل، وبعد ذلك، النتيجة نَصَب (عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ(3)) تُقابلها هناك وجوه (لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9)) هذه سعيها أتى بالنصب، لا فائدة.
مرة مَرَّ سيدنا عمر بصومعة واحد راهب وقيل له هذا أمير المؤمنين فجاء ليرى سيدنا عمر، فوقعت عين سيدنا عمر عليه وإذا به عليه آثار الإرهاق والإجهاد والتقلل من الدنيا، بكى سيدنا عمر، وقالوا له هذا نصراني يا أمير المؤمنين، قال ذكرت قول الله: (عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ (3) تَصْلَىٰ نَارًا حَامِيَةً (4)) انظروا كيف يُتْعب نفسه؛ زهد وقراءة وأذكار وعبادة واعتزال من الناس والنار أمامه (عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ (3)) -لا حول ولا قوة إلا بالله- هذه مظاهر العمل الذي نهايته النصب والتعب، ما يفيد.
فلا والله ما استفاد مُكلَّفٌ على ظهر الأرض إلا من عمله، يريد به وجه الله يقبله الله منه، وهذا معنى من معاني قوله ﷺ في الحديث: "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالما أو متعلما"، فذِكْر الله وما والاه، كل ما استُخدم من أمتعة الكون وما فيه من أجهزة في مرضاة الله على مُوجب شرع الله، صاحبه ليس بغافل عن الله، فهو من ذِكْر الله ومن والاه، ولو إتيانه أهله، ولو نومه، ولو أكله وشربه؛ فهو من ذِكْر الله ومما والى ذكْر الله، وما عدا ذلك ملعون:
هناك حقائق المنافع والفوائد هذه عقيدتك أيها المؤمن، اخرج من رمضان بحقيقة في عقائد الإيمان، أنت مؤمن بهذا الإله؟ لا والله ما ينفعك شيء مثل طاعته، احرص على الطاعة، ثوابها لك تنفعك في العقبى وتنفع أهلك، ما لم يُعمل لوجه الله ولهذا يقول سيدنا الإمام الحداد:
لا بارك الله في الدنيا سوى غرضٍ *** منهـا يُعــدُّ إذا ما عـدت الـقُــرَبُ
-يعني الطاعات-
يُريد صاحبه وجه الإله به *** دون الرياء إنه التلبيس والكذبُ
لا يَقبل الله أعمالا يُريد بها *** عاملها غير وجه الله فاجتنبُوا
فالرابحون من هذه الدنيا، الآخذون خير الدنيا، من حَسُن عملهم بطاعة الله فيها كما يُحبه الله وتَصرَّفوا بمنهج الله ونورانية وحيهُ في أنحاء شؤونهم وحياتهم وأسرهم ومجتمعاتهم وانقضت حياتهم على هذه النورانية، هم الذين ربحوا خير الدنيا والآخرة، أخذوا أحسن ما في الدنيا، وأغلى ما في الدنيا، وأشرف ما يمكن أن يُكتسب في الدنيا، سواهم ماذا حصّلوا؟ الذي حصّلوه استفادتهم منه.
وإن نلتَ منها مال قارون لم تنل *** سوى لقمة في فيك منها وخرقة
وكم من لُقمة من الطعام في عالم الدنيا كثيرة الحلاوة في فم فقير لا يجد حلاوة هذه اللُّقمة مُلوك الأرض، يُؤتى لهم بأطيب الأطعمة، ما يذوقون لها الحلاوة، يذوق الذُّل المُّر هذا الفقير لها حلاوة، وذوق للطعام لو شَعُر بها ذاك الملك أو الغني لقال: هذه اللُّقمة أحسن لي ولا أُريد هذا، هذا ونحن في الدنيا وستنكشف الستارة ويعلم الناس.
سوف ترى إذا انجلى الغبار*** أَفرسٌ تحتك أم حمـــارُ
أنت من أتباع الأنبياء أو من أتباع الأغبياء؟ كل من خالف الأنبياء فهم أغبياء، سمَّهُ عبقري، سمَّهُ مُفكر؛ غبي! والله سيقول بلسانه على نفسه: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [الملك:10] غبي، إنما العُقلاء أتباع الأنبياء.
فالحمد لله الذي شرفنا بسيدهم، الله يُحكم لنا اتباعه، الله يقوي لنا اتباعه، نخرج من رمضان بكسوة حسن المتابعة لأشرف خلق الله ولنا بذلك الشرف إن شاء الله، اللهم شرفنا بذلك.
أوتظن أن يخرج رمضان وما خلع الله على أحد من أمته هذه الخِلع؟ إلا خُلعت في رمضان هذا على من شاء الله، والله لا يحرمنا، الله يكرمنا، بنعم خلعة المتابعة لمحمد، وخلعة المتابعة للأشرف أشرف، خِلعة المتابعة للأطهر أطهر، خلعة المتابعة للأرفع أرفع، فأرفع الخِلع أشرف الخِلع أن تكون في تبعية الأشرف الأرفع الأطهر الأنقى الأتقى الأجل الأجمل الأكمل الأفضل الأحب إلى الرب، في شيء أشرف من هذا!
وبُكل أسف في المسلمين، مَن يخرج شهر رمضان وعليهم خٍلعة تبعية لفاجر، خٍلعة تبعية لكافر، ما أقبحها! خلعة قبيحة، سوأى سيئة سوءا -نعوذ بالله- ويخرج عليهم رمضان وهم بهذا الحال، فيظنون أنهم مع أهل العيد ولا عيد لهم.
والله يتدارك الأمة، والله يغيث الأمة، والله يرحم الأمة، فإلا فآخر ليلة إما الليلة الماضية أو إذا بقيت الليلة الآتية، يعتق مثل ما أعتق من أول الشهر إلى آخره، احسُب مليون مليون مليون مليون بعد ذلك في ليلة واحدة؛ تسعة وعشرين مليون، ثلاثين مليون؛ عُتقاء من النار للحق سبحانه وتعالى -لا إله إلا الله- ويغفر لكل من لا يشرك بالله شيئا إلا للمشاحن وقاطع الرحم وصاحب المسكرات وعاق الوالدين؛ هؤلاء خربطوا على أنفسهم مساكين.
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ(3)) يعني: أمارات، ذوات، ذوات الكفار لكن يُقرأ هذا في وجوههم، يقول: سُمّي وجه لتقع به المواجهة، مثلما قال بعض العارفين: "تقع عيني على قفا الرجل فأعلم وجهتهُ ونيتهُ، قالوا: فوجهه، قال: تلك صحيفة تُقرأ الوجه" -واضح فيه- لكن قال: أنا أراه من خلفي، أحس، وجهة هذا؛ من فراسة الإيمان؛ "اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله، هكذا روى الترمذي.
دخل واحد من الصحابة مَرّ في الطريق تأمل وجه امرأة أجنبية، دخل عند سيدنا عثمان أيام خلافته، لما دخل؛ السلام عليكم، سيدنا عثمان يرد السلام، قال: ما هذا؟! أيدخلُ أحدكم علينا وعلى عينيه أثر الزنا؟ تُب وإلا عزرتُك، فزع هذا قال: أوحيٌ بعد رسول الله؟! إنت الآن بعد النبي بتصلِّح لنا وحي وإلا كيف؟ تجي كيف تجي بالأخبار من بعيد؟ قال: ما في وحي ولكن فراسةٌ صادقة سمعت النبي يقول: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله".
هذا والناس في الستارة في الدنيا، أما إذا انكشفت الستارة فكل شيء يظهر في الوجوه: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة:18]، كل واحد حقيقة وجهه ستظهر هناك، يا كم من مخبيات مخفيات الليل أو النهار تظهر على الوجه مباشرة في القيامة وكل واحد برى وجه الثاني، فيا ويل من لم يستره الله، يا كريم، وإلا كل شيء يظهر آثار أعمالهم في الدنيا تظهر على وجوههم في القيامة.
قال: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ(2)) ذلَّت في الدنيا باتباع الهوى والشهوات وتعظيم الفانيات ومعصية الجبار -جلَّ جلاله- فظهر الذل كله عليها في الآخرة.
(عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ(3)) عملوا لكن نَصَب، وبعد ذلك في الآخرة أيضا عمل بالنَّصَب. قال: جئنا لكم بمنهاج ونبوة ورسالة وأوامر ونواهي تركتوها على جنب وعملتوا في أعمالكم التي عملتم فيها، كائنة ما كانت، ونتيجتها ليس له أثر في الآخرة؛ عمل ليس له فائدة، وما فيها مصلحة، وما فيها خير؛ صعدوا الجبال، اطلعوا وانزلوا في النار، تقيَّدوا بالسلاسل، شُغل عمل، لكن عمل ليس فيه فائدة، ليس لها نتيجة طيبة، هذا يشبه عملك في الدنيا جئنا لكم بأعمال طيبة وأمور منها فوائد تركتوها وأخذتوا هذا، خذ هذا.
وأولئك ماذا يعملون؟ ادخلوا الجنة، كُل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، اسكُن في قصورها، فعملت عمل فيه فائدة، فأنت عملت في الدنيا بما شرعنا لك، وبما أحببنا منك، فاليوم خذ عمل مقابل هذا، من فضل الله تعالى.
أما هذا: (عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ(3)) يُسحبون في النار على وجوههم، عمل شُغل، تعال في تسحيب هنا، تعال توجد وظيفة، عمل مثلما كنت إنت تصلِّح أعمال، وتَدَّعي أن فيها الفائدة والمنفعة، انظر تعال تعال انظر هذا العمل، تشابه تلك، أو هي نتيجة تلك الأعمال في تسحيب في النار: (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) [القمر:48] صعود هبوط، جبل صعد فيه، ولا اقتحم العقبة وانزل منه -لا حول ولا قوة إلا بالله- هذا وبعد ذلك؟! اطعم واشرب، لماذا تطعم وتشرب؟ جعلنا لك طعام حلال فجعلتَ تأكل طعام حرام، جعلنا لك شراب حلال رحت تشرب شراب حرام.
تعال مُقابل طعامك هذا، يصيبهم جوع مثل عذاب النار في ألمه وشدته مثل عذاب النار، فيستغيثون، يريدون أكل، يعرفون من فطرة الله التي خلقهم عليها في الدنيا إذا جاعوا يُسكِّنون ألم الجوع بالطعام بالأكل ينادون بالطعام، ألف سنة يُجوعونهم جوع، بعد ذلك يأتون لهم بالطعام، طعام ضريع، ذكَرَ الحق في القرآن:
وهذه ثلاثة أنواع من الأطعمة في النار، تكون في دركات النار من طبقاتها وقد تكون للواحد على حسب اختلاف أعماله، فبعض عمله يناسبه الزقوم، وبعض عمله يناسبه الغسلين، وبعض عمله يناسبه الضريع، فيُسقى من هذه، يُطعم من هذا (زَّقُّومِ) [الواقعة:25]، (ضَرِيعٍ)، (غِسْلِينٍ) [الحاقة: 36].
يقول: (لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ(6)) في سورة الغاشية إذا أُعطوه غسلين أو زقوم أو ضريع نَشب في حلوقهم، فلا يطلع، يُغصّون به (وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ) [المزمل:13]، يتذكرون أنهم في الدنيا إذا غصوا يسيغونها بشراب؛ ماء، ينادون بالشراب فَيعطِّشونهم ألف سنة وبعد ذلك يأتون لهم بهذا الحميم، يفور من النار، وفي بعضه صديد، من ماء صديد وقيح ودم، وأكثره الذي يخرج من فروج الزناة والزانيات، أهل هذه المعاصي التي يستخفون بها في الدنيا فيخزيهم الله زيادة، يخرج منهم وبعدين يُسقون -لاحول ولاقوة الابالله العلي العظيم- إذا قَرَّبُوه من وجه الواحد يشوى وجهه، ينسلع تنسلع وينخلع عنده بشرة وجهه من شِدَّة حرارتهُ، فإذا سقيه قطع أمعاؤه قال تعالى: (وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ) [الكهف:29] هناك إنتم كنتم تحبون تشربون حرام، تشربون خمر، تشربون غصب على الناس، تأخذون أموالهم وتشربون بسرقة تشربون .. خُذ خُذ الشراب -لا حول ولا قوة إلا بالله-.
يقول تعالى: (تَصْلَىٰ نَارًا حَامِيَةً (4))، هذه الوجوه والذوات كلها (تَصْلَىٰ نَارًا حَامِيَةً(4)) تُشَوى وتباشر، (نَارًا حَامِيَةً) وفي نار باردة وإلا ماذا؟ كل النار حامية يعني دائمة الحرارة ما يخفت ولا يخبو حرارتها وشِدَّة حرارتها تبقى باقية دائمًا، حامية يعني: مُستمرة الحرارة، (تُصْلَىٰ نَارًا حَامِيَةً) أو (تَصْلَىٰ نَارًا حَامِيَةً) .
(تُسْقَىٰ) أيضًا تمام عندهم سُقيا، زين ما دام في سُقيا سيخفف النار قال يُسقوا: (مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ(5)) والآنية: الأشدَّ الحرارة نهاية الحرارة يقول آنية، حتى الطعام إذا سخنتوه ما يُقال له أنه صار آنيًا يعني تمّ إناء إلا لما تَكمُل فيه الحرارة ويَنضُج ينجح تمام يقول: تمَّ إناهُ، فنهاية الحرارة وشِدَّتها يقول آنية (تُسْقَىٰ مِنْ عَيْنٍ) في النار تنبع آنية يعني بالغة الحرارة، النار حامية وهذا شديدُ الحرارة.
(تُسْقَىٰ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ (6)) في الدنيا الشجر لما يبدأ ينبت صغير، حتى منظره خبيث وشوك، نوع من الشوك خبيث لمّا يكون لازال رطبا صغيرا قد تأكله بعض الجمال وبعض الأنعام الدواب، لكن لما يكبر وييبس، حتى الدواب ما تقرب منه ولا تأكله لخباثته، لخبثه ونقامته شديد قوي.
هذا في الدنيا، الله تعالى شبه هذا الطعام بطعام هناك في النار أن الله جعل شؤوننا في الدنيا مُذكرة هناك، حتى النار لما خلق لنا النار في الدنيا قال سبحانه وتعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً) [الواقعة:71-73] أي تذكر بنار الآخرة، (جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً) هذه النار تذكرك بتلك النار التي فُضِّلت عليها بسبعين ضعف -يا لطيف-.
العين الآنية هذه الذي يشربون منها، يقول أهل التفسير: لو وقعت منها قُطرة على جبال الدنيا لذابت من شدة الحر، قُطرة!! وهذا يشرب، ماهذا لو في قُطرة بتذوب الجبال! وهذا يشرب في الكأس -أعوذ بالله من غضب الله- (بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) [الكهف:29]، اللهم أجرنا يالله ولا تعرضنا لهذه البلايا ولا أحد من أهلينا ولا أولادنا ولا أصحابنا ولا أحبابنا يا أرحم الراحمين.
يقول: (تُسْقَىٰ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ(6)) هذا الشوك الذي تعافه الدواب وتتركه ما تقرب منه -لخبثه- لمّا يبدأ صغير يقولون له: "شبرق" هذا قد تأكل منه بعض الدواب القوية لمّا يكبر وييبس يقال له: "ضريع"، الله يجعل طعام في الآخرة هذا يُذكر به، (لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ) بعض الكفار لما سمع الآية قال: ضريع تمام، إذا في ضريع إن إبلنا تسمن من الضريع، وقد كذبوا ما تسمن منه، تأكله ما دام شبرق قبل أن يتحول إلى ضريع، ولكن شأن اللجج والجدال.
فقال الله: (لَّا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ(7)) لا يبعد الجوع ولا يسمنك يتعبك يؤذيك يبخشك في فمك وفي حلقك يغصغص بك محلك ولا ينفع ولا يرفع الجوع -لا حول ولا قوة إلا بالله- (لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ (6) لَّا يُسْمِنُ) ما يَسمّن أحد لا تكذبوا، لا إله إلا الله؛ هذا حال الذين كذبوا الأنبياء، وهذا مُستقبلهم، نحن نعلم به ونحن على يقين، فيا ليتهم يفكرون في المستقبل صح، لو فكروا في المستقبل صح لنجوا من هذا، لكن يَعدُّون أنفسهم هم أهل المستقبل ويضحكون علينا.
يؤسفنا أن يُعرض أحد منكم في الآخرة في النار يُشوى بها ويُصلى وينظر إليه واحد منا إذا أكرمه الله بدخول الجنة: (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) [المطففين:34] إنت كنتَ تضحك علي لما أصلي، تضحك علي لما عظمت دين ربي، قلت لي: رجعي وقلت لي متخلِّف وقلت لي .... أيه، كيف حالك الآن؟ كيف التقدمية التي كنت تقول عليها؟ كيف الثقافة؟ أين فلان؟ .. ويسمع صوتهم ويراهم وهو في العذاب؛ (قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ) -واحد صاحب في الدنيا مُكذب مُؤذي- (يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) [الصافات:51-52] إنت وخرافاتك هذه، تقول آخرة آخرة وقيامة وكل شي، يضحكون عليك، لا تمشي معهم، هؤلاء كبار في السن مخرِّفين، ناس كبار هؤلاء.
(يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ)، يقول لهم الملك لما يثنيهم من أهل الجنة ويتذكرون هذا الصاحب يقول: (هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ) [الصافات:52-54] ينفتح الباب؛ لأن وسائل الإتصال في الآخرة قوية، ومع بُعد المسافة يراه أمامه، انظروا الى هذا فلان بن فلان الذي كان يضحك علينا؛ يا فلان؛ (قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ) -وسط النار يتقلب ويصيح- (قَالَ تَاللَّهِ) [الصافات:54-56] فلان؛ انت كنتَ تضحك علي وتستهزئ بي وبديني وبالقرآن، (قَالَ تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ)، قال: أتريدنا معك في العذاب يا..؟! (وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي) [الصافات:56-57] فضْله علي، ثبتنا على الإيمان واليقين، ولا تبعتك ولا سمعت كلامك، كم تضحك علي؟ كم تستهزئ بي في الدنيا؟ لو انجرفت معك كان أنا عندك هناك الآن في هذا العذاب؛ (وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَىٰ) -يا مُكذب؟ أين انت الآن؟ ماذا ترو؟- (أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [الصافات:58-59] ويتحسّر هو، يقول أعطنا ماء، أعطنا رزق، حرام عليك، اذهب حرَّمته على نفسك بكفرك وابائك، والعياذ بالله تبارك وتعالى.
هكذا أنذرَ سيدنا نوح قومه قال: (إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ) [هود:38]، (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ)، يتكلم هو وأصحابه يقول: انظر، عمِل لهم مغامزة، اسمع اشبع مغامزة؛ (إِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا) [المطففين:29-31] راحوا عند أصحابهم يضحكون، فلان، يبيّن لهم إنه عابد، فلان جالس في المسجد -لا حول ولا قوة إلا بالله- (إِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا) -هؤلاء مجانين، هؤلاء بدون عقول- (إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ* فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ*عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المطففين:30-36]؛ لكن (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ) [النور:35] علينا أن نُّبلغ ونذكر الحقيقة الموقنين التي لن يكون غيرها فيهدي الله لنوره من يشاء.
اللهم اهدنا وثبتنا واجعل مآلنا خير واختم لنا بالحسنى، لك الحمد على نعمة الإيمان فاحفظها علينا ولا تنقصه لنا وزدنا إيمان ويقين ونخرج من رمضان بقوة إيمان إن شاء الله وثبات حتى نلقاك يا رب العالمين.
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ (3) تَصْلَىٰ نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَىٰ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ (6) لَّا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ (7)) -مُقابل- (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ(8)) حسنة جميلة نضِرة (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) [المطففين:24] -الله!- هذه عاملة ناصبة خاشعة وهذه ناضرة -الله أكبر- مُستبشرة مُسفرة بالنور مُسفرة ضاحكةٌ مُستبشرة -الله!-.
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ (8) لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ(9)) لسعيهم في العمل بطاعة الله واتباع الرسل هم الآن راضيين ثواب عجيب ونعيم كبير ورضوان من الله، راضيين فرحانين مبسوطين، يعني القرار صائب، كان القرار صائب باتباعهم لهذا المسلك.
الله يجعلنا من الوجوه الناعمة الناضرة التي إلى ربها ناظرة تعرف فيها نظرة النعيم مسفرة ضاحكة مستبشرة اجعل وجوهنا كذلك في يوم القيامة يا ربنا المالك يا أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين بسر الفاتحة إلى حضرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
نعم جعل الله سبحانه وتعالى مُقابلات ومُشابهات للأشياء، فجاء في الآثار ويُروى في الخبر: أن من قرأ سبعين ألف من لا إله إلا الله، أعتقه الله بها من النار، فقال: لها علاقة بسبعين ألف زمام؛ العلاقة قائمة في أسرار الأعداد التي جعلها الله في مُقابلات. إن رب الدنيا والآخرة واحد، والشؤون التي أحدثها هناك لها مقابلات ومشابهات كثيرة وإن اختلفت في حقائقها وكيفياتها وهيأتها ولكن سر الواحدية في كل المخلوقات ساري فتجد مشابهات بينهم -ملمومات- ثلاث؛ لأن اليد واحدة التب خلقت، يد واحد فسر واحديته في كل شيء بارز سبحانه وتعالى.
الله يرزقنا وإياكم البركة التامة في خاتمة رمضان يالله ولا عاد نقدر نزيد منه ساعة ولا عاد معنا إلا الباقي وعسى القبول والبركة فيه إن شاء الله الله لا يجعله آخر العهد من رمضان يعيدنا إلى أمثاله إن شاء في عافية وصلاح لأحوالنا وأحوال بلداننا ويمننا وشامنا وشرقنا وغربنا والمسلمين من حيث ما كانوا وأين ما كانوا يا هادي يا موفق يا كريم يا رحمن يا رحيم يالله برحمتك يا أرحم الراحمين نشهد أن لا إله إلا الله.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
11 ذو القِعدة 1436