تفسير سورة العلق - 4 - تتمة تفسير سورة العلق

تفسير جزء عمَّ - 38 - تكملة تفسير سورة العلق
للاستماع إلى الدرس

يكمل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير سورة العلق، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم.

نص الدرس مكتوب:

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ (7) إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰ (10) أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَىٰ (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَىٰ (12)أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ (13) أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ (14) كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب ۩ (19))

 

فنحن في موائد الرحمنِ في رمضان، في اتصالٍ بالقرآن، وتأمُّلٍ لكلام الرحمٰن -جلّ جلاله-، تأمَّلنا بعضَ المعاني في سورة العلق -في سورة اقرأ- يُخاطب الرحمٰن خير الورى، وبعد الخَمس الآيات المُنْزلة أولَ ما نَزَل من القرآن، ذَكَرَ الحَق -تبارك وتعالى- شؤونًا تتعلق بهذا الإنسان، ومَجاري فِكره وسُلوكِه في الحياة، وما يترتبُ على ذلك من شأنٍ في الدنيا وفي البرزخِ والآخرة.

 

سبب طغيان الإنسان إحساسه بالاستغناء عن الله 

وذَكَرنا أنه يَحصلُ في واقع البشرِ طُغيانهم، مجاوزتهم للحدود، وخُرجوهم عن الواجب عند رؤية أنهم استغنوا، وذكرنا أن تلك الرؤية، مُجردُ تَلبيسٍ وتَدليسٍ من النفس وإبليس، ليس لها في واقع الأمرِ حقيقة، فليس لذرةٍ من ذراتِ الكون أن تكونَ مُستغنية عن خالقها قطعًا بأي شيءٍ كان، ومظاهرُ حاجاتِنا إلى طعامٍ أو شرابٍ أو هواءٍ أو مسكنٍ وما إلى ذلك، إنَّما علاماتُ حاجتنا إلى الله تعالى، وكل هذه الأشياء التي رَدَّ الله فيها احتياجَ البعضِ إلى البعض بتقديره وحده وترتيبه، ليتنبه المُتنبه ويَعقِل العاقل أن الكل إلى الله فقير، فيأتي قاصرُ النظر فيرى فقره إلى شيءٍ من الكائنات والماديات فإذا توفرت قال: استغنيت، وهو في وَهمٍ وظُلْمٍ وظلامٍ حَالِك، بل جميعُ ذرات الوجود مفتقرةٌ إلى المُوِجد المُخصِّص لها، لكل منها بقدرها وحركتها وتقديرها وسكونها وما يتعلق بها، فسبحان المُقدِّر وسبحان المُريد المُعَيّن الذي حدّد لكلِ شيءٍ قدرهُ وحدودهُ وزمن وجوده وانتهاءه، وطَوَّر أطواره كلها.

لا إلٰه إلا هو، به آمنا، ونسأله أن يرزقنا حقائق الإيمان ويزيدنا إيمانا في كل يوم، وفي كل ليلة، وفي كل ركعة وفي كل سجدة، وفي كل قراءة، وفي كل جلسة يزيدنا إيمانًا (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) [محمد:17]، ( ..فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) [التوبة: 124] (..وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) [الأنفال:2]، اللهم زدنا إيمانًا ويقينًا، فإنَّ سعادتنا في الدارين قائمة بتقديرك أنت على ذلك، فأسعدنا مع من أسعدت يا مُسعد السعداء.

(كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى(6)) وجاءت (كَلَّا) هذه، وهي تأتي في اللغة العربية:

  • إما بمعنى الزجر؛ إذا ذُكِرَ شيءٌ لا يليق فيُقال "كَلاَّ" إنزجرْ عن ذلك.
  • وإما بمعنى تَقرير الأمر "حقًا" فيمكن المعنيان في هذه الآية، لأنه لم يتقدّم باللفظ ذكرٌ لشيءٍ يُزجَرُ عنه، يُقال كَلاَّ "حقًّا" (إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ (7))
  • وإمَّا أن يُقدّرَ شيءٌ مما يدل عليه السياق أو الكلام بعد (كَلَّا) من طُغيان هذا الإنسان، فكأنه يُقال إنزَجِر أيها الإنسان الذي تَطغى كُلما ظننت أنك استغنيت، (كَلَّا) إنزجر وارتدع عن هذا المسلك الهابط الساقط الوهمي الظلامي.

يقول: (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ (7)) وهكذا وقد ذَكرنا الآيات المُقَرِّرَة لحقيقة فقرنا وفقر الوجود كله إلى البرّ الرحيم الخالق -سبحانه وتعالى-، هو الذي يُنبت، هو الذي يُحرّك، هو الذي يُطعم، هو الذي يسقي، هو الذي يُميت، هو الذي يُحيي، هو الذي يُمسك السماوات (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحج:65] -جلّ جلاله- (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) [فاطر:41]

وضرب الله لنا مثلًا -يُخرِجُ من الوهم كل من ساعده التوفيق وأنصف- (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَه) [الحج:73]

فليُتَحدّى أربابُ الحضارات، قُل: الآن صَنعتم ما صَنعتم وتَبَجحتم به، أنا لا أريد شيء مما صنعتم هذا، لكن أريد كوْنكم أهل إمكانيات تَخلقون لي ذُباب!!هاتوا ذباب..، ماذا تريد؟ أريد أن أراكم تَخلقون ذُباب، حتى أُصدق أنكم أهل مُكنة، حتى أُصَدق أنكم أهل قُدرة، أي نوع من الذُباب، بعوضة، حَشرة أي واحدة تطير كما هكذا، أخلقوا هاتوا خَرِّجوا، أنا لا أُريد كمبيوتر أنا أُريد ذُباب، أنا لا أريد طائِرة أنا أُريد ذُباب صَغير، دعنا من الجَمَل، أنا أريد أدنى نوع من الحيوان، اخلقه بكل إمكانيتك، تفضل تريد أن أعطيك شهر، شهرين، تفضل، كم؟ سنة، سنتين، اخلق ذباب.

(لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ…) [الحج:73] وأكبر من ذلك (وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ…) [الحج:73] يَأخُذ عليهم حَبة سكر ثم يأتوا بقَّوتهم كلها ليُعيدوها فلن يُعيدوها، -سبحان القوي، سبحان القادر-.

والقوة كلها له، مامع الناس إلا طغيان فقط والفَناء أمامهم، كلهم يَفنون، الذي يُسمى قَوي الذي يُسمى ضَعيف الذي يُسمى مَريض كلهم يَفنون كُلهم يَموتون، كلهم ينتهون عجيب، ففيمَ الدعوى؟ ففيمَ الدعوى؟ ففيمَ الدعوى؟ دعاواي بلاوي يُصَِّلح عليها الشيطان جِبال من الخَيالات والأوهام يعيشون فيها ضائعين، قال تعالى مثل الذين كفروا بربهم: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ) [النور:39] ستجد الرب هذا الذي نَسيته، ستجد الرب هذا الذي غَفِلت عنه، ستجد الرب هذا الذي أهملت أوامره وتَغافلت و تَصامَمت، سَتَجِده وترجع إليه -جل جلاله- (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ) [الحديد:4] (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون:115].

(إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ (7) إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ) مرجعُ كل شيءٍ ومردَّه إلى الله (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) [آل عمران:83] (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [يس:83] (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [هود:123] فكلٌ إليه راجع -جلَّ جلاله- (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا * لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) [مريم:93-95] -سبحانه وتعالى-.

(إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ (8)) عند تَذَكُرنا لهذه الحقائق، نَلحق بخيار الخلائق، ونَسلم من الآفاتِ والعوائق، ومن موجبات القطيعة والوقوع في البَوائق.

 

من مظاهر طغيان الإنسان

يقول -جلّ جلاله- في مَظاهرِ طُغيان هذا الإنسان: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰ (10)) أحدٌ عَرف خالِقُه الذي خَلقه وقام يُصلي له، يأتي هذا يقول: لا تفعل! ما هذا الآدمي؟! إذا أنت جَهِلت وما عَرفت خالِقك، إذًا لا تَعتَرض على أهل الحَق وأهل الهُدى والخَير .

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰ (10)) يقول خيرُ أعمالِ العِباد أن يُصَلوا لإلٰهِهم، فيأتي أحدهم يَنهى عن خَيرِ الأعمال؟! (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰ (10)) وقد سمعنا أنَّ أبا جهلٍ كان يقول لنبينا محمد: لا تُصَلي لإلٰهك هذا عند آلهتنا هنا، وكان ﷺ كثيرًا ما يَخرُج عند المَقام ويستقبلُ الكَعبةَ ويُصلي، وكانت هناك أصنامهم مُعَلقة، ثلاث مئة وستين صنم، مُعَلقة بالكعبة مثبتة بالحديدِ والرصاص، فلا يُبالي بها ويَسجد لله تعالى، ويغتاظُ هذا الجاهل، ويقول هكذا، أخذَ المسألة مَسألةَ نَفسية، وكم تَطغى النفس البشرية إذا خرجت عن حُدودِ الإنصاف (الذوق والعقل)، أنت تأتي إلى عند هذا البيت، بيت الله وتسجد للأصنام التي كونتها بيدك، التي هي جَماد لا تَسمع ولا تُبصر، أنت تستحي على نفسك المفروض!! تأتي لواحد عَرَف الله؛ ربُ الجماد، وربُ الحيوان، وربُ كل شيء، وسجد له، وتغضب!، كان من المفترض تَغضَب على نفسك أنت، ماذا تفعل في هذا المكان؟ تعمل فَضائِح سُجود لِغَيرِ الله -تبارك وتعالى- ولِغَيرِ رب هذا البيت -سبحانه وتعالى- ولِغَير ربك الذي خلقك، أنت كان من المفترض تستحي على نفسك.

لكن هذه مُصيبة الإنسان ضَياع الميزان، ضياعُ الميزان!، هذا الميزان الذي أنزله الله تعالى بالوَحي مع الأنبياء يُقاسُ به، يُعرفُ به:

  •  الخَير من الشر
  •  النفع من الضر
  •  الحق من الباطل 
  • الفساد من الصلاح

 إذا ضاعَ هذا الميزان فكلٌ يَدعي دَعاوي وَكُلً يقول خير شر، وشر خير، ونفع ضُر، وضُر نفع، وفساد صلاح، وصلاح فساد (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ) [البقرة:11-12] (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ۚ ) [البقرة:206] أقبح شيء يَتَعرّض فيه لِغَضب الجَبار يَعتزُ به، هذا من ضياع الميزان عند الإنسان (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ۚ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ۚ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) [البقرة:206] والعياذ بالله تبارك وتعالى.

ولذا قيلَ فيمن تَعَكَّس عنده الميزان "من عصى الله وهو يَضحك دَخَلَ النار وهو يَبكي" ولكن أَعجب لأهلِ الطاعة يُطيعونَ الله وهم يَبكون، فَليدخلوا الجنة وهم يضحكون، لأن الجَزاء من جِنس العَمل قال الله فيمن عَطَّلوا الموازين الحَقيَّة (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [التوبة:82] .

يقول سبحانه وتعالى: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰ (10)) أي اعجَب وتَعَجَّب، يامُنصِف، يا كُل عاقِل مُنصِف، فَكيف بِمن هُدي للإيمان، تَحَمَّلوا يا عُقَلاء على ظَهرِ الأرض أيُنهى عن الصلاة لله -تبارك وتعالى- (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰ (10)) فَكُلُ من يَنهى عن مَعروفٍ وعن خَير، فهو شبيهٌ بهذا العَبد المُخالف المُجانِف الأبتر المُقَلِّب للمَوازين.

 

أوكائنٌ ذلك يا رسولَ اللهِ!

وفي هذا بعد أن رَسخت الموازين، موازين الحق في مَدارك وأذواق ومَفاهيم وعُقول الصحابة قال النبي ﷺ: "كيف أنتم إذا لم تأمروا بمعروفٍ ولم تنهَوْا عن منكرٍ، قالوا: وكائنٌ ذلك يا رسولَ اللهِ؟" ناس يؤمنون بالله ورسوله، ويَقرؤون القُرآن، يَتركون المُنكر ما يَنهون عنه!، ويَتركون المَعروف وما يَأمرون به، يعني الميزان استقر الآن وقام؟!! كيف يحصل هذا؟، أكثر هؤلاء الذين تَعَجبوا وقالوا هذا الكلام هم كانوا في المُنكرات وكانوا في الكُفر، ولو أحد كَلمهم تلك الأيام لن يستنكروا ذلك، لكن الآن هم استَنكروا بعد أن استقروا على ذوقِ الميزان الصحيح، قالوا وبعد هذا ماذا؟ بعد هذا الذوق وهذا الإدراك وهذه الحقيقة نعود ثاني مرة لا ننهى عن المنكر، لا نأمر بالمعروف ما هذا؟! "أو كائنٌ ذلك يا رسولَ اللهِ ؟ قال: نعم والَّذي نفسي بيدِه وأشدُّ منه سيكونُ"

الآن المرحلة الأولى فقط من الإختلال في الوَزن "عَدَم أمر بالمعروف وعدم نهي عن منكر استنكرها الصحابة قالوا: كيف يَكون هذا فينا؟ عندنا قرآن، عندنا سُنة، عندنا رسالة رَسول، ونترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!، هذه مهمتنا في الحياة إذًا فما هو إيماننا؟ وما مبدأنا إذًا؟ ما هو ديننا إذًا؟ ما معنا من دين؟ لا نأمر بالمَعروف وننَهي عن المُنكر إذًا ما لنا مَبدأ في الحَياة! ما لنا إلٰه آمنا به؟! هذا الكلام الصحيح، لكن النبي يُبَيِّن شؤونَ النُفوس البَشرية وانحِرافاتها وما يَحصل في العالم هذا، قال: "وأشدُّ منه سيكونُ"، ماذا أشد منه؟ انعكاس للميزان تمامًا، كيف؟ "كيف أنتم إذا رأيتم المعروفَ منكرًا والمنكرَ معروفًا" استنكروا أن لا يُؤْمر بِمعروف، أمَّا يتحول النَظرَ إلى المُنكر أنه مَعروف والمَعروف أنه المُنكر ما هذه المُصيبة، "وكائنٌ ذلك يا رسولَ اللهِ ؟ قال : نعم والَّذي نفسي بيدِه وأشدُّ منه سيكونُ" - الله-، "كيف بكم إذا أمرتم بالمُنكر ونَهيتُم عن المَعروف" -الله-.

رأيتم المراحل، مرحلة بعد الثانية بعد الثالثة، -الله- ما معناه؟ أَمرتم بالمُنكر ونَهيتُم عن المَعروف، يقول دَع دينك هذا، الناس الآن في عالم ثاني، وقد تَقدموا وتَطوروا، اذهب أنت وصلاتك، نعم، إلى متى وأنت على العقلية القَديمة؛ قِراءة قُرآن وصلاة وهذا… -أعوذ بالله من غضب الله-، وإذا به أمرٌ بالمُنكر ونَهي عن المَعروف! "أوَ كائن ذلك؟ قال: والَّذي نفسي بيدِه وأشدُّ منه سيكونُ، كيف بكم إذا طغَى نساؤُكم وفسق شبَّانُكم ومَرِجت عُهودُكم وكان ما كان، يقولُ الله: بي حلفتُ لأُتيحنَّ لهم فتنةً يصيرُ الحليمُ فيها حيرانَا."

فانظر الى الخبر الصادق وتأمل واقع الخلائق إلى أين سَيَصِلوا؟ "لأُتيحنَّ لهم فتنةً تدعُ الحليمُ فيها حيرانَ."، اللهم انقذ المسلمين، اللهم أيقظ قلوب المسلمين، اللهم ادفع الظُلم عن أهل لا إلٰه إلا الله يا أكرم الأكرمين.

 

نكثر من قول: "لا إله إلا الله" استمطارًا للرحمة

وفي الخبر: "لا تزالُ لا إلٰه إلا الله تَدفَعُ عن أهلِها سَخَطَ الله ما لم يؤثروا صَفقَةَ دُنياهم على آخِرَتِهم، فإذا فَعلوا ذلك ثم قالوها، قال الله كَذبتم لَستُم بها بِصادِقين" ماأنتم صادقين في قول لا إلٰه إلا الله. 

الله يحققنا بحقائق لا إلٰه إلا الله، قد أمرنا النبي بالإكثار منها في رمضان وسَمِعتم ما أخبرناكم من طَلَبِ بعض صُلحائنا في مكة المكرمة أن نُكثِرَ منها في رمضان، استدفاعًا للبلاء واستمطارًا للرحمة، وحتى يكون معنا السبعون ألف وزيادة منها في خلال شهر رمضان، وسمعتم الأمر بالإكثارِ منها ضِمنَ شهادة أن لا إلٰه إلا الله، وتستغفرونه في رمضان خاصة لنتحقق بها، والفُرصة متاحة للِتَحَقق بمعاني لا إلٰه إلا الله في هذا الشَهر، اللهم حققنا بحقائق لا إلٰه إلا الله ومكِّن لا إلٰه إلا الله ومعانيها من قلوبنا وأرواحنا وعقولنا، واجعلنا عندك من أهل لا إلٰه إلا الله بحق لا إلٰه إلا الله وأهل لا إلٰه إلا الله- يا الله يا الله يا الله-.

يقول سبحانه وتعالى: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰ (10) أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَىٰ (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَىٰ (12)) كيف يُنْهى؟! إن كان على هُدى محمد ﷺ سيد أهل الهُدى (أوأمر بالتقوى) شخصٌ بهذا الوَصف أيُنهى عن الخَيرات! وبمَ يُؤمَر إذًا؟.

(أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَىٰ (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَىٰ (12) أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ (13)) ذلك الناهي وإن نَزلَت في أبي جهلٍ، ولكن الحُكم يَشمل كل آمرٍ بالمنكر وكل ناهٍ عن المعروف إلى يوم القيامة.

(أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ (13)) كَذَّبَ بالرسالة، بِصفات الخالق الذي خَلَقَه، وتولَّى عن الإيمان والتوحيد.

(أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ (13) أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ (14)) ما له يَتَناسى أَجلى الأشياء وأوضحها؟! خالقٌ خَلَقك وَخَلَق لك سَمعًا وبَصرًا، كيف لا يَطَّلعُ عَليكَ ولا يَراك ولا يَرقبك؟ أتستطيعُ أنتَ أن تَرقُب من أردت ببصرك الذي خلقه، وهو الخالق لا يَرقبك! أترى أنت وقد كنت نُطفةً وعَلقةً ومُضغة والخالِقُ لا يرى؟!

 

استشعارُك بأن الله يراك طريقك للحُضورِ معه

(أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ (14)) مالهم يَتَناسَوْن هذا الأمرَ الجَلِّي الواضح، ويَتعامَونَ عن رُؤية الله لهم واطلاعه عليهم، وهذا هو القَدم الأول في السيرِ الصحيحِ إلى الله، أن تَستَشعر اطلاع الله عليك، رُؤية الله إياك وإحاطَته بِك، عِلمُه بِضَميرك وما يَردُ من خواطرك على بالك.

(أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ (14)) استشعارُك لهذا، طريقك للحُضورِ مع الله، تَستطيع أن تُقيم به الصلاة على وجهها وتؤدي التراويح وغيرها على وجهها، استشعارُكَ أنَّه يراك، أنَّه يَنظُرك أنَّه يُبصِرُك أنَّه يَطَلّع على خَواطرك، أنَّ باطنك عنده كَظاهرك، أنَّه يعلمُ منك ما لا تَعلم من نَفسك، يَعلم من حقائق ظاهرك وباطنك ما لا تَعلم من نفسك، هذا هو القدمُ الذي تَسيرُ به إلى الله -تبارك وتعالى-.

(أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ (14)) ومن ضَيَّعَ هذه الحقيقة فلا تَستَغرب أن يأتي منه كل تخبيطٍ وتَخليط (أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ (14)) وهذا خيرُ حارسٍ للإنسان، ومُنظِّمٍ لحركته، ومؤدبٍ له، ومُحوِّله إلى عنصر خيرٍ محضٍ في المجتمع له وللناس لا يأتي منه شَر، أن يتمكّن من جهاز قَلبه شُهودٌ بأن الله يَراه، خَير نِظام وخير ضَبط وخَير حارس وخير تَهذيب وخير تَكميل لهذا الإنسان، يتحوّل إلى عُنصر يُؤمَن منه الشر، لا يأتي لنفسه ولا لِسواه إلا بالخير، بسبب أنَّه يَشهد أنَّ الله يراه، أنَّ الله يَطلّع عليه أنَّ الله يُبصِره، أن الله بِعَظَمته بِجلاله بكبريائه بأُلوهيته بقدرته على كل شيء يراه.

(أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ (14)) أنت تَرى حالك إذا رأيتَ عينًا مُراقبةً لك ممن تَستَحي منه من بشرٍ مثلك مخلوق من نُطفة، ليس بيده أمرُ الأرض و السماء، وليس بيده أمر الدنيا والآخرة؛ لكن هذا الله يراه، ترى حالك كيف عندما تصلح لنظره في وجهَتك وفي شعورك وفي هيئتك، يَراك من يَراك إنس، مَلَك، جِن وغيرهم، لكن هذا الله فوق الكل، رؤيته أهيب رؤيته أعظم رؤيته أرحَب، رؤيته أَكمل، رؤيته أشمل، رؤيته إيّاك أجلّ، رؤيته إيّاك أكبر من رؤية كل من يَراك من خلقه كائنًا ما كان.

(أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ (14)) وإذا أخذت هذه الفائدة في قلبك، كانت مفتاحًا للِدُخول إلى مدرسة رمضان؛ تُدرك بها أسرار رمضان، تُدرك بها سِر الصوم، سر القِيام إن تمكّن ذلك من قلبك أنَّه يَراك إنَّه يَراك وهوَ من هو؟ وهوَ من هو؟ هو الإلٰه الحق، وهوَ من هو؟ وهو العَظيم وهو الكبير وهو الجَليل وهو الذي بيده الملكوت وهو يراك، يَراك هذا الذي بيده ملكوت كل شيء يَراك.

 

ماحصل لأبي جهل بعد إساءته للنبي ﷺ 

(أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ (14)) وأخذ يُكلّم النبي أبوجهل مرة بعد الثانية، لا تَسجُد عند آلهتنا هُنا، ولا تُصلي عند آلهتنا في هذا المكان، ويقول لكُفار قريش يُعَفّر محمد وجهه بالتراب أمامكم لإلٰهه هذا، يسجد لإلٰهه؟، قالوا: نعم، قال: لئ: ما لك؟ ويقول: في مرةٍ رَأيتُ بيني وبينه فَحلًا يُريد أن يَلتَقمني، وفي المرة الثانية يقول: خَندق وأهوال وأَجنحة ولو دنوتُ منه لاختُطِفت، ومرة يقول له أخِفته؟ يقول: لا، خِفتُ الزَّبَانِيَةَ، سَمِعه يذكُرالزَّبَانِيَةَ (سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18))، قال: لم أعرف ما هذه الزَّبَانِيَةَ، فَفَزِع.

فَكَلمه يومًا، حيث جاء ورسول الله ﷺ ساجد، وأخذ يقول: ألم أَنهكَ أن تَسجُدَ في مكاننا هذا عند آلهتنا؟! فالتفتَ النبي ﷺ فزجر أبا جهل، قال: مالك؟ لِم تُهددني؟ قد علمت أني أكثرها ناديًا، والله لو شئتُ لملأتُها لك خيلًا جُرْزا، جيشًا مُردًا، أُملئ لك ساحة مكة كلّها، قد عَلِمَتْ قريش أنَّي من أكثرهم نادي، نادي عندي كبير. ولكن نادي أبو جهل هذا.

قال: (أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ (13) أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ (14) كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ) عن اعتدائه هذا وتَطاوله عليك (لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ) نَسْفَع ناصِيته بِجَذب النَّاصية وجَرِّها وإهانته، تَسويدها (لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ) مُقَدِمة الرأس (نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16)) ناصيَة كَذِب وخَطأ -الله-.

(نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17)) قُل له أن ينادي على هذا النادي، هذا الذي يفتخر به (سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)) المَلائكة المُوكلّين بجهنم يأخذوه حتى قال ﷺ مرة: "لوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ المَلَائِكَةُ والناس ينظرون" (سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)).

 

لماذا خصَّ بالناصية أنها كاذبة خاطئة؟

(نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16)) الناصية كاذبة خاطئة؟ وإلّا صاحبها هذا كاذب خاطئ، وفيها أمران:

  •  الأمر الأول من البلاغة في اللغة يقول ناصية كاذبٍ خاطئ، وَقعَها أقل من (نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ(16)) هذا وقعها في النفس أشد، وأحد.
  • الثاني ليس الأمر مجرد بلاغة لُغوية، إكتشفوا الآن في كَيفية تكوين الله لهذا الإنسان ووظائف المُخْ فِيه، وظائف الدماغ والمُخ، فمنها الذي يكون في المُقدمة تحت الناصية، هذا مُهمَّته وَوظيفته في الإنسان تَوجيه السلوك، توجيه حركته، بحيث لو أُخِذَ هذا، يصير الإنسان أمامك لا إرادةَ له، لا اندفاع عنده من نَفسه، لا يوجد لديه توجيه، قُلْ له قُمْ يقوم، اقعد يقعد هو لا يعرف، لا يعرف يختار شيء إلا من خلال هذا الدماغ الذي تحت الناصية، وهذا الذي يوجهه يقول له: قم اقعد قل كذا افعل كذا هو الذي يُخطط من هنا.

فقال الله: (نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ(16)) مَصدَر التَوجيه للكَذِب والخَطأ تحت ناصية الرجل هذا، وهم الآن يكتشفون هذا.

 

إذا جاء وقتُ إحقاق الحَق وإبطال الباطل ينتهي كل شيء

(نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17)) قُل لأصحاب الغُرور بأي شيء: حَضِّر(جهز) سلاحك، حَضِّر حزبك، حَضّر جَماعتك، إذا جَاءت ساعةُ إقامة الحَق ساعةُ الغَيرة من الجبار ينتهي كل شيء، "إنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظّالِمِ، حتَّى بأخَذَهُ، فإذا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ" (فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ [القصص:81] (حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [يونس:90] ما أنا رب أعلى ولا رب أسفل ولا شَيء، انتهى وأن كُل كَلامي ذاك كله كَذِب، وأنا آمنت بموسى الآن ورب موسى وما جاء به موسى، انتهى، انتهت الزمجرة، حَضّر جَيشك حَضّر قَومك (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الزخرف:51]، هاتِ الأنهار هاتِ مُلك مصر هاتِ الجيش، لم يعد هناك شيء ذهب كُله!! هذا فرعون وحده؟! كُل واحد، كُل حُكومة، كُل حَضارة، كُل طائفة، كُل جَماعة، كُل حِزب، إذا جاء وقتُ الإنتِقام إذا جاء وقتُ إحقاق الحَق وإبطال الباطل ينتهي كل شيء،-نعم والله- ينتهي كل شيء ويُعلَم أن الله هو ربُ كل شيء، وإليه مَرجِع كُل شَيء (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) [فصلت:53] أنت الحَق ووعدك حق ولِقائُك حق والقرآن حق ومحمدٌ حق والنبيون حق والساعة حق فاجعلنا من أهل الحق.

يقول: (نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ) قال تعالى: (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ * وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقّ) [غافر:5] الأمم هكذا كلهم فعلوا إلى وقتنا هذا يفعلون هكذا، ولكن المصير هوَ ذا هو واحد متكرر على مدى الأزمِنة (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف:9] (وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [الصف:8].

 

لا طاعة لهم

(سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ…(19)) وفي هذا تَبيين مَبدأ لنا، إذا آمنا بالله وبرسوله فَسَنُصادف في الحياة مُحاولاتٍ من كثيرٍ من الناس يأمروننا بأوامر وينهونا عن نواهي، فلا نُطيعهم مهما خالفوا أمر الله ورسوله، بأيِّ مظهرٍ ظَهروا وبأي صورةٍ تَصَوروا وبأي شَكلٍ بَرَزوا لا طاعة لهم (كَلَّا لَا تُطِعْهُ…(19)) (فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ * وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) [القلم:8-12] (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) [الأنعام:116] فاجعل المَبدأ هذا حاضر عندك (كَلَّا لَا تُطِعْهُ…(19)) ليس كلما أحضروا لك فكرة تنقاد لها!! أنت مُتصل بأعلى، مؤمن بالخالِق، عندك المَنهج الأعلى، ترجع تتبع كل ناعق، كل ما أحضروا لك فكرة، وهذا كذا وهذا أولى، وتقول تمام تمام ايش تمام؟ يوجد مبدأ (كَلَّا لَا تُطِعْهُ…(19)) لا تُطِع الهوى ولا تَتَّبع أهل الهوى-الله أكبر-.

(وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ* إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) [الجاثية:18-19] إلا من اتبع (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ) [لقمان:15] سبيل؟ اذهب وابحث عن الأخيار الأطهار الأصفياء أهل الأنوار، امشِ معهم (اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119] ليس مع أي واحد (كَلَّا لَا تُطِعْهُ…(19)).

ومن هذا المَبدأ تمامًا رَأيت موقف، الذي جادله وخاطبه مسيلمة الكذاب والذي جادله الأسود العنسي، كلاهما ادَّعى النبوّة كذب، فيقول مسيلمة الكذاب: أتشهد أنَّ محمد رسول الله؟ قال: نعم أشهد محمد رسول الله، أو تشهد أنَّي رسول الله؟ قال: إنَّ في أُذني صَمَمٌ عما تقول، ليس كُل شيء أسمعه، أنا أعرف ماذا أسمع وماذا لا اسمع، إذًا عندي مبدأ (لَا تُطِعْهُ)، أتشهد أنَّ محمد رسول الله؟ نعم أشهد هذا حق، أتشهد أنَّي رسول الله؟ إنَّ في أُذُني صَمَمٌ، اغتاظَ هذا صاحب الباطل، قال: اقطعوا يده، فقطعوا يده، أتشهد أنَّ محمد رسول الله؟ نعم أشهد أنَّ محمد رسول الله، وتشهد أنَّي رسول الله؟ إنَّ في أُذني صَمَمٌ عمَّا تقول، اقطعوا اليد الثانية، قطعوا اليد الثانية لم يعد لديه يدين وهو ثابت، ما هذا الإيمان هذا؟ ما الصدق هذا؟..

أتشهد أنَّ محمد رسول الله؟ نعم، أشهد أنَّ محمد رسول الله، وتشهد أنَّي رسول الله؟ إنَّ في أُذني صممٌ عمَّا تقول، اقطعوا رجله، تشهد أنَّ محمد رسول الله؟ نعم أشهد أن محمد رسول الله، أتشهد أنَّي رسول الله؟ إنَّ في أُذني صممٌ عمَّا تقول، إغتاظ هذا صاحب الباطل؛ فقال إقطعوا يده فقطعوا يده، تشهد أنَّ محمد رسول الله؟ نعم أشهد أن محمد رسول الله، أتشهد أنَّي رسول الله؟ إنَّ في أُذني صممٌ عمَّا تقول، إقطعوا اليد الثانية فقطعوا اليد الثانية وهو ثابت، ماهذا الإيمان؟ ماهذا الصدق؟ أتشهد أنَّ محمد رسول الله؟ نعم، أشهد أنَّ محمد رسول الله، وتشهد أنَّي رسول الله؟ إنَّ في أُذني صممٌ عمَّا تقول، اقطعوا رجله، تشهد أنَّ محمد رسول الله؟ نعم أشهد أن محمد رسول الله، أتشهد أنَّي رسول الله؟ إنَّ في أُذني صممٌ عمَّا تقول -مبدأ لم يتغير أبدًا- اقطعوا رجله الثانية فقطعوا رجله الثانية.. فلم يعد لديه رجلين ولا يدين، إنسان هكذا، فبقي قطعة هكذا لحم، أُمَّه هناك تراه: لِمثل هذا المَوقف كُنت أُعِدُّك يا بُني، أنا أُعِدُّك لهذا المَوقف، يَعني نَجحت في تَربيتك، بلغتُ سؤلي فيك، وقُتل شهيد في سبيل الله.

 

الحمد لله الذي أَراني في أُمة محمد من جَعل عليه النار بردًا وسلامًا

سيدنا أبو مسلم الخولاني يقول له الأسود العَنسي أتشهد أنَّ محمد رسول الله؟ نعم أشهد، وتَشهد أنَّي رسول الله؟ إنَّ في أُذني صَمَم عما تَقول، واغتاظَ منه، نار، أوقِدوا النار، أوقَدوا النار، إرموه في النار، رَموه في النار، رَموه في النار صارت بردًا وسلامًا، جَلَس يُصلي ويَذكُر الله في النار إلى أن انطفأت النار، خَرَج من النار حتى ثيابه سَليمة ما فيها شيء، يقول مستشاريه: هذا خَطير سَيُفسِد عليك الأتباع كُلهم أخَرجه من الأرض، قال: أُخرُج من أرضي، سافر إلى المَدينة، وبَلغت القِصة الصحابة، وفي المدينة بينما سيدنا عمر هناك دَخل الرجل يقول: من أين الرجل؟ قال: من اليمن، قال: ما فَعل صاحِبُنا أبو مسلم الخَولاني؟ قال: ما بَلغَك عنه يا عمر؟ قال: بلغني أنَّ الأسود العَنسي أوقد نار فوضعه فيها فَجعلها الله له بردًا وسلامًا، قال: قد كان ذلك، قال: أين هو؟ قال: هو معك، أنت؟! التزمه سيدنا عمر وأمسك بيده وأدخله إلى المسجد وأجلسه بينه وبين سيدنا أبو بكر الصديق خَليفة رسول الله، وقال: حَدِّث الناس، ثم قال: الحمد لله الذي أَراني في أُمة محمد من جَعل عليه النار بردًا وسلامًا كما جَعلها لإبراهيم بردًا وسلامًا -رضي الله عنهم-.

وبهذا الإيمان واليقين قد يَعرِف سيدنا عمر هذه المراتب، خرجت مرة -وقد كان جالس مع بعض الصحابة في المَدينة- من بعض الجبال في المدينة نار هناك من جُحر، إذا بنار تُقبل، سيدنا عمر يقول لتميم الداري أطفئ، أرجع هذه النار قال: يا أمير المؤمنين نار ستَحرقني، قال: قم، حَمَل العصا سيدنا تميم، يَضرِب بالنار، النار تَهرب يَمشي وراءها إلى أن رَجعت إلى الجُحر الذي خَرجت منه، ودخلت، هذه شُؤون الاتصال بالقوة -عليهم رضوان الله -تبارك وتعالى-.

حس مرة بهزة في الأرض -سيدنا عمر- معه الدرة، ضرب الأرض وقال: "قِرّي، ألم أعدل عليكِ؟" خلاص وقفت، هؤلاء أصحاب الحَضارات لا يقدرون على إصلاح شَيء فيها ولا أصحاب التكنولوجيا، هزة يَهتزون فيها، يغوصوا وسطها، راح هو وكمبيوتره هو والتكنولوجيا يذهب،  لكن هذه قوة الصِلة بالله -تبارك وتعالى- هنا العَظَمة (كَلَّا لَا تُطِعْهُ…(19)) هو يعرف هذا المبدأ (كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب ۩ (19)).

 

التذلل لله أقوى أسباب الوصول إلى الله

(وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب ۩ (19)) دَع كَلامه وتهديده هذا، المُتجرئ الغافل الطاغي (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب ۩ (19))  من "أَقْرَبُ ما يَكونُ العَبْدُ مِن رَبِّهِ، وهو ساجِدٌ" يقول في مُختلف العبادات يقول أفعل وأفعل، في السجود قال (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب ۩ (19))، ذكر القُربَ عند السجود، ومن هنا كان التذلل لله أقوى أسباب الوصول إلى الله(وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب ۩ (19)) 

فلما كان مظهر السجود مظهر التذلل "أَقْرَبُ ما يَكونُ العَبْدُ مِن رَبِّهِ، وهو ساجِدٌ" فكم في السجدات من اقتراب؟ وكم ذاقوا حلاوة السجود في رمضان خاصة؟ وفي جميع أيامهم عامة -الله أكبر-. سجداتٌ لله ومِنها ما أخفوه عن عيون الخلائق في ظُلَم الليالي، ولهم دموعٌ من عيونهم تَخرُ حتى تَبُلُّ ما تحتهم من حَصيرٍ وغيره أو من ترابٍ يسجدون عليه -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-.

حتى جاء في بعض الأخبار أن إبليسَ إذا رأى الإنسان ساجدًا لله تعالى بَكى وقال: "أُمرَ ابنُ آدمَ بالسُّجودِ فسجدَ فلَه الجنَّةُ وأمرتُ بالسُّجودِ فأبيتُ فليَ النَّارُ"، -الله يُرزقنا حقيقة السجود-، وله حقيقة إذا عَلِقَت بالقلب ظَلَّ ساجدًا أبدًا ولا يرفع عن السجودِ سرمدًا، والذين يسجدونَ لله تعالى على مراتبهم من بداية الإيمان بالله -يعني غير المُنافقين الذين يُبطِنونَ الكفر- في القيامة إذا اجتمعوا دُعوا إلى السجود لله فسجدوا، ويُريد المنافق والكافر أن يسجد وقد انكشفت الحقيقة، فيتحوّل ظهره كخشبة لا يستطيعُ أن ينحني أصلًا ولا يسجد قط، ظهره ورِجلاه وقَدماه مصبوب مثل خشبة واحدة لا يقدرأن يسجد قال تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ.. ) [القلم:42] يعني تظهر القوة والقُدرة (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ) [القلم:42] المؤمنين يسجدون وهو يريد أن يسجد لا يَقدر وهو في محله (فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ۖ وَقَدْ كَانُوا.. ) [القلم:42-43] في الدنيا (يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ.. ) [القلم:43] 

أعطاهم الله القوة والقدرة على أن يسجدوا ما رضوا أن يسجدوا في الدنيا وفي الأرض، فاليوم ما عادوا يقدرون أن يسجدوا، كُنا مكّناهم وأعطيناهم الفُرصة (وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ) [القلم:43] ما بهم مانع يَمنعهم فَلِمّا امتنعوا؟، اليوم مَنَعتُهم، قال: (فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ ۖ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ* وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [القلم:44-45]، فجميعُ من كَذَّب بهذا الحديث ولم يسجد للحق -تبارك وتعالى- واتبع مَسلَكَ الخبيث فهو تحت دائرة (سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ) [القلم:44] كائن من كان (فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ ۖ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ* وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [القلم:45-44] -جلَّ جلاله-.

ولا يُطاقُ كَيدُ الله ولا مكرُ الله، فيا قادر على كل شيء، بقدرتك على كل شيء، يا رب كل شيء، اغفر لنا كل شيء أصلح لنا كل شيء، لا تسألنا عن شيء ولا تُعذبنا على شيء -يا الله-.

قد رؤيَ بعض الصالحين بعد وفاته يقول: ما أعظمَ ما نَفعك الله به من عَمل، قال: هذه الدعوات كنت أدعوا بها كنت أقول: "اللهم يا رَب كُلِ شَيء، بِقدرتك على كُل شيء، اغفر لي كل شيء، ولا تسألني عن شيء، ولا تُعذبني على شيء".

فنسأل ربنا، اللهم يا رب كل شيء، بقدرتك على كل شيء، اغفر لنا كل شيء، وأصلح لنا كل شيء، ولا تَسألنا عن شيء، ولا تُعذبنا على شيء.

 يا رب كل شيء يا أرحم الراحمين، رزقنا الله السجود والاقتراب وادخلنا دوائر الأحباب، وجعلنا ممن طاب له الاقتراب، في فسيح الرحاب، من رب الأرباب، وشَرِبَ من أحلى الشراب، ودخل في دوائر الأطياب، اللهم أذقنا حقائق السعادة ولذة القُرب منك والزلفى إليك في الدنيا والمآب وادفع عنا جميع الأوصاب، وعن أمة نبيك محمد أجمعين برحمتك يا أرحم الراحمين.

 وبسر الفاتحة 

وإلى حضرة النبي محمد 

يا كريم، نقوم إلى صلاة الضحى ونَعلم أنه يرى ويستمر ذلك مَعَنا في صَلواتنا خاصة وفي أعمالنا عامة حتى يَتَسع لنا مَجال شُهود أنه يَرانا ونَنعم بقربه إن شاء الله ورضاه عنا إنه أكرم الأكرمين، والحمد لله رب العالمين، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك نشهد أن لا إلٰه إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

سبحان ربك رب العزة عمّا يصفون وسلام على المرسلين والحمدلله رب العالمين

تاريخ النشر الهجري

07 رَمضان 1436

تاريخ النشر الميلادي

23 يونيو 2015

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام