(228)
(536)
(574)
(311)
يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير سورة العلق، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم.
﷽
(كَلَّآ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَيَطۡغَىٰٓ (6) أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰٓ (7) إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجۡعَىٰٓ (8))
الحمد لله من تتوالى نعمه، ولا يبيدُ كرمه، واسع الإحسان، عظيم الامتنان، إلۤـهنا الرحمن، تعالى في علاه، فله الحمد على كل حال، وفي كل حال وفي كل شأن، وصلى الله وسلم على من خُصِصَ بتنزيل القرآن، سيد أهل الحكمة والبيان، والعلم والعرفان، من جعله الله تعالى سيد الأكوان، المصطفى من عدنان محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وعلى آله ومن له صحب، وعلى أهل محبته ومودته من كل مقترب، وعلى آبائه وإخوانه من النبيين والمرسلين، وآلهم وأصحابهم وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعد..
فإننا في تأمل معاني كلام ربنا في الشهر الذي أُنزل فيه القرآن، مررْنا على أوائل الآيات في سورة العلق، وخِطاب من خلق، لأكرم من خلق: (ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ (2) ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ (3) ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ (4) عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ (5)).
وذكر أقلَّ أحوال الإنسان، ممثلة في تكوينه من العلق، وذكر أشرف أحوال الإنسان، في ذكر العلم، (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5))؛
فجعل الله تبارك وتعالى ذكرى هذا الطور المتدني للإنسان، والطور العلي الرفيع (خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ) بعد ذلك قال: (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5))، سمعنا قول الله في حقِّ نبيه سيدنا محمد (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ..) [النساء: ١١٣]، فأيْقنّا أن ماعلَّم سبحانه وتعالى أحداً من خلقه من أهل الأرض والسماء، فأشرف ذلك و أرفعه وأوسعه عند محمد ﷺ. وبذلك يذكر أهل العلم وأهل المعرفة:
والمعنى أن كل العلوم الواسعة التي يؤتيها الملائكة ويؤتيها الأنبياء ويؤتيها الأولياء الصالحين ويؤتيها عامة الناس، (علَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5))، علوم متعلقة بخلقهم وتكوينهم ووجودهم أو طبائعهم أو صحتهم أو بأفكارهم أو نفسياتهم أو مطاعمهم أو مشاربهم أو ملابسهم أو مساكنهم أو مركوباتهم أو الجمادات أو النباتات أو الحيوانات أو إلى غير ذلك، والصناعات والزراعات، كل هذه العلوم جميعها إذا نسبت لعلم الله تلاشت، صارت كَلا شيء، بالنسبة لعلم الله الذي (وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) [الجن: 28]، -جلّ جلاله-
وبذلك نعرف سرَّ تنبيهه إيّانا مرة بعد أخرى في كتابه بقوله: (واللهُ يعْلمُ و أنْتم لا تعلمُون) [البقرة: ٢١٦] فمحصور علم الخلائق، وعلم الخلائق هذا المحصور أيضاً قاصر -مهما اتسع- لا يحيط به بعضهم، هم انفسهم، إنما جميعهم يحيطون بما أوتوا من العلم، وما لم يؤتوا أعظم مما أوتوا، لما قال بعضهم لسيدنا لقمان الحكيم:"من يحيط بكل العلم؟ قال: كل الناس" يعني فيما أوتي الناس من العلم، يحيط به الناس بمجموعهم، أما فيما لم يؤتوا، فما لم يؤتوا أعظم وأجل، (وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) [الاسراء: 85].
وهذا العلم الذي هو بالنسبة لعلم الله قليل، بحار زاخرة متلاطمة الأمواج، كثير المسائل والدلائل والإشارات، مختلفٌ في مراتبه ودرجاته، فقطعاً في أهل الأرض وأهل السماء، ولجميع الكائنات؛ -أشرف العلوم- العلم بالله، وصفاته وآياته وأسمائه وعظماته وأفعاله وذاته ـجلّ جلاله وتعالى في علاه- وبذلك يختلف ويتفاضل الملائكة والأنبياء والمقربون من عباد الله تبارك وتعالى، وهذا أشرف العلوم، ومع الكائنات الحد الأدنى منه (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الاسراء:44]، (فَقَالَ لَهَا) -أي للسماء وللأرض- (ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) [فصلت: 11]، فكلهم مسبِّحة بحمد ربها وطائعة لله -جلّ جلاله وتعالى في علاه،- إنما تأصيل إرادته من الإنس والجن المذنبين الفساق.
مع ذلك كله فما خَُّص به العقلاء -الإنس والجن والملائكة- يختلف عن العلم -عند بقية أجناس الوجود- بالله تبارك وتعالى، ثم كان التخصيص للإنس فيه بحيث جُعِلَ أعرف الخلق بالحق من جنس الإنس، يظهر في قالب في جنس الإنس، وهو محمد بن عبد الله ﷺ:
إن كان كل الروح للبشر لا يحاط بحقائقها: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي..) [الاسراء: 85]، فروح محمد أوسع الأرواح، وأجمل الأرواح، وأفضل الأرواح، وأعلى الأرواح وأول الأرواح والتي كُوّنت منها الأرواح -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- ولكن جسمانيته وبشريته، بدأ إنساناً من عالم الإنس؛ فلذلك خُصَّ النوع الإنساني ومُيِّزَ الملأ الأعلى من الملائكة لما بُدئ تكوين الإنسان نُوِّه بشأنه، (.. إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة: 30]، فلما بدأ تكوينه قال: (اسْجُدُوا لِآدَمَ) [البقرة: 34]، ثم (..قال أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ) [البقرة:31]، قالوا ما نعرف، قال تعال يا آدم أنا أعلمك، فهم يتلقون عنك، فهذا تخصيص الله للنوع الإنساني، فاعرف إنسانيتك، واعرف قدر صنعتك، وعظم صانعك ـجّل جلاله- واخضع له واخشع، تدرك سّر هذه الصنعة وخصوصية الإنسانية.
ومع ذلك فهذا الإنسان من أشرف أجناس الوجود خوطب: (هلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا) [الانسان:10]، هو هكذا (لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا)، الله، العظمة لله.. فعظمة الإله من كل جانب، رزقنا الله كمال التعظيم، هذه أسرار تدور عليها مدارات وأذواق النعيم في دار القرار، أدركوا عظمة القهار الجبار، ما كلٌ يذوقها، وذوَّاقها ما كلٌ في مرتبة واحدة، على قدر الارتقاء فيها يكون سعة النعيم في الدار المقيم، في دار النعيم المُلك المقيم، في الدار الدائم في الآخرة، فاكسب منها نصيبك وتعرّض فإنها في مثل رمضان، ومثل هذه المواسم تُعطى وتُوهب وتُمنح ويتفضل بها الرحمن على من يشاء، ومن فتح له باب هذا الإفضال، فله في كل ليلة من ليالي رمضان زيادة وفي كل يوم زيادة، بل وفي كل ساعة:
فيقول جلّ جلاله: بعد ذكر هذه الخصائص والمزايا والبداية الحقيرة للإنسان، ثم ارتفاعه إلى الدرجة الكبيرة الخطيرة بهذه العلوم والعرفان، والعجب لهذا الإنسان المَبْدُوء من هذا الأمر اليسير الحقير، المُعطى هذا العطاء الكبير، كيف ينقطع؟ وكيف ينفصل؟ وكيف يغتر؟ وكيف يُحجَب؟ وكيف يُضيّع ويفوّت مكارم ومواهب ومزايا هُيِّأ لها؟ وينحرف إلى الطغيان، إلى العصيان، إلى إيثار الفانِ، إلى اتباع النفس والهوى والشيطان، منقطع عن الرحمن، وعن أهل حضرة الرحمن، المقربين الأعيان، ما أعجب هذا الإنسان!.
يقول تبارك وتعالى بعد أن ذكر هذا قال: كَلَّا..حقًا..(إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ (7))، فآفة هذا الإنسان، أن يظن في نفسه بظنٍّ فاسد أنه مستغنٍ، كل إنسان على ظهر الأرض يظن استغناءه، فقد حلّ بلاءه وتحقق فساده وهلاكه، ليس في الناس ولا من سواهم غني، (يأيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [فاطر: 15]، حقيقة.
لكن عندما يستولي الظن الفاسد على الإنسان، يتنكّر، يتغيّر، (قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ*مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ*مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ * كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ * فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ ) [عبس:17-24] هذا هو وتكوينه، (أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) [عبس:25-26]، ما تستطيع آلاتِكم ولا أفكاركم تعمل هذا! إن أمسكَ عليكم السماء فلم يمطرها، فمن يمطرها؟ وإن أمسك الأرض أن تخرج نباتها فمن يخرجه؟ تضع الديزل و. .. هل تخرج لك النبات؟ أو تُحْضر لك آلة، هل تنبت لك الحب وتطلعها لك شجرة؟! تقلبها إلى شجرة، ممكن؟! (أفرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ*أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) [الواقعة: 63-64]، يامغترين .. يامغترين.
(..إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ (6))، يطغى، يتجاوز حدّه، يخرج عن الحد، يطغى، يتكبر يفتخر يعجب يعربد يعصي يخالف، مامعك؟ مالك؟ ما الذي وقعك في هذا؟ قال المصيبة بسبب الظن؛ (أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ (7))؛ ما فيه استغناء لأنه ما يمكن يستغني، كيف يستغني؟! كيف؟! كيف يستغني؟! عن هواء أو عن ماء أو عن حياة أو عن قوة، كيف يستغني؟ فقط غرور!! فإذا أعطاه الله شيء فهو من قدرته تعالى، من إرادته تعالى، من علمه تعالى، من فضله تعالى، ظنَّ أن هذا له، ومن عنده (..قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ ..) [الزمر:49]، (..وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا..) [القصص:87]، (..قال إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ ۚ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ..) [الزمر: 49]، من أين جئت به؟! هذا الذي أنت الآن تدّعي الاستغناء به أصله ما في، ويمكن بحكم العقل، والشرع فوق العقل، في أي لحظة أن يفسد ويبطل ويتوقف، يا الله.. ففيمَ الاغترار؟ بماذا أنت تستغني؟ أنت فقير.
فإذا جئنا ونظرنا إلى حركة الإنسان في الحياة، وجدنا اليوم الذين يتبجحون مثلاً، بوجود الأسلحة -نجد أنهم مع وجودها- في تخوفات وتحذيرات ومسابقات ومسارعات، ويرى أنه محتاج إلى تطويرها، اذًا استغنيت؟ توقف، كيف يوقف؟! يمكن الثاني يزيد عليه! إذا واحد فكّر يصنع مثلما صنع، قف!.. قف.. ممنوع! هل هذا مستغني هذا!؟ هذا مسكين هذا.. فقير.. ليس مستغني.. الله…بمال كذلك، وأكثر أهل الأموال الكثيرة على ظهر الأرض، خوفهم أكثر من الناس، وتعبهم أكثر من الناس، وشغلهم أكثر، مشاكلهم أكثر من الناس وبعد ذلك؟! يريد زيادة ويريد أكثر، وبعد ذلك؟ هذا يتحيّل على هذا وهذا يتحيّل على هذا، وبعد ذلك؟ وعلى مستوى دول كبرى.. في نقص في الاقتصاد؛ ضروري تعمل شيء ولو حرب! المهم سدد، دع الناس يتحاربون، هات لك فلوس من كذا أو كذا، هؤلاء أغنياء هؤلاء؟ هؤلاء أغنياء؟! مسارهم وأفكارهم في ضحالة وضاآلة وخبث ما يكون عند النفس البشرية.
الغني هو الله، وأغنى الخلق من قَرُب من الغني، من أحبه الغني، من أمدَّه الغني، من تولاه الغني سبحانه وتعالى، أما من أبغضه الغني كيف يكون غني؟!! من حاربه الغني، من خذله الغني، كيف يكون غني بماذا؟ ولا يمكن أن يستغني عن الله شيء، الأرض قائمة بالله وحركاتها ودورانها، (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا ۚ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ..) [فاطر:41]، فمن معنا يعيش على ظهر الأرض، مستغني عن حركة الأرض هذه التي لا يقدر على تحريكها هو؟ مستغني عن أن تُمسك بهذا المَسك، من هو هذا؟ أي دولة؟ أي رئيس؟ أي صانع؟ أي مفكّر على ظهر الأرض يعيش وهو مستغني؟ ما في أحد.. الله.. ما في أحد مستغني عن الهواء، تقول: هذا متطوّر، يحتاج الى الهواء هذا؟ هذا مفكّر كبير عنده ثروة ما يحتاج إلى هواء! كيف لا يحتاج إلى هواء! يتعب عندما ينقص عليه الهواء، والرئة عنده ما أدري إيه فيها، وما يقدر يتنفس سواء، غني كبير مفكر مخترع -فقراء مساكين ضعفاء- والكِبر كثير والتبجح كثير، والطغيان كبير.
(..إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ (7))، فإذا تأمل واحد من الخلق أنفسهم بعين الحقيقة ببصيرة منيرة، ضحك على هذا الإنسان وتعجب في كبريائه وغروره، وليس بشيء! أعظم من ضحِكهم على الصبيان المتبجحين، ولد صبي صغير يقول: أنا قوي، حتى الجبل هذا سأضربه، صبي صغير، ماذا يقول له الكبير؟ يعرف إن هذا كلام! يقول له وأنا كبير أكبر منه، واحد حتى يقول أنا أكبر من أبوي مثلاً.. ماذا يقول العاقل لهذا؟ مسكين هذا ليس فيه عقل، نفس الكلام عند هؤلاء الذين يوصفون في العالم؛ المفكرين المخترعين -بسلوكهم هذا وطريقة تفكيرهم- العاقل يقول: مساكين مثل الصبيان الصغار الذين ما عرفوا الحقيقة، هم هكذا.
(وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً..) قوم نبي الله هود، ماالغفلة هذه!! (..أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَىٰ ۖ وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ ) [فصلت: 15-16]، (وَلَوْ يَرَى الَّذِين ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا..) [البقرة:165]، القوة كلها لله وكل طغاة الأرض اليوم الموجودين -كلٌ من مات منهم على هذا الكفر- يرى العذاب الشديد ويوقن أن القوة كلها لله وما كان عنده قوة ولا عند غيره، (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ..) [البقرة:165]، في وقت مشاهدتهم العذاب ووصولهم إلى هذا المآب (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) [البقرة: 165]، قال تعالى: في وصف هذا الانحراف عند بعض الناس.
يقول: (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء:139]، يناصرونهم ويتفقون معهم؛ (..أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ..) يبحثون عن العزة عند هؤلاء! (..فإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) [يونس:65]، الله الله.. (يأأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا) [لنساء:144]، إن تريدون أن تناصِروا وتوالوا؛ فقط مؤمنين، مع أخيار، مع صالحين.. أما توالي عاصي، توالي كافر.. (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ اللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) [محمد:26-27].
هذه حقائق نتحدث عنها، متعلِّقة بمآلنا ومآل كل المكلفين على ظهر الأرض بلا استثناء، تعرف بلا استثناء؟ بلا استثناء؟ ما في أحد مستثنى من هذا، هذا مصير الكل؛ (إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجۡعَىٰٓ (8))، المرجع إلى هناك.
(كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ (7))، لا يوجد استغناء، هو ظن فقط.. بظنهِ الفاسد رأى أنه استغنى، وهكذا أبعدُ الناس عن الحقيقة وعن الحق، من ظن أنه أعلم، من ظنّ أنه أقوى، من ظنّ أنه أرفع، من اغترَّ بعلم، من اغترّ بمال، من اغترّ بجاه، من اغترهـ بجيش، من اغترّ بسلاح، من اغترّ بثياب، من اغترّ بمركوبات؛ هؤلاء أبعد الناس عن الحقيقة، وأبعد الناس عن الحق جلَّ جلاله.
ولذا رأيت المقربين عند الحق مثل الملائكة، يقول لهم سبحانه وتعالى: (..أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ..) [البقرة: 31]، (قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا) [البقرة:32]، أنبياء ورسل يقول لهم: (..مَاذَا أُجِبْتُمْ..)، أماسمعت ربك يقول: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ ۖ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [المائدة: 109]، أنظر ما لهم اغترار وهم أحسن الناس علم وأوسع الناس علم، ما لهم اغترار.
سيدنا عيسى بن مريم يناديه الحق في يوم القيامة، يقول له: قم ياعيسى بن مريم للعرض على الله -روح الله سيدنا عيسى بن مريم- (...يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ.. ) [المائدة:116]، الألوف والملايين من الناس الذين اغتروا في الحياة الدنيا، وصلَّحوا كلام ونسبوا إلينا وكذبوا علينا (..أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ..)، فمن هيبة الله تلتصق ركبة سيدنا عيسى بالأخرى، ويقع من هيبة الله، يقول: سبحانك (سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [المائدة: 116]، أنظر هذا الموقف العظيم، هذا روح الله، وهو محبوب عند الله، وكل واحد سيُعْرض على الله، فكيف يكون حاله؟ يقول: "ما منكم من أحدٍ إلا سيُكلِّمُه اللهُ يومَ القيامةِ، ليس بينه وبينه تَرجمانُ" هذا العرض على الله، لو واحد تستحي منه في الأرض وإلا هيئة وإلا جماعة وإلا دائرة مخابرات، وإلا وزارة؛ وبينك وبينه مشكلة، كيف حالك لما تُقبل عليه؟ كيف حالك لما تدخل؟ كيف حالك لما تتكلم؟ كيف حالك لما تُخَاطَب؟ دعْ هذا كله.. جبار السموات والأرض، يقول؛ عرض، الله، لا هيبة فوق هيبة الله، ولا جلال فوق جلال الله -جل جلاله تعالى في علاه- ليقم فلان بن فلان للعرض على الله، ليقم فلان بن فلان للعرض على الله..، هذه قصة عرض عيسى ذكرها الله في القرآن.
سيدنا عيسى لما يُجيب ما قال: لا لا أنا ما قلت، (سُبْحَانَكَ)، يقدس ويعظم وينزه الذات (مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ) ما ينبغي لأحد، هذا الكلام ما يصدر مني ولا يكون، بعد ذلك يقول (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّيا وَرَبَّكُمْ ۚ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي..) [المائدة:117]، رفعتني إلى السماء مُتوفَّى مستكمَلاً (كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) [المائدة:117]، لما حرَّفوا وبدَّلوا، أنت أعرف مني (وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ )، وأنا وإياهم عبيد لك (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة: 118]، يقول الحق: (..هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ..) [المائدة: 119]، صدقتَ ياعيسى، قم فادخل الجنة برحمتي، ينادي المنادي: لقد سَعِدَ عيسى ابن مريم سعادة لا يشقى بعدها أبداَ، هذه قصة عرض عيسى.
باقي قصة عرضي وعرضك!!، باقي قصة عرضي وعرضك!! على هذا الإله، هذه قصة عرض عيسى وهو روح الله وكلمته، وأنا كيف أُقابل هذا الإله وأُكلِّمهُ؟ ما أقول له؟ إن لم يلقِّنه الله حجَّته؟ اللهم ارحمنا ساعة العرض عليك، والوقوفِ بين يديك.
(كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ (7))، وكلها رؤيا باطلة، من عهد آدم إلى اليوم، كلُّ من رأى نفسه استغنى كان في بُطلان، في فساد، وكان عبرة، (وَلِلْكَٰفِرِينَ أَمْثَٰلُهَا)، (أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ٱلْأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ دَمَّرَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ۖ وَلِلْكَٰفِرِينَ أَمْثَٰلُهَا) [محمد: 10] سُنة الله، لا إله إلا الله..
يقول سبحانه وتعالى: (إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ (8))، إما خطاب عام لهذا الإنسان، تذكر، مرجعك إليه، ضوِّل وصِّيح في الدنيا وتبجّح واذهب وارجع، و الرجعى إلى هنا، ومن يعيش معنا على ظهر الأرض -من أعظم المغترين الكفار الملحدين- يقول أنه لن يموت، مَن؟! هات لي واحد بعقله يقول إنه لن يموت، ولن أرجع إلى هذا الإله وسأبقى مكاني، هنا في قصري، في أسواري، في حكومتي، في حرسي، لن أخرج؛
(إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجۡعَىٰٓ (8))، أو هو خطاب للحبيب ﷺ؛ انظر هؤلاء كلهم الذين يصلِّحون ضَولة، والذين يكذبونك سيرجعون إلى عندي، وأنا أحاسبهم فاطمئن، قم بلِّغ رسالتي وقم بالأمر ودعْهم، ومرجع الكل إليَّ، من رفّع رأسه ومن تكبر ومن اغتر (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) [الانعام: 112]، المرجع إلى عندي هنا، والحكم من عندي بعد ذلك على الكل.
(إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجۡعَىٰٓ (8))، المرجع والمآب والنهاية والمصير، (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ) [الغاشيه: 25]، الله.. الله وكل شيء يرجع إلى هذا الإله، لا مرجع غيره، أين سيذهبون؟! هذا إلههم الذي خلقهم وإليه مرجع الكل؛ ومن هنا فكّر العاقل في اتخاذ السبيل إلى هذا الإله، وأن يصلح حاله معه، حتى يلقاه وما عليه بعد ذلك ممن قرُب من مختلف الأفكار والاتجاهات وما إلى ذلك.
أنا في شغلٍ عن الناس وعن كل ما هم فيه؛ من خير وشر، عملي لي ولهم أعمالهم، وبعين الله من برَّ أو فجر، وعلى الله حساب الكل في يوم نار الله ترمي بالشرر، (اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [الحج: 69]، يقضي بينهم -سبحانه وتعالى بحكمه- لا إله إلا الله.. هذه حقائق، (إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ (8)).
ثم ذكر مما وقع في شأن هذه الحياة، طغيان أحد الطغاة من بني الإنسان، هو الحَكَم بن هشام "أبو جهل"، وقد كان من بداية الأمر يحسد النبي ﷺ من أيام صغره؛ لميزته بين القوم ومكانته، ثم لما كبُر ونُبيء، عاداه حسدًا وهو يعلم أنه صادق وأنه رسول الله ﷺ ولكن هكذا حمله الحسد والطغيان.
(كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ (7))، ويروى أنه قال للنبي ﷺ: " أنت الذي تدَّعي أن الإنسان يطغى إذا استغنى، فاجعل لنا جبال مكة ذهباً وفضةً، حتى نطغى، نترك ديننا ونتبع دينك، وأن الله أرسل جبريل إلى نبيهِ، يقول: "إن شئت فعلنا ذلك، ثم جعلتُ عليهم ما على أهل المائدة" -مائدة سيدنا عيسى- إن لم يؤمنوا، لا يارب، إبقاءً عليهم ورجاء أن يؤمن منهم من يؤمن، وخاف عليهم ﷺ وما أحب ذلك؛ رحمة بإمته.
(كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ (7))، وكان من عادة أبي جهل، أنه كلما زاد عليه قليل من المال، أسرف في بعض اللباسات التي يلبسها، وبعض المراكب التي يركبها، بين الخلق من مظاهر طغيانه، وبعد ذلك، أين هو؟ وأين الذي كان يلبس؟ وأين الذي يركب؟ الله ... يتمنى لو آمن بمحمد، أحسن له من الذي لبسه ومن الذي ركِبهُ، من الذي شرِبهُ، من الذي اغترَّ به، ومن الذي افتخر به، يا ليت أنه آمن بمحمد، وهو يتمنى هذا الآن، لكن ويلٌ لك، نصحك ورحمك وأشفق بك، فأبيتَ إلا إيثار نفسك الأمارة، فويلٌ لك ثم ويلٌ لك، ما نصنع لك؟ قُتلت يوم بدر وكنت متبجحاً، سنعمل وسنشرب الخمر وستسمع العرب بنا، فتدحرجت بين الناس، وجاءك ابن مسعود، وقبله الفتيان من الأنصار شابين صغيرين، وانتهيتَ وراحت الغطرسة كلها، ولو آمنتَ بمحمد لسعدتَ، فويلٌ لك ثم ويلٌ لك.. ماذا نصنع؟! وهكذا كل من اختار الكفر، كل من اختار الضلال، ومن استسلم لنفسه في حسدها وكبريائها.
(..إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَيَطۡغَىٰٓ (6) أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰٓ (7) إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجۡعَىٰٓ (8))، وكان بعد ذلك من مظاهر هذا الطغيان، أن ينهى النبي، يقول: عند أصنامنا هذه تعبد إلهك هذا؟ لا تفعل هكذا عندنا.
(.. يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10)) يقول لنادي قريش يقول لهم: ليعفِّر محمد وجهه بالتراب بينكم لهذا الإله؟ دون آلهتنا؟ قالوا: نعم يصنع ذلك، قال: إن رأيته بعد ذلك لأطأن رقبته حتى أُعَفِّرَها بالتراب، قالوا: هذا هو محمد أمامك ساجدًا. لما قرب من عند النبي ﷺ رجع إلى الوراء ويقول بيده هكذا! وضحكوا قريش عليه! ما لك؟ قال: بيني وبينه خندق ونار وأهوال ما أقدر، قالوا: سحرك محمد ! وهكذا وتكرر منه هذا الفعل كما سيأتي في آخر السورة الكريمة.
فالله يحفظنا من الطغيان ويشهدنا فقرنا إليه، وحاجاتنا إليه واضطرارنا إليه حتى لا نطغى، من ظن أنه قد علم فقد جهل، من ظن أنه غني بمال فقد طغى، من ظن أنه غني بجاهٍ فقد طغى، من ظن أنه غني بعشيرة وقبيلة فقد طغى، (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ (7))، (..أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [فاطر:15].
وهكذا، انظر إليه عندما رجع من الطائف بعد أن رُمِيَ حجارة قال: "أنت رب المستضعفين أشكو إليك ضعفي وقلة حيلتي وهواني على الناس، أنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك غضب علي فلا ابالي" يارب العالمين، فانظر كيف أعزه الله، وانظر إلى أهل بدر، ورَدُوا بدر بصدقهم وإخلاصهم وإنابتهم إلى الله متواضعين متذللين (ولقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ..) [آل عمران:123]، وكل من تذلل نصره الله، متذلل لله، نصره الله -جَلَّ جلاله وتعالى في علاه- (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ..) [التوبة:25]، قال الله: ما ارتضي منكم هذا، نبيي بينكم يقص عليكم الحقائق، والآن تغترون بالكثرة، وتلتفتون إليها، ويقول قائلكم: لن نغلب اليوم من الكثرة، لا.. ( ..ۙإِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ..) [التوبة: 25-26]، ورجعوا.. لا بقوتهم ولا بكثرتهم وهكذا.
خرج الإمام أبو الحسن الشاذلي رحمه الله تعالى في بعض مساراته وسياحاته، دخل بريَّة فيها وحوش، فيها سباع على أنسٍ بربه -جلَّ جلاله- يقوم يصلي في الليل والوحوش تجيء تقع بين يديه متأدبة وهو في أُنس مرتاح ولا يمسه شيء وحَرَسته طول الليل ومشى، في الليلة الثانية قام يصلي وسمع حشرة كذا، فزع، أصابته وحشة، قال: لا إله إلا الله.. البارحة وحوش وسباع ضاريات وأُنس، واليوم حشرة صغيرة ويحْصل عندي اضطراب وقلق! فسمع منادياً يناديه، يقول: "إنك دخلت البارحة بربك فآنسك، والآن دخلت بنفسك" لا إله إلا الله..(قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ…) [آل عمران: 165].
فهكذا شأن الصادقين مع الله، الله يحفظنا من الطغيان، يحفظنا من العصيان، يحفظنا من الاغترار، أنا ومن في السماء ومن في الأرض، والإنس والجن والملائكة فقراء إلى الله (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا * لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا*وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) [مريم: 93-95]، وإنما مراتبهم على قدر آدابهم معه، وعنايته بهم ورعايته لهم وإرادته فيهم، فاجعل اللهم مرادك فينا خيراً، والحقنا بالأخيار، بالنبي المختار، وآله الأطهار وصحبه الأخيار، وأهل حضرته أهل الأنوار، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين والملائكة المقربين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
لا تقطعنا عنهم ولا تخرجنا منهم ولا تحُل بيننا وبين نبيك في الدنيا ولا في الآخرة، اجعلنا معه، (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ۖ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ..) [التحريم:18]، وشرّفنا في رمضان بفتح باب الاتصال بهذا الجناب الأسنى والدخول في دائرة أهل هذا المشرب الأهنى، وارزقنا من العرفان واليقين ما به يتنقَّى الجَنان، ونرقى إلى أعلى مراتب التدان، حتى نَحِلَّ في أعلى الجِنَان سالمين من كيد النفس والهوى والشيطان، لا يفتنَّا ولا يقطعنا زمان ولا مكان ولا إنسٌ ولا جان، في سرٍّ ولا في إعلان، يا ولي الكل، ويا رقيب على الكل، ويامالك الكل ويا من بيده ملكوت كل شيء لا إله إلا أنت، بك آمنا وعليك توكلنا فزدنا إيماناً أكرمنا بالتوفيق وألحقنا بخير فريق، واسقنا من أحلى رحيق، شراب حبيبك منه اسقنا، وبه نظفنا وصفينا ونقينا، واجعلنا من خواص أهل التقى، ومن استقام على المنهج الأقوم بقلب أطهر وأنقى برحمتك يا أرحم الراحمين بسر الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ. له الحمد وهو الذي وفقكم لتكرير دعائه ليعطيكم من واسع عطائه، اللهم لك الحمد شكراً.. سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
06 رَمضان 1436