(228)
(536)
(574)
(311)
تفسير الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لقصار السور بدار المصطفى في شهر رمضان المبارك من العام 1436هـ.
﷽
(ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ (2))
الحمد للهِ على مَنِّهِ وجزيلِ إفضالِهِ وواسِعِ إحسانِهِ وعظيمِ نَوالِهِ، نشهدُ أنهُ اللهُ الذي لا إله إلا هو وحدَهُ لا شريك له، ونشهدُ أنَّ سيدَنا محمدًا عبده ورسوله، أعظمُ مَن نبَّأَهُ وأَعْظَمُ مَن أرسلَه، صَلِّ اللهم وسلم وبارك في كُلِّ لمحةٍ ونفسٍ على الذي أنزلت عليه الكتاب وجعلتَهُ سيد الأحباب عبدك سيدنا محمد، وعلى آله والأصحابِ خيرِ آلٍ وأصحاب، وعلى آبائه وإخوانه مِن الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم وتابعيهم بإحسان إلى يوم المآب.
وها نحن في اليوم الثاني مِن أيام الشهر الكريمِ المباركِ وهو يوم جمعة، فواجهتنا أول جمعةٍ مِن جُمَعِ هذا الشهر الكريم -بارك الله لنا فيها وفيه- وجعلَنا سبحانه ممن يرتضيهِ ويصطفيهِ ويجتبيهِ، ويَهَبُه، ويَمْنَحُهُ، ويُعْطِيه، ويَرْفَعُهُ ويُرَقِّيهِ ويُعْلِيهِ، إنَّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وقد تأمَّلنا في شهر القرآن بعض معاني سور القرآن، ومَرَّت بنا سورة القدر وأنَّ الله يقول في أولها (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر:1]، وكان هذا الإنزالُ إِشارةً إلى مَعْنَيينِ إثنين.
وفي سورةِ العلقِ وسورةِ اقرأ يقول جلَّ جلاله: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1))، فكان الخمس الآيات إلى قولِهِ: (..مَا لَمْ يَعْلَمْ (5))؛ هي أولُ ما نزلَ على نبيِّنا وأول ما تلقَّاهُ رسول الله -صلى الله عليه وصحبه وسلم- مِن وحي الكتاب العزيزِ الشريفِ الحميدِ المجيدِ العظيمِ.
وذلك أنه في سيرتهِ الغرَّاء لمَّا قارَبَ الأربعينَ مِن عُمُرِهِ، أو بلغَ الأربعين مِن عمره حُبِّبَ إليه الخلاء، فكان يَأنسُ بالخلوةِ والوحدةِ، ومخاطبة الحق وتسبيحَه وتقديسَه، وتحميدَه، وذِكْرَهُ جلَّ جلاله، فكان يعبدُ الله تعالى، واختارَ مَوْقِعًَا مِن بينِ أماكنِ مكةَ -جبلُ حراء- والغارُ الذي فيه، مِن أمامِهِ يُشرِفُ على البيت العتيقِ المُعظَّم، فاختار هذا الموقع وفيه بُعْدٌ عن الناس، إذ لا يُوصَلُ إلى الغار إلاَّ بعد صعودٍ طويل، ثم ينْزلُ مِن أعلى الجبل قليلاً إلى مكانِ الغارِ، ثم يُشرِفُ هذا الغار على الكعبةِ المشرفةِ بيتِ اللهِ المُعَظَّم، فكان هذا الذي أُعدَّ بهذه الكيفية لخير البرية -صلى الله عليه واله وصحبه وسلم- وكان يَتزودُ للقوتِ مِن بيتِهِ مِن عند خديجة، ثم يمضي إلى الغار يَمْكُثُ ما بين العشر الليالي إلى النصف شهر إلى الشهر، ثم يعود ويأخذ زادًا مرةً أخرى، ثم يعودُ إلى غارِ حراء.
وفي هذا ما يُنَازِلُ الإنسان حين يخلو عن صَخَبِ الأحداث وما يجري بين الناس وعامتهم مما لا يعنيه، وعندما تَتَرَكَّزُ هِمَّتُهُ وَوُجْهَتُهُ على مقصودٍ أسنى فيتخلَّى عما سِواه، يكون ذلك أقوى وأدْعى لقطع المسافة وبُعد الآفة، ومِن هنا جاءت الخَلَواتُ لكثيرٍ مِن خِيَار الأُمَّة مِن العُبَّادِ والمتفرغين للإقبال على الله -تبارك وتعالى- بمختلَفِ الطاعات، ثم أنَّ الكثير منهم يَختارُ المشابهة فيذهبون إلى الجبال، وكم اشتهر جبلُ لُبنان وغيره مِن جبالٍ في الشامِ، أو في اليمنِ، أو في غيرِها مِن بقاعِ الأرض يتردَّدُ إليه أكابر وصُلحاء، خاصة مِن أهل العلم والمعرفة والذوق ليَخْتَلَون فيها بربهم جلَّ جلاله أو لربهم -سبحانه وتعالى-.
كان تردده عليه الصلاة والسلام إلى ذلك الغار أشْهر عديدة حتى فاجأهُ الوحيُ في الغار، وكانت البداياتُ والإعداداتُ لِذَاتِهِ، بعد أنْ بَرَزَت في الهيكلِ والقالبِ البَشَرِيّ، وجُعِلَ النور الأسنى والروح الأعظم في وسطِ هذا الجسد الذي كَوَّنَهُ الله في بطنِ آمنة بنت وهب، يحتاج هذا الجسد بطبعهِ البشري إلى أن يَتَهَيَّأ بما يُناسب الروح الكريمة التي فيه وتَلَقِّيها عن الحق جلَّ جلاله والنور الأعظم -صلى الله عليه واله وصحبه وسلم-
وكان مِن جملة هذه التهيأة أنه اُبتدأ بالرؤيا الصالحة الصادقة، فكان لا يَرى شيئًا، ولا يَرى الرؤيا إلاَّ جاءت مثل فلق الصبح، أي لا يرى شيئًا يكون أو يحدث إلاَّ كان كما رآه تماماً، وابتدأ هذا مِن شهرِ ربيعِ الأولِ حين أكملَ الأربعين إلى شهرِ رمضانٍ حيث كانت ليلة القدرِ وإنزالُ القرآن، فكانت ستة أشهر تتكرر له فيها شأن الرؤيا الصادقة، بل ذكر بعض أهل السيرة أنه كان في خلالِ ذلك يَرى خِطَاب جبريل له ونزولَ الوحي عليه، قبلَ أن يُبادءهُ به في عالم اليقظة ليَقْوَى استعداد بَشَرِيَّتِهِ وجسده الكريم لتلقِّي وتحمّل هذا الأمر العظيم -صلى الله عليه واله وصحبه وسلم-.
ثم كان وقتُ نزولِ الوحي مِن حينِ أكمل الأربعين إلى أن توفي -في الثلاثة والستين- مدة ثلاث وعشرين سنة، وكانت المدة مِن حيث تقسيمُها تساوي مِن الفترة جزءًا مِن ستةٍ وأربعين، فإنَّ الستةَ الأشهر نِصْفُ عام، والثلاثة والعشرين عامًا، كلُّ نصف سنة منها تتحولُ أعدادُها إلى ستةٍ وأربعين، الواحد مِن الستةِ والأربعين مقداره ستة أشهر، ست أشهر، وست أشهر سنة، وست أشهر، وست أشهر سنتين، ست أشهر، وست أشهر ثلاث سنين، إلى ستة وأربعين مِن ستة أشهر تكون ثلاث وعشرون سنة، فكان هذا بعض ما مالَ إليه للاستئناسِ، مَن يوجِّهُ المعنى الأوسع في قوله: ً"الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة" والمعنى في هذا أوسع، ولكن مما يُستأنَسُ به أنَّ مدة الرؤيا الصالحة الصادقة لرسول الله كانت في خلال ستة أشهر، ثم كان مدة النبوة والوحي بالقرآن ثلاثًا وعشرين سنة، ونسبة الست الأشهر إلى الثلاث والعشرين نسبة واحد إلى ستةٍ وأربعين.
فلما كان وقت حلولُ الشرفِ الأفخرِ على ظهرِ الأرضِ ليَتَلَقَّى أهلُ الأرضِ وَحْيًا مميزًا تُخْتَمُ به النبوةُ والرسالاتُ كُلُّهَا.. كان ذلك في شهر رمضان المبارك ورسول الله ﷺ في عبادتِهِ في غار "حراء" أقبلَ عليه بأمر الله سيدُنا جبريل ليخاطبه بـ (اقْرَأْ..(1)) وقال: "اقرأ" فقال نبيُّنا : "ما أنا بقارئ" -
فَغَطَّهُ حتى بلغَ منه الجَهد ثم أَرْسَلَهُ وقال: أقرأ" قال:" ما أنا بقارئ؟" فَغَطَّهُ الثانية حتى بلغَ منه الجهد أي المشقة وأرسلهُ وقال: "اقرأ". فقال: "ما أنا بقارئ؟" فَغَطَّهُ الثالثةَ ثم قال: (ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ (2) ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ (3) ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ (4) عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ (5))، فكانت هذه الخمسُ الآيات الكريمات المباركة بداية الوحي إلى نبيِّنا وأول ما نزل على رسول الله -صلى الله عليه واله وصحبه وسلم-.
كان قد أكمل الأربعينَ مِن السِّنِين في شهر ربيع الأول، وكان نزولُها في شهر رمضان في ليلة القدر: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر:1]، فكان أول خطاب مِن ربِّ الأرباب لسيدِ الأحبابِ خاتم الأنبياء الأنجاب، وسيد الرسل الأحباب عليهم صلواتُ الله وتسليماتُه: (اقْرَأْ..(1)).
وهنا تأتي معاني القراءات فيمَا يُعلَمُ وما يُعْرَفُ، وما يُنْظَرُ إليه، وما يُبَيَّنُ شأنُهُ، وما يُذَكَرُ خَبَرُهُ، ويُتلى على اللسان، فالكُلُّ قراءة؛ والقلبُ يقرأ، والعقلُ يقرأ، الروح تقرأ، واللسان يقرأ، وأنواعُ القراءات التي يترتبُ ويَتَكَوَّنُ عليها الفَهْمُ والفِكْرُ والنظرُ إلى الأشياء والمعارفُ والمدارك، حتى يقول الإنسان "إني أقرأ في وجهك كذا وكذا" مِمَّا يَحْمِلُهُ مِن علامات تدلُّه على أمور، وفي جميع الكائنات، ولجميع الكائنات قراءة.
ولخصوصِ ما جعلَ اللهُ مِن أسرارِ الكتابةِ بالقلمِ نوعٌ خاصٌ مِن القراءة، إلاَّ أنَّ هذه الأقلام متفرِّعَة عن قَلَمِ الإرادة والقدرة الربَّانية، وفي عالم الحِسِّ لمَّا أراد تكوين الخلق كان مِن أولِ ما كوَّنَ بعد نور محمَّد ﷺ: القلم، واللّوح، وأَمَرَ القلمَ أن يَخُطَّ في اللَّوحِ ما أرادَ أن يكون إلى يوم القيامة، فكتبَ خَلْقَ الله للكائنات، ووجود الأمم إلى يوم القيامة.
ثمَّ كان للملائكةِ أيضًا أقلام، وصُحُفٌ يكتبون فيها، ولهم نَقْلٌ مِن اللَّوحِ المحفوظِ، ولهم إيحاءات يكتبونُها في صُحُفِهِم، ثمَّ كان إنزالُ صحائفَ على الأنبياء والمرسلين مكتوبة، وكان في عالم الخلقِ أيضاً والبشر وجودُ الأقلام، ومِن هنا جاء الإسم لهذا القلم الذي هو أوَّل ما ابْتُكرَ، أو عُلِّمَهُ الإنسان، أو أُلْهِمَهُ الإنسان، كان مِن قَصَبٍ قَوِيٍّ يُقْلَمُ، يُقْرَضُ مرَّة بعد أخرى كما تُقلَّم الأظفار فسُمي قَلَمًا إلاَّ أنَّ الحقَّ أطلقَ هذا الإسمَ على مالا يَتَنَاوَله هذا القَلْمُ، مِن القلمِ الذي يكتب في اللَّوح المحفوظ (ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) [القلم:1]، وكلُّ معاني الأقلام بعد ذلك.
(اقْرَأْ..(1))، اجعل قراءتِكَ: بحسِّكَ ومعناكَ، وظاهرِكَ وباطنِكَ، ولسانِكَ وقلبِكَ، وفكرِكَ وعقلِكَ وروحِكَ (بِاسْمِ رَبِّكَ…(1)) في كَمَالِ عبودِيَّتِكَ له (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ…(1))، فكلُّ شيءٍ قائمٌ باسمه، فلا أرضَ، ولا سماءَ، ولا هواءَ، ولا شجرَ، ولا حجرَ، ولا إنسانَ، ولا غيرَهُ إلاَّ وهو قائمٌ باسمه مخلوقٌ بقدرتِهِ، مُعيَّنٌ مخصَّصٌ بإرادتِهِ وتَصْرِيفِهِ وتقديرِهِ جَلَّ جلاله: (۞ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) [الإنعام:59] كان الله، ولم يكن شيء غيره، كان الله، ولم يكن شيء معه، فكلُّ شيءٍ سِوى الله حادثٌ، مخلوقٌ مُكَوَّنٌ، أَحْدَثَهُ، وخَلَقَهُ، وكَوَّنَهُ وقَدَّرَهُ الله -جلَّ جلاله-.
فـ (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ…(1))، لا تَغْفَل عن هذه الحقيقة، إذا قرأتَ فاقرأ باسمِ ربِّك، فإنَّك المعصوم الطَّاهر الذي لا يَنْتَابُكَ خَلَلُ الوهمِ، ولا الخيالِ، ولا الظَّنِّ الباطلِ كما ينتابُ غيرك، فلما قرأوا بغير اسم الله، لم يُدركوا الحقائق، وأشركوا وكفروا وطغوا، وتجبَّروا، ولو كانوا يقرأون باسم الله لعصمهم الله، ولكانوا في كنف الله -جلَّ جلاله- ومِن هنا نعلم:
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1))، هذا الذي يُوحى إليك وكلُّ ما تَعْلَم، وكلُّ ما تسمع، وكلُّ ما تُبْصِـر، وكلُّ ما تُدْرِك، وكلُّ ما تُشَاهِد، وكلُّ ما تَتَفَكَّر (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ…(1))، (..بِاسْمِ رَبِّكَ…(1))، وفي هذا كان يمكن أن يقول: اقرأ باسم الله، لكنَّ قال: (...بِاسْمِ رَبِّكَ…(1))، هذا الذي ربَّاك، واعتنى بك، وخصَّصك وميَّزك، وأفردَك مِن بين خَلْقِه، وجعلَك سيِّد كائناتِه، وإمامِ أهل أرضِهِ وسماواتِهِ (...رَبِّكَ…(1)). فـ(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ…(1))، فإنَّك المحبوبُ لهذا الإله، وإنك المقدَّم على جميع بَرَايَاه، فلقد ربَّاكَ فأحسنَ تربيتَك، فقُم بالوفاءِ له بِمِنَّتِهِ وإفضالِهِ عليك واقرأ باسم ربك.
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1))، فما مِن مخلوقٍ، ولا مِن كائنٍ، ولا موجودٍ إلاَّ وهو منهُ (...الَّذِي خَلَقَ(1))، فلا يَقْطَعُكَ مخلوقٌ عن الخالق، ولا يَحجُبُكَ شيءٌ مِن المخلوقاتِ عن مَن أوجدَها وبَرَأَهَا (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1))، أي الذي له الخَلْق، المتفرِّد بالخَلْق -جلَّ جلاله-، خلق ماذا؟ كلَّ شيءٍ سواه (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ۖ…) [الزمر:62]، فيكونُ (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1))، أي الذي وَصْفُهُ الخَلْقُ، ولهَ وحده ذلك، ويُمكن أن يكون مُراد معه مفعولاً أيضًا خلقَ كل شيء (...هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ …) [فاطر:3]، -جلَّ جلاله-.
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1))، فينبغي أن يكون:
فمنه الخَلْقُ والإيجادُ والإمدادُ؛ فإننا في الأصلِ لا نَقْوَى، ولا نَقْدر على شيء، وكنَّا عَدَمًا مَحْضًا، فإن تصرَّفنا بيدٍ، أو رجلٍ فممنوحةٌ مِن عنده، والقوَّةُ التي فيها موهوبةٌ مِن فضلِهِ، والهيئةُ التي عليها مُقَدَّرَةٌ بعظيمِ صُنْعِهِ، وقُدْرَتِهِ، وإرادتِهِ، ولا تتحرَّكُ، ولا تَسْكُنُ إلاَّ بقدرتِهِ، وإرادتِهِ، وتدبيرِهِ، فَلِنَكُن على قراءةٍ باسم الذي خلق (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)).
ومع كونه خَلَقَ كلَّ شيء فقد خَصَّ مِن بين الأشياءِ بالذِّكر، فَرْدًا مِن هؤلاء المخلوقات وهو هذا الإنسان (خَلَقَ الْإِنسَانَ… (2))، وهو خالق كل شيء، لكن نَصَّ واَخْتَصَّ الإنسان بالذِّكرِ إشارة إلى خصائصِ ومزايَا وَهَبَهَا لهذا الإنسان، وقد أشارَ بعض المفسِّرين -كالبغوي وغيره- أنه يُمكن أن يُرَادُ مِن الإنسان هنا:
ثمَّ استثنى ما شاء -سبحانه وتعالى-، وذلك رُوحَهُ وكَلِمتَهُ عيسى بن مريم مِن دون هذه العَلَقة وهي الدَّم المتجمد المتحوِّل عن النُّطفة، ولكن عموم الإنسان خَلَقَهُم بهذه الصُّورة.
(خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2))، مِن هذا الشيء الحقير كَوَّن هذا الإنسانَ الخطير؛
فشأنُهُ أخطرُ الشؤون، وله مزايا وخصائص كثيرة كبيرة أعظمُها استعدادُهُ لمعرفةٍ خاصَّة للإلهِ الذي خَلَق، وهي أعلى وأشرف ما يَكْتَسِبُهُ أحدٌ مِن خَلْقِهِ، مَلَكًا، أو إنسانًا، أو جنًّا؛ وهؤلاء العقلاء الثلاثة مُهيَّؤن لمعرفةٍ خاصة تزيدُ على بقيةِ الكائناتِ
وكلُّ الكائنات تعرف ربَّها -جلَّ جلالُه- بمعنى تُدْرِكُ عظمتَهُ وألوهيَّتَهُ وتُسبِّح بحمدِهِ (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الإسراء:44]، ولكن هذا الصِّنف -الملائكة والإنس والجن- مخصوصين بخصائص ومَزَايا، ثمَّ جاء إلى عالَمِ الإنسانِ -في مَخْصوصين منهم- خصائصَ ولا وُجِدَت للملائكة، ولا وُجِدَت للجنِّ، ولذا كان منهم الأنبياء أَعْرَفُ الخلائقِ بالله، وكان سيُّدُ الأنبياء أعظم معرفةً وأَرْسَخ قَدَمًا في المعرفةِ باللهِ مِن جميعِ الأوَّلينَ والآخرينَ صلوات ربي وسلامه عليه.
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2))، (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) [الطارق:5-7] فهذه بدايةُ تكوينِهِ في عالمِ الحسِّ، فلا ينبغي أن يَغْتَر، ولا ينبغي أن يتكبَّر، ولا ينبغي أن يَعْجَب؛ يَنْظُرُ أصلَهُ! ويَنْظُرُ نهايتَه! وحالتَهُ بينهما، لا يستغني عن حمل القاذوراتِ والأوساخِ في بطنِهِ لِتَسْتِقِرَّ حياتُهُ، فَلِيَنْكَسِر، وليتواضَع، ويَعْلَم أنَّ ما بِهِ مِن نعمة فمن الله، والفضلُ للمُنعِمِ لا للمُنْعَم عليه، فما كان عنده مِن خصوصية ومزيَّة فمن فضلِ ربِّ البرية (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ…) [النحل:53].
"اللهم ما أصبحَ بِنَا مِن نعمةٍ أو بأحد من خلقك فمنك" فمنك.. فمنك، هذا مصدر الإنعام، "فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشُّكر على ذلك".
(اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)) وفيها معاني ودلالات تأتينا -إن شاء اللهُ- في مجلسِنَا ودرسِنَا القادم.
اللَّهم وفِّر حظَّنا مِن القرآن، ومِن معانيهِ وأسرارِهِ، وممَّن أَنْزَلتَ عليه القرآن، اجعل حظَّنا موفَّرًا مِن حبيبك محمَّد في محبَّتِهِ، في الإيمان به، في مُتَابِعَتِهِ، في السَّير على دربه، في الشُّربِ مِن شُربِهِ، في خدمةِ أُمَّتِهِ، في نُصـرتِهِ ونُصرةِ شريعتِهِ، وفي العملِ بسنَّتِهِ وإحيائها، وفي نيلِ شفاعتِهِ، وفي الفَوْزِ بمرافقتِهِ.
وفِّر حظَّنا مِن خير بريَّتك، وسِرْ بِنَا في دربِهِ مع خواصِّ مَن اصطفيت مِن أهل مزيَّتك، اللَّهم وأَحْيي قلوبَ أمَّتِهِ لتستقي معاني الوحي وتُدرِكَهُ بكمالِ الوَعِي؛ فَتَسْلَمَ مِن الغيِّ والليِّ، وتَسْلَمَ مِن الظُّلمِ والعدوانِ والبغي، اللَّهم أصلح شؤون الأمَّة، واكشفِ الغمَّة، وعامل بمحض الجودِ والرَّحمة.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
04 رَمضان 1436