(231)
(536)
(574)
(311)
تفسير الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لسورة الفاتحة وقصار السور بدار المصطفى ضمن دروس الدورة الصيفية العشرين في شهر رمضان المبارك من العام 1435هـ.
﷽
(أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ (11))
الحمد لله على توالي نفحاته، واستمرار عطيّاته، وتوالي مِنَنه ومنوحاته، نشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو، أحاط علماً بشؤون بريّاته، في ظاهر الأمر وخفياته، منه المُبتدأ وإليه مرجع جميع كائناته، ونشهد أن سيدنا ونبينا وقرّة أعيننا ونور قلوبنا محمداً عبده ورسوله المخصوص بعظيم آياته، والمقدَّمِ على جميع المحبوبين من أهل عناياته ورعاياته.
اللهم صلِّ وسلم وبارك وكرّم على أفضل صلواتك وأزكى تسليماتك على المصطفى سيدنا محمد، منقذنا من الضلالة ومعلِّمنا من الجهالة، وعلى آله وصحبه ومن سار في دربه وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبعد،،
فإننا في مَنَّةِ ونعمة وجنَّة تأمُّل معاني كلام ربنا جلَّ جلاله، مررْنا على بعض معاني سورة العاديات وانتهينا الى أواخر الآيات فيها، وأن الله أقسم بـ
وقد ذكرنا أيضاً قولاً آخر في معنى العاديات: وهو الإبل التي تحمل الناس إلى الحج، فما بين الحج والجهاد ومطاياهما جاء هذا القسم من الله.
وقلنا في: ( فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4))، أثرن الغبار بحوافرها، وجاء عند بعض أهل التفسير:
(فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)) وسطن بذلك الغبار أو في ذلك المكان جمْع العدو.
(إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)) جحودٌ يجحد المنن والنًعم، وقد ذكرنا معاني في تفسير ذلك الكنود، ويُروى فيه أن الذي "يمنع رِفْدَهُ، ويأكل وحدهُ، ويُجيع ويضرب عبدهُ" هذا هو الكنود، وكل الأقوال التي جاءت في الكنود ترجع إلى معنى من الكفور والجحود، ومنها ما قال الحسن: أنه يعود باللائمة على ربهِ، يذكر المصائب وينسى النِّعم إلى غير ذلك مما جاء عن الصحابة والتابعين في تفسير معنى الكنود.
(إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُود (6)) وهي مشهورة في لغة العرب، في لغة مُضَر وربيعة (الكنود) الكفور، وفي لغة كِندا وحضرموت (الكنود) العاصي والعاصي كفور جاحد، (إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6))، وفي هذا تنبيه أن عامة الناس يعيشون على هذا، ولذا قال في الآية ألأخرى (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ:13]
قال سيدنا الفضيل بن عياض:
وهذا ينطبق على الناس فيما بينهم بعضهم لبعض، أما الحق فما صدر منه لعباده إلا الخير والإحسان، وكل من أُخِذَ بشيء أو أصابه شيء، فما في قدرة الأكبر من ذلك وما يستحقه أشد من ذلك (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ) [النحل:61]، وقال: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم:41]. حتى ليس ما علموا (بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، وإنما تَنَزَّل الحق تعالى في قرآنه على بعض التسميات بما اعتاد الناس الكلام فيها وخاطبهم بها -سبحانه وتعالى،- كما سمّى ما يُصِيب المُجاهد من جرح وتعب وسوء، وليس بذلك بسوء -جَرْياً على عادة الناس- قال: (فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) [آل عمران: 174]، مع أنه ما من كَلِم يُكْلَمُه المجاهد في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة؛ اللون لون الدم، والريح ريح المسك. فأين السوء؟ ما هناك سوء أصلاً.
ولذا قال سيدنا عبد الله بن عمرو بن حرام لما تقابل مع بعض الكفار فتربص به أحد الكفار من ورائه، فأرسل عليه سهماً من ظهره فخرج من بين ثدييه في أمامه، فتلقَّى الدم بيديه الخارج من باطنه، ثم طَيَّرَ به، يقول: فُزتُ ورب الكعبة، فُزتُ ورب الكعبة. يقول هذا الكافر، ما هذا؟ بماذا فاز هذا؟ أنا قتلته وانتصرت عليه وأمِتَّه ثم يقول: فزت ورب الكعبة، وكان أسلم بعد ذلك، يقول: فاز ورب الكعبة، إنه فاز في ذلك اليوم، أنا ظنيت نفسي فزتُ لكن والله هو الذي فاز في ذلك اليوم، فزت ورب الكعبة، فما هناك سوء ولكن جاء الجري، كما جاء الجري (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ) [الأنفال:30]، (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا) [الطارق:15] جرْياً مع ألسنة الناس ومفاهيمهم لتقريب الفهم إليهم، والأمر أجلُّ وأكبر.
يقول سبحانه وتعالى: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)) جَحود.
والشكور من الناس على درجات ومراتب وأعظمهم شكرًا للرب رسوله المصطفى محمد ﷺ قال: "أفلا أكون عبدا شكورا"؛ وكُل الشاكرين تحت لوائه يوم القيامة، ومع ذلك فهو المُتذلل المُنكسر المُعترف للرب جلّ جلاله، إذًا فلا يمكن أن يقوم بحق الله على الكمال والتمام كما ينبغي أحدٌ من خَلقه، كيف يمكن!! خَلقُه من خَلقِه من صنعه؟ كيف هم وأعمالهم هذا لا يُمكن، ولكن يَصِلون إلى المراتب التي أَعَدَّها الله، واعتبرها منهم شُكراً، وأعطاهم من الطاقة ما يَتَوصّلون إليه وبس هذا هو، أعدَّهُ شكر وقَبِلَهُ منهم.
أما أن يقوم أحدهم... كيف يعني؟! هو خلقك أصلاً بتصلِّح ما تصلِّح، من أين؟ يا عدَمْ أنت عدَمْ، ما أنت شيء، ما يتأتى أن تقابله، كيف تقابله؟ بحقه جلّ جلاله، ولكن بما رضي به منك، بما أقدرك عليه؛
(لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا..) [البقرة:286]،
(يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة:186]،
(لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا..) [الطلاق:7]،
حتى أنه أبعد المشقة عليك، الذي لا تقدر عليه وفيه مشقة، قال لك أنت مسامح.
والذين مَنَّ عليهم بذوق حلاوة الاقتراب إليه، صارت المشقات لهم لذائذ، فصرنا مجازاً نُسميهم تكبدوا المشقات ولكنهم في حلاوة، يقولون: "لو يعلم الملوك ما نحن فيه بالليل، لجالدونا عليه بالسيوف" ما عرفوا إلا لذة المُلك القصير الحقير، وشيء من متاع الدنيا الفاني هذا ما يساوي شيء عند ما نجده من اللذة والروح والريحان في مناجاتنا للرحمن، فلو انكشف الحجاب ورأوا ماعندنا عندنا، لبطّلوا رغبتهم في المُلك ورغبتهم في الشيء الحقير ولجالدونا عليه بالسيوف، ولكن محجوبين عن ذلك وهم لا يطلبونه، والعوام عندنا يقولون: "ما يثمّنك إلا من يعرفك"، الذي ما يعرفك ما عَرف لك ثمن، ولو عُرِضَ نعنع على طفل أوجوهرة لقدَّمَ النعنع واختارها أو اللعبة، ورمَّى لك الجوهرة، ما يعرف لها قدر ويرى أنَّ هذه أحسن له، يرى أن هذه اللُعبة والنعنع أحسن له من الجوهرة، وما يدري كم قيمة الجوهرة أنها بتملّي بيته نعانِع ولُعُب وزيادة، ما يعرف هذا. وهكذا شأن أهل الدنيا هم أقل فقهاً في الحقائق من الأطفال بالنسبة للجواهر.
فلذا أرباب القُرب من الله يرثونهم ويضحكون عليهم ويقولون لهم: مساكين، ولذا سمعت العارف بالله يرثي حال أهل الدنيا يقول: "مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا ولم يذوقوا ألذ شيء فيها" قالوا ما هو ألذ شيء فيها؟ قال: "معرفة الله" مساكين قال: ذهبوا، إما وراء مال أو سُمعة أو شهرة أوجاه أوسلطان، وظنوا أنه شيء، ما هو شيء، عندما يُذَاق من حلاوة الإيمان. الله يذيقنا لذة القرب منه.
(إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ لَشَهِيدٌ (7))، ذكرنا أن الإنسان تقوم الشواهد على جحود هذا ويشهد على نفسه بذلك، لأن الأمر ظاهر لا يستطيع أن ينكره، هذا واحد.
والمعنى الثاني: أعادوا الضمير (وَإِنَّهُ) أي: وإن الله تعالى، (إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ ..(7)) يعني ربه (عَلَىٰ ذَٰلِكَ) على كنود هذا الإنسان (لَشَهِيدٌ) شاهدٌ على ذلك، فهو يُحذِّر بعلمه واطِّلاعه؛ أن لا تغتر ولا تجحد ولا تُكَابِر، أنا أشهد وأعلم (وَإِنَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ لَشَهِيدٌ (7)).
ولكن اتفقوا في أن الضمير الذي في الآية التي بعدها يعود على الإنسان: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)) وذكرنا أن المراد بالخير هنا: المال، كما قال في الآية الأخرى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ..) [البقرة:180]، (إن ترك خيراً) يعني مالاً، وإن كانت الوصية لمن عنده مال واجبة للوالدين والأقربين، ثم رُفِعَ وجوبها وفرضها بآيات المواريث ترتيب الإرث ومُنِعَت الوصية لوارث، وقيل يأثم فاعلها ولا تُنَفَّذ إلا برضى بقية الورثة، "لا وصية لوارث"؛ لأن الله قد قَسَّم وأعطى كُلاً نصيبه.
(وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)) شديد المحبة للمال، وهو واقع أو لا ؟ في أحوال مُختَلف الناس إلا الأزكياء، وقد وصل بعضهم إلى البيت يقول لولده: تعال انظر هذا سيلسعنا! ماهذه المصيبة عندي هنا؟ جاءوا وجدوا واحد ربط في ردائه قرشين من الفضة، ما هذا؟إنها مثل العقارب؟ ما هذا؟ قالوا: هذه قروش، قال: خذوها أحِسَّ بها كالعقرب تلسع.
فهذا نوع ثاني، فهم أصلهم بشر ولكن بالتهذيب والتزكية تحوَّلوا إلى طبع كأنهم ملائكة، وهكذا شأن النفس بالتهذيبِ والتزكية تتحول شيء ثاني، ولذا يتبادر الملأ الأعلى إلى خدمة هذا الإنسان التقي النَّقي الذي يتغيّر في مَسلكه عن أصل الطبيعة إلى كمالٍ إنسانيٍ يقوم على نور الشريعة.. -الله أكبر- فتنحَلُّ عنه ظلمات الطَّبع والأكوان.
يقول: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8))، حتى مثَّل النبي حال عامة النفوس البشرية في هذا فقال: "لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب لابتغى إليه ثان" -يبغى واحد ثاني- "ولو كان له ثانٍ لابتغى إليه ثالث" -عاده يبغى- "ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب" وهذا هو الواقع.
ولذا تجد في مُختَلف الأزمنة في الغالب في مُختلف الأجناس من الأمم البشرية في الغالب، مَن يكون ذا غِنَىً مُفرِط، ومَن يكون ذا فقر مُدقِع في الوقت نفسه، وسمعت أن بعض الذين يحافظون على أسعار بعض المواد عندهم يرمون المواد النافعة في البحار والناس يموتون من الجوع في أماكن كثيرة ما يرضون يعطونهم مِن أجل المحافظة على سعر مادتهم اقتصادياً! لا أخلاقياً لا إنسانياً! ما هذا الاقتصاد؟! الاقتصاد مع الأنبياء صلوات الله عليهم هم الذين علمونا كيف نقتصد، أمّا تتخلى عن الإنسانية والأخلاقية كلها ويقولك اقتصاد! مصيبة! فتجد في الوقت الواحد وفي البلد الواحد صاحب الثراء المُفرّط وصاحب الفقر المُدقِع معاً.
وقد سمعنا فرح النبي بأوصاف المُتكاملين والمُتكافئين والذي يعود بعضهم على بعض وكان يحث الأمة عليه، يقول: "من كان له عنده فضل زاد فليُعد به على مَن لا زاد له، من كان عنده فضل ظهر فليعُد به على مَن لا ظهر له" ولذا قال: "إن الأشعريين إذا أصابهم شِدَّة أو كانوا في السفر فأرملوا جمعوا ما عندهم من الأزواد فاقتسموها بينهم بالسَّوية فهم مني وأنا منهم"؛ لأنهم يتكافلون ويُكَمِّل بعضهم بعض ويعود بعضهم على بعض ويجود بضعهم على بعض، فهذه الصفات المحبوبة لله، وهي من خير ما يعيش عليه الناس على ظهر الارض.
ولذا كان السلطان عبد الله بن راشد في الوادي هنا، يفتخر بأنه سلطنته من العقاد وراء شبام هناك إلى "شعب النبي هود" لا يوجد فيهم سارق ولا محتاج ولا حرام يقول:"من طرف السلطنة الى طرف السلطنة." لماذا؟ قال "لمواساة الأغنياء للفقراء"، ثم ما عاد تركوا حد ؛ يعانيمن الفقر؛ صاروا كلهم متقاسمين، فكان يفتخر يقول: لو يفكر إنسان يأخذ حرام يصعب عليه وجود الحرام في السلطنة كلها من طرفها إلى طرفها ولا يجد سارق ولا يجد محتاج "لمواساة الأغنياء للفقراء" فذي فترة من الزمن عجيبة كانت.
وهكذا الذي حصَل منه آثار في أيام سيدنا عمر بن عبد العزيز مع قِصَر فترته عَظُمت آثاره في واقع الأمة على مدى ومُتَّسَع بعيد -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-،
وتحصل البركات أيضاً في أيام الإمام المهدي حتى يُنادي مناديه "مَن كان له حاجة فليأت" ويأتيه رجل فيقول: اذهب إلى الخازن فيأتي إليه يقول: أنا أرسلني إليك المهدي، يقول تفضل خذ ما تقدر تحمله من الذهب، فيَحمِل، فإذا مشى خطوات قُذِفَ الزُّهد في قلبه ويقول: أنا كنت أشجع أمة محمد ! ما احد جاء لما نادى المنادي إلا أنا! أنا شجع طَمِع!، فيرجع إلى الخازن يقوله: رد ما أريد هذا الذهب، قال: ونحن أخرجناه ما نعود به، يقول: أنا ما أريد، يقول: ما ممكن نرجع فيه خذه. يقول: أين أذهب؟! يقول: ما نرجع فيه، قد خرج من عندنا ما نرجعه!.
سبحان الله ! أين هذا من الجشع والطمع اليوم الذين صاروا من أجل الجشع في سُلطة أو في مال لا يبالون بنفوس الخلق! دماء الخلق، أعظم شيء، أغلى شيء أكبر ما يكون عليه الجزاء في الآخرة وأول ما يحاسب الناس عليه! ما يبالي! طمعان في سُلطة، طمعان في مال، طمعان في شيء من أفكاره، دعهم ينقتلون حتى مائة ألف حتى مليون! وهي رخيصة عندك لكن عند ربها ماهي رخيصة سترى الحساب بعد ذلك.
ولذا يقال الله تعالى أوحى إلى النبي داود لمّا أراد أن يُعمّر بيت المقدس أوحى الله إليه " إني لأجري عمارته على يدك"
أنفس كثير زهقت على يدك، قال يا ربي أليس ذلك في سبيلك؟ قال "بلى في سبيلي وأنت مرضي عندي ولكنهم عبادي"، ولكن أجعل عمارته على يد ابنك بيكون هو، فكان على يد ولده سليمان النبي، هذا جهاد في سبيل الله ومع ذلك قال الله بس نوقفك هنا، ما يكون بناء المسجد على يدك لأنك كثير على يدك قُتلوا، يقول: يا ربِّ أليس في سبيلك؟ بلى في سبيلي ولكنهم عبادي أو لا؟ عبادي -جلّ جلاله-، وهذا ما يُبالي في غرضه ومقصده حتى بدماء الناس والعياذ بالله تبارك وتعالى!.
بل قال بعض أهل الجشع، يظهر أنهم في عصر التقدم والتطور هذا يفكرون أنه من أجل بعض المصالح يمكن أن نخطط لهلاك ثُلث العالم! ما هذا التفكير الغريب! ما هذا التفكير الغريب..! بل صار الفخر عندهم بمُلك أسلحة الدمار! دمار؟! دمار، تعرف الدمار؟! دمار شامل وهم يقولون كذا! والتسابق على ذلك والفخر به! ملكي لن يأخذه أحد أوووه! هذا التقدم الإنساني والتطور هكذا؟! والغافلين يصفقون، ما هذا؟! هذا دمار للبشرية والإنسانيه وافتخار به، وقال لك هذا هو التقدم وهذا هو التطور! -لا إله إلا الله-، الله يُنقذ البشرية ويُنقذ المسلمين ويجعل ثقتهم به واعتمادهم عليه ويدفع عنهم جميع الشرور.
يقول: (وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)) وذكرنا المعنى الثاني أنه: بسبب حب المال شديدٌ مُمسكٌ بخيل يصعب عليه الإنفاق وإخراج المال لوجه الله تعالى، وكلما كان الإنفاق أخلَص لوجه الله كان أشق على نفسه وأثقل، وكل ما كان أشق وأثقل على النفس كان أثقل في الميزان عند الوضع.. سمعت؟ فلذلك تَثْقُفل موازين أهل الإخلاص لوجه الله، وأهل الخُلُق الحَسَن، فلذا: "مِن أثقل ما يوضع في الميزان يوم القيامة الخُلُق الحَسَن".
يقول سبحانه وتعالى: خذ لك ثلاثة مقابل هذه الثلاثة اللي أقسم بها، هؤلاء الإنسان الكنود والشهيد على نفسه بذلك -والله شاهد عليه- والشديد في حب المال.
ولذا يقول بعضهم: جاهدتُ نفسي وقلت لها هذه الأشياء يجب أن تتخلي عنها تقول نعم، وهي قبيحة وسيئة تقول نعم، واجب تعملي كذا تقول نعم، قال ولا تعمل؟! قال ذكَّرتها بالآيات وذكرتها بالأحاديث تقول طيب وما تعمل، إلى أن صوّرت لها الموت ذكَّرتها أنه أمامها رجعت تُطيع، تسمع الكلام تنقاد، لما تتذكر أنه الموت تقف تمسك عن غَيّها.
(أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ(9))، (بُعثِر) نُبِشَ وجُمِعَ وأُخرِج ما في القبور، فإن الله يُعيد الأجسام كلها التي دُفنت على ظهر الأرض للإنسان والحيوان، والأجسام أيضاً التي هي من النار للجن، كلها تتجّمع، فتبقى الأرض ملآنة بهذه، فتُبَعثَر عند النفخة الثانية يقومون (..إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9))
ما قال: مَن في القبور، قال: (مَا فِي الْقُبُورِ) لأن نسبة الحيوان غير العاقل أكثرَ من نسبة الإنسان قليل، فغلَّبها هذه عليه، كلهم يُبعَثر ما في القبور هذا وهذا، (..إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9)) -مِن جميع الموتى- (أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ(9)) أُخرجوا وقاموا وانتشروا من قبورهم.. -الله-.
(وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10)) أنت الذي كنت تشهد على نفسك؛ أيها الكنود يُبَعثَر ما في القبور، أيها الذي تشهد على نفسك وربك عليك شهيد بالكَنَد الآن (وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10)) ما كان مُنطوياً وسط الصدور مَخفياً (حُصِّل) جُمِع وبُرِز. (حُصِّل) ظَهَر وبَرَز وتَميّز، المُحَصِّل الذي يجمع الأشياء يحصلها يوضحها.
(وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10))، في قراءة شاذة (وحَصَل ما في الصدور) -أي بَرَز وبَان- (وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10)) جُمِع وأُبرِز وأُظهِر. والمعنى: أنَّ ما كان غيبا ومستوراً للناس في عالم الدنيا انكشف اليوم (لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [ق:22]، قال سبحانه وتعالى: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة:18] ، فيُحَصَّل ما كانت تُكنِّه الصدور.
وباقي أعمال الجوارح؟ هي ألا تبَع، ما مِن انطلاقة للجارحة في عمل إلا وأصلها في الصدر، فلهذا ذكَر (مَا فِي الصُّدُورِ (10))؛ لأنها الأصل، ولذا قال بل وقعت محل المدح (مَا فِي الصُّدُورِ) هو القلب والقلب محل الذنب كذلك، يقول: (فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) [البقرة : 283] محل الذنب متعلق بهذا القلب وشأن الباطن، ويقول: (فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) [الفتح : 18] يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك.
(وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10))، اليوم داخل مُستَكِن وتكتمه عن ذا وتكتمه عن ذا وتحضر به المجلس الفلاني والمجلس الفلاني وغداً مكشوفاً مفتوحا واضحاً بيّنَاً مُحَصَّلاً، فَصَلِّح نفسك من الآن فإن هذا وجهك الذي تُحَسِّنه هو وجهٌ في الدنيا أما في الآخرة وجهك ذاك الذي في صدرك، والذي في صدرك هو وجهك الذي تظهر به.
(وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ(10)) اللهم اجعل سرائرنا خيرا من علانيَّاتنا واجعل علانياتنا صالحة.
(وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ(10)) يا مَن يُحِبُّ الخير والمال محبةً شديدةً ويبخل بإنفاقه، عند ذاك اليوم وفي ذاك الحكم يحكم الخبيرُ العليمُ بنفسه الذي أحاط علماً بك، فلو استشعرتَ عِلْمُهُ لتطهَّرت من داء بُخلك وحرصك على المال؛
فأتى بثلاثة مُقابل ثلاثة :
ثلاثة، مقابلها: (أَفَلَا يَعْلَمُ ..) يتعالج من هذه لمصائب الثلاثة
فالثلاثة هذه تُنقذ الإنسان من هذه الثلاثة وإلا وَقَعَ فيها بِقَسَمِ الله تبارك وتعالى.
فالله يرزقنا ذكره الدائم واستحضار اطّلاعه علينا وتذكّرنا لتحصِيلِ ما في صدورنا وبروزه يوم القيامة (يَوْمَ هُم بَارِزُونَ ۖ لَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ ۚ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ۖ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر:16]؛ وحينئذٍ الأمر واضح للكل، ولكن المؤمن الصادق مِنَّا حتى من الآن نحن نصبح ونمسي في خلال حياتنا الدنيا وأيامها المحدودة لنا، لمن المُلك؟ أيضًا هو لله، خلِّ أهل الغفلة وأهل الحجاب يقولون الملك للدولة الفلانية والدولة الفلانية ومدري مَن مِن هنا ومدري مَن مِن هنا، هؤلاء عبيد مُسَيّرين مُسَخَّرين ملكهم مجازيٌّ محصورٌ منتهٍ قاصر قليل من جملة المتاع القليل، لكن المُلُك في الحقيقة سواء في القيامة أو اليوم (لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) (لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) (لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ).
يا مالك الملك (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ) وذا الحين قبل يوم القيامة (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء) هناك ولا هنا؟ (وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران :26]، هذا هو المَلِك حقيقة -جلّ جلاله-، آمنا به وبما أنزله وبمَن أرسله وبخاتم رسله وما جاء به عنه، وسألنا الله أن يرزقنا الثباتَ على ذاك الإيمان حتى نلقاه وهو راضٍ عنَّا، إنه هو أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
الإجابة على الأسئلة:
أما تفسير الخير بغير المال في الآية ما له وجه ولا ورد عن أحد من الصحابة والتابعين. الخير هو المال. أما إنما المال عممه بعضهم على أغراض الدنيا كالجاه والسلطان وما إلى ذلك من متاع الدنيا(وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8))، وأما بعض العوام يستشعر ثقل فعل الخير على نفسه يقول: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8))؛ يقصد فعل الطاعات وليس هو محل الآية، إنما "حُفَّت الجنة بالمكاره وحُفَّت النار بالشهوات" صحيح لكن الآية ما ترد في هذا المعنى ولا تجي في هذا المكان.
يا الله بالتوفيق، بنظر الله وعنايته الله لنا ولكم وجوده علينا وعليكم، ويبارك لنا ولكم في هذه الأيام وأن تلحقنا وتتابعنا آثار وبركات رمضان في شوال وما بعده إن شاء الله ونجني ثمارها طول الحياة وبعد الوفاة، ويجعلنا وإيّاكم من أهل الصدق معه وأهل الإقبال عليه، والذين يظهر عليهم سِّرُّ الصوم ونور الصوم وبركات الصوم وسر القيام ونور القيام وبركة القيام وأثر القيام وأثر الطاعات في حسِّنا ومَعنانَا ظاهرِنا وخفايانا وأقوالِنا وأفعالِنا، ويجعلنا وإيّاكم متحابين فيه مجتمعين على ما يُرضيه مقبولين لديه.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
07 شوّال 1435