(228)
(536)
(574)
(311)
تفسير الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لسورة الفاتحة وقصار السور بدار المصطفى ضمن دروس الدورة الصيفية العشرين في شهر رمضان المبارك من العام 1435هـ.
﷽
(وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) )
الحمد للهِ مُكرمنا بإكمال العِدَّة، والله يكتب لنا تمامَ القَبول ويجعله لنا للقائه عُدَّة، وينظر إلينا وإلى الصائمين والقائمين في رمضان نَظَرَ الرضا والرحمة والمحبة، ويُدخلنا جميعًا في رحاب الصالحين الأحبة، نتوجَّهُ إليه أن يَقبل ما كان مِن صيامٍ ومِن قيامٍ ومِن أعمالٍ صالحةٍ وأن يُخَلِّصَها عن جميع الشوائبِ التي عَلِقَت بها، وأن يُصَفِّيَها ويَنْتَقِيَهَا ويُدرجها في أعمالِ أهلِ حقيقةِ التوحيدِ وأعمالِ المقربينَ مِن عباد اللهِ الصالحين وأعمال عبده المصطفى الأمين سيدنا محمد ﷺ وأن يجعلَ لقبولِنا في رمضان معانٍ واسعاتٍ فيما يتعلق بصدورِنا وقلوبِنا ووُجْهَاتِنا ونيَّاتِنا بعد رمضان، وأعمالِنا وإقبالِنا ورغباتِنا، فتكون عُلْوِيَّة شريفة عَلِيَّة سَنِيَّة؛ نزدادُ رغبة في الخير وحضورا لمجامعِ الخير، فيكون علامة مِن علامات القبولِ في رمضان، (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة:127]، (وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أنتَ التَّوَابُ الرَّحيم) [البقرة: 128].
ونُواصل التأمّلَ في آياتِ القرآن، الذي ابتدأ إنزاله في شهرِ رمضان، ثم صار يَنزل على نبيِّنا في مُختلف الأشهر والأمكنة إلى أن نزلت آخر آية قبل وفاته ﷺ بتسعِ ليال، وكانت آية مِن سورة البقرة أمرَ بإثباتِها في موضعِها، وهي قوله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تَرْجِعُونَ فِيهِ) [البقرة : 281] وفي قراءة: (تُرْجَعُونَ فِيهِ) (..إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)، رزقنا الله تبارك وتعالى الاستعداد لذاك اليوم واِتَّقَاءَ شرِّه (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281].
وقد تأمَّلنا سُوراً؛ الفاتحة ثم مِن سورة الناس وما قبلها إلى سورة القارعة، ووصلنا إلى سورةِ العاديات.
فجاء القَسمُ بالعاديات -العَدُو: هو الإسراع في المشي والجري- والعاديات: المُسْرِعَات في السَّير، والموريات: القَدْح، والمُغِيرات بالصبح، والباعثات المثيرات للنقع: وهو الغبار المُتَوسِّطَات في الجمع. فما معنى ذلك؟ ..
أقسمَ الله بهذه الأشياء، أقسم بـ:
(الْعَادِيَاتِ ضَبْحًا): فالقولُ الأول أنَّ المُرادَ بها: الخيول التي تُعَدُّ للجهادِ في سبيلِ الله فيُجرى عليها في الخروجِ في الغزوات فتعدو ضَبْحاً،
الضبحُ: أصواتها عند الجري ُيمثِّله ابن عباس قال: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)) أي: تضبحُ ضَبْحَاً مِن شدةِ عَدْوِهَا وجَرْيِهَا، واحد.
(فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2)): يُورِدْنَ قدح زِنَادِ النار فإنَّهن عند الجري في أماكن الأحجار في الجبال تُلقِي مِن شدة وطأها الحجر على الحجر فتقدح فيها فيخرج القَبَس فيشتعل.
(فَالْمُغِيرَاتِ): على العدوِّ المعاند المضاد للحق ورسولِهِ. (صُبْحًا): في الصباح كما هو عادةُ الإغارة، يُرَتِّبُون أنفسهم في الليل لئلا يعلم بهم العدو ويهجمون عليهم في الصباح. (فَالْمُغِيرَاتِ): وإنما يَغِيرُ الراكبون عليهم ولكن لكونها عُدَّة في الإغارة نُسِبَت الإغارة إليهنَّ –الخيول-. وقيلَ: (فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3)) وهُن غِرْنَ، وإلا الجيش الي راكب عليها -الجيش- الناس هم الذين أغاروا، ولكن لما كانت هي وسيلتهم القوية في الإغارة وعُدَّتُهم نُسِبَت الإغارة إليها، وهذا الذي يُسمى باللغة باستعمال المجاز، يُنسَبُ الفعل لمن كان سببا فيه ولمن تَوَسَّط به ولمن كان له فيه ضِلْعٌ وإن لم يكن عين الفاعل.
(فَأَثَرْنَ بِهِ..): بذلك العَدْوِ (نَقْعًا(4)): غُبَارَاً. أَثَرْنَ الغبار فأثرن به نقعا. (فَوَسَطْنَ بِهِ..): توسَّطن ودخلن في وسط فيه (جَمْعَاً(5)) جمع العدو. (فَوَسَطْنَ..): صرن وسط ذلك المكان مجموعات. هذا القول الأول في التفسير: أنها الخيول التي يُجَاهَدُ عليها في سبيل الله
ويُروى في ذلك أنَّ سَرِيَةً بعثَها النبي إلى بني كنانة فأبطأ الخبر منهم ولم يأتِ منهم خبر، وانقطعت أخبارهم شهراً وكان المُرْجِفون من المنافقين في المدينة يقولون: قُتِلوا، ماتوا، ما عاد حد يجي من هؤلاء، رَوَّحوا، ولأن مِهنة الإرجاف عند أهل الخلاف مِن المنافقين وأتباعِهم مَن هم في الايمان ضعاف؛ وممن لم يتربّى على أيدي الصالحين الأشراف، فإن عندهم مِهنة الإرجاف كثيرة، يرجفون في كل حادثة وفي كل أمرٍ متوقع يُصَلِّحُون بلبلة كثيرة وكلام كثير، قالوا: هؤلاء ماتوا ولا عاد أحد منهم بيرجع، ونزلَ الوحي يُخبر بأنَّ القوم توجَّهوا وأن الله أقسم بخيولهم الَّتي خرجت في سبيل الله، وأنهم وصلوا إلى عدوِّهم وأنهم أغاروا عليهم في الصباح وأثاروا النقعَ، وأنهم وسطوا به الجمعَ وأن الله نصرهم.
وهذا الحديث المروي لا يَتفق مع ما يقول الجمهور أيضاً مِن أنَّ السورة مكية؛ بينما كانت الإغارات كلها مدنية، ولكن أيضًا قد تكونُ مِن السورِ التي تَكرر نزولها أو أقسم الله بشيءٍ سيكون فيما بعد، كما كانوا يقرأون بمكة (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) [القمر:45]، وكان سيدنا عمر يقول: "كنت اقرأ الآية أقول أيُّ جمع هذا؟ .. فلما كان يوم بدر، سمعت النبي ﷺ وهو خارج إلى القوم يقول: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) تَذكّرت معنى الآية". وكان ذاك الجمعُ على وجه الخصوص وكل تَجَمُّعٍ لمن يُعادي الحق ورسوله (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ) [القمر :45-46] الله يجعلنا مِن أنصارِهِ وأنصارِ رسولِهِ.
ولأن الناس بعد ذلك على مراتب، هم أهل النُّصرة أنفسهم مُفلحون ناجون، وهم على مراتب، ما كل أهل النُّصرة سواء، ولا كل النُّصرة عميقة، ولا كل النُّصرة عظيمة، ولا كل النُّصرة مُستوعبة للقوى؛ ولكن درجات (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) [آلعمران:163]. ومَن يَقْعُد عن النُّصرة فاته مِن الفلاح والفوز شيء عظيم، ثم هم درجات، مَن بَقِي منهم ناصر لنفسِهِ أو لهواهِ مِن دون أن يُضَاد ويخالف شيء من الشريعة، فمع فوت الخير العظيم عليه يُرجى له نجاة وسلامة مِن العذاب، ومن كان مع هذا التقاعد يُضاد ويخالف أو يَنصُر أعداء الحقِّ وأعداء رسوله فهو مِن أهل العذاب وأهل الطَّرْدِ والغضب والعياذ بالله تبارك وتعالى.
والناس هكذا في العالم يعيشون، فاطلب المنزلة العليَّة في نُّصرة الله ونصرة خير البرية، وتكون على الطريقة السَّويِّة، وتغنم من حياتك وعمرك القصير، ما تَحوزُ به المقام العليَّ الكبير، والمُلك الكبير، في دار النعيمِ المُخَلَّد، فلا تبقى مع أهل الغفلة. قال سبحانه وتعالى: (لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ..) [النساء:95]، مِن أين يستوون؟ لا يستوون.. هذا الذي جلس تبع لنفسه وتبع لهواه وتبع لكسلهِ وتبع لرغبته في دنياه يستوي؟! يكون مثل الذي أقدم بالصدق والإخلاص يبذل نفسه وماله لله؟!! (لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ) [النساء :95]
ومع هذا العِتَاب للقاعدين وتنقيص قدرهم عن هؤلاء، فمَعَنَا أيضاً في الآية عبرة أنهم أعدَّهم من المؤمنين، لأنه بعض الناس لمَّا يتعلَّق هو بالجهاد ويكون على غير بصيرة يقول: كل مَن قعد، ما قام معنا في هذا الجهاد فهو خبيث شيطان ما عنده إسلام ما عنده دين ما عنده إيمان ... وهو ربي يقول على القاعدين هؤلاء مع عتابه عليهم سمَّاهُم المؤمنين (لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۚ) ما يستوون.. صح (فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً) [النساء:95-96]، ما يِحَصِّلها هؤلاء القاعدون، الذين يكون حالهم عندما تنكشف لهم نتائج هذا الجهاد ومراتب هؤلاء في الآخرة يَوَدُّون أنهم قُطِّعُوا قطعة قطعة في سبيل الله وما تَخَلَّفُوا عن الجهاد ولكن فاتته الفرصة.. لا يستوون.
بل المجاهدون أنفسهم بأموالهم وأنفسهم ليسوا بسواء، وهم ما يَستوون مع القاعدين، يقول تعالى: (لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا) [الفتح:10]، أنفقوا وقاتلوا أنفقوا وقاتلوا، كلهم أنفقوا وقاتلوا لكن ما يستوون (لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا) وإن كان أنفقوا وقاتلوا لكن بعد هؤلاء لأن أولئك أنفقوا وقاتلوا وقت الشِّدة، وقت الصعوبة، ووقت ما كان ظهور في عالم الحس للإسلام، ولا دولة له ولا مظهر نُصْرَة وانتشار، وكان الداخل يَدخل بإيمان خالِص قوي ومحبة لله ورسوله فيفدي دينه، فهؤلاء (لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ) جاءوا مِن بعد الفتح وقد ظهرت راية الإسلام في كل مَحَل والناس يدخلون في دين الله أفواجاً، يا الله بسم الله أنفقنا..
الآن؟ وكان معك أول الفرصة!! اتفضل وادخل لك الحسنى لكن ما أنت مثل ذاك (..أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ)[الفتح:10] الكل سيدخل الجنة، لكن الجنة هي درجة وحدة هي؟!! الجنة هل هي درجة وحدة؟!! هل هي منزلة واحدة؟!! هي درجات كثيرة.
قال لأم سيدنا أم حارثة: "ويحك أَهَبُلْتِ أم جُننتِ إنها ليست جنة واحدة، إنها جِنَان كثيرة، وإنَّ ابنك أصاب الفردوس الأعلى". فهكذا هم (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ) [آل عمران: 163]؛ فهذه الخيول التي أقسم الله بها لأنها خرجت في سبيله، وهو يُعَرِّضُ بذلك لشأن المجاهدين وفضلهم ومكانتهم.
أنَّ المُراد بـ" الموريات" الجِمال التي تَحمِل الحجيج وتوصلهم إلى عرفة، تمشي بهم من عرفة إلى مزدلفة –وهي جَمْع- ثم إلى منى، وفيه إشارةٌ إلى فضلِ الحجِّ والترغيبِ فيهِ
يُروى أيضاً فيه حديث: " أنَّ مَن قرأ سورة العاديات أُعْطِيَ بأجرِ مَن وقفَ بمزدلفة" وهذا القول الذي يُروى عن سدينا علي بن أبي طالب وجماعة من الصحابة والتابعين، ويُقال أنه رجع إليه ابن عباس لمَّا خاطبه سيدنا علي وكلَّمه، وكان يَفهم أنها الخيول، فقال له: " خرجنا يوم بدر وما معنا إلا فرسان، ولكنها هي تلك الجِمال التي تحملُ الناس إلى عرفة ومن عرفة إلى مزدلفة فإلى منى" تعدو في طريقِها مُسرعةً ماضيةً.
"ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في أنف مسلم". "ولن تمسَّ الناس قدمًا اِغْبَرَّت في سبيل الله"، ولهذا قال سيدنا أبوبكر الصديق في أول خلافته عليه رضوان الله لمَّا ولَّى سيدنا أسامة؛ أنفذ جيش أسامة بعد أن عقد له النبي اللواء، خرج يُودعه.. فكان يمشي سيدنا أسامة راكبا يقول: " اركب يا خليفة رسول الله وأنزل أنا". قال: " لا تنزل أنت ولا أركب، وما عَلَيَّ أن أُغَبِّر قدميَّ في سبيل الله وقد سمعت النبي يقول: " لن تمسَّ النار قدما اِغْبَرَّت في سبيل الله" دعْ قدمي تغبر من التراب في سبيل الله وأنا ماشي معكم أُشجعكم على لواءٍ عقده لكم رسول الله ﷺ.. رضي الله عنهم.
فصارت معنيان في: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا(5)). وهذا كله قسم أقسم الله به
(إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)) حلف الله بهذه الأشياء: إن هذا الإنسان كنود. كنود: جُحود يَجْحد النِّعمة، يَجحد الفضل، يَجحد ما يُعطَى، يَرَى ما له ويُغَمِّض عمَّا عليه؛ كنود
(إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ..) -المُنعِم المُتَفَضِّل عليه- (لَكَنُودٌ) يَجحد النِّعم ويَنسى. قال بعض أهل المعرفة مِن القرون الأولى قال: لكنود: "يَعُدّ البلايا والمصائب، ولا يَعِدّ النِّعم والرَّاحات والخيرات مهما كانت كثيرة-لا يعدها، لا يحسبها" يرى مُشكلة أو شدة يقول: عندي كذا كذا
وهذا البحر المُتلاطم من النِعم مِن حواليك من كل مكان ما هو شيء؟! ما هو شيء؟ ترى الشِّدة فقط التي وقعت بك؟! وهكذا حال كثير مِن الناس يَنسون نعم الله، فهو كَنُود جحود، وحتى الأرض الذي يُلْقَى إليها البذر ويُلقى إليها الماء ثم تَجْحَد ذلك تُسمى "أرض كَنود" يعني ما تُثمر ما يجي منها الخير.
(إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ(6)) لا يقوم بحقِّ الله، لت يعرف قدر الإنعام عليه مِن الله وقدر الإفضال وقدر الإحسان، خلقهُ مِن عَدَم ليس بشيء، أعطاه سمع وبصر وقوة وصحة وعافية.. وبعد ذلك يقول: وهذا لماذا؟ .. وكيف كذا! ويتكاسل عن الخير، كَنُود (قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ) [عبس:17] -يجحد النعم- (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل :78] (إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6))
ولذا كان يسألنا بعض الأفاضل عن الفرح بالعيد في مثل أوضاع يكون فيها كثير من المسلمين، وجِهات من المسلمين في الشِّدة. وهذا لاتِباع السُّنة، والسُّنة قامت على شهودِ المِنَّة لله تعالى، وأن النبي ﷺ كان يُظهر الفرح في الأعياد، والمشاكل من حواليه كانت كثيرة، والقِتاَل قائم، والمُستَضعفين في مكة وإلى غير ذلك من المُشكِلات، وكان يَقوم بالأفراح في أعياده ﷺ ولا يَجحَد النِّعم.
ولمَّا عمل الصُّلح في الحُديبية وقَبِلُه، ورأوا فيه أنه فيه غمص لَحقِّهم، ذكَّرهم بما انطوى عليه مِن نِعَم أَوَلِيَّة مباشرة، وكان جماعة مِن الصحابة يذكرون للنبيﷺ، قال لهم : " كان أحدكم يَوَدُّ رؤية مكة والنزول بها فلا يستطيع، والآن تستطيعون؟" قالوا: نعم. قال: "أحدكم كان لا يمشي إلى موضع كذا إلا بالسلاح والآن يمشي من غير شيء؟" قالوا: نعم، قال: "وكنتم ما تستطيعون .." قالوا: يا رسول الله ما فَكرنا في هذا. فضمن الحوادث والشؤون كلها نِعَم مطويّة، ولا يخلو مؤمن مِن عجائب مِن نِعَمِ الله عليه في كُلِّ آنٍ ولو في أشدِّ الأحوالِ.
ومرَّ مَن مَر على بعض الصالحين وإذا به مُقْعَد مِن شدة المرض وعنده أعمى، وعنده أنواع من الأمراض ويقول: "الحمد لله على ما وهبت، الحمد لله على ما أعطيت" قال له: يا هذا ماذا أعطاك ووهبك؟ وأنت قاعد تعبان مريض في حال ما تقدر تقوم ولا تمشي ولا...؟!. قال: أعطاني قلبًا يَشكرهُ ولسانًا يَذكرهُ" ما مِقدار النِّعمة هذه وكم قدرها؟ ما تعرف يا قليل الأدب؟ تريدنا أَجحد نِّعمة ربي؟!
وهكذا، ذَكَر النبي لنا للإعتبار وإدراك الحقائق هذه الواقعة: أنَّ عابد مِن عُبَّاد بني إسرائيل عبد الله خمسمائة عام، عبادة متواصلة خمسمائة عام! خمسمائة عام! زمن كم؟ زمن خمس وعشرين جَد مِن أجدادنا إلى الآن، أعمارنا كلها سيأخذها، أووه كم عمر معه؟ عبادة مستمرة خمسمائة عام.. ثم يقول الله: "أُدخُل الجنة برحمتي" يقول: بعملي يا ربّ. يقول: " أُدخُل الجنة برحمتي" يقول: بعملي يا ربّ، يقول: "حاسِبوه"، فيبدأون محاسبته على نعمة البصر، تذهب سنة بعد سنة، أنهى خمسمائة سنة عاد ما كَمَّلوا نِّعمة البصر! وعاد شيء نِعَم ثانية ولا ما عاد شيء؟ أوه باقي كثير نعم. قالوا: يا ربنا ما وَفَت عبادته بنعمتك عليه بنعمة البصر.
وفي بعض الروايات: عُشُر نعمة البصر! قال: "اذهبوا به إلى النار"، فتأتي الملائكة تحمله، قال: يا رب أدخلني الجنة برحمتك. فيقول الله: "أدخلوا عبدي الجنة برحمتي ونعم العبد عبدي" يمدحهُ! وقد طلع في الحساب ما عاد شيء، كله انتهى.. وقعد يمدحه -سبحانه تعالى- ويُثني عليه، والفضل لله، هو المُتفضل سبحانه (إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)).
ولقد سمعتم قصة الصَّالح الذي جلس تحت شجرة واستظل وأخرج له كيس وكوز ماء، وصَبّ من الماء وخرهـَج الكِسْرَة اليابسة من وسط الكيس، وبلَّل الكسرة من الماء مِن شان يَستسيغها الخُصَار الذي معه، وأخذ يبلعها، وأخذ يترنَّم بأبيات يصلِّح شعر، يغني مبسوط.. حتى وقع عِبرة لبعض المُلوك يراه في هذا الحال، وهو وسط الأَسِرَّة والفرش الوطيئة يتكلَّف النوم ما يجيئه النوم إلا بتعب، وهذا قعد أكل وشرب وغنى ونام، مبسوط فوق التراب تحت الشجرة، قال لبعض الجنود: إذا قام هذا هاتوه إليّ. حَمَلُوه وقالوا له المَلك يريدك، قال :أنا ما لي حاجة بالمَلك. قالوا: المَلك طلبك تجيئه وأُمرنا .. دخل سَلَّم عليه ..قال: ماذا كنت تقول؟ قال : أردد أبيات قلتها، ماذا قلت ؟. قال: قلتُ، خُبْزٌ وَمَاءٌ وظِلُّ هذا النَّعيمُ الأَجَلُّ، هذا ما يجحد، هذا إنسان غير كَنود..
خُبْزٌ وَمَاءٌ وظِلُّ هذا النَّعيمُ الأَجَلُّ *** جَحَدْتُ نِعْمَةَ رَبِّي إِنْ قُلْتُ إني مُقِلُّ
إذا قُلتُّ أنا من المُقلِّين، من الفقراء أنا جَحود! قال: عجيب وتَنام مُرتاح؟! قال: الحمد لله
دخَلُوا للملك شَرْبَة ماء. قال: يا حضرة المَلِك، لو لم تجد هذه الشَّرْبَة إلا بنصف مُلكك أكنت تؤدِّيه؟ قال: لو حَصَل ذلك أفأهلك من دون ماء؟!! سأُسَلِّم نصف المُلك. قال: ولو شربتها فتَعَسَّر عليك البول ولم يخرج بولها إلا بنصف المُلك الثاني، أكنتَ تُسَلِّمُه؟ قال: لو حَصَل مثل ذلك أفأبقى بوجعي وتعبي؟، أسلِّم نصفه. قال: فَأُفٍّ لدنيا لا تُساوي شَرْبَة وبولةٍ، لو اختبرك الله بِشَرْبَةٍ وبَوْلَةٍ سيذهب ملكك هذا كله فيها،- لا إله إلا هو-، فاعتبَر وادَّكَر بكلامه هذا، كان يغني تحت الشجرة :
خُبْزٌ وَمَاءٌ وظِلُّ هذا النَّعيمُ الأَجَلُّ *** جَحَدْتُ نِعْمَةَ رَبِّي إِنْ قُلْتُ إني مُقِلُّ
وسادتنا الصحابة قبلهُ؛ التمرة اكتفوا بها، وبعض الأيام ما حصَّلوا حتى التمرة ولا جحدوا نِعم ربهم. جيش كامل يرسله ﷺ في سَرِيَّة والزَّاد، النفقة كاملة حق الجيش: جِرَابُ تمر، هذا الذي كان عند النبي، ولا أحد منهم –لا أمير الجيش ولا أفراد الجيش- يقولون طيب هذا سيكفي كم يوم؟ وبعد ذلك ماذا نفعل؟ وماذا نأكل؟ ومن أين ناكل، ومسيرة أسابيع نروح ونرجع، فكان يعطيهم في اليوم ثلاث تمرات يُمَوِّن عليهم التمر، كل واحد ثلاث تمرات في اليوم، .. ثلاث تمرات!
بعد ذلك نقص التمر، لايوجد زاد ثاني، حَصَّل تمرة واحدة. فكان بعضهم يقول لأصحابه لما ذكروا القصة: ما تغنيكم التمرة ؟! قال: تمرة وجدناها إن فقدناها، لما فقدناها حسينا بأثرها ونَودُ حتى تمرة نمُصُّها، يَمصها يِنَقِّع ريقه تحليِّه ثم تنتهي التمرة فتكسبه قوة في الجسد،
فأرسل الله لهم بعد ذلك حُوتْ كبير من البحر، فصاروا يقطعون منه يشوونه ويأكلون، قالوا سَمُنَّا، صِحَّة الأجساد التي عندهم، كان أدنى شيء من الطعام يُحرك فيهم، لأنهم على صحة في أجسادهم وعلى نقاء عن هذه المايكروبات والمواد الضارة -أجساد نظيفة، تأكل أكل صحيح طبيعي ولا تُسرف- فصار هؤلاء أيام وقد ظهر السمَن فيهم، ويقطِّعون من هذا الحُوتْ، حُوتْ في مِقْوَر العين دخلوا أربعة عشر رجل! هذه عين الحُوتْ، وأخذ بعضهم أصغر ضِلع من أضلاعه ووضعه في الأرض وجاء إلى أطول راحلة وأطول رجل ركب على الراحلة.. قال مُرْ تحته، مَرَّ تحته ما وصل إليه، أصغر ضلع من أضلاع الحوت! فكان رزق ساقه الله لهم،أولئك الصابرون الصادقون الذين لا ينزعجون ولا يتبلبلون ويتقلقلون.
يقول حَلَفَ الله تعالى بهذه الذَّوَات المستعان بها على الجهاد في سبيله وعلى الحج إلى بيته حلف (إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)) يجحد نعمة الله.
كان يقول الحبيب علوي بن شهاب عليه رحمة الله : "حتى الصبي الصغير يكون معه قليل من المال، وبعد ذلك يضيع عليه في طريقه أو يسقط عليه في مكان، قال لاحظه كل ما يَمُر في الطريق يتْشَوَّف "عسى عاد يحَصِّلُه ولا عاد شيء وكل ما ضاع يقول أنا درهم سقط علي وإلا ضاع علي ما عاد حَصَّلْتُه، مِن تعلُّق القلب بأمر المال (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)).
والمعنى الثاني (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ(8)): يعني بسبب محبته للمال (لَشَدِيدٌ) بخيلٌ مُمسك، لشدة محبته للمال يَبْخَل عن إنفاقه، إلا لما يكون للنفس غرض ما شاء الله، تمام بسرعة بسهولة يخرج، ماشي غرض إلا خالص لوجه الله كذا.. صعب يَصعُب عليه! لكن الذين تزَكُّوا وتصَفُّوا قالوا للنبي: "خذ من أموالنا ما تشاء وأترك ما تشاء، والذي تأخذ أحب إلينا" انظر الى هؤلاء القوم.
ولهذا قال لنا في الآية الأخرى: (إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا *إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ) [المعارج: 19-23]، هؤلاء أهل الأوصاف هذه طبيعتهم تختلف، صفاتهم تنقلب، ما عاد هم مثل غيرهم من الناس، هم ناس ما هم كَمَا كل الناس، الناس كانوا في صفاتهم ناس، واليوم صاروا يعبدون النسناس، يعني شبيه الحيوانات -لا إله إلا الله- (أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [الأعراف:179].
يقول: (وَإِنَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ لَشَهِيدٌ(7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8))
قل للذي يبخل بالمال وإنفاقه في غير مَحَلِّه: تأمل المصير الأكبر؛
(أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9)) وإنَّ مشاكل الناس نسيان هذا المصير، والمصير واقع لابُدَّ من نُزوله بهم. وكل الذين يقولون لا عاد تِذَكِّرْنَا بالموت ولا بما بعد الموت، دعْنا مثل النعامة، تعرف النعامة؟ إذا خافت من واحد تشرُد تُغطي رأسها وسط حُفرة وإلَّا وسط غار، فإذا دخَّلت رأسها ما عاد تراه، أمِنَتْ! ويجيء يحصِّلها واقفة له يمسكها كما أراد. وهذا يقول لك لا تذكرنا بالموت، والموت وراءك أين ستذهب منه؟!!! غمِّض عيونك، دَخِّل عيونك وسط هذا مثل النعامة؟! ويأتي يأخذك، خذ نصيبك وجزاءك.
(أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ(9)) أُخْرِج ما فيها مِن الأجسام والأموات، بل جميع ما في بطن الأرض تُلقيه؛ مِن كنوز وناس، ومِن أجساد بعد أن يُعاد تكوينه تُلْقِيها على ظهرها في يوم القيامة.
الله يجعل مآلنا خير، ويُظهر بركة رمضان علينا إن شاء الله في شوال وذي القعدة والحجة وباقي العمر، نريد نرى آثار القبول في رمضان عند الغرغرة والموت، وعند السكرات وعند خروج الروح، وفي القبور، ويوم البعث والنشور، وفي القيامة إن شاء الله، وفي الجنة إن شاء الله، يا رب أكتب لنا القبول التام، أثبتنا في ديوان عبادك الكرام، خَلِّقْنَا بأحسنِ الأخلاق، أَدِّبْنَا بأحسنِ الآدابِ، وأَعْدِنَا إلى أمثالِ هذا الشهرِ الذي مَرَّ علينا في عافيةٍ وسرورٍ وأنسٍ وحبورٍ، وصلاحٍ للأمور وانشراحٍ للصدور.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
04 شوّال 1435