(535)
(363)
(339)
يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1437هـ.
﷽
(وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10))
الحمد لله مُوَالِي الإفضال، وصلَّى الله وسلَّمَ وبارَكَ وكَرَّمَ على جامع الكمال ومُفِيضِ النَّوَالِ، سَادِنِ حضرة الجلال، سيدنا محمد خاتم الإنباء والإرسال، وعلى آله خيرِ آل، وصحبه الذين حازوا الجمال، باتباعه في الأقوال والأفعال، وحَمْلِ الأمانة عنه؛ فبَلَّغوها إلى جميع الأقطارِ والمَحَالِ، وعلى مَن تبعهم بإحسانٍ على ذلك المِنوَال، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين معادِنِ الفَضل والكمال، وعلى مَن لهم من صَحْبٍ وآلٍ، وعلى ملائكة الله المقربين وجميع عباده الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه الواحد الأحد الفرد المُعطي العَطَايَا الجِزَال.
وبعد،،،
فإنَّنا في صَبَّابِ مطرِ هذه الأيام والليال، بما فيها من زَهْوٍ ونَضَارَةٍ وحُسْنٍ معنويٍّ وجَمَالٍ، يَفِيضُ على أهل الإقبال، وحُسنِ الاستقبال، نجتمع في بُكرَةِ كُلِّ يوم؛ لتأمُّلِ معاني التَّنزِيل والإنزال من الكبير المتعال، على قلب حبيبه أكرم حبيب، فهو إليه أقرب قريب، وهو أقوى الوسائل وأعلاها لنيل رضاه -سبحانه وتعالى- وحِيَازَةِ المراتب في القُربِ منه والدُّنُوِّ إليه والرِّضا منه والرِّضا عنه ومنتهاها.
فبحمده تعالى نجتمع ونستمع ونَتَّبِع؛ فَنَنْتَفِع ونَتَّسِع ونَطَّلِع ونَرتَفِع، (فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ) استماع القول (وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) باتباع الأحسن، (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر:18] اللهم اجعلنا منهم يارَبَّ الأرباب.
وقد بدأنا التأمل في سورة "الطارق" وهو النجم الثاقب، يقول سبحانه وتعالى حَالِفَاً بالسماء وبذلك النَّجم: (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3)) الذي هو الثُّرَيَّا -على القول المشهور- ويُرَى من على ظهر الأرض بالنَّظَرِ المُجَرَّدِ مجموعةٌ من النجومِ يُرَى أنها مُتلاصِقَة؛ وإنما ذلك لبُعدِ المسافة بيننا وبينها، فتظهر تلك النجوم؛ فبالبصر المجرّد عند حِدَّةِ النَّظَرِ يَستطيعُ مَن ينظر إليها أن يَعُدَّ في الثُّرَيَّا: سبعة إلى ثمانية، وأَحَدُّ الناس بَصَراً يَعُدُّ: تسعة نجوم.. قال وكان ﷺ بالبصر المُجَرَّد العادي المُعطَى إيَّاه البشري يَعُدُ في الثُّرَيَّا احدى عشر نجماً من حِدَّةِ بَصَرِهِ الظاهر، أمَّا بصيرته فتَخرِقُ السبع الطِّباق صلوات ربي وسلامه عليه.
(وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3)) الذي يَثقُبُ الفضاء بضوئه ويَثقُبُ الظلام. على ماذا يُقسَمُ الله ويَحلِف بالسماء وهذا النجم؟ يقول: هذه النفوس التي تعيش على ظهر الأرض لتتفكر في حقيقتِها، ليس منها مُكَوَّنٌ بذاته من ذاته ولا باختياره، ولا قائم إلا بِقَيُّومِيَّةِ حافظٍ يحفظه.
(إنْ كُلُّ نَفْسٍ لَّمَا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)) من النَّفسِ الصغيرة، للبَقَّة والحشرة والبعوضة، وما تحت الأرض من نملٍ ونحوه، وما فوق ذلك من نَحْلٍ وسواه، وما أكبر من ذلك إلى الحيوانات إلى الإنسان؛ كُلُّ نفسٍ كُوِّنَت بتكوينٍ دقيقٍ من خالقٍ قديرٍ قويٍّ ولا تستطيع أن تقوم بمهمتها؛ سواء كانت طَيَرَانَاً أو مَشْيَاً على الأرض أو اِختِبَاءً في مخابىء وبيوتٍ تحت الأرض أو تشكيل بيوتٍ هندسية سُدَاسِيَّة الشكل كما تفعل النحلة إلى غير ذلك..
كُلُّ هذا قائمٌ بموادٍ وإمدادٍ؛ مواد كُوِّنَت وهُيَّأت لذلك فتَنَاسَقَت وتَنَاسَبَت وتَنَاسَجَت مع ما يُرَادُ من بيتٍ أو مَسَارٍ أو مَسكَنٍ إلى غير ذلك.. كُلُّ هذه المواد لم تكن موجودة وأُوجِدَت صناعة خبير أودَعَهَا لكُلِّ هذه النفوس، أودع في تلك المواد لكل هذه النفوس، ما تحتاجه تلك النفوس من مصالحها من هذه المواد -جَلَّ جلاله- .
فكان من مظاهر واحدِيَّتِهِ -جَلَّ جلاله- أن خلَقَ كل دابة، يعني كل نفس من ماء؛ الأصل هكذا واحد. فبعد ذلك كان الماء والتراب وما على ظهر هذه الأرض من مواد هو المناسب لمختلف متطلباتها ومقتضيات مهماتها في حياتِها فلا تستطيع شيء منها أن يَستَقِلَّ بنفسه.. هم على ظهر الأرض، والأرض ممسوكة ودائرة ومُهَيَّأة ومُوطَّأَة ومُمَهَّدَة، فليس لهم قيامٌ بأنفسهم؛ (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا ۚ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ) [فاطر:41] يعني ما أمسكهما من أحد من بعده.. ينادون دولة كبرى، يقولون أمسكي الأرض من فضلك؟ يمسكون الكرة الأرضية، أم ماذا يعملون؟! يغوصون معها لا يقدرون، ماذا يفعلون؟ ما يقدرون على هَزَّاتها، إذا جاءت راحت أجهزتهم في هزَّات الأرض -في ثواني- يذهب الألوف والملايين! -جَلَّ الله-.
إذاً (إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَا عَلَيْهَا) إمَّا بمعنى:
وخصوصا نفوس البشر، قال تعالى: (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ) [الحج:65] جَلَّ جلاله.
(إنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)) ثم مُمَدَّة، بأنواع من الأبصار؛ عند الإنسان بصر، لمختلَف الحيوانات بصر، إلى الذرة والنملة الصغيرة والبعوضة عندها بصر! وخلايا ورؤية، حتى في الحشرة الصغيرة، سبحان الله! وخصائص في الأبصار..
وتجيء لمثل الهدهد والبصر يَخرِق طبقات الأرض، حتى ينظر أين الماء! كان سيدنا سليمان إذا أراد أن يحفر بئر يقول للهدهد: تعال، أين الماء؟ احفر هنا احفر هنا ويرى، لأنّ مجاريَ الماء في جوف الأرض مثل مسار الحية في ظهر الأرض، بقعة فيها بقعة ما فيها.. بصر هدهد.. ماهي الخاصية في هذا البصر! أنت يا هدهد وغيرك من الأبصار بمقاديرها، حتى في تلك البعوضة مَرْعِيَّةٌ برعاية قادرٍ حكيمٍ خالقٍ عليمٍ سميعٍ بصيرٍ (إنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4))، لا إله إلا الله!.
(وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم) [الأنعام:38] كما خلقناكم خلقناهم وجعلنا لهم نظام ولهم ما عندهم تكليف ما ينتهون إلى حد التكليف.. ولا عندهم معاصي ولا مخالفة يُسَيَّرون لِمَا خلقوا له لكن أنتم؟! (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ) -ما قال والناس- (وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ ۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ) [الحج:18] بالنسبة لاختياره فقط في اختيار المختار من قلب الكافر والفاسق هو ذا الذي ينحرف؛ باختياره.. أما بقية الشؤون كلها كلها ساجدة؛ شعره ساجد! مَن كَيَّفه؟ وكيف رُتِّب؟ وبشره ساجد.. ورأسه ساجد.. أهو الذي قدَّر المقادير لرأسه؟ أم الذي حدَّد الخلايا وسط رأسه؟ ساجدة لله كلها ساجدة! بل اختياره وقلبه، هذا قلب الكافر والفاسق هو الذي لا يسجد!!
فإذا جاءت القيامة وبدى هيبة الله وجلاله المُعَبَّر عنها بقوله: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ) العرب يقولوا: "كُشِفَ عن الساق" إذا عَظُمَ الأمر واشتدَّ وهال، (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) -يقولوا: اسجدوا لربكم- (فَلَا يَسْتَطِيعُونَ) تَتَصَلَّب ظهورهم وأرجلهم فيصير كالخشبة ما يقدر يسجد، إلا الذين كانوا يسجدون بقلوبهم في الدنيا فيسجدون، والبقية يجيء المنافق بيسجد ما يقدر يجي الكافر بيسجد (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ۖ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) -في الدنيا- (وَهُمْ سَالِمُونَ) [القلم:42-43] ما صَلَّبناهم ولا صلَّبنا أعضاءهم يقدرون على السجود لنا فأبَوا.
فاليوم مايقدرون يسجدون: (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ۖ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ) يقول الجبار الخالق: (فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ) اتركني وهؤلاء.. يالطيف ياجبار ياقهار.. ما أصبرهم على العذاب! ما أقدرهم على غَضْبَةِ الجبار! (فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ ۖ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [القلم:43-44] ومَن يقدر على كيد الجبَّار؟!
فالحمد لله على نعمة الإسلام.. اللهم احفظنا من الاستدراج واحفظنا من الاغترار، واحفظنا من الجراءة عليك وارزقنا الأدب معك، والطف بنا في الدارين، وأتمم علينا النعمة.
(فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ) -يا ويلهم!- (سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ * أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا) أنت طلبت منهم أجرة؟ وهذا الذي أخذته حُسُوسُهم وأموالهم ما طلبت منهم شيء (فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ * أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) واطَّلعوا على مآلهم ومصيرهم؟ (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) [القلم:44-48]؛ ستأتي النتائج ويأتي الحُكم على الجميع؛ فلا يفوز..
(يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ الْأَرْضُ) [النساء:42] يُمسَخُون مع الأرض مسخ ما عاد يبقى لهم أثر -أعوذ بالله-.
يقول تعالى: (إنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4))؛ فالحافظ الأول الجبَّار الذي قام على خلقها وتصويرها وتكويرها وأقدَرَها على الحركة والنظر والسمع والبصر، فقد كان يقول بعض العارفين في مناجاتهم لله:
يا مَن يَرَى مَدَّ البَعُوضِ جَنَاحَهَا *** في ظُلْمَةِ الليل البهيم الأَلْيَلِ
ويرى نِيَاط عُرُوُقِهَا في سَاقِهَا *** والمُخَّ في تلك العظام النُّحَّلِ
يا مَن يَرَى مَدَّ البَعُوضِ جَنَاحَهَا *** في ظُلْمَةِ الليل البهيم الأَلْيَلِ
ويرى نِيَاط عُرُوُقِهَا في سَاقِهَا *** والمُخَّ في تلك العظام النُّحَّلِ
اُمْنُن عليَّ بتوبةٍ تمحو بهــا *** ما كان مني في الزَّمَانِ الأوَّلِ
يا الله..(إنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4))، (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِفَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ) -صافات جناحاتهم ساعة واحدة، ساعة اثنين- (مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَٰنُ) هم وطيرانُهُم وقانون الجاذبية وما غَيرُه تحت حُكمه ما يمسك إلا هو (مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَٰنُ ۚ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) [الملك:19] سبحانه!.
فماذا في صحيفة النائم؟! وماذا في صحيفة تارك الصلاة؟!
لكن في صحائف المُصَلّين آخر شيء صلاة الفجر، وتبقى ملائكة النهار العشرة مع كل فرد -غير رقيب وعتيد- (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) [الرعد:11]، (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) [الأنعام:61]، معنى (مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) أي بأمر الله إلى وقت العصر يرجع ملائكة الليل وينتظر ملائكة النهار صلاة العصر حتى يشهدونها ويطلعون في الصحيفة صلاة العصر.
في الحديث: "مَن ترك صلاة العصر فقد حَبِطَ عمله"، "مَن فاتته صلاة العصر فكأنما وُتِرَ أهله وماله"، يعني: هلك عليه أهله وماله وانقطعوا عنه، فإذا سألهم الله في الملائكة الذين كانوا مع خيار الأمة يقولون: "ياربنا أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون" جئنا في صلاة العصر ورجعنا وهم في صلاة الفجر.. وهؤلاء يقولون جئنا في صلاة الفجر ورجعنا وهم في صلاة العصر؛ أتيناهم يصلون وتركناهم وهم يصلون. هؤلاء أخيار الأمة.. فماذا يقولون عن تُرَّاك الصلاة؟! وماذا يقولون عن مُضَيِّعِي الصلاة ومُؤخرِيها عن وقتها؟! ما يصلح فيهم هذا القول.
وهكذا.. وهذه كتابة للحَفَظَة تُحصى الأعمال إحصاءً دقيقاً -الله أكبر- ثم خَلِيَّة في وسط الإنسان يُسَجَّل فيها الأعمال التي يعمل، وتَبرُزُ له من عُنقِهِ في القيامة وتأتي مع صحف الملائكة فتُطَوَّق بها رقبته: (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ) -كتابه- (فِي عُنُقِهِ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا) [الإسراء:13]، فالشريحة هذه التي عندك كما تتركَّب في الجهاز تنتشر ما فيها، في القيامة شريحتك تَنشُر ما فيها، من كُلِّ ما كان مكتوماً.. مافي فرق بين الذي عملته وحدك ولا معك اثنين ولا معك واحد ولا معك عشرة ولا معك ألف ولا ما حد عندك.. كله سواء مكشوف، كما نقرأ في هذه الآية في تفسير (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)) تَظهَر السرائر.
هكذا.. (إنْ كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)) في صحف الملائكة: الحفظة، يحفظونه بأمر الله تعالى، يقول: أنّه في الساعة الفلانية في اللحظة الفلانية في المكان الفلاني؛ يُسَلَّط عليه فلان ليقتله، تصل إليه رصاصة فلانية، يصل إليه جني يعمل به كذا، يتركوه، يُسَلِّمونه للقضاء؛ إذًا من دون أمر الله لا أحد يقدر، ولو أحد جاء بوابل من الرصاص، بدون قضاء الله، يروح كذا يروح كذا؛ ما يمكن أن يصيبه! (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا) [آل عمران:145] كما ما كان لنفس أن تُخلَق إلا بإذنه الله، ولا تموت إلا بإذن الله.
(إنْ كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)) فَفِيمَ كِبْرُ هذه النفوس؟ وتولَّيها؟ واغترارها؟ وتجرِّيها على أوامر الحق ونواهيه؟ تترك الأوامر وتفعل النواهي!! إلى أين تمشي؟! وإنما يَستعجِلُ بالعقوبة مَن يخاف الفَوْت والحقُّ لا يخاف أن يفوته شيء.. أين سيذهبون؟ إلى أين سيرجعون؟ فلهذا (وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [الأعراف:183] فَفِيمَ الاغترار؟!
كُلُّ نفسٍ من نفوسِنا عليها حافظ ومحاطة من كل جانب، والحافظ الأكبر فوقها -جلَّ جلاله- (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ ۖ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ) [الأعراف:6-7]، ربَّك يقول: (وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ) نحن كنا معهم.. الرسل والذي أرسل إليهم وما رأينا.. حتى إذا بعث الرسل، قال: ماذا أُجبتم؟ كيف قال الأمم؟ الرُّسُل من بَهْتَة الهيبة الإلهية في الموقف، يقولون له: (سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [البقرة:32]، (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ ۖ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [المائدة:109] أنت تعلم ماذا قلنا وماذا قالوا؛ الله أكبر! (وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ).
(أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم ۚ بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) [الزخرف:80] الله سبحانه وتعالى جعل كَتَبَة وحَفَظَة وملائكة.. ماالتنزُّل هذا! إقامة الحُجَج على الخلق وهو علْمه يكفي! يكفي علمه؛ لكن فوق علمه ترك الكَتَبَة والحَفَظَة.. واسمع.. حتى أعضاءك نفسها مُسَجِّلَات، أنت ما تعرف إلا مُسجِّل في الجوال فقط ؟! عينك تُسَجِّل، إذنك تُسَجِّل، فرجك يُسَجِّل، بطنك تُسَجِّل، يدك تُسَجِّل، رجلك تُسَجِّل.. ماذا تُسَجِّل؟ أعمالك خير أو شر.. وماذا بعد ذلك؟
يقول: (إنْ كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4))، فتأمَّل حقيقتك وبدايتك.. كُلُّ عاقل على ظهر الأرض؛ أهم عِلْم يعلمه، من أين جاء، وكيف خُلِق، هذا أهم شيء، والا ستتعلم الذرَّة.. الكمبيوتر!
أنت أنت من أين جئت؟ قبل ماتروح الى هناك، تعال قل لنا، هات خبر عنَّك أنت! تنسى نفسك! تسأل عن؛ حيوان، زراعة، طيران..
فمن جَهِل هذا لا يفيده علم الفضاء، علم الأرض، علم الطب، علم الهندسة؛ جاهل بنفسه! (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ) [الحشر:19] لايدري بنفسه مَن هو! هذا مجنون هذا؟ يتعامل مع المواد والأشياء.. طيب طيب! وأنت تدري بنفسك من أين جئت؟ وإلى أين تصير؟ لماذا خُلِقت؟ لا؟!
أنت أكبر جاهل! أنت أكبر جاهل، أهم شيء في الحياة أنت غافل عنه! وجودك خلقك! ولهذا قال عنه: (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5)) ماهي البداية، من أين، كيف تكوَّن؟؟
فالذين ينطلقون في الحياة ويدَّعون العلوم، لا يَتَصَوَّرون من أين جاءوا، ولا لماذا خُلِقوا، ولا أين يصيرون.. هؤلاء جُهَّالنا الكبار على ظهر الأرض، هم هؤلاء، لايدري بنفسه من أين جاء ولا مَن خلقه ولا لماذا خلقه؛ ومصيره ومستقبله الكبير لا يعرفه.. يتكلَّم كثيرًا عن المستقبل؛ المستقبل المستقبل، والمستقبل لماذا هو؟ مدة العمر! مدة العمر؟ مدة العمر هذا خمسين، ستين، سبعة وسبعين، وَرَوَّحت؛ هات لي مشكلة سنين طويلة بعدها، أين؟ ماهو مستقبل!؟ سنين أطول!.
فهؤلاء يعلمون حينئذٍ (سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) [القمر:26] ويعرفون مَن هو الواعي والفاهم ومَن هو الجاهل؛ أهم لغز في الحياة:
ثلاثة أسئلة: من أين جئت، ولماذا، وإلى أين تذهب وتنتهي؟! من دون أن تتصورها، فأنت جاهل بنفسك، لا يفيدك العلم بأيِّ شيء..
(فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5)) وكيف تَكَوَّن؟ وأمام الأعْيُن يُرى:
وفي هذا إعجاز في كيفية تكوين النطفة؛ لا يزالون كلما تقدَّم بهم العلم انتهوا إلى هذا ورسخوا به، وقد كان الملاحدة في القرون الماضية يُحاولون يشككون في مثل هذا.. فذهب كلامهم وبقي كلام الله.. وانتهت الاكتشافات الأخيرة إلى أنَّ هذا المركز الذي يتكوَّن منه هذه النطفة؛ سبحان الله!.
(مِن مَّاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)). وكان بعض المتقدمين يقولون: "صُلب الرجل؛ ترائب المرأة"، الرجل والمرأة كلهم سواء من صلبهم وترائبهم معاً يخرج هذا الماء الدَّافِق. يقول الله:
(كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ) [الأنبياء:104]، (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم:27].
يقول: (إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ(8)) -الله أكبر- (مِمَّ خُلِقَ (5))؟ خالقك من الماء الدافق يقدر على إرجاعك ثاني وثالث ورابع وما شاء. (إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ) ولكن يُرجِعُ -سبحانه- الأجسام ويجعل فيها نفس الأرواح: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9))؛
قال: هذه السرائر المستورة المُغَطَّاة في الدنيا في ذلك اليوم نكشفها (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ)، قال تعالى: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة:18] ربي سترك، سترك الجميل. (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا)، قال ابن عباس:
حركة اصبع؛ بيد، برجل، موجود أمامك، حركة العين: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ) [غافر:19]، (وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ) [الهمزة:1]، حركة اللسان، حركة الشفتين - الله أكبر- حركة الرجلين؛ الدخول الخروج، القيام القعود (إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف:49].
وهناك، مَن شاء الحق سَتَره، وهم الذين استحيوا منه في الدنيا، وندموا على ما كان منهم ورجعوا إليه وخافوه؛
يكشف الستارة، يكشف الكنَف يسمع: ادخل الجنة برحمتي. الملائكة تسمع فقط، ادخل الجنة، العتاب ما عاد سمعته.. الله! لما يريد يستر عبده كيف يعمل!
حتى يُذكَر في بعض الآثار أن نبينا يوما فكَّر قال: "يا رب ألا تجعل حساب أمتي إلي؟. قال: لِمَ؟. قال: لا يفتضحوا بين الأمم. قال: بل اجعل حسابهم إلي حتى لا يفتضحوا بين يديك، قال أنا ربهم أستر بهم، قال دع حسابهم علي.. جِلَّ جلاله" (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم) [الغاشية:25-26] هكذا يفعل لمَن أراد أن يستره..
وإذا أراد أن يفضحه! وإذا أراد أن يكشفه! وإذا أراد أن يُظهِر عورته! -نعوذ بالله من غضب الله- فعلى رؤوس الأشهاد: صور قبيحة، أفعال خبيثة وحالات سيئة.. يقول بعضهم لبعض: انظر الى فلان هذا! لماذا يضحك علينا؟ كان يقول أننا كذا! هل تصدِّق؟ انظر، انظر! صور؛ ثانية ثالثة.. انظر فلان! انظر فلان! فترى فضائح وقبائح -يا لطيف- (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة:18].
(يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)) وعند ظهور هذه السرائر (فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ..) ما أحد منهم معه قوة، لا حسية ولا معنوية لا في نفسه ولا من عند غيره.. يعني ما أحد معه جيش، ما أحد معه أنصار، ما أحد معه أعوان، ما أحد معه جنود، ما أحد معه حراس.. ما في! (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا) [النحل:111]، (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) [مريم:95]، (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الأنعام:94].
وكان أول -في الدنيا- عنده هناك بجانبه محل، وعنده كذا كذا ألف جيش وعنده كذا كذا دبَّابة ، أما اليوم (فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ) ولا أصحاب ولاأصدقاء ولا جيران ولا.. (فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ(10))
اللهم أنت لنا هنا، وفي ذاك اليوم، فعاملنا أسنى ما تعامل به محبوبيك الذين تسترهم والذين تنورهم والذين تطهرهم والذين تغفر لهم، أدخلنا جنتك بغير حساب، ولا تُؤخرنا عن رَكْبِ سَيِّدِ الأحباب، ولا تُبعِدنا عن زمرته، اجعلنا في دائرته، أسعدنا برفقته، أكرمنا بمرافقته، اجعلنا في رفيقه، وأدخلنا معه الجنَّة؛ فإنه أوَّلُ مَن يدخلها، وأنزلنا معه في قصورها فإنه أوَّلُ مَن ينزلها، وارحمنا يوم يشفع للخلائق فترحَمُها، برحمتك يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
09 رَمضان 1437