(228)
(536)
(574)
(311)
يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1436هـ.
﷽
(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11))
الحمد لله وليّ النعمة، ودافع كل نِقمة، بيده الأمر كله وإليه يرجع الأمر كله، وهو -سبحانه وتعالى- مانِح الفضل وأهله، نشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو وحدهُ لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، جعله الخِتامَ لمن أرسله وجمّله وكمَّله وقدّمه وفضَّله، اللهم صلِّ وسلم وبارك وكرّم على عبدك المصطفى محمد ذي الصفات المكمّلة، وعلى آله وأصحابه وأهل حضرة اقترابه من أحبابه، وعلى آبائه وإخوانه من النبيين والمرسلين وآلهم وصحبهم وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبعد،،
فإننا في موائد كرم الله، حيث نتأمّل وحي المولى وقوله -تعالى في علاه-، تأملنا معاني في سورة الضحى، أقسم الله فيها بـ (وَالضُّحَىٰ (1) واللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ (2))، أنه لم يودّع نبيه المصطفى محمد، أي لم يتركه، ولم يقلْه أي لم يبغضه، فهو سيد المحبوبين عند رب العالمين، وشؤون المحبة، تَكِلّ الألسن عن وصف حقائقها، وقد جعل الله فيها في العالم الخَلقي عجائب، فأما محبة الله -تبارك وتعالى- لعبده فأمرٌ أَجَلُّ وأكمل وأفضل وأعظم وأرفع وأشرف وأجمع، فلا يُحيط بحقائق محبة الله إلا الله، وإنّ ما يُؤتيه عباده من محبتهم له لأَمْرٌ جليل عظيم، الذرّة منه تُفني عما سوى الله قطعاً، فكيف بما وراء ذلك؟
يا الله بذرة من محبـــــــة الله *** أفني بها عن كل ما سوى اللَه
ولا أرب من بعدها سوى اللَه *** الواحد المعبود رب الأرباب
فما أُرجّي اليوم كشف كربـــــة *** إلا أن صاف لي مشرب المحبة
ونِلْت من ربي رضا وقربـة *** يكون فيها قطع كل الأسباب
على بساط العلم والعبــــــادة *** والغيب عندي صار كالشهادة
هذا لعمري منتهى السعــــادة *** سبحان ربي من رجاه ما خاب
يا طالب التحقيق قــــم وبــــادر *** وانهض على ساق الهِمم وخاطر
واصبر على قمع الهوى وصابر*** واصدق ولا تبرح ولازم الباب
واعلم بأن الخير كله اجمع *** ضمن اتباعك للنبي المشفـــع
عليه صلى الله ما تشعشـــع *** فجر وما سالت عيون الاشعاب
وقد وعد الله بمحبته العليّة، من اتبع خير البرية، وأعلن ذلك في الآيات القرآنية: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ )، (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) تعرف ما معنى ( يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)؟ مهما عرفتَ لن تعرف، يحببكم الله، (يُحْبِبْكُمُ اللَّه وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) [آلعمران:31].
وآية حب الله منا اتباعــه *** به وَعدَ الغُفرانَ بعد المحبةِ
ومن يطع الهادي أطاع إلهــــهُ *** ومن يعصهِ يعصِ الإله ويُمقت ِ
ومن بايع المختار بايع ربّــــــــــــــه *** يدُ الله من فوق الأيادي الوفيةِ
وفي بعض ما يجده أرواح الأصفياء من المؤمنين المقربين من آثار المحبة، يقول:
بل بات المُحبُّ مع الحبيب *** والجاهل الغافل البعيــد
لم يدرِ ما شأن الهـــــوى *** بين الموالي والعبيــد
يا ويحه ماذا عليــــــــــه *** لو كان يعلم للسعيــد
مكانَه من ربـــــــــــــه *** والله يعلم ما يقـول
الله حسبـــــــي وكفــــــــــــى *** قل ما تشاء يا ذا الفضول
ويقول:
هبَّت نُسيمات الوصـال *** من جانب القُدس العلي
واستغرقت أنوارها عوالم القلب -تعرف عوالم مش عالم عوالم- عوالم القلب الخلي
واستغرقت أنوارها *** عوالم القلب الخلي
عن ما سوى معبوده، -خلي عن ما سوى معبوده- الواحد الحق الولي
عمـا سوى معبوده *** الواحد الحق الولي
وكُوشفت اسراره وحلّ *** في بـــــــرج الوُصــــــــــــــــــول
الله حسبــــــــــــي وكفــــــــــــى*** قل ما تشاء يا ذا الفضول
هؤلاء الأصفياء الذين ذاقوا هذه المذاقات كيف علامتهم؟ كيف نعرفهم؟ ما وصفهم في الحقيقة؟ وصفهم..
ماذا يقول المنكــــرون *** فيمـــن له قلب سليم
علي جميع المسلمين *** وقصده المولى الكريــــــــم
ويعتقد في نفسه *** بأنـــــــه عبـــد ذميـــــم
لولا عناية ربــــــه *** لكان بطالاً ضلول
اللَه حسبــــــــــي وكفــــــى *** قال ما تشا يا ذا الفضول
إن كان تمر عليك عشرة أيام من رمضان، ما نِلت معاني من هذه الأوصاف السنيّة، فادخل مداخل رمضان مع الداخلين لا تقع خارج، يحسب أنه دخل داخل وهو قائم برا...
ادخل داخل؛ في المدرسة تصفية، في المدرسة تنقية، في المدرسة تزكية، في المدرسة ترقية، في المدرسة مُصافاة، في المدرسة موالاة تتحوّل إلى أن يكون قلبك سليم على جميع المسلمين، وقصدك كله يتحول واحد هو الواحد، وقصده المولى الكريم، ومع ذلك مُنكسر متواضع متذلل خاضع خاشع..
ويعتقد في نفسه بأنه:
ويعتقد في نفسه *** بأنه عبد ذميـــــم
لولا عناية ربــه
وهو المعنى الذي أكده الله لنا في القرآن: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا ) [النور:21]، يا صاحب الفضل تفضّل علينا، ارزقنا من مدرسة القرآن ومدرسة رمضان نوراً يملأ قلوبنا ويملأ أسرارنا ويملأ بصائرنا ويملأ بواطننا ونتحقق به بالصفا والنقاء والوفاء بعهدك الذي عاهدتنا به يا عالم السر وأخفى ياالله، (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ ..) [النور:21] -جلَّ جلاله- اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها.
(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ (6))، ويأتي في اللغة في معنى اليتيم أيضاً المنفرد الوحيد فيقال لمن انفرد من بين الجواهر بزيادة في الحسن والشرف: الجوهرة اليتيمة؛ يعني التي لا يوجد لها نظير ومثيل، وليس في عالم الخلق من لا يوجد له من الخلق نظير إلا محمد صلى الله عليه وعلى اله وصحبه وسلم، وكان أيضاً في عالم الحس يتيماً؛ (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ (6)) ونعم الإيواء إيواء رب العالمين.
(ووَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ (8))، في أعلى مراتب الافتقار إلى الله يُغيّب عنك في كثير من الأحيان مظاهر المادة وما إلى ذلك لِمَا اختار لك من العزِّ والشرف في ذلك، وألهمك الفرح به واختياره بقولك، وقد عُرِضت عليك جبال وبطحاء مكة أن تكون معك ذهباً تمشي حيث شئت.
جاء في بعض أخبار السيرة الكريمة، أن الله لما عرض عليه ذلك، تكفّل له أن لا ينقص من أجره شيء، من دون أن ينقص من أجره ومقامه شيء، فردّها..
وقد أبى جبالها من عين زهداً *** ومن جوع طـــــــــــوى ليالي
وَراوَدتهُ الْجبـالُ الشُّمُّ مِنْ ذهَب *** عَنْ نَفْسِهِ فَاراهَا ايَّمَـــا شَمَـــــم
وَاكَّدت زهْدهُ فِيْهَا ضَروْرتـــــــهُ انَّ *** الضَّروْرةَ لا تعْدوْ عَلَى الْعِصَمِ
وَكَيْفَ تدعُوْ الَى الدنْيَـــــــــا ضَروْرةُ مَنْ *** لَوْلاهُ لَمْ تخــــرج الدنْيَا مِنَ الْعَـــــدمِ
مُحمَّد سَيِّــــــــــــــد الْكَــــوْنَيْنِ وَالثقَــلَيْنِ *** وَالْفَريْقَيْنِ مِنْ عُرب وَّمِنْ عَجمِ
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
وقال: " أجوعُ يوماً وأشْبع يوماً، فإذا جعتُ ذكرت ربي ودعوته، وإذا شبعت شكرت ربي"، فكان هكذا الحياة منه ويسوق له -سبحانه وتعالى- من الأموال ما يسوق في الحاجات ويتعرّض لأوقات من الجوع حتى يربط الحجر على بطنه ﷺ، ثم أنبأ عن هذا الحال بعض أمهات المؤمنين وقالت: " كان جوع آل محمد اختياراً" هم يختارونه، فلو شاؤوا أن يُطْعَموا كغيرهم لأطعموا ولكن اختاروا الفاقة والإيثار والإنفاق وما إلى ذلك.
حتى لما تعرَّضت ابنته سيدنا فاطمة الزهراء لتردّد أحوال الجوع عليها من مرة الى أخرى، سأل الله أن لا تُحسَّ بألم الجوع فكانت يشتد جوعها فلا تحُسُّ بالجوع ولا بألَمه، ويروى: "أنها وصل إليها يوماً حبّات من الطعام فطحنتها ثم عجنتها ثم خبزتها، فحملت كسرة من الخبز وذهبت إلى رسول الله ﷺ، فدخلت على أبيها وقام لها كعادته فناولته الكسرة، قال: ما هذا؟ قالت: جاءنا عليٌّ بطعام طحنْته فعجنْته فخبزْته، فلم تطب نفسي أن آكل منه ولا أن أُطعم الحسن والحسين حتى آتيك بكسرة منه، فتناول من يدها وقال: أما إنه أول طعامٍ يلِج بطن أبيك يافاطمة منذ ثلاثة أيام، أما إنه أول طعامٍ يلِج بطن أبيك يا فاطمة منذ ثلاثة أيام "، فورثت هذا الحال منه.
فذهب مع سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر إلى أبي الهيثم ابن التّيهان وقد لقيهما في ساعة لا يُعهد الخروج فيها، ما أخرجكما؟ قالا: الجوع يارسول الله، تبسّم.. قال: وانا قد وجدت بعض ذلك، فذهب بهما إلى حيث مسكن ومزرعة أبي الهيثم ابن التيهان بجانب المدينة، وكان قد ذهب ليأتي بالماء العذب لأهله، فلما رأت أهله رسول الله وأبوبكر وعمر فرحت، ادخلوا، أين أبو الهيثم؟ قالت: ذهب يستعذب لنا الماء سيأتي الآن يا رسول الله؛ تفضل ادخل يارسول الله، فدخل فجلس تحت الشجرة في الظل فاقبل أبو الهيثم فرأى الوجوه؛ رأى محمداً وأبا بكر وعمر؛ قال: الحمد لله ليس على وجه الأرض اليوم أكرم أضيافاً مني، فقطع عِذقاً من النخل فيه رُطب فقرّبه إليهم، وحمل السكين وأمر أم الهيثم أن تخبز، خبزت. فلما رآه حمل السكين قال له ﷺ: إياك وذات اللبن -ذات الولد- لا تذبح، فذبح لهم شاة، فلما قدّموا الخبز أخذ بعض التمرات ووضعها على كسرة من الخبز، قال: اذهبوا بها الى بيت فاطمة بنت محمد فإن لها ثلاثة ايام لم تذُق طعاماً، وكان قد قال: أما إنه أول طعام يلِج بطن أبيك منذ ثلاثة أيام، فهي الآن ورثت هذا الحال منه قال: فإن لها ثلاثة ايام لم تذق طعاماً، حَمَلوا الكُسرة الى بيت السيدة فاطمة.
وهؤلاء أكرم الخلق على ربكم، اختار الله لهم ذلك واختاروه أيضاً -عليهم رضوان الله-، يقول سبحانه وتعالى فابسُطْ لعبادنا بساط الآداب والأخلاق ليعيشوا في الحياة مُترفِّعين عن دناءات النفوس ورغبتها في جمع الأموال المجردة وفي كثرة الشهوات بلا بصيرة فإنا خلقناهم لأمرٍ كبير ووراءهم حالة أعظم وأكبر وأجل، فلا يعيشوا كالبهائم والحيوانات على ظهر الأرض فإن تلك عيشة الكفار: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ) [محمد:12]، أمّا من عَقل وَوعى واستجاب لدعوتنا فعلّمهم.
قل لهم أن يعيشوا على مكارم الأخلاق:
بل جاء في الخبر: " انه اذا بكى اليتيم قال الله لملائكته في السماء: من هذا الذي أبكى اليتيم الذي غيّبتُ أباه في التراب؟ تقول: ربنا أنت تعلم، قال: أما أنا أشهدكم أن لمن أسكته وأرضاه رضاي عنه يوم القيامة أو أن أرضيه يوم القيامة " لذا قالوا: أن سيدنا عمر لو وجد يتيما يمسح رأسه و يضمه اليه ويعطيه شيء، رجاء المنزلة عند الله، " من مسح رأس يتيم فله بكل شعرة حسنة " وقد قال ﷺ : " أنا وَكافلُ اليتيمِ في الجنَّةِ كَهاتين، وأشارَ بأصبُعَيْهِ يعني : السَّبَّابةَ والوسطى" أي قريب مني يكون في الجنة كافل اليتيم، فكم من خير عظيم جاء بالإحسان الى كلب، إلى حيوان! فكيف بالإحسان الى مسلم؟ فكيف بالإحسان الى اليتيم؟
لذا أثّرت تربية النبي في أعدادٍ من الأمة فكان اليتيم يعيش بينهم أحسن العيشة مكرَّماً مُعزّزا مُوقراً معظماً، حتى كان في بعض المجتمعات أهل الإسلام ينظر الأطفال الى اليتيم من بينهم، كيف يُكرّم من قِبَل المجتمع إكراما ويُجمع له من الحاجات والمنافع ما لا يجتمع لهم، فيتمنّى بعض الأطفال أنه كان يتيما لِما يرى من اكرام اليتيم، وانظر بعد ذلك حين تضعُف تربية الدين والإيمان واليقين في الناس و تضعف صِلتُهم بالمُزكّي؛ يُحقَّر اليتيم من بينهم، ويؤذى اليتيم من بينهم. "وان خير البيوت عند الله بيتٌ فيه يتيم يكرم، وانّ شرّ البيوت عند الله بيت فيه يتيم يُساء إليه"؛ شرُّ البيوت عند الله تعالى بيت فيه يتيم يُساء إليه.
(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9))، علّم الخَلق حُسن الخُلق ومكارم الاخلاق ومحاسن الآداب، فلأجل ذلك خلقتهم، لا ليغرَّهم السراب فيظنوا أن المقصود طعام أو شراب او مسكن او مركوب او غير ذلك من المتاع، فكله إلى انقطاع، قل لهم فليكونوا على الارتفاع و ليعلموا ما وراء هذه الحياة القصيرة من العالم الكبير الذي يضئ منه الشعاع، في مرجعهم إلي، ووقوفهم بين يدي ثم أُخلِّدَهم أما في الجنة وإما في النار، فليعلموا هذه الشؤون الكبار ولا ينقطعوا في الدنيا كالكفار بالمتاع القليل يمتلئون به من الاغترار (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۖ وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [فاطر:5]، (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ) [آل عمران:196-197].(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9))
(وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)) من كان يسألُ زاد الدنيا أو من كان يسأل زاد الآخرة، من كان يسأل زاد الدنيا، شيء من متاع الدنيا يتمتّع به، ومن كان يسأل العلم، يسأل عن العلم سائل فلا تنهره، يسأل ليتفقّه في الدين، قال ﷺ: " العلم خزائن مفاتيحها السؤال، فاسألوه فإنه يؤجر فيه أربعة: السائل والعالم والمستمع والمحب لهم ". " قالوا لابن عباس: كيف اتّسع علمك هكذا؟ قال: أوتيت قلباً عقولا ولسانا سؤولاً) وقال: " ذُلِّلتُ طالباً فعززتُ مطلوباً ".
(وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10))، و" قد كان ﷺ يوماً على المِنبر يخطب، فأقبل أعرابي: يارسول الله، علّمني مما علّمك الله في الدين، وقد أسلم حديثًا وجاء، فخرج النبي ﷺ من المنبر وجلس عند الأعرابي يعلّمه مبادئ الدين ثم رجع يُكمل الخطبة صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم."
(وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)) كذلك السائل الذي يسأل خِرقة أو لقمة أو دراهم أو غير ذلك.
هذا فيما يتعلق بحق السائل، لكن أنت لا تسيء الظن بسائل وإن تيسّر لك العطاء فأعطه ولا عليك، ما لم تعلم بعلامات النازجة أنه يصرفه في معصية الله، فيثبت الحق للسائل وقد يُرسل الله أحياناً بعض الملائكة في صورة فقراء سائلين يختبر بهم العباد، ونُهِيَ عن رد السائل خصوصاً أول سائل في اليوم، ومن لم يجد شيئاً فبالكلمة طيبة يردّ السائل، بلِينٍ من القول.
(وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10))، لا تزجره لا ترفع صوتك عليه، اعطه ما تيسّر لك أو رُدّه بردٍّ جميل وكلام ليّن طيّب، وهكذا قال رسول الله ﷺ لسيدتنا أسماء بنت سيدنا أبي بكر: " انفقي ينفق الله عليك ولا تُحصي فيحصي الله عليك "ابذخي.
وقد ذكر للعبرة أهل العلم بعض قصص التاريخ منها: أن امرأة كانت متزوجة ببخيل وكان ذا مال كثير، وطبخت له ذات يوم دجاجة وقدّمتها مع بعض الطعام فطرق سائل الباب، قال لها: انظري، من بالباب؟ قالت: سائل يسأل، قال قولي له: ابعِد،الله كريم. قالت: نقطع له شيء من هذه الدجاجة ونعطيه شيء من الخبز، قال: اسكُتي دعيه يذهب، إذهب، زجر السائل فذهب.
ومرّت الأيام فطلّقها، ثم تزوّجها رجل آخر، وطبخت له ذات يوم دجاجة مثل هذه وقدمت الطعام. قال: انظري من بالباب؟ قالت: واحد يدق، قالت: سائل قال: خذي هذا كله وأعطيه إيّاه، -يختلف وصف هذا ووصف ذاك-، اعطيه يأكله ونحن سنطبخ لنا أخرى الحمد لله كل يوم عندنا خير. فحملت الطعام، فلما ناولته السائل من عند الباب وقعت عينها على وجهه فإذا بزوجها الأول فارتاعت حتى دخلت عند زوجها وقال: ما لك؟ أقال لك شيء؟ ما لك؟ قالت: هذا السائل عرفته كنت زوجاً معه قبلك، ويوم مثل هذا اليوم طبختُ مثل هذه الطبخة وقدمتها له، فجاء سائل على الباب وردّه. واليوم قد افتقر وهو يسأل على الباب يسأل، قال: هذا أين بيته لما كنت متزوجة معه؟ قالت: في المكان الفلاني في المحل الفلاني، قال: المحل الفلاني والسائل جاءكم ليلة كذا كذا قالت: نعم؛ قال: أنا السائل ردّني، زجرني والآن أغناني الله -سبحانه وتعالى- قالت: لا اله الا الله كيف تحوّلت الأحوال ورجع هو السائل وأغنى الله هذا الفقير، لا اله الا الله.
وقال ذاك الذي اغترَّ بماله الذي قصَّ الله علينا في سورة الكهف: (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا) أماني وأوهام؛ (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَّٰكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا)، (..إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا) [الكهف:35-39]، ولا تحتقرنا ولا تغتر بمالك (فَعَسَىٰ رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا) [الكهف:40-41] يغوص الماء عليك (فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا) قال الله: (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ..) هبت عليه جائحة في الليل وأصبح ولا شيء، (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ) [الكهف:42] وهذا شأن العُقلاء فويحٌ للمغترين.
(وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10))، وكان بعض أهل المُروءات والعقل يقول: أن ذُلَّ السؤال من الذل، ولو أين الطريق؟ إنما العزّ في سؤالك الله، على أنه إذا اضطر الإنسان إلى السؤال وجب عليه أن يسأل، فلو عرَّض نفسه الى الموت بسبب ترك السؤال أثِم، فللأمور درجات ومراتب.
ثم القاعدة العامة: ما أتى من هذا المال من غير مسألة ولا اشراف نفسٍ وليس عليه وجه ظاهر في شُبهة فالأولى أخذه، وطريقة الاكياس من خيار الامة يقولون: لا نسأل ولا نرُد ولا ندّخِر، ويمضون على الحال الجميل.
(وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10))، "وان الصدقة لتقع بمكانٍ عند الله قبل أن تقع في يد الفقير"، "وإن صدقة السر تُطفئ غضب الرب"، "وإن صدقة السر تمنع مِيتة السوء"؛ فلا تسوء الخاتمة ولا يموت بفظيع من الحوادث أو الشدائد أو بهيئة فظيعة، " تقي مصارع السوء"، و"لقمة في بطن الجائع -يقول الله لإبراهيم- أفضل من بنائك للكعبة".
ومن اتخذ السؤال حِرفة عاش فقيراً ولو جمع ما جمع من السؤال، يعيش فقير القلب ولا ينتفع بخير بأكثر ما يأخذه، وربما كدَّسهُ وخبأه ثم فات عليه ولم يبقَ الا مسؤوليته وحسابه، وربما خبأه حتى على اقاربه ولم يهتدِ إليه ورثته، وربما كان لورثته وربما كان في شيء من نظام هذه البنوك وغيرها، يُلهف عليه، وكثيرا من أرباب الأموال ولهم الأرقام السرية ولم يُعطوها حتى لاولادهم ولا لأهلهم فماتوا فاكلها الكفار -أرباب الربا- الذين جعلوا هذه الأنظمة الخبيثة تروي غليل أهل الجهل والشجع والطمع ثم يفقدونها الدنيا واخرة -والعياذ بالله- "من فتح على نفسه باب مسألة فتح الله عليه باب فقر" ومع ذلك فالمسلك القويم أمام المسؤولين أن يُعطوا السائل ما تيسّر لهم ولا اقل الا ان يردّوه بالكلام الحسن.
(وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10))، فقد رأى بعضهم صاحب تكبّرٍ بماله، جاء ببعض غِلمانه عند قدومه إلى مكة مكرمة، فجعلهم في المطاف يمشون أمامه يُنحّون الناس عنه، وهو يطوف مُتبخترا، ثم بعض الذين راقبه في هذا الموقف..جاء بعد مدّة الى العراق و مرّ بالبصرة وإذا بسائل في الطريق يسأل الناس في الشارع، يتأمّل! هذا يشبه ذلك الذي رأيته سنة كذا، حَوله الغُلمان يُبعِدون الناس من أمامه، هل هو أو ليس هو! وهو ينظر اليه، ما لك تنظر اليّ؟! شبّهتُك برجل، رأيته في الطواف قبل مدة حوله الغلمان يذودون الناس عنه، قال: أنا! قال: أنت؟! ما الذي ردك الى هذا الحال؟! قال: يا هذا تكبّرتُ في موضع يتواضع فيه الناس عند بيت ربي، فأذلّني فى موضع يتكبّر فيه الناس وها أنا في الشوارع الآن ! أبحث عن لقمتي! لأنني تكبرتُ في موضع يتواضع فيه الناس بجلال ربهم -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-.
(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)) وكان بعض الصالحين إذا يرى السائل يقول: "مرحبا بمن جاء يحمل لي زادي إلى الآخرة بلا أُجرة"، تفضل يا مرحباً بك، تحمل حمولي إلى الآخرة من دون ما تأخذ مني شيء.
فبكى مرة سيدنا علي فقال: ما يبكيك؟ قال: مرَّ اسبوع لم يدخل ضيف داري، وكان يبكي. كيف يمر أسبوع ما دخل عندي ضيف؟! رضي الله عنهم.
(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11))
(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11))، اذكر فضل ربك عليك، وأعلِم الناس بمنّتي واحساني اليك، (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) فإن من شُكر النعمة الإقرار بها وذكرها، (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) والمتحدثون بنعمة الله يذكرون فضل الله عليهم وقلوبهم تشهد منته وعدم استحقاقهم لشيء، والمتبجّحون والمتكبّرون يذكرون أيضًا نِعم الله لكنهم ينسبونها لأنفسهم، (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ..) [القصص:78] فهؤلاء بذكر نعمتي يُفلحون ويفوزون، وهؤلاء يَخيبون ويخسرون، لأن هؤلاء نسبوها إلى أنفسهم وتكبّروا بها على عباد الله وهؤلاء شهدوها للمولى وتذللوا بين يدي الله.
ومن ذلك ما جاءنا من إنبائه ﷺ عن نِعم الله عليه، ومنها ما روت لنا كتب الصحيحين وغيرهما من مثل إخباره: انه "سيدُ ولدِ آدمَ ولا فخر"، "أنا أولُ شافعٍ وأولُ مشفَّعٍ"، الى غير ذلك -صلوات ربي وسلامه عليه-، وقال: "لو كان موسى حيا ما وسعه الا اتباعي" لمّا رأى سيدنا عمر يعرض عليه الورقة يقرأها من التوراة وقد حرفوها وبدلوها قال له: ماذا ابن الخطاب ؟ اكفرٌ بالاسلام؟ ألم آتكم بالقرآن؟ " لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي"موسى الذي أنزلت عليه التوراة لو كان موجود الان، ما له إلا اتباعي ما يُمكن يقوم بالشريعة ولا بشيء إلا باتباع محمد ﷺ؛ (..لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ..) [آل عمران:81] هكذا.
(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)) ومنه ما جاءنا في كتب السُنن: " أنه كان جماعة من أصحابه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم يتذاكرون وكان حديثهم عن ذكر الانبياء وإنْعام الله عليهم -صلوات الله عليهم-، يتكلمون، فدنا منهم نبي فسمع حديثهم بعضهم يقول: إن لله في خلقه عجبا، إن الله تعالى كلّم موسى تكليما قال الثاني: ما هذا بأعجب من عيسى جعله الله روحه وكلمته، قال الثالث: ما هذا بأعجب من ابراهيم اتخذه الله خليلا، قال الرابع: وما هذا بأعجب من آدم اصطفاه الله تعالى وخلقه بيده ونفخ فيه من روحه، فدخل النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلّم عليهم، وقال: فإني سمعت حديثكم وعجبكم، أن إبراهيم نجيُّ الله وهو كذلك، وأنَّ عيسى روح الله وكلمته وهو كذلك، وأنَّ إبراهيم خليل الله وهو كذلك، وأن آدم اصطفاه الله وخلقه بيده وهو كذلك، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر، إلا وأنا اول شافع ومشفع يوم القيامة ولا فخر، ألا وأنا أكرم الاولين والاخرين على الله ولا فخر، إلا وأنا أول من يأتي باب الجنة فأحرّك حِلقها ومعي فُقراء المؤمنين ولا فخر" -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- فأقرّهم على الثناء على الأنبياء وعرّفهم كيف يتلون سيرته ويُثنون عليه بما أكرمه الله وما آتاه، فذلك قربة إلى الله.
فحمدا لربٍّ خصنا بمحمد
وجعلنا كلنا من أمته الحمد لله، بكم؟! فضل من الواحد الأعظم، سلّمتَ مقابل من شان أن تكون من أمة محمد؟! مقابل ماذا؟ ماهوالمقابل؟! أوجدك في الأمة له الحمد، جعلك مؤمن به ومصدّق فاثبت على دربه حتى تحظى بقربه، تدخل في القيامة في ركبه.
الله يرينا إياه، الله يجمعنا به، الله يجعلنا من رفقائه، وهو نعمة الله الكبرى على العباد.
يا من هو الآية الكُبرى لمُعتبِر ومن *** هو النعمة العظمـــى لمغتنـــــــم
صلى وسلم رب العرش والأمم *** عليك دأباً وبالآصال والبُكَــــــــر
الله يجزيه عنا خير الجزاء، ويجمعنا به في الدنيا والبرزخ ويوم اللقاء، ويوردنا على حوضه المورود و يظلنا تحت ظل لوائه المعقود، يمر بنا معه على الصراط، ويُدخلنا معه في جنات الخلود، يا بر يا ودود يا الله، بالقرآن الذي انزلت فيه القرآن، وبالقرآن ومن انزلته عليه عبدك سيد الاكوان، اجعلنا من رفقائه وأظلنا بظل لوائه واسعدنا بمتابعته واقتفائه يا الله، اجعل حظّنا من رمضان عظيماً وقِسمنا من فضلك فيه جسيماً، وسهمنا من جودك وكرمك فيه فخيماً، وهب لنا منك ما أنت أهله يا ذا الفضل العظيم يا الله، برحمتك يا ارحم الراحمين، واصلح شؤون هذه الأمة واكشِف الغمم والبلايا عنهم، وارينا فيهم ما تقرُّ به عين نبيك وارنا ظهور رأيته ودينه في جميع الأقطار، وادفع عنا شرور الاشرار، واحمنا من جميع المضار، بالسرِّ والاجهار.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
12 رَمضان 1436