(228)
(536)
(574)
(311)
يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1436هـ.
﷽
(وَالضُّحَىٰ (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ )(8))
الحمد لله تأتينا الجمعة الثانية في الشهر الأغرِّ المبارك، بارك الله لنا في لياليهِ وأيامهِ وساعاتهِ وأنفاسهِ، وأدّيْنا فريضة الله وتلوْنا مِن آيات الله وذكرْنا الرحمن تعالى في علاه، وصلَّينا على نبيِّه وحبيبه ومصطفاه،
فصلِّ على حبيبك المصطفى، ووفِّر حظَّنا مِن تبليغك إياه صلاتنا عليه واجعل لها محل الرضى منك ومنه، برحمتك يا أرحم الراحمين، صلِّ عليه وعلى آله وصحبه صلاة ترضيك وترضيه وتنطوي بها أعمالنا ونياتنا وحركاتنا وسكناتنا فيه، وعلى آله وصحبه وأهل محبته وقربه وعلى آبائه وإخوانه مِن الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
وتلوْنا سورة الكهف التي قال لنا: "مَن قرأها يوم الجمعة مُدَّ له نور مِن مكان قراءتها إلى البيت العتيق، ومِن مكان قراءتها إلى السماء ويبقى إلى الجمعة التي بعدها"، فتقبَّل الله منا ومنكم.
الحمد لله على إفضاله وجزيل نواله وصلى الله وسلم على خاتم أنبائه وإرساله سيدنا محمدٍ وعلى صحبه وآله، وعلى آبائه وإخوانه مِن الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين
وبعد…
فإننا في تأمل الآيات الكريمات المباركة في الشهر الأنور الأغر وصلنا إلى سورة الضحى، وفيها قسَمٌ مِن العليِّ الأعلى؛ بالضحى والليل. أنه لم يودّع نبيه، ولم يقْلُهُ ﷺ
السورة في مكة المكرمة نزلتْ على صاحب الأخلاق والشمائل المعظَّمة ﷺ بعد انقطاعٍ للوحي، جاءت السيرة لنا في ذلك بروايات منها:
قال: (وَالضُّحَىٰ (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ (2)) أقسم بالضحى وفيه دليل على مكانة الضحى وفضله، وما الضحى؟ الضحى: أول النهار، أو أول ساعة بعد ارتفاع الشمس قدر رمح، أو النهار كله؛ لأنه قابله بالليل. (وَالضُّحَىٰ (1) وَاللَّيْلِ ..(2))، والمراد بالضحى جميع النهار، أو المراد بالضحى ضوء النهار، أما ضوء النهار، أو صدر النهار، أو أول ساعة بعد ارتفاع الشمس، أو النهار كله.
(وَالضُّحَىٰ(1)) وفي الوقت المسمى بالضحى مِن بعد أن ترتفع الشمس قدر رمح وذلك مِن بداية طلوعها، ستة عشر دقيقة، بعد أن تمر ستة عشر دقيقة تكون ارتفعت قدر رمح، في خلال هذه الفترة يستمر حُرْمة التنفُّل بالنوافل المطْلقة، والخلاف فيما كان مِن ذي سبب متقدِّمٍ على النافلة، أو كانت مؤقتة، أو كانت قضاء فحرَّم كل هذه الأصناف الحنفية للصلاة وقالوا: لا يجوز الصلاة حتى ترتفع الشمس قدر رمح ولو قضاء حتى لو فاتته الصبح لا يقضيها حتى ترتفع قدر رمح.
هذا الوقت بعد ارتفاع الشمس قدر رمح إلى وقت الزوال، إلى وقت الظهر، وقتٌ شريف تُشرع فيه صلاة مخصوصة تسمى صلاة الضحى، وتسمى كما جاء في السُنَّة "صلاة الأوابين" صلاة الأوابين تُطْلق على صلاتين في وقتين مِن الليل والنهار، ففي النهار "صلاة الضحى" تسمى صلاة الأوابين، وفي الليل ما بين المغرب والعشاء، فالصلاة في وقت الضحى وفيما بين المغرب والعشاء تسمى صلاة الأوابين أي الرجّاعين إلى الله، وذلك أنه في هذيْن الوقتين، تكثر الغفلة عند الناس، وانصرافهم في النهار إلى معاشهم وانصرافهم في الليل إلى عشائهم وإلى منامهم، فإنما يصلي في هذه الأوقات الاوَّابون الرجّاعون إلى الله (..إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًاإِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا) [الإسراء:25] -جلَّ جلاله-
وصلاة الضحى عظيمة الفضل والقدر، وإذا اقترنتْ بعمارة ما بعد صلاة الصبح، إذا صُلِّيت الصبح في جماعة كما يوفقنا الله تعالى، حتى ترتفع الشمس قدْر رُمح فصلِّي مِن الضحى ركعتين أوأربعًا، أدرك صاحب ذلك ثواب حجة وعمرة، شَهِد لها النبي بالتمام فقال: تامة .. تامة.. تامة، وفي رواية تامتين.. تامتين.. تامتين مَن صلَّى الصبح في جماعة كما جاء في سنن الإمام الترمذي وغيره مِن المحدثين وعند غيره مِن المحدثين، يقول ﷺ: "مَن صلَّى الصبح في جماعة، ثم قعد في مصلَّاه يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلَّى ركعتين، أو أربعًا، انقلب إلى بيته بحجةٍ وعمرة تامة- تامة- تامة" -الله يقبل مِنا ذلك-، -الله يقبل مِنا ذلك-.
وفاعل ذلك قليل مِن المؤمنين في أكثر أقطار الأرض، وكثيرٌ مِن أهل الإسلام يحيون ما تيسر لهم مِن أجزاء الليل، وقد يحيون عامة الليل أو أكثره أو كله، ثم بعد صلاة الصبح ينصرفون إلى المنام ولا ينتظرون طلوع الشمس، وفيها هذا الثواب المخصوص، ثواب حجة وعمرة، وإذا أعطيت ثواب العمرة فلا يبعد أن يعطيك الله تعالى ثواب مَن اعتمر في رمضان؛ "وعمرة في رمضان كحجةٍ معي"، يقول ﷺ: "كحجةٍ معي" صلوات ربي وسلامه عليه.
ثم أنَّ هذه صلاة الضحى أقلها ركعتان وأفضلها ثمان، ويمكن أن تُصلَّى أربعة، أو ست، جاء في صحيح الإمام مسلم "يصبح على كل سلامى مِن أحدكم ـ يعني مفصل ـ صدقة فكل تكبيرة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وتعين الرجل على دابته وتحمل متاعهُ صدقة، ويجزيه مِن ذلك كله ركعتان يركعهما مِن الضحى، فيؤدي صدقة السلاميات أي المفاصل كلها، ركعتان يركعهما مِن الضحى، وتسمى صلاة الغنى، وصلاة الرزق، وفي الخبر: "لا فقر مع ضحى".
فإنَّ المواظِب على صلاة الضحى ييسر الله له مِن الرزق ما يسده ويكفيه، ومما يمنع الرزق المبارك الحلال، النومة بعد صلاة الصبح قبل طلوع الشمس، تسمى "الصبحة" تمنع الرزق، وفي الخبر أنَّ الذي يعمر بعد الصبح بذكر الله أسرع في تحصيل الرزق مِن الذي يجوب الآفاق، أي يسافر فيها في طلب الرزق.
ومِن خاصية صلاة الضحى كما يذكر أهل العلم أنَّ الله يحمي صاحبها مِن شرِّ الجن، فلا يقوون عليه ولا على إيذائه، فإذا ثبت ذلك صار نَفَسَهُ يحْرقهم حتى إذا تعرّض له جنِّي فأصابه نَفَسُهُ صُرِع الجنِّي فيمرُّ عليه الجان فيقول: أصابه إنسي. كما يُصرَع الإنسي فيقال: أصابه جنِّي، قال تعالى في أكَلَة الرِبا: (لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ..) [البقرة:275] صلاة الضحى… أقسم الله بالضحى المراد ضوء النهار، أو أول النهار، أو الساعة الأولى، أو جميع النهار مقابل الليل
(وَالضُّحَىٰ (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ (2)) أقسم بالليل، (إِذَا سَجَىٰ)، إذا أقبل (إِذَا سَجَىٰ) ، إذا اظلم (إِذَا سَجَىٰ)، سكن، فيركد، ويسكن بظُلامه ويسكن الناس فيه، جعل الليل سكنًا، (مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ..) [القصص:72].
(وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ (3)) -ما تركك ولا هجرك- (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ ..)، الذي يحبك وفضَّلك على ما سواك (مَا وَدَّعَكَ ..)، كذِبَ مَن قال: إنه ودعك.
(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ (4))، ما أعددنا لك مِن الكرامة، والمزية، والرفعة، والشرف في الآخرة أعظم مما أبرزنا لك في هذه الدنيا (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ (4))، وفي الحديث قال: "عرض عليَّ ربي ما يُفْتح على أمتي مِن بعدي كَفرًا، كَفرًا، جهةً، جهةً مكانًا، مكانًا، فسرَّني ذلك فأنزل عليّ: (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ (4))، كما نقرأ فيما أعطى يوسف بعد الإمتحان والإختبار مِن تمكين، ومِن تسديد وبتأييد (وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ۚ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)، قال: (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ…) [يوسف:56-57]، فكل ما يؤتى المؤمن والمخلص والصادق في الدنيا مِن رحمة ومنَّة وكرامة وعافية وتيسير وكشف كربة وتسخيرأسباب ونعمة؛ ماخُبأ له وأُعدَّ في الآخرة أكبر.
(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ (4))، قال بعض أهل التفسير: (وَلَلْآخِرَةُ)، الساعة المتأخرة خيرٌ لك مِن الأولى التي قبلها، فلك في كل ساعة ارتقاء واعتلاء وارتفاع وزيادة مِن الفضل، ففي كل لحظة يزداد قدر نبينا، كم أصبح اليوم على ظهر الأرض صائمين؟ صيامهم كلهم مضاعف في صحائف مَن علَّمهم مِن آبائهم وعلمائهم وهم مضاعف في صحائف الذي علَّم الذي علَّمهم حتى تجتمع كلها إلى عند محمد، كم كبَّر اللهَ اليوم من مُكبِّر؟ كم صلىَّ صلاة صبح على ظهر الأرض؟ صلاتهم كلهم تجمع إلى مَن قبلهم، تصِل عند الحبيب مضاعفة، ففي كل لحظة يرتفع كم؟
(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ (4))، فكمالاته لا تتناهى وفي كل لحظة أرقى، وأرقى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم، وقد ورِثهُ في ذلك الصالحون، فالأصفياء قالوا: المحبون لله كل يوم لهم عيد، وقال سيدنا علي بن أبي طالب لمَّا هُنئ بالعيد: اليوم عيد وأمس وغدًا إن شاء الله عيد، وكل يوم لانعصي الله فيه فهو عيد.
وقال: لي لهم كل ساعة منه عطْوة جديدة. هذا إذا كان يستمر ارتقاء فروعه وأتباعه فكيف بارتقائه هو؟ وأعمال جميع الأمة في صحيفته؛ لأنه هو الذي دلَّهم، هو الذي هداهم وأرشدهم "مَن دلَّ على هدى كان له مِن الأجر مثل أجور مَن تبعه" فأنواع الأعمال الصالحات مِن الأُمّة إنسًا، وجنًّا مثبوتة مضاعفة في صحيفة النبي المؤتمن، فلا يستطيع عقل أن يتصوّر مقدار ما يرتقي إليه ﷺ مِن الدرجات في اللحظة الواحدة، بل بمبْدأه حارَ الخلقُ، كيف انتهاؤه؟! (إِ..نَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا) [الإسراء:87]، (...وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) [النساء:113]، (...وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ۚ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) [النساء:113].
(وَالضُّحَىٰ (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ (5))، (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ…)، (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ..)، ويأتي لفظ المضارع في اللغة للإستمرار والدوام (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ..)، (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ (5))، (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ ..)، الشفاعة، والمقام المحمود، شفاعات في أمتك، شفاعة بعد شفاعة، بعد شفاعة حتى يتعجب مالك -خازن النار-: يا محمد لم تدع مِن غضب ربك في أمتك مِن بقية! (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ (5)):
(وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ (5))، ولا أحد مِن أهل الأرض والسماء في مقام الرضى عن الله كمحمد فهو أرضى الخلق عن الله وأرضى الخلق عند الله، (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ (5))، ولا يزال الحق يحدث له مِن العطايا الموجبات الرضا ما لا يوصف. وهكذا.
جاء بعض أهل الكوفة إلى سيدنا محمد الباقر بن علي زين العابدين يسأله عن حديث الشفاعة قال: حق وقد حدثني عمي محمد ابن الحنفية عن علي، وذكر الحديث في شفاعة النبي ﷺ وما يرضي ربه ثم قال: أقبلَ عليه وقال: أنتم أهل الكوفية تقولون أنَّ أرجى آية (۞ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا …) [الزمر:53]، قال: نعم لكنَّا نقول: أنَّ أرجى آية (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ (5))، وهذا العطاء الذي يرضي محمد نصيبنا منه كيف؟ وها هو لا يرضى لأحدٍ مِن أمته بالعذاب ولا بالسوء، (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ (5))، صلوات ربي وسلامه عليه.
وذكّره بما أولاه مِن مَنن مِن أول عمره في هذه الحياة الدنيا (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ (8))، يقول: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا..)، يبرزك إلى عالم الدنيا قد مات أبوك، ثم بعد ست سنوات تموت أمك، فتصير يتيمًا مِن الأبوين (فَآوَىٰ)، تولاك، رعاك، حماك، ربَّاك الله.. سخَّر لك جَدًّا اسمه عبد المطلب، عرّفه مِن فضلك، وقدْرك شيئًا، وكان يقول: إنه ليكوننَّ لابني هذا شأن، وقد كان يجلس أحياناً إلى مكانٍ مرتفع عند الكعبة لا يجلس عليه إلاَّ عبد المطلب -شيخ قريش- فإذا جاء وجلس، أراد بعض أعمامه أن يُخرجه فيقول عبد المطلب: دعوهُ، دعوهُ فإنه ليكونن لإبني هذا شأن، سنتين وتوفي عبد المطلب وسخَّر الله أباطالب، الحقُّ يرعى هذا النبي، ويسخِّر له الأسباب، وجعل له مِن رعايته ما لا تكون هذه الأسباب إلاَّ سُنَّة مِن سُنن الله في إقامة الأمور وهو غني عن هؤلاء كلهم بربهِ (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ(6)) آواك إليه، ضمَّك إليه، تولاك هو سبحانه وتعالى (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ(6)).
(وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ (7))، الضَّال المحب الشديد الحب المفتتنين بالمحبة، قال أولاد سيدنا يعقوب لأبيهم: (...تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ) [يوسف:95]، يعني محبتك ليوسف، تعلُّقك وولعك به (…إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ) [يوسف:95]، وجَدكَ مهيَّما في محبته، وهداك إلى أسرار معرفته ما لم يهدِ سواك.
(وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ (7))، ووجدك ضالَّا في قوم ضُلَّال، فحماك مِن شركهم، وكفرهم، وعصيانهم وفسوقهم وهداك، نشأتَ بين قوم عبدة أصنام، شربة خمور، أكلة رِبا، أرباب منكرات فلم تشرب خمرًا، ولم تسجد لصنم، ولم تفعل شيئًا مِن أفعالهم القبيحة قط (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ (7))، ووجدك ضالَّا بين الناس لا يعرفون قدرك، ولا يعرفون عظمتك، ومَن أنت، فهدى مَن شاء بإنزال الوحي إليك فعرفوا لك النبوة، والرسالة وأنك ختم النبيين والمرسلين هداهم الى ذلك.
(وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ (7))، وربَطهُ بعض أهل التفسير بما حصل له في بداية عمره وما يذكر أهل السيرة مِن أنه ضاع يومًا وهو في صباه ثم ردَّه الله إليهم، وأنه لمَّا كان في رحلةٍ مع مَيْسرة وأخرج الشيطان زمام الناقة فأبعدها عن الطريق فبعث الله جبريل ولا يدرون أين هو فبعث الله جبريل، فدحا الشيطان حتى وقع في أرض بعيدة وردَّ الجمل إلى القافلة (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ (7)).
(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ(6)) -ونِعم المؤوي- (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا.. (8))، عائلًا مفتقرًا إليه أشد الافتقار، علّمك اضطرارك إليه وحاجَتك إليه فأغناك وهو الذي يغني كل مفتقر إليه تعالى (وَوَجَدَكَ عَائِلًا..)، (وَوَجَدَكَ عَائِلًا..)، في أُسرة فقيرة مِن المال؛ (..فَأَغْنَىٰ (8))، أغناك بعنايته الخاصة، وبما يفيضه على ذاتك مِن إحسانه وكرمه وقوته وقدرته وييسر لك مِن الأسباب بعد عبد المطلب؛ أبو طالب وخديجة، وأموالهم مسخرة لك، وفي قلبك غنى بربك مِن شدة افتقارك إليه عن كل شيء، وإنما الغنى غنى النفس (..فَأَغْنَىٰ) ويمدك بإمدادات روحانيات تقول عنها: "أبيتُ عند ربي يطعمني ويسقين" الله، وفي زهادة عدم اكتراثٍ بالدنيا، وما فيها، فتجوع يومًا، وتشبع يومًا، وما أتى مِن الدنيا صرفته، وبادرته، بإخراجه.
هو الزاهد الملقي لدنياه خلفه *** هو المزدجي منها بزاد المسافر
وباذلها جوداً بها وسماحــــــــــــة *** بكف الندى كالسحاب المواطر
وفيه ثقة بالله عظيمة.
(وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ (8))، ونعم المغني سبحانه وتعالى، ولا غني إلاَّ مَن أغناه الله، وكل مَن افتقر إلى غير الله تعالى فظن أنه اغتنى به، فإنما اغتنى مَن أغناه الله بالافتقار إليه عن كل هؤلاء، وهؤلاء يظن أنه يغتني بمال، يغتني بأصحاب، يغتني بجماعة، يغتني بوظيفة؛ ولكن الذي اغتنى بالله اغتنى عن هذه الأشياء كلها، وإنما الغنى عن الشي لا به، وإنما الغنى الغنى بالله، ومَن اغتنى بالله فقد اغتنى بالأبدي السرمدي، الأول، الآخر، القيوم ونعم الغنى، ومَن اغتنى بمال، مال يزول، ويتغير ويتبدل ويسترق وينهب، الله.. اغتنى بوظيفة تتبدل، اغتنى بحزب كلها ما فيها غنى إذا انقلب حالها انقلب حاله الله، لكن من اغتنى بالله دام غناه، وثبت وصح.
(وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ (8))، يقول: فخذ منا مجال التهذيب الذي به رقيناك، وجعلناك المثل الأعلى في المسلك الحسن.
(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11))، فيأتي معنا بيان لبعض معاني هذه التأديبات الربانية، والمنهج الرحماني لخير البرية، رزقنا الله متابعته، وكثرة الصلاة والسلام عليه، في اليوم خاصة وفي جميع الأيام والليالي عامة "إنِّ أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليَّ صلاة" ويقول: "إنَّ مَن صلّى عليَّ واحدة صلى الله عليه بها عشرا"، ويسر لمن جلس في المصلىَّ نائم إلى أن تطلع الشمس يأخذون أجره مِن النوم، يذكر الله قال النبي: يذكر الله، يكون في قرآن، يكون في ذكر، في علم هذا هو يحصل الثواب، أما ينام! ينام في المصلَّى! حتى وسط الكعبة ينام مكانه نائم ماشي فائدة، ولكن يذكر الله، يذكر الله حتى تطلع الشمس، جعلنا الله مِن الذاكرين يا أرحم الراحمين، يا أكرم الأكرمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النار، ورقَّانا الله وإياكم أعلى المراقي، وسقانا مِن أحلى السواقي بأكرم ساقي وأصلح شؤوننا بما أصلح به شؤون الصالحين، وأكرمنا بطيب التلاقي في حضائر القدس مع المقربين ووقانا كل سوء أحاط به علمه وأصلح شأننا بما أصلح به شؤون المحبوبين والمقربين إليه وبارك لنا في هذا اليوم وساعة الإجابة في هذا اليوم ووفر حظنا منها وجعلنا ممن ترعاهم عين عنايته في جميع الأطوار في خير ولطف وعافية.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
11 رَمضان 1436