تفسير سورة الشورى -04- من قوله تعالى: { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْك } ... الآية 13 إلى الآية 15
الدرس الرابع من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الشورى، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1446هـ ، تفسير قوله تعالى:
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)
الجمعة 14 رمضان 1446هـ
نص الدرس مكتوب:
ثاني جمعة من جُمَع الشهر الكريم، بسط الله لنا بساط الفضل والتكريم، والخير العظيم، والفضل العظيم، والمنِّ الجسيم، اللهم وفِّر حظنا من ليالي رمضان وأيامه، وجودِك وإكرامك فيه لأحبابك وأهل قربك، يا ربِّ لا تحرمنا خير ما عندك لشر ما عندنا، وائْذَن بالفرج للمسلمين والغياث للمسلمين والصلاح للمسلمين، وكشف الشدائد عن المؤمنين أجمعين، واللطف الكامل التام بأهل الضفة الغربية في فلسطين، وأهل غزة، وأهل لبنان، وأهل سوريا، وأهل اليمن، وأهل الشام، وجميع المؤمنين والمؤمنات في جميع الجهات، والطف بنا وبهم يا لطيف، وفرج الكرب عنا ورد كيد المعتدين والظالمين والغاصبين المفترين والفاجرين والمؤذين والمفسدين والضالين، ولا تبلغهم مرادًا فينا ولا في أحد من أهل لا إله إلا الله، يا أرحم الراحمين.
الحمدلله مُكرِمنا بالقرآن الكريم والذِّكر الحكيم، وبَيَانِه على لِسان صاحب الخُلُق العظيم، الهادي إلى الصِّراط المُستقيم عبد الرحمن محمد بن عبد الله الرحمة المُهداة والنِّعمة المُسداة، صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهُداه، وعلى آبائه وإخوانه من رسل الله وأنبيائه وعلى آلهم وصَحبهم وتابعيهم، والملائكة المُقرَّبين وجميع عباد الله الصالحين أولياء الله، وعلينا معهم وفيهم؛ إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، العظيم فضْلِه ونوالِه وعطاه.
وبعدُ،،
فإننا في نعمة تدبُّرنا لكلام ربّنا -جلّ جلاله- وصلنا في سورة الشّورى إلى قول مولانا الرحمن: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ (13)) يُبيِّنُ الرحمن -جلّ جلاله- أن دين الحق الذي كان عليه أبونا آدم، ثم شِيث بن آدم وإخوانه، ثم إِدريس ومن تَبِعه ومن مضى على المِنوال من بعدهم إلى النبي نوح -عليه السلام- ومن اتّبَعه (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) [هود:40]؛ كانوا هم آباء مَن على ظهر الأرض بعد ذلك، ومن جاء بعدهم من النبيّين والمُرسلين أنّ هذا الدين أمرٌ أعظم من أن يكون وليدَ وصِناعة هوىً، أو فِكر بشري، الأمر أكبر من ذلك وأجلّ.
(شَرَعَ لَكُم) الله؛ الله بيَّنَ وسَنَّ وحكَم ودَلَّ ووَضَّحَ .
(شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ) الدين الوحيد الذي هو دين الله لا يقبَل غيره، وكان عليه جميع الأنبياء وجميع الأصفياء على مدى القرون من عهد آدم عليه السلام، فجميع الأنبياء والمُرسلين؛ هذا هو الدين الذي شرَعَهُ الله لهم:
-
فيما يجب عليهم الإيمان به واعتقاده.
-
وفيما يستقيمون عليه من الأوامر والنّواهي في أعمال الحياة.
فكان أصلُ الدين: من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقضاء والقدر خيره وشره من الله -تبارك وتعالى- وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصوم، والحج إلى بيت الله الحرام، وتحريم الزنا واللواط والسرقة والظُّلم وأمثال ذلك؛ هذا دينٌ واحدٌ مُجمَع عليه لا اختلاف فيه؛ أما عدد الصلوات وكيفيّاتها، وكيفيّة الطهارة لها، وما يتعلّق بعد ذلك بالمُحرّمات والواجبات الأخرى؛ فجعل الله لكلِّ نبيٍ لقومِه شِرعة ومِنهاجا في ذلك الأمر بما يتناسب معهم ومع عصرهم ومع أحوالهم، حتى اختار الله أن تأتي الرسالة الخاتِمة الكاملة الشاملة فوضع المِنهاج الذي لا يصلُح كلُّ زمانٍ ولا مكانٍ الى أن تقوم الساعة إلا به، منهاج الحق والهدى:
-
فهو الذي يستقِرُّ ويستقيمُ به حال المُكلَّفين من الإنس والجن في أي زمان من الأزمان، وفي أي مكان من الأمكنة إلى أن تقوم الساعة؛ منهج الله وشريعته الذي جاء به محمد ﷺ.
-
وما تعلَّق بالأمور الغير ثابتة؛ فنسخَ كل ما خالَفَها من الأوامر والنواهي والأحكام بالشريعة المحمدية؛ نسخت جميع الشرائع.
ولكن جميع الشرائع مُتّفقة على وُجوب صلاة؛ على وُجوب صوم؛ لكن كم أيام الصوم؟ وفي أي وقت؟ هذا الذي اختلفوا فيه، وعلى وجوب زكاة كلهم اختلفوا واتفقوا على ذلك، الحج إلى بيت الله الحرام من عهد آدم -عليه السلام-، أمره الله أن يحج وكل الانبياء والمُستَطيعون (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ) [آل عمران:96]، كذلك تحريم الكذب، تحريم الغش، تحريم الزنا، تحريم اللِّواط، تحريم الإيذاء للعباد وانتهاك الحرمات أمر مُجمَعٌ عليه بالاتفاق، وجوب الصدق، وجوب الأمانة أمر مُتَّفق عليه، ومُجمَعٌ عليه في جميع الانبياء وأُمَمِهم ودين الحق تعالى الذي ارتضاهُ الله لنا.
مرجِعُ هذا الدين سواءً في الثّوابِت التي لم يُختَلف عليها، أو في اختيار ما يُناسِب الأوقات والعُصور بالنسبة للأُمم السابقة، ثم اختيار ما لا تصلُح العصور والأزمنة إلا به بعلم الله الذي خلَقه، وخَلْقُ الأزمنة وأهلها، والعُصور وأهلها، والأماكن وأهلها منه -سبحانه وتعالى- بأن يكون شرعًا خاتِمًا كاملًا شاملًا:
-
للإنس والجن في الشرق والغرب.
-
للعرب والعجم.
-
للذكور والإناث.
كان باختيار الله وبعِلمه أوحاهُ إلى محمد فختَم المُرسلين.
وقد أتانا خاتِـمُ الرِّســالة *** بِكُلِّ ما جاؤوا به من حالة
فَـعَـمَّ كـلَّ الخلقِ بالـدَّلالة *** وأشرقت مناهِج الكمـالِ
فكلُّهُ فضلاً أتى ورحـمة *** وكـلُّه حكمُ هُدىً وحِكـمة
وهو إمـام كُـلِّ ذي مُهِمّة *** وقُدوَةً في سائر الخِصالِ.
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم
وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ مِنْ غَيْرِ رِيبَـــةٍ *** إِمَامٌ عَلَى الإِطْلَاقِ فِي كُلِّ حَضْرَةِ
وَجِيهُ لَدَى الرَّحْمَنِ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ *** وَصَدْرُ صُدُورِ العَارِفِينَ الأَئِمَّــةِ
صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن سار في دربه، وعلينا معهم وفيهم.
يقول: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ) يا أيها المؤمنون، يا أمة محمد:
-
(مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا) من التوحيد والإيمان والبِرّ والعدل والصدق، والإيمان بالله والملائكة واليوم الآخر، والجنة والنار، ومعرفة صفات الله تعالى وما يستحيلُ عليه وما إلى ذلك.
-
(مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا) والاستقامة على الدين والشرع الذي ارتضاه الله، والاتفاق على ذلك والتعاوُن عليه؛ هذه وصية الله للأنبياء من قبلنا ولأتباعهم.
يرجِع كل ذلك إلى تقوى الله: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء: 131]، فهي وصيّة الله للأنبياء ولأتباعهم.
(مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) شرَعَ الوحيُ الذي أوحاه إلى محمد بن عبد الله الكامل الجامع الخاتِم.
(وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ) فاختار من الأنبياء أولي العَزم من الرُّسُل الخمسة فذكَرهم، وهو الذي وصَّى به آدم وشيث بن آدم وإدريس، ووصَّى به سيدنا إسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وأيوب وإبراهيم ولوط، وسيدنا يوسف -عليه السلام- وسيدنا سليمان وداؤود وزكريا نفسه وصَّاهم كلهم بذلك، لكنّه خصَّ هؤلاء الخمسة المُميّزين من بين الرُّسل أفضل الرُّسُل في آيتين من القرآن في هذه السورة سورة الشورى، وكذلك في سورة الأحزاب فذكَر أسماء هؤلاء الرسل- صلوات الله وسلامه عليهم- كما يقول سبحانه وتعالى: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ)، فهؤلاء هم الرُّسُل:
محمد ابراهيم موسى كليمه *** فعيسى فنوح هم أولو العزم فاعلم
(فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف:35].
(أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ)، وكان هذا من الوصية للأنبياء ولنا: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ)، وهو: الإسلام، والإيمان، والإحسان. (وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) باتّباع الأهواء، وإيثار الفانِيات والمُشتَهَيات، فهذه أسباب الفرقة في الدين؛ التي لُوِيَت بها أعناق النُّصوص من أجل الأهواء، والتي أُنكِرَ فيها الحق الواضح، والتي أُصِرَّ فيها على القبيح الصّريح بهذه الأهواء وبهذه الشهوات، ومن دون هذه الأهواء والشهوات فلا فُرقَة بين أهل الدين.
-
(إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء:92].
-
(وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) [المؤمنون: 52].
-
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات:10].
فما يُوقِع في الافتراق في الدين أي أصولِه، أو الأمور الواضحة فيه؛ إلّا الأهواء والشهوات والبَغي والحسد، ومن تخلَّى عن ذلك فلا يتجرَّأ على انتهاك حُرمات الله بالبُغض أو السب أو الشتم إلى أحدٍ باسم مَذهب، ولا باسم منطقة، ولا باسم قبيلة؛ ولا بأي غرض من الأغراض؛ ولكن عند دخول الأهواء والشهوات يقع الزَّيغ والتفرُّق في دين الله -سبحانه وتعالى- حتى يأبى هذا الصلاة خلف هذا أو مع هذا، أو إلى غير ذلك مما يفعله إبليس من التحرِيش الذي هو مشروعه الأكبر بعد أن أيِسَ أن يعبُده المُصَلُّون في جزيرة العرب؛ فكان مشروعه ومُرادُه وخُطّتُه التي خبَّرنا عنها الصادق الأمين ﷺ أنه يعمل على التحريش بين المسلمين بالتخالُف بين الناس أجمعين يضرب بعضهم ببعض.
كما قال فيما روى الإمام مسلم في صحيحه: "إنَّ الشَّيْطانَ قدْ أيِسَ أنْ يَعْبُدَهُ المُصَلُّونَ في جَزِيرَةِ العَرَبِ، ولَكِنْ في التَّحْرِيشِ بيْنَهُمْ"، يعني هذا غاية ما يطمَع إليه إذ فاتَهُ أن يُحوِّل المُصلِّين إلى مُشركين فيُفرِّق بينهم، حتى يُنسَب الشِّرك إلى أخلص الأمة توحيدًا، وأعظمهم يقينًا ويُسَمُّونهم مُشرِكين بالهوى، وبعدم الانصياع للحقيقة فيما جاء به الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبدأ هذا.
والغريب أنه بدأ هذا عند القرن الأول ونُسِب إلى الشرك خِيار الصحابة؛ سيدنا علي وجماعته وأنهم خالفوا القرآن -والعياذ بالله-، وقاتلوا الصحابة باسم أنهم مُشركين. وكان ابن عباس يقول لهم: عمدتم إلى الآيات التي أنزلها الله في أهل الشرك فصرفتموها إلى أهل الإيمان والتوحيد، الذين قاتلوا أهل الشرك والذين كانوا مع النبي المُصطفى في الصفوف صرفتوها لهم وهي نزلت في أعدائهم -ما هم فيهم- نزلت في المخالفين لهم؛ في أعدائهم، هؤلاء نزلت فيهم:
-
(السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [التوبة:100] ونزلت فيهم.
-
(لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ) [الحشر:8] هذه الآيات التي نزلت فيهم.
أما آيات الشرك التي نزلت على أبي جهل وأبي لهب وأتباعهم كيف تصرفونها إلى هؤلاء، هؤلاء هم:
-
الذين جاهدوا في سبيل الله.
-
وهم الذين قاتلوا أهل الشرك.
-
وهم الذين كانوا في صف مُحمَّد ﷺ.
أتعرف كيف يفعل الهوى بأصحابه؟
-
إلى حد أن أهل هذه الفتنة لعظمة خطرهم في الأمة يقول ﷺ: "لو أدركتهم لقتلتهم قتل عاد".
-
ومع أنه وصفهم بأنهم يكثرون صلاة وقراءة وقيام، "يحقر أحدكم صلاته عند صلاتهم، وقراءته عند قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين لو أدركتهم لقتلتهم".
-
ويقول سيدنا علي لما كان في القتلى معه ذا الثُّنَيَّة الذي وصفه النبي ﷺ يقول لمن معه: لولا أن تبطروا لأخبرتكم بالأجر عند الله لمن قتل هؤلاء، حدثه النبي ﷺ، قال: لولا أن تبطروا -أخاف عليكم البطر والغرور- أحدثكم ما أعد الله من الأجر لمن قتل هؤلاء.
لأنهم رؤوس الفتنة في الأمة، سبب الخطر والضرر على الناس باسم الدين وباسم الشريعة، يبعدون الناس عن الله وعن رسوله، وفيهم أشقى هذه الأمة؛ أشقى الآخرين: عبد الرحمن بن ملجم، شوف اسمه كيف زين وظاهره كان يصلح عبادات وقراءات حتى في جبهته علامة طول السجود، وهو أشقى هذه الأمة، ما نفعه شيء من هذه المظاهر، فالأمر خطير جدًا -والعياذ بالله تعالى-.
يا رب ثبتنا على الحق والهدى *** يا رب اقبضنا على خير ملة.
(أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)، الله أكبر، صلى سيدنا عثمان في بعض السنوات لما حج أربع، وكان ينكر بعض الصحابة عليه في عرفة؛ لأن النبي صلى ركعتين، فكان واحد من الذين ينكرون عليه من الصحابة من خيار الصحابة صلى معه؛ وصلى معه أربع، وبعدين يقول له صاحبه: أنت تنكر أربع، قال: نعم؛ ولكني أكره الفُرقة، أنكر هذا وأنا مع السنة ولكني أكره الفُرقة، بغيتني أخالف أمير المؤمنين وأصلح فتنة، صل أربع خلاص، بعدًا عن الفتنة هذا فقه الصحابة -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-.
وهكذا صلى الإمام الشافعي بجوار قبر أبي حنيفة فأسر بالبسملة والقنوت في صلاة الصبح، سألوه: هل تغير اجتهادك؟ قال: لا، لا يزال الدليل قائم عندي على سنية الجهر بالبسملة وعلى سنية القنوت، قالوا: ليش صلحت اليوم كذا؟ قال: أدب مع هذا الإمام، أنا بجوار إمام مجتهد رأى أنه لا دليل على الجهر بالبسملة ولا على القنوت، فأنا تركته أدباً لجوار هذا الإمام، هذا ماشي فرقة بينهم، هؤلاء ما تفرقوا في الدين، هذا مذاهبهم واجتهادهم من عين الدين الواحد، وأما ذا يجيب بمسألة يكفر عليها خلق الله يُشرِّكهم ويبعدهم ويطلعهم وينزلهم، هؤلاء المتفرقين في الدين، من أين جاءوا بهذا الدين! من أين جاءوا بهذا الفكر الغريب؟! ولكن "أن يطمع في شيء ففي التحريش بينهم" هذا شغل هذا الخبيث صلح هذه الأفكار والأوهام -والعياذ بالله تبارك وتعالى- حتى نسبوا إلى شرك أهل لا إله إلا الله، ومن هم أعرف بالله منهم، ومن هم أجل تمجيدًا وتعظيمًا لله منهم، لا إله إلا الله.
فيا رب ثبتنا على الحق والهدى *** ويارب اقبضنا على خير ملة.
(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، من عبادة الله وحده.
(كَبُرَ) ثقل وشق. (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) مع أن الذي هم عليه يناقض العقل ويناقض الفطرة، ولكن ما يريدون أحد يتكلم فيه ويشق عليهم، تقول: لا تعبدوا غير الله، يزعلون من ذلك؛ أصلًا عبادة غير الله تعالى لا تقوم على عقل ولا على فطرة سليمة، وهذا دعاكم إلى ما يتناسب مع الفطرة ويحكم به العقل، ولكن يردونه، لماذا؟ هذه الأهواء؛ هذه الشهوات؛ هذا الحسد؛ هذه النفوس؛ كما يبين معنا أنهم يختلفون بغي؛ بغي: حسد.
قال تعالى عن طائفة من أهل الكتاب كانوا يقولون لسادتنا الأنصار: أنه الآن قريب وقت نبي سيظهر اسمه مُحمَّد، يقوم ونقوم معه ونقاتلكم عليه، وكانوا يستفتحون على الذين كفروا بهذا ويستفتحون إذا قابلوا أحد في القتال يقولون: يا الله بالنبي مُحَمَّد انصرنا يتوجهون به، (وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزلَ اللَّهُ) -باعوا أنفسهم بإيش؟ (بَغْيًا) حسد- (بغيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) [البقرة:89-90] لماذا مُحمَّد من قريش؟ بيشلون الظهور علينا والسلطة، يا عبيد السلطة، يا عبيد الظهور، هذا أمر الله ودين الله، ويختار من يشاء وأوصافه عندكم في التوراة.
وهكذا؛ تحكي سيدتنا أم المؤمنين -عليها رضوان الله تبارك وتعالى- صفية بنت حيي قالت: وأنا صغيرة رجع أبي وعمي من عند النبي محمد، لما راحوا لعند النبي ويقابلوه أول ما وصل للمدينة ورجعوا، قال: وأخرجوا مَنْ عندهم ولما كنت صغيرة ومحببة إلى والدي وتركني عندهم، سمعتهم يتحاورون، قال: كيف رأيت الرجل؟ قال: هو الذي بشر به موسى، نفسه، نفسه، صاحبه. فما قررت نحوه؟ قال: معاداته إلى الموت. ها! عندك الكلام واضح من ربك على لسان موسى أن هذا هو النبي وتعاديه إلى أن تموت! من أجل السلطة، من أجل ظهور، من أجل المال، -نعاديه حتى نموت- وبعد الموت النار قدامك، وترضى لنفسك بالهلكة، فخسروا الدنيا والآخرة -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
وهكذا تقود الناس أهواؤهم وشهواتهم إلى الكفر بصريح الحق، وبما تبينوا أنه الحق. يقول الله تعالى لنبيه في جماعة حتى من مشركي قريش: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ)، كلامهم هذا في الافتراء والاجتراء على الله وعليك تحزن منه؛
-
(فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ) هم يعلمون أنك صادق.
-
(فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ) هم يدرون ببواطنهم أنك صاحب الحق والصدق.
(فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) [الأنعام: 33] جحد بها وهم دارين أنك صادق؛ لكن مكابرين معاندين، لا إله إلا الله.
وقال الله في قوم فرعون لما جاءهم سيدنا موسى وهزم جميع السحرة وآمن السحرة هذا من عند الله جاء: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) [النمل: 14] وهذا هو الشأن عند عتات وطغاة العصر حقنا هم نفسهم نفس الشيء، ما يجحدون الحق إلا بغيًا وظلمًا وعدوانًا والحق واضح بَيِّن؛
-
مُحمَّد أصدق الخلائق.
-
مُحمَّد رسول من عند الخالق.
كل عاقل يدرك هذا، مجريات الحياة من أيام بعث إلى اليوم تشهد بصدقه، ولكن هذا الظلم هذا العلو هذه الشهوات هذا الأهواء هذا السلطة هذا محبة الفانيات والدنيا يلعب بهم.
(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا) صلوات الله عليه وعاى نبينا عليه السلام (وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) كم حذر الله من الفرقة التي يقودها إبليس بناس من آل الدين وناس من خارج الدين.
-
يقول سبحانه وتعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آل عمران: 105-106].
-
(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [آل عمران:103-104].
-
(وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا) الأمم من قبلكم تفرقوا وصلحوا مشاكل انتبهوا حذر الله وخالفوه (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آل عمران: 105-106].
يقول (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا) -يعني: طوائف وأحزاب متفرقة- (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)، يقول الله لرسوله: أنت بريء منهم وأنا بريء منهم ولا هم آل دين، (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا) [الأنعام: 159]؛ حذر سيدنا علي بما سمعه من النبي حتى في صورة طلب العلم قال: يجي ناس من هذه الأمة في آخر الزمان، "يجلسون حلقاً، يباهي بعضهم بعضاً، حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله"، أخرجه الدارمي عن سيدنا علي بن أبي طالب بسند صحيح، سيدنا علي يجيب خبره من أين؟ معروف أستاذه، معروف شيخه من، منين جاء بدا العلم، "أنا مدينة العلم وعلي بابها" -عليهم رضوان الله-.
(أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) من نفي الأصنام والآلهة غير الحق تبارك وتعالى؛ فغرابة كيف يعيش الناس بأسماعهم وأبصارهم وعقولهم بهذا الحال؟ ينكرون أمر واضح بَيِّن، ويقصدون أمر قبيح خبيث؛ واضح الخبث.
(اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ(13))، (يَجْتَبِي): يصطفي وينتقي وينتخب من يشاء؛ كالأنبياء وخواص الصالحين من عباده، من عادهم في بطن أمهاتهم وهم على نور، يخرجون إلى الأرض وهم على نور وعلى هدى.
كانت أيام ترضع أم سيدنا عبدالقادر الجيلاني طفلها وصبيها في السنتين التي كانت ترضعه أول يوم من رمضان تقدم له الثدي؛ ما يرضا يرضع طول النهار ماشي؛ إلا في الليل وهو طفل صغير.
بعد ما يقص الله علينا أن سيدنا عيسى يتكلم في المهد بالخطبة الكاملة، يُستغرب مثل هذا من مثل العقول التي ما وعت عظمة الله! وما وعت قدرة الله تبارك وتعالى، يألفون أن الناس في المهد ما يتكلمون وما يشعرون، ويبغوون أنَّ هذا حكم نافذ على الكل وأين الله؟ يقول في يحيى:(وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) [مريم:12]، ويقول: (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ) -أم عيسى مريم- (قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) -في المهد- (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا)، القِيَم والمبادئ والشّرع كلّه عند الطّفل هذا، في المهد يتكلّم: (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) [مريم:29-33]؛ أنا مِن الأصناف الذين يجب أن يُحَيَّوْن وأن تُرفع قدرهم ويُعرف شأنهم مِن وِلادتهم ونَشأتهم ووَفاتهم وبعثهم؛ الله أكبر! ما هذا الكلام العظيم! هذا قصّه الله علينا.
والنّبيّ يقول: تكلّم في المهد صاحب جُرَيج، تكلّم في المهد صاحب يوسف، تكلم في المهد..، بعد ذلك ما هذا الإنكار! يدّعي التّوحيد وهو ما عرف الله، خزعبلات وخرافات، لم؟ لأنّ ربّه ما يقدر يجعله صبيّ يتكلّم أو يجعله صبيّ يُشعر، أو يصوم بإذنه، ربه الذي يعبده هذا، ما عنده قدرة يصلحها، أعوذ بالله من غضب الله! ما هذا التّوحيد هذا!! ما هذا الاعتقاد هذا؟1
ذكروا عند النّبيّ ﷺ وهو جالس وأنّ ذئب تكلّم، قالوا النّاس -في الحاضرين-: سبحان الله! ذئب يتكلّم! قال رسول الله: "إنّي أُؤْمِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْر وَعُمَر"، وَلَمْ يَكُن أبو بكر وعمر فِي المَجْلِس، لكنْ يَعلم مَن أبو بكر وعُمر، يعلم إيمانهم، يعلم صِدقهم.
والحقّ تعالى يقول: (قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) [فصلت:21]، يتكلّم ذئب، يتكلم جمل، يتكلّم جذع؛ النّبيّ كلّم الجذع، في شيء؟ أو عندك ربّ أنت قدرته محدودة، نحن نعبد الله الذي هو على كل شيء قدير، يُمكِّن عبد من عِباده على غير العادة أن ينقل عرش بلقيس من مأرب إلى فلسطين قبل أن يرتدّ الطّرف، نحن نؤمن بهذا. أنت عندك رب لا يقدر على هذا؟! (قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ)، وما هي النتيجة؟ (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ) [النمل:40]، عرش ينتقل من بلاد إلى بلاد مسير شهر؛ مسير شهر ولا مسير سنة، والرّبّ فين يا أبله؟! أنت تدّعي التّوحيد أنت؟! تعال اتْرُكنا نعلِّمك توحيد ربّك، وحّد الإله القادر على كلّ شيء، (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق:12]، جلّ جلاله.
يقول: (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ اللَّهُ يَجْتَبِي) -يصطفي وينتخب وينتقي- (إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ (13)) فصار صنفين:
-
صنف مَخطوب، محبوب مجتبى.
-
وصنف مُجتهد، سالك، مُتحبِّب، مُحبّ.
فهؤلاء: الأول: (يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ)، اجْتِباء واصْطِفاء من فوق، والثّاني: (يَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ).
-
فالأوّل سبق له جذب الإله إلى قُربه ومعرفته ومحبته، وهؤلاء كلّهم عُبّاد وكلّهم مُقبِلون على الله وزُهّاد؛ ولكن سَبَقت هذه المعرفة من قبل.
-
والثّاني "ما يزالُ يتقرَّبُ عبدي إليَّ بالنَّوافلِ" بعد آداء الفرض، "حتَّى أحبَّهُ"، (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ (13)).
(يُنِيبُ): يعني يُقبِل عليه بالخضوع والذّلة والتّواضع والامتثال لأمره، يُنِيب إلى الله، مَن يُنيب يهديه: "مَن تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا"؛
-
لكن قوم قُدُه من قبل ما يعملون شيء ولا شيء، هم أصلهم مقرّبين ومصطفين ومحبوبين وذكرهم مَنشور في العالم العالى، أوّلهم واحد اسمه محمّد،
-
مكتوب اسمه في قوائم العرش مع اسم الله تعالى ﷺ، لا إله إلا الله محمّد رسول الله، قبل ما تُخلق آمنة أمّه، قبل ما يُخلق عبد الله أبوه، قبل ما يُخلق جدّه عبد المطلب، وقبل ما تتكوّن هذه الأرض كلّها وما تتكوّن الأجداد، وقبل ما يخلق آدم واسْمه مع اسم الله من فوق، الله أكبر!.
-
ويُشير إلى معاني من اختصاص الله: "إنِّي عندَ اللَّهِ لخاتِمُ النَّبيِّينَ، وإنَّ آدمَ لمُنجدِلٍ في طينتِهِ"، وبعده آدم ما نَفخ فيه الرّوح وأنا خاتم النّبيّين، اللّهمّ صلّي عليه، يا ربِّ صلّي عليه؛ وهكذا الأنبياء وهكذا المقرّبين الأصفياء.
-
-
وبعضهم إنّما تَظهَر عليه آثار المحبّة والقرب بعد الاجتهاد وبعد المُجاهدة، وهؤلاء الأكثر، وهؤلاء خلاصة يختصّهم الله.
(اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ) -يصطفي وَيَخْتَارُ- (مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ (13))؛
-
(يُنِيبُ) يعني: يرجع إليه بالإيمان والتّقوى والعمل الصّالح والاستقامة.
-
(يُنِيبُ) إلى الله ويَهْدِيه.
والعجيب (إِلَيْهِ) و (إِلَيْهِ)!
-
ما قال: يَجْتبي عنده ويجْتَبي بعلمه، (يَجْتَبِي إِلَيْهِ)، اجتباه إليه.
-
والثاني يقول: (يَهْدِي إِلَيْهِ)، ما قال يهدي إلى شرعه ولا إلى دينه، (يَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ).
كما قال في الآية الأخرى (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا) [النساء:175]، الله أكبر! يهديهم إلى الله.
(وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ (13))، يقول الله عن الأمم الذين الذين مضوا: (وَمَا تَفَرَّقُوا) -واختلفوا على أنبيائهم وخالفوا- (إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ)، من بعد ما عَلِموا أن الله يأمرهم بالاتّحاد والاتّفاق والتّآلف والمحبّة وأنّ الفُرقة ضلال وشرّ وفساد، هم الأنبياء هذا، وجاءهم الحقّ والدّين وبعدين اختلفوا.
(وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ)، كيف العلم قدّامهم وأمرهم ألا يختلفوا وكيف يختلفوا؟
قال: (بَغْيًا بَيْنَهُمْ)، حَسَد، يَحْسدون بعضهم البعض، يقومون يَتَخالفون لأجل الأغراض؛ لأجل المصالح الفانية اختلفوا، لا حول ولا قوّة إلا بالله العظيم، ربما يعرف أنّ الثاني هذا هو أعلم منه وأحسن منه وأنه على حق؛ ولكن في غرض بينافسه على غرض، لا! غلط! ما يعرف! ما الذي أدّاه إلى هذا؟.
(بَغْيًا بَيْنَهُمْ)، لا حول ولا قوّة إلا بالله العظيم! فما أغرب حال ابن آدم هذا إلّا مَن هدى الله ومَن عَصَمَ الله، "يا عِبَادِي كلُّكم ضالٌّ إلَّا مَن هديتُه، فَاسْتَهْدُوني أهدِكُم"، أطلبوا منّي الهداية بالسّؤال والدّعاء وبالاتّباع لحبيبي أهديكم، له الحمد وله المِنّّة.
قال: (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ..)، إرادة بأن تقوم الآجال لكلّ مِنهم؛ وأن تَقوم السّاعة في أجل مُعيّن، لولا هذا الأمر السّابق (لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ ..(14))، حُكِم بينهم، ولا بَقِي أحد يتطاول ولا يتكلّم على الله، ولا على رسوله، ولا على الأولياء، أبدا، ينتهي الأمر، أوّل ما يُنْبِت بشفه؛ ولكن قال الله: لا أنا حَكَمْت آجال، يُؤَجّلُهم إليها لا بد أن يقضوها حتى يموتوا، وحكمت بأنّ القيامة لها وقت مسمّى.
-
(وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ) [هود:104].
-
(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا) [النبأ:17].
قال فسبقت منّي هذه الكلمة؛ فَلِهَذَا تَرَوْنهم يَتَمادون ويَطغون ويَقعدون سنوات في غيِّهم وضلالهم؛ ولما تَصِلْ آجالهم والحُكم الكامل التّامّ القَطْعِي المُستوعِب لكلّ شيء في القيامة، موعدُه في القيامة، (إِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [آل عمران:185]؛ هذا يوم الفصل.
-
فهو مُوَقّت بِمِيقات، ما يَتقدّم ولا يَتأخّر.
-
وأَخْفاه عن الخلق متى يكون؟.
فنبقى على ظهر الأرض هذه المُدد التي كتبها الله تعالى، وجِيل بعد جيل وطائفة بعد طائفة، وقرن بعد قرن، وكلّها عِبَر، والمُعتَبرون قليل إلى النّهاية ولا عاد يبقى مؤمن؛ وكفّار أشرار أبناء كفّار وليس فيهم من يقول الله، لا إله إلا الله! إشارة إلى أنّ اسم الله تعالى وحَمله في الألسن سبب لدفع البلاء؛ ولا تقوم السّاعة على أحد يقول الله، إلّا وليس فيهم من يقول: الله؛ فيهلكون -والعياذ بالله تبارك وتعالى- شرار الخلق!.
ويجيء الموعد المُحدّد، وجمعنا الأولين والآخرين والآن: (هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) [يس:52]، سمّى نفسه ما أدري إيش؟ ولا ما أدري ايش؟ ولا ما أدري ايش؟! كذّبوا وروحوا ولا عاد شيء، إلى رأسهم إبليس، وإذا اشْتَكوا به، (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ)، وعد الحقّ عنده هو ربّي وربّكم ربّ كلّ شيء، والمواعيد التي الذي من قضايي وجماعاتي الإنس والجنّ؛ كلّه كذب: (وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ)؛ ولكن يقول أنا ما كنت أُكْرِهكُم، أنتم اتَّبَعْتُمُوني، (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي)، إذا الله دعاكم وما اسْتَجَبْتم، وأنبياء دعوكم وما اسْتجبتم، وأولياؤه دعوكم وما استجبتم، واسْتَهزَأتُم بهم ووَضَحِكتم،أنا قلت لكم: "استهزؤوا؟ انتم اتّبعتونا والآن تلومونا؟!، (فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم) [إبراهيم:22]، إذا قرأ الآية سيّدنا ابن عبّاس يقول: ضَحِكَ عليهم في الدّنيا ويضَحِك عليهم في الآخرة، (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ ۖ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا) [النساء:120].
اللّهمّ صُنّا منه واحْرُسنا منه وادْفع شرّه عنّا، اللّهمّ إنّك سلّطت علينا عدُوّا بصيرًا بِعُيُوبنا، مُطّلِعًا على عوراتِنا، مِن بين أيدينا، ومِن خلْفِنا، يَرَانا هو وقبيله من حيث لا نراهم، اللّهمّ آيِسْهُ منّا كما آيَسْتَهُ مِن رحمتك، وَقَنِّطْه منّا كما قَنّطْته مِن عفوك، وبَاعِد بَيْنَنا وبَيْنَه كما بَاعدت بينه وبين جنّتك، يا أرحم الرّحمين.
وبارك لنا فِي أيّامِنا ولَيَالِينا وفِي جُمْعتنا هذه، وَفِي مَجَامعنا هذه، وَأَحْسن عَرْضها على حَبِيبِك المُختار، واجْعلها مَحَلّ رِضَاءٍ مِنْك، ومَحَلّ محبّة منك ومحبّة لك، ومحلّ صِدْق معك ومحلّ وَفَاء بِعَهْدك، ومَوَاطن تَفضُّل منك واسع، وجود وتَطوّل يفوق جميع المَطامع كما أنت أهله، بِما أنت أهله، يَا واسع، يَا خيْر سامع، بِوَجَاهة حبيبك الشّافع.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه
الفاتحة
في القيامة إذا ظهرت آثار مثل هذه المجالس وَمَثُوبتها، يَودّ مَن رآها ممّن لم يحضرها أنّه بذل جميع ما في وسعه، وجميع مَالِه وعُمره مقابل حضور دقائق من الجلسة؛ ولكن الأوامر لله يَهدي ويَمنع ويُقرّب ويُبعّد، لا إله إلا هو! اللّهمّ أسعدنا واقْبَلْنا على مَا فِينا وأَقْبِل بِوَجهك الكريم علينا، يا أرحم الرّحمن! نشهد أن لا إله إلا الله ..
16 رَمضان 1446