تفسير جزء عمَّ - 48 - مواصلة تفسير سورة الشمس
للاستماع إلى الدرس

يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1436هـ.

نص الدرس مكتوب:

((وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10))

الحمدلله على نعمة الاتّصال بحقائق التنزيل والإنزال، ومعاني البعث والإرسال، بفائض من النَّوال، يفيض به في ضِمن الأيام واللَّيال، بنور متلال، يتنوّر به كلُّ بال، أصبح وأمسى عمّا سوى الله خالْ، فيصفو له الحال، ويرتقي في المراقي العَوَال، ويسقى من أحلى سِلسال، ما يَجتمع به على ذي الجلال، فيبدو عليه من سنا الجمال، ما يدرك به شأو الكمال، ويدخل به في بحور فضلٍ ونوال، جلّت عن إحصاء وعن أن يُعبَّر به بمقال، ذلك فيضُ فيضٍ من الكبير المتعال.

   لا إله إلا هو به آمنا، وعليه توكلنا، وإليه أنبنا؛ هو ربنا، وهو فاطرنا، ومنشِؤنا من عدم ابتدأنا، وأوجدنا وخلقنا، فجعلنا في بني الإنسان وجعلنا في أمة خير الإنس والجان، سيد الأكوان، وأنزل عليه القرآن، وأبقاه لنا على ممر الزمان، نقرأه ونتلوه كما تلاه لسان سيد ولد عدنان، فلله الحمد رب الإحسان

   ونشهد أنّ عبده المصطفى سيد الأكوان محمد ابن عبدالله رسوله ومصطفاه وخِيرتُه من جميع عباده وبراياه، بيّن لنا أحسنَ بيان، وهدانا بأصدقِ لسان، إلى موجب الفوز والرضوان، ففاضت من بحر دلالته على الله أنوار العِرفان، بها تنوَّرت قلوب أهل الذوق والوِجدان، وطاب لهم الحال والشأن، وصفا لهم الوقت والزمان، فهم هم أهل القرآن، وهم هم أهل الله الرحمن، قال عليهم من أُنزل عليه القرآن: "أهل القرآن هم أهل الله وخاصته" رزقنا الله شمَّ نسيمِهم، وسقانا من تَسنيمهم، وجعلنا في الثّابتين على أقدامِهم، وفي المُوالين لهم من أجل إلاهِهم وعلّامِهم، -سبحانه وتعالى- الذي أذِنَ بإكرامهم.

 اللهم إنك جعلت لك وللقرآن أهلا، ورفعتَ لهم مَحلّا، وجُدتَ عليهم منّا وطَولا، فأدخلنا في غِمارهم، وأشرق علينا سنا أنوارِهم، فلا تحرمنا هذه الخيرات، في هذه الأيام والليالي الزهيّات، حتى لا ينقضي عنا رمضان، إلا وقد ذُقنا من تلك الكؤوس شراباً صافياً هان، نتهنّا به مع من هنّأتهم بِعطائك الذي ليس له حُسبان، يا منّان، نسألك ذلك فلا تجعل حظّنا الحِرمان، ولا الهَذَيان، ولا لَقْلَقة اللّسان، ولا ظَواهِر الأجسام والصوَر، يا أكرمَ من جَاد ومَنَح وأعطى وتفضَّل وغَفر، ووهَب المواهِبَ الكبيرة من غير حَصْر يُحصَر، لك الحمد شُكرا ولك المَنُّ فضلا.

إننا في موائد جود هذا الجواد نتذكَّرُ ما أنزل على خير العِباد وقد سمعنا قسم رب الأكوان بمظاهر الكون وما فيه: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8))، هذا الشأن كله لهذه الكائنات وما فيها أقسم به الربُّ -جل جلاله- أنَّ الفلاح لِمن زكّى نفسه وأنّ الخيبة لمن دسَّاها نسأل ربنا الرحمن أن يُؤتِيَ نُفوسنا تقواها، وأن يُعطِيَ نفوسنا تقواها، وأن يمنح نفوسنا تقواها، وأن يزكّيها فهو خير من زكّاها، هو وليُّها ومَولاها.

وذلك يُبيّن لنا أنَّ شأن التزكية عظيم، ومكانهُ في الأُمّة فخيم، وأنّه يقوم عليه حقيقة الثّبات والمشي على الصراط المستقيم، فعليه أيضا يكون الثباتُ على الصراط يوم القيامة والدُّخول إلى جنَّة النعيم، وإنما يمرُّ على الصراط، من تزكّى عن الآفات، في هذه الحياة.

 أيها الأخوان.. أيها الأحباب.. أيها المُؤمنون.. أيها السَّامعون.. أيها المُصدِّقون بكلام الله ،،،

 مَن مَرّت به الحياة لم يتزكَّى عن ذميم صِفاته، أينَ له أن يمُرَّ على جسر جهنم ليصِلَ إلى رضوان ربه وجنّاته! فلْتكُن هِممُكم مُعلّقة، بأن تكون نفوسُكم بحميد الأخلاق مُتخلِّقة، وأن تتنقّى عمّا لا يُحبُّه الربُّ، فتحوز التُقى فتسعد في الدنيا وفي المُنقَلب.

 وهذه مجالس تصفية النفوس وهذه مواطِنُها قد اختارها الحق ليتزكّى فيها من تزكّى من قبل الخَلق، ثم مِن حين دَحَى الأرض ومِن حين طَحَاها ومن حين مدَّها، جعل في هذه البُقعة من سرِّ التزكية ما جعل، ليَنال من نالَ من فضل الله -عزّ وجل- والله يجعلنا وإيّاكم منهم.

وإذا نظرتَ إلى البلاد وجدتها تَشقى *** كما تشقى الرجــــال وتسعــــــدُ 

حللتَ بهذه تارةً حِلّةً ثم أُخــرى *** بهذه فطاب الواديان كِلاهما

يقول الرب: ( قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10))؛ إذاً فما بقِيَ في الأمة من سر التزكية، هو سبب الفوز والظفر والترقية، والنجاة من آفات هذه الحياة الدنيا وأضرارها، ومن عذاب الآخرة وشدائدها وأهوالها.

 تزكية النفوس، لن يُفلح من لم يتزكّى (قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ) [الأعلى:14]، وذكر الحق رأسين في التزكية في تلك الآية في سورة الأعلى فقال: (قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) [الأعلى:14-15] ذكر اسم ربه فأحب وعظّم وأجلّ وعرف الحق لأهله، إن كانت القلوب والنفوس في هذا العالم تذهب إلى تعظيم ذا أو ذاك والميل والالتفات إلى ذا أو ذاك، فلا أحقّ من أن يُلتفَت إليه ويُعظَّم من ملكِ الأملاك، ومُدير الأفلاك، الحيّ القيوم. فكل من كان في قلبه ونفسه التفاتٌ إلى غير الأقوى أو تعظيمٌ للسِّوى فما عرف الحق لأهله، وهو إنسان لم يعرف نفسه، ولم يعرف ربه (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [الحشر:19].

ولكن من عرف الله، عظَّم الله، وأحبَّ الله، وأجلَّ الله، وكبّر الله، ووحّد الله، وخضع لله؛ تذلل لله، تواضع لله، أطاع الله، أقبَلَ على الله، وفَنِيَ في الله، وبقِيَ بالله، وصار لله سمعه، ولله بصره، ولله لسانه، ولله دمه ولحمه وعظمُه؛ إن قال صدقَ فيما يقول: (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام:79]، وإن قال فحقّاً قوله: (إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام:162].

أفتظنّ أنه يُساويه في الدرجة من في كان صلاته ونسكه ومحياه ومماته لغير الله؟ لشهوة لمُلك دنيوي، لحزب، لاتجاه، لفكر لجماعة؛ أتظن أن يساويه؟ ولا يقرُب منه! أين هذا من هذا؟ فليذهب فليأخذ أجرَه مِمّن جَعَل وجهته إليه! وهذا وُجهَته إلى الحي القيوم، فأين يساويه؟ من جعل وجهته لموجبات الهموم والغموم، أو لمن لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.

( قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9))، أفلح مَن زكّى هذه النفس، فعلى أهل التزكية في هذه الأمة أن يرعَوا حق هذه التزكية وأن يَخرجوا عما يُلبَّس عليهم من مظاهِرها ومن صُورها ومن رُسومها، فما قامت على الرسوم ولا المظاهر، ولِيحذَروا من حَمل كلام بعض أهل التزكية على مُشتهيات النفوس أو مُراداتٍ لها أو أغراضٍ لها، فليعلموا أن الأمر أكبر وأنّ ما عِند القوم جوهرٌ من جوهر ليس فيه كَدَر وليس معدوداً فيهم مَن لم يصفوعن الكدر ومن لم يمتلئ من العِبَر، ومن لم يستوي عنده الذهب والمدَر، ليس معدوداً فيهم، فكيف يكون مُربِّياً أو مُزكياً أو شيخاً في طريقتهم؟! لا يمكن! 

ولذا قال الإمام أبوبكر العدني بن عبد الله العيدروس -عليه رضوان الله-: أرى طُرق الحقيقة -شؤون التزكية- 

أرى طُرق الحقيقة  قليلاً سالكيها *** وأضحى كل جاهل  بلا شيء  يدعيها

 بلا علم  وعمل  مَحال  أن يرتقيها  *** حَمَتْها الأُسْد من دونها العُسْل شواجر 

فيا أهل التلابيس *** لا يغويكم إبليس *** عن التقوى مفاليس

ومن خالف مقاله فِعاله فهو خاسر *** سألت الله يغفر ذنوبي خير غافر

وقد قال: 

 من لم يُدمن الغوص ما جاب الجواهر *** ومن لم يبذل الروح  ما يشفي الخواطر 

 ولا  نال الجوائز  ولا يدعى *** بفايز  على التحقيق  عاجــز 

 ألذ العيش كلّه مع أرباب ا لبصاير *** ولا  الأسرار  إلا  لمن صفّى  السرائـــر

يا حاضر ويا سامع،، جودُ الله الواسع بُحوره زاخرة إن أردت أن تتزكى أو تتصفى فما أغلق الله الباب ولا أسدل دونه الحجاب، لكنه لا يقبل فيه غير الصادقين. 

يا جِن،، يا إنس،، من يسمع منكم القول،، باب الحقِّ مفتوح ليُزكّي من سبقت له السعادة إلّا أنّه لا يقبل غير الصادقين؛

  • فبالصدق قِفْ ترى المدد لا يقف.
  • بالصدق قم ترى الحق يعطي ويمنَح ويُسدي ويُجزِل ويُكرِم.
  • بالصدق احضُر لسَنا الجمال تنظُر.

 ما حجبك غيرُ نفسك، في كل ما مضى من عُمرك، وبقي معك من الشهر ليال وأيام، إن أحسنت فيها الإغتنام، فاضَ جودُ ذو الجلال والإكرام، فدخلت مع خِيار الأقوام، وانتهى الشهرُ وأنت مرتبطٌ بالبدر في ساحات أهل الصبر والشكر:

 قومٌ همومهم بالله قد علقت ***  فمالهم همم تسمو إلى أحد 

فمطلب القوم مولاهم وسيّدهـــم *** يا حُسن مطلبهم للواحد الصمد

 ومن حين أن خلق الخلق ومن أيام آدم إلى اليوم ما وقف واقفٌ بالصدق على بابه فعاد خائباً، ولكن أين الواقفون على باب هذا الإله بالصّدق التام؟ وقفوا وعكفوا على أبواب الشهوات والغفلات والتُرَّهات والبطالات والفانيات والفاسِدات والحُجبُ القاطعات، فأين من وقف على بابه بالصدق؟ 

ما أمرنا بالتوجه جميعا إلى الكعبة إلا لنتذكّر أن الوجهة لا تسع أكثر من جِهة، إن توجهت إلى جهة الكعبة خرجت عن بقية الجهات كلها، ولا يمكن أن تكون متوجهاً إلى جهة الكعبة ومتوجها إلى جهة ثانية وثالثة ورابعة لا لا لا، إذا توجهت إلى الكعبة انصرفْ عن بقية الجهات، ويقول من توجه إلى المكوّن، انصرف عن الكائنات.

 وَلَيسَ  يَخفاني  الَّذي  عاقَني *** نَفسي بِهِ تَدري وَقَلبي عَليم

عَزَمتُ شقَطعَ كُلَّ أَمـرٍ أَرى في ***  قَطعِهِ  نَيلُ  المَقامِ الكَريمُ

وَأَرفُضُ الدنيــا الغَرور التي من *** حبها  كان  الحجاب المقيم

وَالنفس  وَالشيطانُ أَعصيهما *** بقوة  الله  العزيـــــز الحكيـــــم

أولـــــــى الأكوان ظهراً وَلا  أرى ***  سوى اللَهُ العلي العظيم

 يا رب هب لي منك حسن اليقين *** وعصمــة الصــدق وقلبــاً  سليــم

 وهمة تعلو  وصبراً  جميل *** ونور توفيـــق به  أستقيــم

وحسن  تأييــد  وعونـــا  يدوم  *** فإنك الدائم وجودك عميـ م 

أرجــــــوك  تعطيني  الذي   أبتغـــــي *** بمحض  فضلك لا بجهدي الذميم

( قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9))؛ فاز وسعد؛ حِسّاً ومعنى، دنيا وآخرة، من زكاها؛ طهّرها عن عيوبها، عن ذميم صِفاتها، عن قبيح حالاتها، عن عُجبها، عن كِبرها، عن غِيائها، عن غرورها، عن حسدها، عن إيثارها غير ربها على ربها.

 نفس دنيئة تؤثر غير ربها على ربها؟ تؤثر على ربها غير ربها؟ تؤثر على ربها مخلوق مثلها؟ تؤثر على ربها شهوة فانية؟ هذه النفس التي لم تتزكّى فخاب صاحبها، وإذا تزكت آثرت ربها على كل شيء فآثرها الله بعظيم عطاياه.

 ومدرسة رمضان مدرسة التزكية، كم تزكت فيها من نفوس من أيام بُعِث نبينا إلى اليوم، في كل رمضان كثير يتزكون، وكم مرّت عليك رمضانات؟ بها تتزكى أم لا؟ تلبس لباس التزكية أم لا؟ يُشرق عليك نور التزكية أم لا؟ أما نصف الشهر فرحل وبقي النصف الثاني فاحذر من التواني، احذر من الكسل، جدِّدْ همتك، جدّد ثياب إقبالك على ربك، اغنم بقية ليالي شهرك وأيامه، إن كنت تسمع النصيح، قبل أن تندم وتصيح، ما دُمت في المجال الفسيح.

( قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9)) طهّرها عن معايبها، فنمَتْ خصائصها فالتزكية تنمية؛ نَمَتْ خصائصها ومزاياها، وخصائصها ومزاياها معارف وأذواق، في قُربٍ من الخلاق، يضيق في القول عن شرحه النطاق، إنه عطاء جلَّ عن حصره! إنه كشف غطاء عظُمَ ما فيه من سِر (أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى) [الرعد:19] وما أكثر العُميان في هذه الدار، (وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا) [الإسراء:72] (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ) [الجاثية:20] (قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ) [الأنعام:104]، (وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ) [الأنعام:107] وقد بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ومزكّين لمن استجاب لهم ولمن آمن وعظّم وسمع كلامهم واقتدى بهم -صلوات الله عليهم-.

وقد أتانا  خاتم الرسالة *** بكل ما جاؤوا به من حالة

فعمّ كلَّ الخلق بالدّلالة *** وأشرقت  مناهج  الكمالِ

فكله فضلا أتى ورحمة ** وكل حكمه هدى وحِكمة 

وهو إمام كل ذي مُهمة *** وقدوة في سائر الخصالِ

وهو بحق الشكر ما أولاه *** إذ قام حتى  ورِمت رِجلاه

 

 قل للذي تثقل عليهم عشرين ركعة وأربعين ركعة في الليلة- إذ قام حتى وَرِمت رِجلاه

 

وواصل الصوم وقد أولاه *** مولاه أولى الفضل والإفضال 

وأسوة لمعسرٍ  مسكين  ***  إذ صح لم يشبع ولا يومين

وقد أبى جِبالها من عَينِ  ***  زُهداً ومن جوع طوى ليالي

 وأسوةُ المَكروبِ في اصطبارِ ***  في  كــل  ما قاسى  مِن  الكفـــارِ

 حتى رُمي بالفرث والأحجارِ ***  ومــــا دعـــا إلّا على رِجـــــــالِ

 ولم يزل للحقِّ في اجتهادِ  ***  وبعد  فرضِ  الغزو  والجِهادِ 

 ماقرَّ في ظلٍّ ولا ظلالِ ***  إلا  على  الكفّارِ  في  قِتال

وما مضى حتى أقام الدّينَ  ***  وصارَ  سهلاً  واضحــاً  مُبينا 

فلم  تَخفْ أمّتهُ  فُتونــا  بل ***  عُصموا في الجمع عن ضلالِ

"لا تجتمع أمّتي على ضلالة"

 

وصّحبُه فيهم لهم فيهم نجومُ  ***  مِنهم عليهم فاضت العلومُ

كلٌّ  لــــه مُقدّرٌ مقسومُ  من ***   ظاهر أو باطنٍ أو حال

والخلفاء  بعده  والعِتـــرة  ***  بهم مع القرآن مُستمرة

مِلَّتُــه  محفوظــــة  من  فَترة  ***  على الهدى دأباً بلا انفصال

 فحمداً لرب خصنا  بمحمـد ***  أخرجنا من ظلمة ودياجرِ

إلى نور إسلام وعلم  وحكمةٍ *** ويُمنٍ وإيمان وخير الأوامرِ 

وطهّرنا من رجز كفر  وخبثه *** و شرك وظلم واقتحام الكبائرِ

هو الساس وهو الرأس  للأمر *** كله بأولهم يدعى لذاك وآخـــرِ 

وتحت لوائه الرسل يمشون في غدٍ

 

 لو كنت معه، ترى الأنبياء كلهم حوله، ترى الرسل كلهم وراءه، لو كنت معه..

 أما تحب أن تكون معه! اقطع ما يقطعك عنه، فليس بشيء، نكون معه، أن نحيا بسنته، نمتلئ بمحبته،  نُتوفّى على مِلّتهً، ونُحشرُ في زمرته (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ۖ ) [التحريم:8] لو كنت معه، ترى الملائكة يتبادرون إلى إكرامه،  إلى إعظامه، الرسل يطأطِئون رؤوسهم لإجلاله.

فإن رسول الله من  غير مريــــــــة *** إمامًا على الإطلاق في كل حضرة 

وجيه لدى الرحمن في كل موطن *** وصـــدر صدور العارفين الائمة 

وكان به الاسراء من خير مسجــــــد *** إلى المسجد الأقصى إلى أوج  ذروة

 وشاهدَ جناتٍ وناراً وبرزخاً *** وأحوالَ  أملاكٍ  وأهل النبوة

 وصلى وصلَّوا خلفه فإذاً هو الـــ *** مقدم  وهو الرأس  لأهل الرئاسة

 وقد جمع الأسرار والأمر كلـــه ***  محمد  المبعوث  للخلق  رحمة

  به ختم الله النبوة وابتـدأ ***  فلله  من ختم  به وبداية

يا سيدنا ويارب رمضان ويا مُنزِل القرآن ويارب محمد بعد ذكْره بالشوق إليه، تُحرِم أحد من الحاضرين أو السامعين حسن متابعته في الحياة، وامتلاء القلب بمحبته إلى الوفاة، والحشر معه يوم المُوافاة؟ فإن حرمته فتحشره مع مَن؟ وتذهب به إلى مَن؟ وترمي به إلى أين يارب؟ فبحق نبيك اقبلنا، وحاضرينا وسامعينا عِندك يارب، لنكون يوم الحشر معه معه (نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ..) [التحريم:8].

  • لوكنت معه ترى العُجب العُجاب، من فضل رب الأرباب،
  • لوكنت معه ترى الجمال الأقدَس؟ والمقام الأنفَس
  • لو كنت معه، لو كنت معه 

    فها أنت تُدعى لتكون معه، فإذا استقبلتك دواعي نفسك، ودواعي شياطين الأنس والجن بالانقطاع عنه لا تُطِعها، واثبت وقم على عهدٍ مع ربِّك في مثل هذا الموقف وهذا الموطن، فإذا نادى منادي في القيامة مَن وفّى بعهده في يوم كذا؟ في مكان كذا؟ ليلحق بالركب، ويدخل في الحزب، ويشرب بأهنى شرب، مع أهل ذاك المقام لا قطعنا الله، لا حرمنا الله، لا أبعدنا الله، لا حجبنا الله، لا خلّفنا عن مُصطفاه، اجعلنا معه نحيا و نموت ونُحشَر 

يا رب محمد بجاه عبدك وحبيبك سيدنا محمد اجعلنا معه؛ في سنته، في شريعته، في ملته، في وحيه، في صحابته، في أهل بيته، في أمته، في خدمته، في متابعته، في الاقتداء به،  في إحياء سُنّته، في نُصرته؟ في عِشقته، في محبّته، في الوَلَع به، في عِشق جماله، في ذوق لذّة وِصاله، في الشرب من سَلساله، وموت على مِلّته ومحبتك ومحبته؛ دُخولاً في دائرته، كينونة في المعية، مع أهل المَزيّة، يا ذا العطايا السنية، وهيئ هذه النفوس، وزكِّها يا قدوس، حتى تتهيأ للِقائه، وتستنير بضِيائه، وتكتحل بسنائِه، وتسمع خطابَه، وتُسقى من شرابه، وتتأدّب بآدابه يا رحمن.

(قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9)) إنّما استرسل بنا الذّكرُ للحبيبِ لأنه في العالم الخَلقي هو المأمونُ على التزكية، يزكي الله به من شاء؛

  • فمن قبله زكَّى الأنبياء، من رحمة الله بنُورانيته التي معه وسِرِّ الصلة، 
  • ثم برز إلى عالم الدنيا فزكَّى مباشرةً فصار قرنه خير القرون؛ لأن القرون قبله وبعده لم تجد مباشرة تزكية كمباشرته، أخذت من المعدن مباشرة.
  • ثم زكى من بعده من الصحابة وأهل بيته الأطهار وخلفائه الأقمار بأنواره، فهو المزكي بالله لله عن الله -تعالى في علاه- وبيّن الله لنا ذلك في مواضع من كتابه: 
    • فقال في سورة البقرة -جل جلاله وتعالى في عُلاه- : (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ) [البقرة:151]، 
    • ما تسمع ربك يقول: (وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) [البقرة:151] (فَاذْكُرُونِي) كما علمكم عبدي هذا (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) [البقرة:152]. 
    • قال -جل جلاله وتعالى في علاه- في سورة آل عمران: (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِين) [آل عمران:164]، 
    • وقال في سورة الجمعة: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) [الجمعة:2]

وهل يوجد أحد يمتد نور تزكيته لمن بعدهم؟!  (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) [الجمعة:3] عاد ما برزوا ما ظهروا، ما جاؤوا، سيأتوا وسيلحقوا بهم (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء) [الجمعة:3-4] يا متفضّل يا صاحب الفضل العظيم بفضلك ائتنا هذا الفضل واجلعنا من أهل الفضل العظيم وأهل الحظّ العظيم وزكِّنا بالنبي الكريم.

(قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)) 

  • دسَّ هذه النفس؛ أهلكها.
  • دسّ هذه النفس؛ أخفاها، أخفى خيرها وأخفى نورها بظُلَم معاصيه وذنوبه وشهواته.
  • (قَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) ادّعى أنه بين الأخيار وهو على غير الخير اندسّ بينهم.
  • (قَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) خاب خيبة الأبد، خيبة الدوام. 
  • (مَن دَسَّاهَا) من أظلَمها، من أخفاها، من غطَّ مزاياها بذميم شهواته وفاسد نيّاته وقبيح صِفاته.

(قَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)) فقد كان يخرجُ إمام من أئمة الخير والهدى والدّين؛ الإمام حامد بن عمر بن حامد إلى شيخه الحسن بن عبدالله بن علوي الحداد يقول جئتُ إلى عِندك بنفسي لِتُخرج منها الخساسة والرئاسة، قال ذا أنا بين يديك، خرِّجوا مني الخساسة والرئاسة

فقد قالوا في تزكية النفوس: "آخر ما يخرج من رؤوس الصِّدّيقين حُبُّ الرِئاسة" وما دامت تطلب العِزة عند غير الله وبغير الله فلا تُفلح، حتى تعلم أنّ العزة لله كله  (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ) [المنافقون:8]، فلا تطلب العزة إلا من حيث طاعته، ومن حيث الخضوع لجلاله والأدب معه فقط، ما دامت تطلب العزة من غير هذا بين الناس؛ في المجالس، في المظاهر، لا تفلح لأنها بتعلُّقِها بهذا العِز الموهوم لا تُنصت ولا تُصدُق، ولا تعرِف الحق لأهله، ولا تتواضع ما دامت تطلب العزة من عند غير الله ولغير الله تعالى (وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)).

ثم ختم الحق بالتذكير بأُمّةٍ مضت وهي أُمّة ثمود نتأمّل بعض ما جرى لهم مما ذكره الله خاتمة هذه السورة في يومنا المُقبل إن شاء الله، ويجعل أيامنا المُقبِلةً علينا بالفضل الواسع الكبير والمنّ العظيم الوفير والجود من العليِّ الكبير، السميع البصير العليم، القدير اللطيف الخبير، الحي القيوم، يا حيّ يا قيوم. 

وإن شاء نصرَك وآتاكَ في الليلة التي تلي ليلتَنا؛ ليلة آل بدر نصراً على نفسك، فتزكّت وتطهّرت وصار لسان الحال أن تقول: وكنتُ عبد الهوى واليوم مالِكها، وإننا نُحبُّ مِن كل واحدٍ مِمن يحضرنا أو يسمعنا أن يجرِّد من باطنه همة قوية، في استنصار الله على النفوس الغوية، واستنزال النصر للأمة المحمدية، في ما حل بها في الليالي عامة؛ وفي ليلة السابع عشر؛ ليلة السبت مساء الجمعة المُقبلة علينا، إلحاحاً عليه، وتضرُّعاً إليه، وإن يلظُّوا بياحيّ يا قيوم كما بات يدعو بها السيد المعصوم ،وأصبح يدعو بها بذاك اليوم العظيم في يوم بدر فكان يوم الفرقان. 

وعسى أن يكون لنا في ذِكراهُ في هذا العام من سر ذلك الفرقان ما به يُعزّ الإسلام والإيمان وأهل الإسلام والايمان، ويُذِلُّ الله سبحانه الشيطان وحزب الشيطان في مشرق الأرض ومغربها يا حيّ يا قيّوم؛ فليتوجّهوا بكلياتهم ويُلِحُّوا على الله وليَصدقوا في الإلحاح والطلب وسيجيب الرب الذي قال عن أوائلنا (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم) فإذا استغاث آخرنا فإن ربنا لا يقطع كرمه وسيرحم آخرنا بأولنا.

 وكما أغثتهم أغثنا يا الله، فنُنصَرُ على نفوسنا، وتُنصر الأمة على أعدائها من أهل الظاهر والباطن ويتحوّل حالها إلى أحسن حال وتواجهكم ليلة الجمعة؛ الليلة والتي تليها ليلة الفرقان في صبيحتها التقى الجمعان ونزلت الآيات: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ) [الحج:19-24].

فإن وجدتَ نفسَك تهوى الطيّب من القول وتكره الذميم منه، فالعلامة قامت أن تُلحَق بالركب (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) [الحج:24]؛

  • وأطيب القول: لا إله إلا الله وأشهد أن لا إله إلا الله ..نستغفر الله ..نسألك الجنة ونعوذ بك من النار 
  • أطيب القول: كلام الله 
  • وأطيب القول: الصلاة على الأطيب في خلق الله 

صلِّ على الطيب تطيب، صلِّ على القريب تقرُب، صلِّ على الحبيب تُحَب، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، الله يربطنا وإيّاكم به ويشرّفنا برؤية وجهه في الدنيا والبرزخ والآخرة يشرّف هذه العيون، شرِّف عيوني بنظرة في الجمال البديع أكرمنا برؤيته وأسعدنا بقربه وبمحبته واحشرنا في زمرته في عافية.

 

 بسرِ الفاتحة 

وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه، 

الفاتحة

 

تاريخ النشر الهجري

17 رَمضان 1436

تاريخ النشر الميلادي

03 يوليو 2015

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام