(228)
(536)
(574)
(311)
يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1436هـ.
﷽
(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6))
صاحب القدر والجاه، مقرراً له بنُعْماه، ومذكِّراً له بآياته التي أعطاه، ومِنَنهُ التي اختصه بها واجتباه، مُحرِّضاً له على شكره تعالى في علاه.
يقول في هذه السورة المكيّة التي آياتها ثمان، وكلماتها سبعٌ وعشرون: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1))، (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)) أما وهبناك من لدنَّا شرح الصدر الذي يتطلَّبه منا الأنبياء فمن دونهم؟ وأوحينا إليك أن كَليمَنا موسى لما كلَّفناهُ أعباء الرسالة طلب منا ذلك، قال (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي* وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) [طه:25-26]، وأنت من دون أن تطلب منّا طلباً وهبْناك وهباً، وقرَّرناك بما آتيناك من لدنا عطاءً رحباً، وقلنا (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)).
(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)) نفتحه، نوسِّعه بأنوار النبوة والرسالة والمعرفة الخاصة والعناية الكبرى التي بها اعتنينا بك، فبذلك تحمَّلتَ أعباء النبوة والرسالة للعالمين، وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة، وأنت بُعثت إلى الخلق كافة، فكيف تحمَّلت ذلك (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)).
(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)) والشرحُ للشيءٍ فتحهُ ليذهب ما يحْجبه أو يمنع الفهم عنه وما إلى ذلك، ومما تعلَّق من ذلك، أو بذلك المعنى، ما جرى في سبيل الحس من شقِّ الصدر الكريم؛
يقول: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)) حشوناه إيماناً وعلماً وحكمةً ومعرفةً خاصة، فتحملّتَ بذلك وقدرتَ على مواجهة الخلائق في أداء هذه الرسالة العظيمة، ولقد قال عليه الصلاة والسلام: "ولقد أوذيتُ في الله ما لم يؤذَ غيري، ولقد أُخفت في الله مالم يُخف غيري ـﷺ-، والرسلُ قد قالوا لقومهم (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَا آذَيْتُمُونَا) [ابراهيم:12] لما قام بالتحديات أمامهُ الكفرة: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ۖ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) [ابراهيم:13-14] كل من صدق في خوف الله -وهو الوعيد- فله مثل ذلك، أن ينصره الله ويؤيده.
قال سبحانه وتعالى لحبيبه المصطفى: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)) وقالوا في هذا من الله عرضٌ لِعلوِّ مراتب الأنبياء كما قال (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ..) [البقرة:253] فيُعرض لنا طلب الكليم: (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) [طه:25-26] وقال للحبيب: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)) يعرض لنا طلب الخليل ابراهيم (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ)[الشعراء:87-88] طلب.. تضرع.. ولما خاطب النبي قال (..يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ..)[التحريم:8] من دون أن يذكر الطلب، يقول خذ قد أعطيناك.. ﷺ ، فهذا مقام الحبيب.
(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)):
من لم ينشرح له صدره، كل مسألة يقول سنفكِّر فيها بعد ذلك، سننظر فيها.. بعد ذلك تمرُّ الأيام ولا يعمل شيء ولا ينجز شيء ولا يعمل شيء -لا حول ولا قوة إلا بالله- ما انشرح صدره.. وإذا اتسع هذا الصدر وانشرح حملَ معارف وعلوم ولطائف وأسرار واسعات كبيرات لا تحملها السماوات ولا الأرض، لكن هذا الصدر المشروح يحملها .
قال: "إذا النور دخل القلب انشرح الصدر وانفسح"، يقول ﷺ إن النور إذا دخل القلب، انشرح له الصدر وانفسح، قيل فهل لذلك من علامة يا رسول الله؟ قال: نعم، "التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله" كل هذه الخيرات وراء انشراح الصدر، إذا النور دخل القلب انشرح له الصدر وانفسح.
ولم يُشرح صدرٌ كصدر محمد، و لم يقْوى أحدٌ على الارتقاء فوق سدرة المنتهى غير هذا الصدر المشروح، ولم يُكرَم أحد في الحياة الدنيا برؤية الحق غير هذا المصطفى صاحب العطاء الممنوح. (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)) ألم نفعل ذلك ابتداء منا دون طلب منك لمنزلتك لدينا ومحبتنا إياك؟ وهيأناك بشرح الصدر لحمل الأعباء وأداء الأمانة على خير الوجوه،؟ فتحمَّلت مالم يتحمَّل غيرك، وقمت بالأمر بتيسير منا وحسن تدبير آتيناك إياه (انه لقول رسول كريم ..مكين امين).
يقول: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2)) وضعنا عنك وزرك: حملك الثقيل في أداء المهمة الكبرى، أمانة الإرسال إلى الإنس والجن، العرب والعجم، الأبيض والأسود والأخضر والأصفر والأحمر، في شرق الأرض وغربها إلى أن تقوم الساعة، حِملٌ ثقيل وضعناه عنك (وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2)) والوِزر: الحمل كما يُطلق على الأحمال أيضاً المعنوية سواءً من الأسرار والأنوار أو من الذنوب والمعاصي، كل وزر، كل وزر.
(وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3)) من ثقله (ظَهْرَكَ) يعني: جعل ظهرك يكاد أن ينقض أو يُسمع له صوت إذا حُمِّل عليه حِمل ثقيل من شدة ثقل الحِمل، قال هذا الحمل الثقيل الذي تتحمله كله وضعْناه عنك، ومن جملة ذلك تحمُّله بأوزار أمته وثِقلهم وذنوبهم.
يقول: (وَوَضَعْنَا عَنْكَ) يسّرنا لأمتك من المغفرة ما لم نيسره لأمة قبلها، وعددنا لهم أسباب التجاوز عن الذنوب والتكفيرات للسيئات بما لم نجعل لأمة قبلها، وعندهم أسباب التجاوز عن الذنوب ونيل المغفرة منا أمر كبير وميسّر، حتى جاء في بعض الأخبار أن الملائكة في القيامة تعجب ممن نجا من الأمم السابقة كيف أُكرم بالنجاة؟ مع شدة ما يعانيه الإنسان، وتتعجب ممن يهلك في هذه الأمة المحمدية كيف يهلك وهو من أمة محمد؟ فتعجب من الأمم السابقة لمن نجا، لكن في هذا الأمة تعجب للهالكين، كيف يسَّر لكم الأمر، سهَّله عليكم وانفسح لكم العطاء وجاءتكم الواسطة العظمى وراعاكم الرب.
وعدَّد أسباب المغفرة: الصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفِّرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر، وإذا توضأ المسلم فيخرج ذنوبه مع آخر قطْر الماء؛ إذا غسل وجهه خرجت كل خطيئة اكتسبتها عيناه، فإذا غسل يداهُ خرجت كل خطيئة اكتسبتها يداه مع آخر قْطرِ الماء من تحت أظافره، ومن قال كذا غُفر له، ومن فعل كذا غُفر له.. الله.. أسباب مغفرة كثيرة فيتعجبون كيف أنت من أمة محمد وتهلك؟ لهذا قالوا: أنه لا يهلك على الله إلا من شرد على الله انشراد البعير النادِّ على أهله، فلا يهلك على الله إلا هالك.
(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3)) ومن جملة ذلك ما تحمّل به من ذنوب أمته، وكيف يكون حالهم من بعده في الدنيا ثم حالهم يوم القيامة عندما ذكر:
قال: وأمتي كيف؟ وبكى، وأرسل الله له جبريل وربنا أعلم، قال: يا محمد إن ربك يقول ما يبكيك وهو أعلم؟ قال: يا جبريل ذكرتُ قول عيسى وإبراهيم في أمتهم فتذكَّرتُ أمتي، ما يكون حالهم من بعدي وفي القيامة، فجاء جبريل قال: يا الله أنت أعلم، عبدك محمد قال: كذا، قال: ارجع إليه قل له إنَّا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك فيهم ـﷺ ـ فجاء بالبشارة سيدنا جبريل، قال في السورة التي قبلها، قيل أنها نزلت قبلها كما هي في ترتيب المصحف: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) [الضحى:5].
(وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَك (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3)) كل ما يهمك ويشق عليك تحمَّلناه عنك.. الله أكبر.. (وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَك (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3)).
يخاطب حبيبه يقول: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4))، (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4))؛ فكل من رفعنا ذكره من أنبياء وملائكتنا دون ذكرك، جاء في الحديث في رواية سؤال النبي لجبريل، كيف رفع الله لي ذكري؟ ما معنى ورفعنا لك ذكرك؟ وفي رواية قول جبريل للنبي: إن الله يقول لك أتدري كيف رفع الله لك ذكرك؟ قال كيف؟ قال يقول: لا أُذكَر إلا ذُكِرتَ معي، ووضع اسمه عند اسمه مكتوباً على قوائم عرشه "لا إله إلا الله محمد رسول الله" يذكر حملة العرش وأعالي الملائكة من الكروبيين وغيرهم من يذكرون الخليل لكن لا يُذكرون محمد في الخلق، كل نبي ورسول على ميثاق واحد، إذا بُعث اتَّبعهُ، آمن به وانصره.
(وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4))؛ كل نبي يأتي: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ…) [آل عمران:81] الله.. من هذا الرسول؟ كل رسول يؤخذ عليه ميثاق نحوه؟ (قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ۖ قَالُوا أَقْرَرْنَا ۚ قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ)[آل عمران:81] من الإنسان هذا؟ ما الذكر العجيب هذا؟!
(وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)) -أحد يؤذِّن يقول "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله" (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)) أي واحد يقول أنا سأسلم: "أشهِدْ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له" لا إسلام، إلا أن تشهد أن محمدا رسول الله (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)) ﷺ أي واحد يصلي عليك مرة أُصلي عليه عشرة، أي واحد يسلِّم عليك مرة أسلم عليه عشرة.. الله.. ما الذكر الرفيع العجيب هذا؟
(وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)) حتى في عالم البشر من أيام آدم إلى اليوم، لا يوجد واحد من الآدميين ضُبطت أوصافه وأخلاقه ومعاملاته وكلماته وخلقته وهيئته وقيامه وقعوده مثل محمد، العظماء -حتى من عُبِد من دون الله- ما أحد ضُبطت حركاته مثله، ولا أوصافه الخَلقية والخُلقية مثل هذا، محفوظة عندنا، اسأل أصحاب العظماء كلهم في تاريخ البشر، من ضبطت حركاته مثل هذا؟ كان يضحك كذا، كان يجلس كذا، كان يلبس كذا، كان يأكل كذا، كان يشرب كذا، كان يصلي كذا، كان يرقد كذا، كان يتخاطب كذا، كان ينظر كذا، عجيب!.
(وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)) ﷺ، فكم حوى معنى (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4))؟! وأيضًا في الخُطَب وفي التشهد في الصلاة؛ محمد.. محمد.. السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، اللهم صلِّ عليه.
بعد ذلك أي أحد يصل الى البرزخ؛ ما تقول في هذا؟ من ربك؟ من نبيك؟ ما تقول في هذا الرجل؟ الله.. عجيب.. يُسأل عن هذا النبي في القبر، بعد ذلك تأتي القيامة، أول من تنشق عنه الأرض محمد، أول من يجوز الصراط محمد، من الأمم أمة محمد، أول من يوضع الميزان يوزن أعمالهم أمة محمد، أول من يُعطى الصحف أمة محمد، أول من يدخل الجنة محمد، من الأمم أمة محمد؛ كله ذكر عجيب هذا..؟! ثم يذهبون إلى عند الأنبياء يستشفعون.. نفسي نفسي.. يأتون عنده يقول أنا لها، ثم يسجد، ارفع رأسك، ارفع، ارفع رأسك سل تُعطى اشفع تُشفع، اللهم صلِّ عليه (عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) [الإسراء:79]
(وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4))، تذهب إلى الجنة، فوق كل باب "لا إله إلا الله محمد رسول الله" كم من رسول لكن هذا مذكور (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) آدم فمن دونه تحت لوائي يوم القيامة.
(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)) ويأتي في أساليب العرب في الكلام أنه إذا جاءت جُمَل يتكرر فيها الاسم معرّفاً فالاسم الثاني هو الأول، ومنكراً فالثاني غير الأول، هذا من جملة الأساليب التي يأتي في لغة العرب، وإن كان غير لازم لكنه في هذه الآية مرادٌ بالحديث أن (الْعُسْرِ) واحد ذُكر أولاً وثانياً هو نفسه، وإنَّ (يُسْرًا) ذكر مرة ثم ذكر أخرى وهو يسرٌ آخر غير اليسر الأول، فاجتمع عسر واحد ويسران اثنان.
(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6))، إن مع العسر الذي هو ذاك الأول يسراً ثانياً، يقول إذا كسبت درهماً فانفِق درهماً، يعني درهم غير الدرهم هذا، درهم ثاني. قال إذا كسبت درهم فانفق الدرهم، أنفق الدرهم هو نفسه الأول، هو بصياغ التعريف يرجع هو الأول، إذا كسبت الدرهم فأنفق الدرهم يعني هو نفسه، هو الواحد الذي اكتسبته انفقه، لكن إذا قال إذا كسبت درهماً أنفق درهماً: درهما آخر، هذا من الأساليب في لغة العرب، لكن هنا لازم، لكن إن لم يكن لازم من أجل اللغة لأن النبي فسَّره بذلك.
ولهذا يكون عند اشتداد الإعسار والشدائد فرج، وإذا العسر شديد فرج شديد، إذا الشدة كبيرة فرج كبير، شدة صغيرة فرج صغير، لكن إذا الشدة كبيرة بعدها فرج كبير يأتي، هذه سُنَّة الله في الحياة، وإلى حد أن بعض أرباب الفهم إذا رأى الرخاء توجّس خيفة، تخوُّفاً من السُّنة أنه يعقبه شدة، وإذا رأى شدة وغيرها ابتدأ يفرح، ما لك؟ يقول ماذا وراءها؟ أنا مستقبل الذي وراءها، وراءها الفرج.
وكم يُسر أتى من بعـد عسر *** ففرّج كربة القلب الشديد
وكم لله من لطـــــف خفـــي *** يدق عن خفاه فهم الذكي
وكم أمر تساء به صباحــــاً *** وتأتيك المسرات بالعشي
إذا ضاقت بك الأحوال يوماُ *** فلذ بالواحد الفــــــرد العلــي
توسَّل بالنبي فكل أمـــــــر*** يهون إذا تُوِسل بالنبي
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) [المائدة:35]، وإذا أردنا أن ننظر الوسائل إليه، ماذا يحبه الله؟ وجدنا هذا أحب محبوب، فهو أعلى الوسائل -صلوات ربي وسلامه عليه- ولذا قال ابن عباس، لما كان مع النبي ﷺ بغلة أهداها له النجاشي، قال ركبها يوم وأردفني معه ومشى ثم التفت قال: "يا غلام إني أعلّمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرَّف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً، وأن مع العسر يسراً"، يقول تعالى: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) [يوسف:110]، قال: (…وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) [البقرة:214].
(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)) وكم انشدوا في هذا المعنى من أبيات بديعة تملأ القلب سروراً، ولذا كانوا يعدُّون قراءة سورة "ألم نشرح" من أسباب الفرج، من أسباب شرح الصدر ورفع الضيق والحرج، خطاب الرحمن لسيد الأكوان (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)) إبتدائه بخلقهِ ثم وضع اسمه على العرش وقوائمه، وعلى أبواب الجنة، ثم بأخذِ الميثاق من النبيين، ولا يُذكر الرحمن إلا ذُكر معه حبيبه ﷺ في ذلك يقول حسان بن ثابت:
أغَرُّ عَلَيْـــــــــهِ لِلنُّبوَّةٍ خاتَـــــــــــــــــمٌ *** مِنَ اللهِ مَشْهودٌ يَلوحُ ويَشهَدُ
وضَمَّ الإلهُ اسمَ النَّبيِّ إلى اسمِهِ *** إذا قالَ في الخَمْسِ المُؤذِّنُ أشْهَـدُ
وشقَّ لهُ مِنِ اسمِــهِ ليُجِلَّـــــهُ *** فذو العَرْشِ مَحْمودٌ وهذا مُحمَّدُ
اللهم صلِّ عليه وعلى آله.
فسماه الله على يد جده عبد المطلب بالإلهام من الله، وإشارة من أمه التي تكررت لها المرائي قال: سمِّي من تضعين محمداً، سمِّيه إذا وضعتيه محمد، وأعجب الاسم عبد المطلب وسماه محمد، قالوا عجيب هذا الاسم، هذا ليس معروفًا عندهم ولم يكن معروفاً بين العرب ولا غيرهم -سبحان الله- عند قُرب ولادته كان كثير من أحبار اليهود ورهبان النصارى يتحدثون أنه دنا وقت ولادة نبي في هذا العام يولد -اسمه محمد- ففي نحو خمسة عشر من الأطفال ولدوا سموهم محمد في عام ولادته، لكن (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) [الأنعام:124]، وقالوا رؤساء قريش لعبد المطلب لمَ سميته هذا الاسم وليس من أسماء آبائه ولا أجدادك؟ وفيه أن العرب يحافظون على أسماء آبائهم وأجدادهم.
حتى ظهر عرب ما عاد عرفوا قدر الآباء والأجداد ذهبوا يبحثون اسم واحد ممثل، واحد لاعب كرة، حتى غير مسلم، لا حول ولا قوة إلا بالله، خربطة، سقْطة.
قالوا: لِمَ سمَّيتهُ بهذا الاسم وليس من أسماء آبائنا ولا أجدادنا؟ قال: إني سميته محمد رجاء أن يُحمد في الأرض والسماء.
وعق عنه سابع الميلاد دعا *** قريش رؤســــاء النــــادي
سمــــاه لما حضروا محـــمــــــدا *** قالوا لماذا قال حتى يُحمدا
يحمده أهل السماء والأرض *** فحقــــــــــق الله رجــــاه المرضي
فهو المحمود ﷺ في الأرض والسماء.. وما أثنى الله على أحد في الخلق كما أثنى على محمد.
(وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4))؛ (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7)):
إذا فرغت فانصب ولا تضيع وقت ولا تفوِّت فرصة، إذا فرغت من أمر ادخل في التالي الذي بعده.
نفعنا الله بهذا الخطاب، وفتح لنا باب الفهم والاقتراب، ورفعنا في الاتصال بشريف ذلك الجناب.
اللهم اشرح صدورنا بشرحك لصدر سيدنا وحبيبك المصطفى محمد، اللهم وضعْ عنا أوزارنا، اللهم وارفع لنا عندك القدر والذكر بعنايتك بحبيبك محمد ولا تفرّق بيننا وبينه يوم القيامة، اللهم ذكِّره بنا ليذكرنا عندك بخير ما يذكر الصالحين والمحبوبين من عبادك يا رب العالمين، وارزقنا ذكرك كثيراً وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادك، واجعل الكل منا صبوراً شكوراً، وتولنا بما توليت به الصالحين.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
10 رَمضان 1436