(228)
(536)
(574)
(311)
تفسير الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لسورة الفاتحة وقصار السور بدار المصطفى ضمن دروس الدورة الصيفية العشرين في شهر رمضان المبارك من العام 1435هـ.
﷽
(إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8))
الحمد لله، مكرمُنا بأنوارٍ تتلألأ، ومِنَنِ تتوالى، وعطيات نَفيساتٍ في كل نَفَسٍ منه تعالى، له الحمدُ إذ جعلنا في خير أمة، وجعل نبينا نبي الرحمة، أصلُ ومصدر كل نعمة، اللهم صلِّ وسلم وبارك وكرّم على عبدك الذي به هديتنا إليك ودللتنا عليك، فانتشر من آثارِ تبليغه وتعليمه وتوجيهه وتنبيهه وتذكيره ودعوته؛ بُسُطُ إقبالٍ عليك في المُقبلين عليك في كل زمان، ونالنا ما نالنا منها في هذه الأحيان وهذا المكان، ومضى بها علينا شهر رمضان، ونحن على تشوّفٍ أن تَصِلنا بالقرآن وأسرار القرآن، حتى كَمُلت لنا العُدَّة واستَقبَلنا العيد والشهر بما فيه، ومرّت علينا ليالٍ منه وأيام، هي بعد يوم العيد الست اليوم يُكمل الست لمن باشر بصوم الستِ من شوال والليلة عيدهم؛ ونحن نتقلّب في مجالس التوجّه إليك والتذلل بين يديك، والإقبال عليك بما بلغنا من تبليغ هذا المصطفى وتعليمه وتوجيهه وتنبيهه، فاكتَنَفتنا آثارِ تَعليمه حتى سَيَّرتنا في هذه الأحوال والشؤون التي مننتَ بها علينا، وصرنا في كل هذه الأحوال، نُمسي ونُصبح مؤمنين بك وبما أنزلتَ على نبيك، وكم من محرومٍ من المكلّفين من الإنس والجن على ظهر الأرض حَرمتَهم هذا العطاء فمن ذا يعطيهم؟ ومنعتهم هذا الفضل فما ذا الذي يوصِلُهُ إليهم؟
فلك الحمد على ما هديتنا، ونسألك كما عَلّمتنا بتعليم نبيك أن تَنشر الهداية في بَرِيتك، وأن تُكثر المُسلمين والمُؤمنين وتَعُمَّ بالإسلام والإيمان بقاعَ الأرض في طولها والعرض يا أرحم الراحمين، فأدم اللهم صَلاتَك على هذا النور الذي انبسط، والغَيثِ الذي علينا نزل وهَبط، عبدك المجتبى محمد بن عبد الله الذي جعلتنا به الأمةَ الوسط، وصلِّ معه على آله الأطهارِ وأصحابهِ الأخيارِ، ومن مضى على سبيلهم في ذلك النمط، وعلينا معهم وفيهم وعلى جميع آبائه وإخوانه من النبيين والمرسلين وأصحابهم وآلهم ومن يواليهم، برحمتك يا أرحم الراحمين، وجودك ياأجود الأجودين.
وأدِم علينا نِعمةَ الإتصالِ بك بما أضأْتَ من النور ومددت من الحبال المتينة وأقمت من الشريعة الغراء، أَدِمنا على ذلك الإتصال مدى الأيام والليال، حتى تكونَ أفضل الساعات لكل واحد منا ساعة لقائك يا ذا الإفضال، وساعةَ الوصولِ إلى حَضرتك بإبعادِ جميع غياهب الظُلمات والشكِ من حس هذا الكون -دار الزور والغرور- إلى سطوع نور الحق والحقيقة حين يلقاكَ كلٌ من الخَليقة فيعرف من هو خير الخليقة، ويندم كل من لم يستمسك بتلك العُروة الوثيقة.
أدِم علينا النعمة ولا تسلب على أحدٍ مِنَّا إيماناً ولا إسلاماً ولا وجهة ولا أدباً ولا وصفاً حَسناً آتيته إيّاه، ولا توفيقاً منك مددته به، أدم علينا تلك النعمة وأتمها حتى نلقاك، فتتم النعمة بمرافقة باب النعمة ومصدرِ النعمة من به كنا خير أُمة، فنَحِلُّ معه في مَواطن الفَضلِ العَظيم والنعيم المُقيم والخَير الجَسيم، ونَحضُر معه في القريبين معه في ساحة النَظر إلى وجهك الكريم.
هذه آمالُنا رَفعناها إلى حَضرتك التي لا تَرُد فيها من سَأل، ولا تُخَيّب من رَجا وأمَّل، فيا واسع الإفضالِ ما رَفعنا إلى حَضرَتك تلك الآمال إلا بإذنٍ منك وبتوفيقٍ منك، ومن نحن حتى ننطق بإسمك أو نذكر وصفاً من صفاتك، أو نعرضَ حاجة عليك، ونحن الذين كنا عَدماً محضًا وصيّرتنا في أطوارٍ من الأطوار كنا في بعضها نُطَفاً وفي بعضها عَلقاً وفي بعضها مُضغاً وكنا في بعضها عظاماً وكسوت العظام منك لحماً ثم انشأتنا خلقاً آخر، ونفخت فينا من روحك وكنا فيها صبياناً صِغاراً أخرجتنا من بُطونِ أمهاتنا لا نعلم شيئاً، وجَعلت لنا السمعَ والبصرَ والفؤادَ، فلك الحمد شكراً ولك المَنُّ فضلاً.
وطوّرتنا في أطوارٍ وقَلبتنا في أحوالٍ، وها نحن في حالةٍ من الحالات الطيّبة التي مننتَ بها علينا، نتوجّه إليك ونَعرِضُ آمالنا بين يديك، ونرفعُ إليك حاجاتنا بتوفيقٍ منك فما أصلنا إلا العَدَم، وأنت أهل الجود والكرم.
فلك الحمد يا أَكرم، يا من أنزلت على عبدك سورة القلم وقلت له فيها له (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ *الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق:3-5]، وإنك تُعَلِّم من سَبقتْ لهم منك السوابق عِلماً مخصوصاً، يدركون به أسراراً أودعْتها نصوصاً، فيكونون بين خلائِقك سُرُجَاً تُنير تهدي سبيل البشير النذير وتوصِلُ إليك يا علي يا قدير، فامنن علينا من ذلك العِلم بحظ كبير ونصيب وفير كما أنت أهله يا مُعَلِّم من شِئت ما شِئت ويا مُعَلّم الإنسان ومُخَصِّصه من التَعليم بما قلت عنه في القرآن (خَلَقَ الْإِنسَانَ *عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)[الرحمن:3-4] وبما قلت: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) [العلق:1-5] .
فيا من جعلتَ التعليم الأعظم الأتم الأكمل الأول في أوله لعبدك المصطفى محمد فهو الإنسان المُعَلَّمُ الأكبر، وهو البشر المُنَبأ المُخْبَر، فأفضتَ بذلك العِلم على من سبقت لهم منك السعادة من بحره الفيّاض، فنسألك اللهم به أن تَخُصنا من سِرِّ ذلك العلم، بنصيب نرقى به مراقي مَن في بَحرِ حُبك وقربك خاض، مؤيداً منك بتأييدٍ سَلم به من جميع الأهوالِ والعللِ والأمراض، ولم تَقطَعهُ عنك كائناتٍ ولا أغراض، ولم يُبتلى بإدبارٍ ولا إعراض ممن ارتضيتهُ لنفسك وكنت عنه راض، وأنعِم بك من ربٍ إذا رضي فلا يصفُ أحدٌ ولا يتخيل بالٌ ما سيعطي هذا الإلٰه الراضي، الذي ينادي أهل السعادة عند خروج أرواحهم إذا خرجت من الدنيا واحتُملت أجسادهم على الجَنائزِ وقادتها أعناقُ الرجال فتكون نداءاتهم: "قدموني قدموني إلى جَنةٍ ورضوان ورب غير غضبان".
فلا تجعل واحداً منا ولا من الحاضرين معنا ولا ممن يسمعنا إلا وهو من أهل هذا النداء، يا عالم ما خفي وما بدا، يا من يُعطي ولا يُبالي بالواسع الفضل والندى، ولا تعرّض واحداً منا للنداء الآخر، الذي تبتلي به من خسر فهو الخاسر عندما ينادي بندائه: "يا ويلها أين تذهبون بها أخِروني أخِروني" (وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المنافقون:11]، ياخبيراً بما نَعمل صَفِّ ما عملنا، ووفقنا فيما نَعمل وما كان من خيرٍ فَنقِّيه واحفظه عندك وضاعفه إلى ما لا نهاية، وما زَلَّت لنا منه الأقدام من فعلٍ أو كلام أو نيةٍ أو معاملةٍ أو إقدام أو إحجام، فاغفر ياغفار ذلك الإجترام وذلك السوء منا الذي بارَزناك به، ولو حَضَرَت قلوبنا إعظامُك وإكبارُك وشيءٌ مما يليق بالعبد معك، ما أقدمنا على تلك الجرائر ولا قارفنا تلك السيئات، ولكن صَدرَ منا ما صَدرَ وما نجدُ لِمَا صدر منا إلا عفوٌ إذا عفى فعفوه كريم، وإلٰه وصفَ نفسه بأنه الغفور الرحيم، وليس ذلك غيرك فما لنا إلا أنت وليس لنا سواك لا هنا ولا هناك فلا تخيّب رجاءنا فيك، ولا تُخيّب ظننا فيك، وإن الذي أنزلت عليه الآيات نبأنا فقال عنك إنك قلت: "أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء" اللهم يا من وهبت قلوبنا ظناً جميلاً فيك حققنا بجمال الظن، وارزقنا حسن العِلم والعَمل في السر والعلن، واجعلنا ممن بذكرك اطمئن، واقتفى حبيبك المؤتمن، في كل ما جاء به عنك فيما ظهرَ وما بطن، حتى تتم علينا النعمةُ بما لا يصل إليه حدس ولا ظن، آمين يا رب العالمين.
ولقد مرّت بنا الأيام والجلسات، في تدبر الآيات وتلقي الرحمات، واستغفار غافر الخطيئات وذِكر خير البريات، وتلك كؤوس للنفوس الزكيات من حُرمها فقد حُرم الخير كله، فالحمد لله الذي ساقنا إليها واحضرها إلينا فَقَرَّبنا منها وقربها لنا، له الحمد فضلاً له المَنُّ طَوْلاً له الحمد شكراً، نسأله أن يُديم النعمة علينا.
وقد مَرَّ بنا تأملٌ في السور العظيمة التي أن سُمِيَّت بِحُكمِ الحس قِصار، فهي العظيمة الكبار بما حوتْها من أنوار وأسرار ومعاني واسعات ضخمة غريبة الأطوار، والله يُفقهنا في كتابه ويعلمنا سِرَّ خِطابه.
مررنا على تلك السور وجئنا إلى سورة الزلزلة التي تعدل نِصف القُرآن، ومررنا على معاني فيها ومنها حوتها بأمر الله -تبارك وتعالى-، فَبَرَزت لنا كلامُ ربٍ تَلتهُ لسانٌ حبيبٍ مقرّبٍ يُسِّر لنا تلاوتها بلسانه وتلونا (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا(1))، فأصبحنا نتحدثُ عن الأخبار الكبرى التي لا يمكن أن تَحمِلها الإذاعات ولا القَنواتُ ولا شيء من المُستَحدثاتِ ولا من أذهان الخلائقِ ولا ابتكاراتهم، إنها أخبار المَصير الأكبر والمستقبلُ الأخطر، إنها أخبارُ النهايات للعالم وما فيه ومن فيه، نقرؤها عن رب العالَم بلسان حبيب ربِ العالَم سيد أهل العالم جامع المكارم محمد بن عبد الله.
فنقرأ نبأ(إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا(1))، وإن كان الجيولوجيون وسواهم ممن يتعلّق بعلمِ الأرضِ يَصِلوا إلى غايةٍ، فعندنا من أخبارها وما ستؤول إليه ما لا ينتهي إليه عِلمُهم جئنا بها من عند مُكَوّنها وصانِعها، فهي أخبارٌ جاء بها المُختار عن الكريم الغفار فإذا قرأنا:
(إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1))، وجدنا أنفُسنا نتلقى الأخبارَ العظيمةَ الكبرى التي تتعلّق بمصيرنا ومآلنا ومستقبلنا، ولا يمكن أن نعثُرَ عليها في تحليلِ مُحلِّلٍ ولا تَكَهُّنِ مُتَكَهِّنٍ ولا تفكير مفكرٍ، لكن العليم الخبير نبأنا بها ونِعم العليم الخبير، تلاها علينا البَشيرُ النذيرُ السراجُ المنير ذو الوجه النوير- صلوات ربي وسلامه عليه- أحسنَ تلاوة، وإن بَعُدَ العهدُ من حيث الزمن وصرنا في القرن الخامس عشر من هجرته الكريمة، فإنا إذا صفى منا البال وطاب لنا الإستقبال فكأننا في زمنه وعهده وفي حضرته نسمع كلام ذي الجلال.
فحمداً لله على هذا النوال وعلى هذا التكرُّم بما يعجزُ عن التعبير عنه المقال، ونسأله تمام النعمة علينا وعليكم في كل حال إلى أن تتم بالإستقرار في دار الكرامةِ مع أهل المراتب العَوال، آمين اللهم آمين.
قرأنا: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا(1))، وأيقنا أن هذا خبرٌ سيكون عن هذه الكرة التي نعيش عليها، وتُزَلزَلُ الزِلزالَ المُقَدّر، وقد علمنا أن بدايات ذلك الزِلزال ما حَدَّثَ عنه حبيب الحق أنه في آخر الزمان وعند اقتراب أجَلِ تَغيُّرِهذا الكوكب والكواكب من حواليه والسماوات التي فوقهن، وحيث تتشققُ وحيث تمور موراً، أنه يتقدّم ذلك قبل ذلك كثرةُ زلازل هنا وهناك، وعلمنا أنا نعيشُ في هذا الزمن الذي أخبر عنه المؤتَمن وصارت نشرات الأخبار يميناً ويسرا تحمل لنا في كل يوم خبراً عن زلزلة وهذه زلازل صغرى، زلازل صغرى تتعلقُ بشأن الأرض والزلزلة الكبرى مقبلة.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) [الحج:1]كما قال العظيم(إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا)[الحج:1-2] الولد الذي تَرحمه و تُحبه وتَعطف عليه بحنو وحَنان الأمومة، وبعد ذلك أرضعته فتقوّى الحنانُ منها باتصالها برضاعته وتربيته (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ …) [الحج:2]، وتلك القمة فيما يوجدُ في العالم البشري والخلقي من الحنان والرأفة والوداد تَضمحلُ عند الهول العظيم لزلزلة الساعة (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ…)[الحج:2]، فأي حنانٍ يبقى؟ وأي رحمةٍ تبقى؟
من هنا تَعلَمُون عظمةَ ما أودِعَ القلب الشريف من رحمةِ الأمة، ورحمة الخَلق من الله الخالق ما استودعه قَلب المجتبى المصطفى، فإن أعلى ما نضرب به الأمثالَ من الحنانِ والرأفة رحمة الأم بولدها، وإذا كانت أرضعت الولد، تأكدت العواطف بينها وبينه تأكداً وثيقاً قوياً، لكن هذا المَثل الأعلى فيما بيننا، إذا جاء هول القيامة اضمحل وتلاشى، لكن قلب محمد لم تتلاشى فيه الرحمة ولم تُنسِهِ تلك الأهوال حقائق ما عنده من الرأفة فهو القائمُ مقام "أمتي أمتي".. صلوات ربي وسلامه عليه، بل القائم مقام الخِطابِ لأهل الموقف كلهم أمته والأمم من قَبلِهم، فإذا اشتد بهم الحالُ وضاقَ الخِناق ووصلوا إليه يشكون ما حَلَّ بهم فيقول: "أنا لها"، أي رحمةٍ هذه؟ اترك رحمة الآباء والأمهات. أنت أمام خير البريات، أنت أمام صفوة بارئ الأرضين والسماوات، أنت أمام رحمة الله الكبرى، أما مقاييسُ الخَلق انتهت، فهل يبقى بعد انتهاء رحمة الأمومة هذه أن تكون حزبية؟! أو تكون عصبية أو صحبة أو صداقة؟! هل يبقى شيء؟!.
هذه العَلائِق الخَفيفة الطفيفة، وإن رأيتها قوية في عالم الحسِ في الدنيا (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف:67]، (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) [عبس:34-36]، والمجرم يود..) -ماعاد شي صديقي ولا اتركك٬ ولاعندي ولا معك ولا فوق ولا تحت ، انتهت كل هذه الأشياء- (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ)[المعارج:11-13] قبيلة كلها (وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ) [المعارج:14]، ولكن لا يكون ذلك، لكن مقام "أنا لها" أمر شأن، أمر وشأن يصير فيه العقل حيران وولهان.
وحُقَّ للعقل أن يَحَار عند خصائص المُختار لسرٍ واحد أن الذي اختاره واصطفاه وميَّزه وخصصه بذلك الإلٰه القدير الكريم الغفار، فلما كان الإصطفاء والإختيار والإجتباء والتَخصيص من لَدُن ذلك الكبير الأعلى، فَحُقَّ للعقول أن تحار فيما حواه المختار وما أمده بهذا الواحد القهار -سبحانه وتعالى-.
فبكم جُعِلت من أُمته؟ بأي مسعىً منك جُعِلت من أمته؟ بأي تقديمٍ قَدمته حتى تُجعل من أمته؟ واجتمعنا وإيّاك في ضمن أمته ودائرة أمته نَذكُرُ من آثار حَضرته وخُصوصيته، وهي أسرار واصطفاءات الخالق المُكَوّن لسيد الكائنات والخَلق.، نتذكرها اليوم نحن.
هذا اشتريناه بكم؟ ما قَدمنا؟ حتى نُدرك هذا أو نناله؟ يا هذا أنا وأنت الذين أصلُنا عدم ما قدمنا شيء لننال هذا، ولكن الربُ الأكرم مولي النعم مَنَّ عليّ وعليك، فكيف نُعرِضُ عنه ونُقبِل على سواه؟ كيف نَذكُر شؤوننا وأحوالنا وشؤون خلقه وننساه؟ إلبسْ لباس الصدق مع هذا الإلٰه تحوز النجاة وتُكرم بمرافقة أصفيائه وأوليائه وأهل رضاه، وسيدهم محمد بن عبد الله -احشرنا اللهم في زمرته بفضلك.
قرأنا خَبر: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2))، وعَلِمنا أنّ ما فيها يُخرج أنه يأخذ مراحل ويمرُ بمرحلة أولى وتُخرَج الكُنوز ومرحلةٍ ثانية ويُخرَج ما يُخرج من الكنوز، ومرحلةٍ ثالثة فتُخرج الأجساد التي تُكَوّن بعد ذهابها تراباً، والأجساد المحفوظة المُكرمة التي لم يأكلها دود ولا تراب، إنها أجسادٌ صَدَرَ الأمر من رب الأرض أن لا تمسها الأرض، والأرض لا تقدر أن تمس إلا ما أذن به الرب، فإذا لم يأذن له أن تَمَس فلا تَمَس "إنّ الله حرّم على الأرض أن تأكل أجسادنا معاشر الأنبياء".
فنحن الآن عليها وهي في دورانها هذا ونحن لا نحس به وهو سريع جدا، فتدفع كم؟ في اللحظةِ الواحدة هي بأمرهِ هكذا تدور، ولن تستطيعَ أن تدور إلا بأمره، وإذا أمرها أن تَقف وقفت، وهي ممسوكةٌ في هذا الجو الذي هي فيه بأمره(إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا…)[فاطر:41] قال تعالى في الآية الأخرى: (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ)[الحج:65]-جلَّ جلاله وتعالى في علاه-.
الأرضُ ستلقي أثقالها (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا (3))، متعجباً.. والمنكرُ للبعثِ أصبح يُشاهده مُعايَنَةً، (مَا لَهَا)؟ (قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ۜ ۗ هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)[يس:52] تقول لهم الملائكة: (هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)[يس:52]عايَنتُم الحقيقة هذا اليوم الموعود وهكذا، وتُبَشِرُ الآخرين، يقول سبحانه وتعالى:(لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) [الأنبياء:103]، أنتم قد صَدَّقتم؛ عَلِمتم أنّ في قيامة ورجعة إلى الرب وعند المتِّقي رب ،هذا يومكم يا مُتَقين يوم رِبحكم يوم فَوزكم، الخُسران على من كَذّب، على من كَفر، على من عاند، على من تَجَبر، على من خالف أمر الله، أما أنتم (هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) [الأنبياء:103]، والثاني يقول:(هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) [يس:52]، هذا يوم عَذابكم هذا يوم عِقابكم هذا يوم الألم يوم الشِدة يوم الندم يوم الحَسرة، وهو لؤلائك يوم الطُمأنينة ويوم الرِضا ويوم القرب ويوم الجنة ويوم الفَضل الرّباني، اللهم عاملنا بفضلك واجعلنا من أهل فضلك.
(وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا (5))؛ فَتُخبِرُ بما كان يُعمل عليها (تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا (5))، أوحى إليها، وكذلك لها طُمْئِن وشفى غَيظها بفَضيحة الفُجار والكُفارِ الذين كانوا يَعصونَ على ظَهرِها وهي تَبغَضهم من أجل ربها -جل جلاله-، وسُخرت لهم في الوقت المحدد، واليوم هي تَبلُغُ غيظها فيهم بأن تفضحهم بما كانوا يعملون عليها، وهكذا ذكرنا أخبار الشهود في اليوم الموعود (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا (5)). وعَلمنا أن الأرضَ لا يسجدُ فيها ساجد إلا شَهِدت ولا يَعصي عاصٍ إلا شهدت، ولذا أحبوا كثرةَ الأماكن التي يطيعون الله فيها
وكان سيدنا علي بن أبي طالب إذا ملأ مكان بيت المال للمال ثم فَرَّقَهُ، وفني ما فيه يقول نَظِفوه ثم يدخل فيصلي ركعتين في مَحل جَمع المال ويقول٬ -كما شهدت في جمع المال فأشهد بصلاتي فيه-، وهكذا.
وكما رَأينا أبا أُمية صلى في الحرم ثم قام يصلي ركعتين وركعتين هنا وركعتين هناك يقولون: مالك؟ قال:(يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا(4))، دعها تشهد هذه وهذه وهذه البُقَع كله
قال سيدنا علي: إذا ماتَ المُؤمن بَكى عليه مَوضعان؛ موضعٌ في الأرضِ وموضع في السماء؛
يقول: فبكى عليه موضعان موضع في الأرض وموضع في السماء، أما موضعهُ في الأرض فمُصلاه وأما موضعهُ في السماء فمصعدُ عمله، قال الله في قوم فرعون، لما هلكوا (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ…)[الدخان:29]
( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا (5))، (يَوْمَئِذٍ)، يوم إذ زُلزلت وحَصَلت هذه الأخبار الكبيرة التي إن كَذَّبها من كَذّب أو تَناساها من تَناسى وأَعرض عنها من أعرض وستكون له وسُيعاينها والكل مَرجِعه إليها شاؤوا أم أبوا؛ إن كان مُفكر، وإن كان فيلسوف، وإن كان مُثَقف كان ما يكون، وإن كان رئيس، مرؤوس، صغير كبير، هذا المَرجع، هذا المَصير للكُل بلا استثناء (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا* لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا)[مريم:93-94]
ويأتي وهو عبد، لاعاد يأتي بلقب فخامة ولا سيادة ولا معالي ولا كبير ولا صغير ولا… انتهت... والعَظيم من هو عند الله عَظيم فقط، ويبقى؛ يا نبي يا ولي يا عالِم يا صالح يا تَقي، نعم هذه ألقاب مُخَلدة باقية، أما الألقاب الثانية ما في، ما عاد شيء منها.. إلا ماذا؟ في؛ يا شَقي، يا فاجِر، يا كافر، يا مُنافق هذا..، لأن هذه الألقاب المرتبطة بالعُملة الباقية، والعُملة الباقية سيئات وحسنات، بقية العُمَل كلها ذهبت.
ترون الذهب عندما يطلع فوق الأرض يمرون عليه يقولون: هذا الذي بسببه قَتلت، ثاني يجي يقول: هذا الذي بسببه قُطِعت يدي لأنني سرقت، وهذا يقول: هذا بسببه قَطعتُ رحمي، ولا عاد يُرضوا أن يأخذوه، انتهت العُملة -لا توجد عُملة ورقية- نفس النقد خلاص ما عاد ينفع، نفس النقد زَهِدَ فيها الذي قد قَتل من أجله -هو في مراحل عمره قد قَتَل من أجله- وبعد ذلك، اليوم يتعجب في نفسه وهو لازال في الدنيا ويقول أنا من شأن هذا قَتَلت؟! هذا الذي من أجله قَتَلت. وذلك يتعجب في قطيعة رحمه!! فيقول: أنا من أجل هذا قاطعت!! وهذا يقول من أجل هذا قُطِعت يدي.. ما هو هذا؟ ما عاد يساوي شيء وهم لا زالوا في الدنيا، فكيف في القيامة؟ إنما هي الحسناتُ والسيئات.
يقول: (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ ..(6))، (يَصْدُرُ النَّاسُ)، كيف يصدرون؟! إما من القبور لأنهم قد وَرَدوا إلى القبور، والصَدرَ إنما يكون بعد وُرود، (يَصْدُرُ النَّاسُ(6))، من محل مضجعهم، صدورهم بعد اجتماعهم في الموقف الأول إلى أرضِ الحساب، فإنهم يجتمعون أولاً في الأرض، وقد مُدَت وقد تَغيرت تَغيُراتها الكبيرة، يوم يُحْدِثون بعض حوادث في بَعض البلدان والبَلدية والتَحسين والطُرقات يَدخُل يقول ما عاد عرفت البلاد هذه بلاد ثانية. الأرض كلها ما عاد بتعرفها بعد ذلك (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ… ) [ابراهيم:48]، (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ* وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ* يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ) [الإنشقاق:3-6]؛ تكدح طيِّب، تكدح خبيث، تكدح صالح تكدح سعيد، اكدح الذي تريده، (إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ) [الإنشقاق:6]، بعد ذلك تحصِّله أمامك؛ طيب(عمل حسن) خير، شر، حسن، سيئ، أكدح اللي تبغى، لكن بعد ذلك يأتي اللقاء، ستأتي نتيجة الكدح هذا، نتيجة الكَسب الذي كان لك (إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ) [الإنشقاق:6]، أي؛ مُلاقي الكَدح أو -معنى آخر- مُلاقي الرب، تَرجع للرب بيحاسبك على كذا (فَمُلَاقِيهِ) -جلَّ جلاله-.
(يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ ..(6)):
فهم في كلا الحالتين في الصدر هذا الاول، والصدر الثاني يصدرون (أَشْتَاتًا) (أَشْتَاتًا) (أَشْتَاتًا): فِرَقاً، طَوائف، جَماعات أنواعاً، ما هذا؟ هذا تنوّع النيّات، تنوّع الوجهات، تنوّع الأعمال، تنوّع الأفكار، ايوا هذا هو، ألا تراهم في الدنيا كيف أشتات فِرَق فِرَق!!.. بعد ذلك أشتات.
سترْبط بأي فرقة؟ ستثبت عند أي فريق؟ بعد ذلك سيأتي محشر وبعده كل واحد مع فريقِه (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) [الإسراء:71]، يقول سبحانه وتعالى، وقال في فرعون: (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَىٰ ) [طه:79]، (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ۖ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) [هود:98]، لكن لو تَبِعوا نبي، تبعوا وَلِّي يورِدهُم الجنة ولكن (فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ۖ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُوا فِي هَٰذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) [هود:99-98]، كما قال -سبحانه وتعالى-.
(أَشْتَاتًا ..(6))، تأمل فَكُل اتجاه يُخرِجُك عن دائرة محمد فاحذرها.. احذر كل فِكر، كل عَمل، وكل نية تُخرِجك عن هذا الفَريق انتبه لنفسك، لأن هذا الفَريق كلٌ يَتمنى أن يَكن معه، والأعجب من هذا نفس الفَريق -فريقُ النجاة، فريق السعادة فريق الجنة- يتسابقون أيُهم أقرب إليه، حتى جاءنا في الأخبار أن آدم يقول: "أنا أولى بك يا رسول الله، -محمد- أنا أبوك. وأن عيسى يقول: أنا أولى بك يا رسول الله، ليس بيني وبينك نبي ونَصَرتُ شَريعَتك كُنت في أُمتك"، يتسابق الأنبياء، في الحديث الآخر" أن الله أوحى إليّ أن لك ثلاث دعواتٍ مستجابات فاسأل؛
وأما غيرهم كلٌ يتمنى أن يكون معه، الأنبياء والصديقين ما شاء الله في دائرته وهم يتسابقون إليه، ولكن هناك بعيد (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا)[الفرقان:27] أين زُعماؤكم؟ أين رُؤساؤكم؟ أين النماذِج حقكم؟ أين الذين كانوا في نَظَركُم؟ وكذا وكذا خلاص؟!.. يبغى مع هذا، مع محمد، في يوم كلٍ بذكرك يا محمد يصيح ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم..
(يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا) [الفرقان:27] الله يقربنا إليه. أنا أغبطُ الذي بجانبه عند السجدة والذي قريب منه وهو ماسك لِواء الحمد، والذين يَرِدون مباشرة معه على الحَوض عند الحوض -الله-،هؤلاء أَخيرنا وأَشرفُنا، هؤلاء أفاضل أمة الخير وأكابرهم، هنيئاً لهم، فوزاً لهم، سعادة لهم، بشرى لهم، طوبى لهم، قَرِبنا اللهم منهم احشرنا في زمرتهم، إن قَصُرنا عن عملهم بوجهاتهم فإنك أكرمتنا بإيداعِ ذرات محبةٍ لهم في قلوبنا، فبارك لنا في تلك الذرات، وقوّها يابارئ الأرضين والسماوات، حتى تكتب لنا الحشر معهم يوم تَحشُر كل مُحبٍ مع من أحب.
(يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6))، ليُروا: تُعرض عليهم، يَطلِّعون عليها؛ رؤية الصحائف، ورؤية في الميزان، ورؤية مشاهدة، المعاني الغيبية تصير صورةً حِسية، هذه الصلاة بجمالها وهذه التلاوة بِلَذاذتها وهذه الصدقة بِحُسنها وهذا الصوم بِشَرفه وكَرَمه، وهذه الغيبة وهذه السرقة وهذا الكذب وهذه النظرة الحرام أمامك.. شوف شوف شوف شوف، أنظر إليها -الله الله الله الله-.
(يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا…(6))؛ لتكون العاقِبة أن (لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ(6))، يُروا رؤيا مُتكامِلة بالعَقلِ والتصوّرِ والوعيِ والذهنِ والفهمِ وبالنظرِ وبالسمعِ وبالشمِ، بكل شيء. يَشُمُّ طاعاته كما يَشُم السيئات؛ هذا رائحة مُنتِنة وهذا رائحة طيبة، وأمامه الصورة يشاهدها وبالكتابة يَقرؤها؛ هذه حَسَانتك وهذه سَيئاتك (يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ(6))، يَطَّلِعوا ويُشاهِدوا رُؤيا كاملة، رؤية عقل ورؤية بَصَر -إدراك تام- يَشُم ريحها ويرى صورَتها، وهذا في العموم، ومن سَتَره الله ستره.
ولهذا قد تتعدد الصور للفرد الواحد في القيامة على فَعلاته التي فَعَلها في الدنيا، فيرى نفسه وقت الفعل ذا ووقت الفعل ذاك وتفعل كذا، ويقول انظر من هذا؟ بعض الأحيان، بعض أهل الدنيا يقيموا الحجة ويقول له أبداً ما عندي!أبدااا؟! ويوضع له الشريط.. من هذا؟ ما الذي حصل؟ وهو نفسه يرى نفسه في الصورة، تُعرض الصور على الخلق في ذاك اليوم، المستور من ستره الله، ومن يُحب فضيحة الخَلق يفضحه الله هناك، ومن يُحب ستر العِباد في الدنيا يستره الله هناك.
(يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6))، والأعمال تلك كبيرة، لكن لا تقول عليها كبيرة ولا صغيرة، اسمع لما بعدها؛
(فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8))، (مِثْقَالَ ذَرَّةٍ)، (مِثْقَالَ ذَرَّةٍ)، (مِثْقَالَ ذَرَّةٍ)، ما (مِثْقَالَ الذَرَّةٍ)؟ هل ذرة نملة؟ نملة صغيرة، وإن كان تسمى ذرة هي فيها ألوف الذرات -هذه النملة- كان سيدنا ابن عباس (يضع يده في التراب ثم يرفعها -و(ينفخ عليها)- ويتطاير ويقول هذه ذرات، وإذا دَخَلت الشمس من نافذة ورأيت الهَباء هذه بكتيريا- هذه ذرة- بل يقول بعضُ أَهل العِلم الذرة عبارة عن الجُزء المُكَوّن من مادة التي لا يُمكن تَجزئتها، جُزء لا يَتَجزأ وهذه الذرات تتجزأ بالمكبرات تتجزأ أجزاء كثيرة. المهم الجزء الذي لا يمكن تجزئته هذا هو الذرة.
(فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8))، وهذه الرؤيا على مَراتب:
كما تزداد فَرحة المؤمن يقول له عندك ذنوب كذا وكذا، وبعد ذلك، قد غفرناها لك، فيقول الحمد لله -يفرح- بل جاء في الحديث: "أن بعض العباد المُوَفَقين -الذين قد تاب عليه- يأمر الله المَلائكة، أن يَعرضوا عليه بعض صغائر سَيئاته يُذَكِّرونه، يعرضونهاعليه يَفزع، ويَظُن أنه هَلَك يقول لهم: ألم يغفر لي؟ يقول: نعم إنه قد بدلها لك حسنات، فَرِح وقال قد بُدَّلت الذنوب حسنات، فيقول: وباقي الذنوب الأخرى؟ لم أرها هنا، فَضَحِك النبيﷺ، قال لما رأى مُعاملة الله قال: باقي ذُنوب ثانية أكثر من هذه، في البداية فَزِع، وظن أنه سيحاسبه ولم يَتَذكر شَيء من الذنوب الثانية لكن لما رأى تَبَدلَت حسنات، يقول: عاد باقي ذنوب أكثر من هذا، -لا إله إلا الله-.. سبحان الكريم. والمهم مثاقيل ذَر معك.
جاء في الأخبار أن الآية نزلت والنبي قرأها وكان يأكل مع سيدنا أبوبكر يتغدى، توقف سيدنا أبوبكر وقف عن الطعام وتَغَيّر وجهه، مالك يا أبابكر؟ قال: يا رسول الله أَمِثقال الذرة من سَيئاتي أراه؟ قال: يا أبا بكر، ما يُصيبك من مكروهٍ وشدةٍ في الدنيا فهي جَزءٌ من مثاقيل الذر من سيئاتك، وتَفضُل لك مَثاقيل الذرِ من الحَسنات، وتضاعف وتجازى بها في القيامة، وهذا نوعٌ من المُجازاة ولا مانع أن بعد هذه المُجازاة أنها أيضاً تُعرض عليك، ولكن بعض المُؤمنين، كلُ سيّئة صَدَرَت مِنه يُعطى لها مُقابل في الدنيا يَمحوها حتى ما عاد يبقى شيء، ويُبتَلى بِبَلية كذا ولكذا شيء في أهل، شيء في زوجه، شيء في ولد، شيء في صديق ،شيء في تجارة، حتى يُمَحص..
بل بعضُ المَلطوفِ بهم يَخرُج من الدنيا -تخرُج روحه- وبقي بعض أعمال تُنقِصهُ عن الدرجات في الآخرة وعن اللحوق بالسابقين، فيقول الله للملائكة: شَدِّدوا عليه ضغضة القبر مقابل هذا. بعضهم عند الموت يقول: شددوا عليه النزع دعوه يتعب من أجل تكون كفارة، وما بقي أو درجات له لم يَبلُغها بعمله بعد، فيأمر الله بتشديد النزع عليه ويُشَدد عليه النزع عند الموت، فما تكون الشدة لكافر ولا لعاصي فقط فقد تكون لصالح ولِمُقَرب ولنبي -الشدة عند الموت- كما أن الخِفة قد تحصل لذا اوذاك، إلا أن الغالب لا. والمَقتولُ سواء كان مؤمناً أو كافراً، إلا أنه ألم الموت يَخِف عليه بالنسبة لغيره، أما المقتول في سبيل الله فما يجد من ألم الموت إلا كَقَرصَة النملة، ما يكاد يحس بها، وأما ما عدا ذلك -من نزع الروح من الجسد من غير طريقة القتل- فهذا شديد إلا على من خفف الله عنه.
قد سمعتَ في وفاة نبينا أنه يضع يده الكريمة في الماء ويمسح وجهه الكريم الأشرف ويقول: "لا إلٰه إلا الله إن للموت سكرات، اللهم أعني على سكرات الموت" صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
(يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8))، والكلُ يره ولكن هذا مُسامَح وهذا غير مُسامَح هذا مُحبَط عمله هذا غير مُحبَط، والله يجعلنا ممن رعتهم عين عنايته في جميع الأطوار.
وجاءنا في كُتب السنن عدد من الروايات عمن تأثر بهذه الآية،(فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7))، ومنها أن:
هذا فقِهَ سورة الزلزلة، أفَقَّهَتك أم لم تفَقِّهَك؟ أنت تَقرأها كذا كذا مرة وسمعت تفسيرها، والآن في أيام عيد الفطر من رمضان، تُفَقهِك أم ما تُفَقِهك؟ (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)).
في الصحيحين جاء "أنه ﷺ -صلى الله عليه وآله وسلم- سماها الآية الفاذةُ الجامعة"، الآية الفاذةُ الجامعة؛
فاذَّة: أي قليلٌ نَظيرها، ما لها نظير.
جامعة: مُشتملة على المعنى الواسع كله (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)).
وكما جاء أيضاً في الصحيحين أنه ﷺ: " ذَكَر أن الذي عنده من الذهب والفضة ولا يُزكيه إلا وجاء بها يوم القيامة، فأوقِد عليها في النار فحُمِّيَ بها جَنباه وجَبهته وجَنبه وظَهره وأنه لا يكونُ عندَ أحدٍ ماشية من إبل أو بقر أو غنم، فلا يؤدي زَكاتها، إلا بُطِحَ يوم القيامة على قرقرٍ من صفائح من النار، وأُمِرَت أن تَمُرَ عليه وتأتي أَكْمَلَ ما كانت، فتمرُ عليه تدوسه بأظلافها، كلما مَرَّ عليه آخرها عاد عليه أولها حتى يُفْصَل بين الخلق
قالوا: فالخيل يا رسول الله؟ قال: الخَيلُ معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، والخيلُ لثلاثة؛ لرجلٍ أَجْرٌ ولرجلٍ سَتْرٌ ولرَجلٍ وِزِر، فأما الذي هي له أجرٌ؛ فَرَجل إتخذها في سبيلِ الله ليَنصُر بها الحَق، قال: فلا تَقطَعُ طِيَلَها وتَعلو شرفاً أو شرفين إلا كُتب له بها أجر، يعني تقطع حبلها المتصل بطيلها، قال: تَستَنُ شَرفً أو شرفين ترتفع محل وتعود، ولا تمر على نهرٍ وتشرب إلا كان له به أجر، يعني ما يحصل لها حتى من غير قصد يحصل له بها أجر فيه، فكيف الذي قصده بأكلها واعطائها، هذا له أجر،أما الذي له سَترٌ فمن أخذها تَغَنيّاً وستراً واستعفافاً، فهذا له سَتر، وأما من عليه وزر فمن أخذها تَفاخراً ورياءً وسُمعةً أو مُنَاوَءَة يعني: مُعاداةً للحق
قالوا: فالحُمر يا رسول الله؟ يعني الذي ما عنده خَيل، عنده حمار لينفع المجاهدين في شيء من الخير، قال: لم ينزل علي في الحُمر شيء إلا هذه الآيةُ الفاذة الجامِعة (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)).
في هذا دليل على أن ما جاء من العُمومات في النصوص تُستعمل فيه العُمومات وتُؤخذ بها، حتى يُخصص بنص، فإن لم يُخصص فهو على عمومٍ، وفيه أيضاً تثبيتُ أصلٍ في السنة وهو؛ أنّ كلما دخل تحت دائرة الخير بقواعد الشرع، فمثابٌ عليه صاحبه، عُمِلَ قبله أو لم يُعمل قبله، كان في زمن النبي أو لم يكن في زمن النبي (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8))، وهكذا، فهذا أصل من الأصول في الشريعة الغراء المطهرة.
بارك الله لنا ولكم ونظر إلينا وإليكم، زاد الوقت عليكم هو آخر يوم من أيام الست، أيام صيام الست، معنا غداً يوم عيد أهل الست ولاجتماعهم في العوادات يتوقف الدرس، وبعد غدٍ كذلك يوم الثلاثاء يتوقف الدرس، بقي معنا من أيام الدورة في الدروس الصباحية بعد ذلك ثلاثة دروس، درس يوم الأربعاء -إن شاء الله- درس يوم الخميس ودرس يوم السبت، ثم يكون في مساء السبت حفل الختام لأهل الدورة أما فجر يوم الأحد مثل هذا اليوم، فهو مولد واجتماع توديعنا لأهل الدورة المُسافرين ممن وفد وأراد الانصراف بعد ذلك.
وهنا تنتهي بنا الأيام ويا ليت أننا نملك أنها لا تنتهي لنزداد فيها قرباً أو حُباً أو معرفةً أو دُنُوًا أو فهماً أو نوراً أو إنابةً أو إخلاصاً أو تحاببا في الله أو قوة ارتباطٍ به وبوحيه وبرسوله، ولكن أيام الدنيا ليس لها من بقاء ولا يملك أحد أن يؤخر ويقدم فيها شيئاً.
فبارك الله في أعمارنا ورزقنا حسن اغتنامها وإن شاء الله تمر باقي الأيام علينا في هذا الأسبوع بحالٍ جميل وعطاء جزيل ومَنٍّ مِنَ الله فضيل ندرك به المؤمل وفوق ما أملنا، ويُصلح الله به قصدنا ونيتنا وعملنا، ويتولانا ولايةً يقينا بها شرور أنفسنا وشر كل شر من خلقه أجمعين، اللهم ثبتنا ووفقنا وخذ بأيدينا ولا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى أحدٍ من خَلْقِكَ طرفة عين، برحمتك ياأرحم الراحمين.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
ولعلنا في باقي الثلاثة دروس ما نصل إلا إلى إكمال سورة البينة، ويكون بنا الوقوف على سورة القدر أو سورة اقرأ إن شاء الله وبالله التوفيق، الله لا يجعله آخر العهد من أيام رمضان ولا من أيام الست من شوال، ويعيدنا الى أمثالها في صلاح أحوالنا وأحوال المسلمين والحمد لله رب العالمين، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
10 شوّال 1435