(228)
(536)
(574)
(311)
تفسير الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لسورة الفاتحة وقصار السور بدار المصطفى ضمن دروس الدورة الصيفية العشرين في شهر رمضان المبارك من العام 1435هـ.
﷽
(إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا (5))
الحمد لله حمداً تثبتُ به قلوبنا على حسن المراقبة له، مع كمال الصدق والمحبة والتولّع والوله، وعظيم الرجاء وكمال الخشية في استقامة نرقى بها مراقي القرب منه والدنو من حضرته العليّة، ونشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له ربنا الخبير بما نصنع المطلّع على الضمائر وما فيها ينتشر ويتوزع، وإلهنا الذي إليه المرجع، عليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حيٌّ لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
ونشهد أن سيدنا ونبينا وقرة أعيننا ونور قلوبنا محمد عبده ورسوله الصادق المحسن البلاغ عن الإله، فيما أرسله به إلى براياه، والمُبَيَّن لحقائق وحي الحق تبارك وتعالى بخير الوجوه، والمرشد لطريق الاستقامة ومنهج السلامة على أسنى ما يتمناه كل عاقل ويرجوه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وأهل محبته وقربه وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين المبشرين به، وعلى آلهم وصحبهم ومن سار من بعدهم في دربهم إلى يوم لقاء العلي الكبير في دار المصير.
وبعد..
فإننا في تأملنا لخطاب مولانا سبحانه وتعالى وتوجيهه لنا، انتهينا إلى آخر سورة العاديات التي يذكرنا الله فيها بكُبرَيات شؤون المصير: (أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ) [العاديات:9]؛ أُخرج وأُبرز وظهر ما في القبور (وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ) [العاديات:10]، ونسأل الرحمن أن لا يُحل في صدورنا ولا يُثبت فيها إلا ما تبيّض به وجوهنا يوم القيامة، وإلا ما ندرك به الفوز يوم الطامة.
قال (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) [العاديات:11]، وهذه الخبرة بدقائق ما كان منهم في بواطنهم وظواهرهم ليست خاصة بيوم القيامة بل هو العليم العلم الأزلي، العلم الأبدي بكل شيء: (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق:12]، ولكن في ذاك اليوم يقترن خُبْره وعلمه بالجزاء (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) [العاديات:11]، فمجازيهم على ما كان منهم
فالعلم في ذلك اليوم مقرونٌ بالجزاء -ولهذا خصصهم بقول يومئذ- وإلا هو خبير بهم أبداً سرمداً خبير بهم من قبل أن يعملوا، ومن حين ما عملوا، ومن بعد ما عملوا، (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ ۖ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ) [الأعراف:7]، (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) [الزخرف:8]، (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) [العاديات:11]. اللهم استرنا بسترك الجميل في الدنيا والآخرة، واجعل تحت الستر كل ما تحب برحمتك يا أرحم الراحمين.
فعلى قدر الإيمان يعظُم في بالنا اطلاع الله علينا وعلم الله بنا وإحاطته بدقائقنا وما في ضمائرنا وسرائرنا فنتنزَّه ونتقدَّس ونتصفَّى ونتطهّر عن كل ما يُستحيى منه أمام الحق -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-
ولذا كانوا يقولون عن الصادقين في السلوك: لا يكون صادقاً في مسلكه إلى الله حتى يكون لو طيف بجميع ما في باطنه وضميره على طبق في السوق، لم يستحِ من ظهور شيء منه، هذا الصادق في السير إلى الله تبارك وتعالى، اللهم ألحقنا بالصادقين.
وقبلها رتب الله تبارك وتعالى سورة الزلزلة وفيها أخبار القيامة
يقول تعالى: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)) ولا شك أنها تضطرب وتتحرّك وتزول عند قيام الساعة، ويسبق ذلك أنواعٌ من العلامات القائمة على ظهر الأرض، جُمْلته فيما يتعلق بالأرض خروج الأثقال من وسطها، ففي صحيح الإمام مسلم عنه ﷺ: "أنه تبرز الأرض ما في بطنها من الذهب والفضة وتلقيه كالإسطوان، على ظهر الأرض، قال: فيمر القاتل فيقول: على هذا قَتلت، ويمر القاطع فيقول: لأجل هذا قطعتُ رحمي، ويمر السارق فيقول: في هذا قُطِعت يدي، قال: ثم يدعونه فلا يأخذ أحد منه شيء"؛ يتركوه، قال كنا نتقاتل على هذا، كنا نتقاطع بسبب هذا، وهذه في مرحلة تكون قرب قيام الساعة تخرج الأرض ما في بطنها من الأثقال ثم تتابع الأحداث حتى يأتي وقت النفخ في الصور، فترمي الأرض أيضاً بأجساد الموتى التي فيها وهذه مرحلة أخرى.
فإن الله بعد النفخة الأولى، والنفخة الأولى يحصل به خراب هذه الأجرام والكواكب والنجوم الملايين الملايين الملايين وتنتهي وبعد ذلك يُنزل مطرًا يغوص في الأرض فيصل إلى كل عَجَب ذنب آخر العامود الفقري من كل حيوان مثل حبة الذرة صغير مثل هذا لا ينطحن ولا ينهضم في أي معدة، يبقيه سبحانه الله كما هو وتدقه ما يندق، فعندما يصل إليها ماء المطر هذا يعود الجسد كما كان، كما ترى في الحبة من الذرة وغير الذرة تحطها في الأرض فتطلع شجرة، فمن خلال هذا يركِّب الله الأجسام سبحانه بقدرته، فترجع الأجسام كما كانت في وقت الموت كُلٍّ يرجع على حالته في وقت موته ثم تلقيهم الأرض (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ) [القمر:7].
(إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1))؛ تحرَّكت بشدة واضطربت بقوة وزاغت بمن فيها (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2))؛ ما في بطنها من أمثال هذه الكنوز المذكورة في الصحيح، ثم ما تضمه من الأجساد التي تنشأ بعد النفخة الأولى فتلقيها (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3))؟ ما لها؟ ما لها؟ فيكون الوضع وضع استغراب وعجب من الجميع يعهدون هذه الأرض مستقرة ثابتة ممهدة واليوم بهذه الصورة، (وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا):
فيحصل أطوار للأرض منها امتدادها، ومنها زلزلتها، ومنها حمْل الجبال وإخراجها منها ثم ضربها معها (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً) [الحاقة:14]، ( إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ) [الإنشقاق:3-4]، (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا) [طه:105-107]، الأرض كلها فما عاد باقي ثلاثة أرباع الكرة الأرضية ماء كما هو الحال الذي نعيش عليه الآن، انتهى (وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ) [الإنفطار:3]، (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ) [التكوير:6]، تسجّر -تحمّى- وتتبخر وتنتهي وتتفجر ولا عاد يبقى أثر لأي ماء هنا ولا هناك.
واليوم عندنا ثلاثة أرباع الكرة الأرضية ماء، وهذا الربع فيه دول العالم كلها، وفيه الربع الخالي لايسكنه أحد، فهم على مساحة قليلة في الأرض مصلِّحين لنا دول كثيرة، وعاملين لنا ضجة عليها ومكر وكيد وحرب وشدائد وولاية وهم ما استوعبوا الكرة الأرضية، أكثرها ماء وبحار لا يسكنونها، وفي اليابس من الأرض الربع الخالي وضجة كبيرة على هذا، وأقل واحد من أهل الجنة له في الجنة مثل الدنيا عشر مرات كيف تسمي هذا مُلك؟ ماذا تُسميه؟ هذا ممكن مثل اللعب: (أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) [الحديد:20]، هكذا هناك المُلك، الله يجعلنا من أهل جنته.
(إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1))؛ فالأرض يكون لها زلزلة ويكون قلع للجبال وضربها معها فتدك دكة واحدة وتنسف نسف، والبحار تتفجر (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ وَإِذَا * الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ) [التكوير:1-6]، حميت وتبخرت، (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) [التكوير7]، كل واحد مع قرينه يحشر (وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) [التكوير:8-13]. (إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ) انشقت (وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) [الإنفطار:1-6]، (أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ) [العاديات:9]، (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) [الإنفطار:7]، كل واحد يعلم ما بنفسه الآن، يرى الجزاء عما قدم وأخر، ماذا كان يقول؟ وماذا كان يفعل؟ وماذا كان يعتقد؟ وكيف كان يتعامل؟ خذ الآن الجزاء (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ).
يقول: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1))؛ وهذا كوكب عظيم نعيش عليه جعل الله له خصوصيات ومهَّدهُ لنا تمهيد وألقى فيه الرواسي، وقدَّر فيه الأقوات، ورتب لنا فيه خروج الرزق منها سبحانه وتعالى، وجعله محل الخلافة لآدم وذريته، بنوا في هذا الكوكب الأرضي (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)[البقرة:30]، وليس من اكبر الكواكب الموجودة التي بثها الله بين السماء والأرض ولا هو أصغرها، ولكن مما إذا نُسب إلى الأخريات أعد من جملة الصغار -وإن كان القمر أصغر منه- وبعض الكواكب أصغر منه ولكن هو أيضاً -وإن كان أكبر من القمر وما شابهه من الكواكب- ولكنه أصغر بكثير من كواكب كثيرة مبثوثة بين الأرض والسماء، سبحان منشأها وصانعها وموجدها ومسيرها ومدبرها -جلّ جلاله وتعالى في علاه- (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ) [الرحمن:5-6]، (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس:40]، (إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ ) [آل عمران:190]، (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [البقرة:164]، سبحانه عز وجل.
(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ) [الملك:5]، ويذهل عقل كل عاقل، ولذا يعود الكفار الذين يتعلقون بالنظر في شأن الفضاء والكواكب والذي فيه، مبهورين من دقة التسيير والتوقيت والتدبير للكائنات، وحتى يصرِّح بعض الكفار من الذين تعلقوا بهذه الأشياء وأخذوا يتأملون فيها، يقولون: هناك قوة خفية، ما يمكن هذا يسيَّر من نفسه هكذا أصلاً، ما يتأتَّى، في قوة وراء هذا مدبرة له، لا إله إلا الله، قوة الله سبحانه خالق كل شيء ولكن (فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلا كُفُورًا) [الإسراء:99]، ما يرضون، وإلا فالدلائل واضحة:
وَفي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيَةٌ *** تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ واحِدُ
(إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1))؛ أي ما قُدِّرَ وقُرِّرَ لها في الأزل من مقدار الحركة والاضطراب المُعَيَّن لها في إرادة الله وقدرته وعلمه في الأزل ( زلزالها) هذا هو الزلزال الذي أعد لها وهُيِّأَت له ولا تتجاوزه في صغير ولا كبير كما قدره ورتبه العلي الكبير (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1))؛ هذا الشيء الذي قدره لها الله سبحانه وتعالى ورتبه لها وعيّنه وحدده (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1))؛ أي ذلك الزلزال الشديد العظيم.
(إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1))؛ وأنت اليوم ترى الآثار الخفيفة من الزلزلة لما تجيء في أي مكان والاضطراب، كم في اللحظة الواحدة تتخرَّب مساكن ومواطن وأماكن ومكائن في لحظة واحدة!! وكم ألوف من البشر ممكن ينتهوا في لحظة واحدة من أثر خفيف من الزلزلة؟!! لا إله إلا الله، فكيف إذا جاء الزلزال الشديد هذا؟
(إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2))، وسمعت ما في صحيح مسلم من إخراج الكنوز التي فيها وفي ذاك الوقت -وقت قبل القيامة- وأنهم يقولون على هذا كنا نتقاتل، وعلى هذا كنا نتقاطع، وفي سبب هذا قطع يد السارق إلى غير ذلك، ثم بعد ذلك تبقى الأثقال باطن الأرض الأجساد فأيضاً ترمي بها إلى ظهرها، (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3))، ما الذي حدث بعد ذلك التمهيد؟ وتلك التهيئة: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً * وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً) [النبأ:6-7].
يقول: (وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4))، بعد هذه الزلزلة وإلقاء الأثقال واستغراب العقول مما حصل، (تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا)؛ تحدث .. هل تعرف تُحَدِّث؟ تحدث .. تتكلم (تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا)؛
ما عُمِلَ عليها من خير أو شر، فتذْكر ما من بقعة من بقاع الأرض كان عمل عليها طاعة أو معصية إلا وبقيت في ذاكرتها هذا العمل مستعدة للشهادة في ذاك اليوم، تشهد على من عصى الله ولمن أطاع الله فوقها
تتكلم بالأخبار.(يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4))، والآن ،يالله ، أي إذاعة هذه؟! وأي قناة؟ اترك الإذاعات والقنوات، الأرض من طرفها الى طرفها تتكلم -بسم الله- على أخبار المكلفين من عهد آدم إلى أن تقوم الساعة.
(يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4))، إلا أن يصدُقَ في التوبة تائب فيُنسي الله الأرض ذنبه الذي عمله عليها، ما تقدر تشهد، تنسى وهذا فمحفوظ. لهذا ذكر ﷺ في الحديث: "تخبر بما كان يُعْمَلُ عليها من خير أو من شر"، (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)). وما هذا؟! كيف تكلمت؟ وكيف تحدثت؟
(بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)) أمرها أن تتكلم فتكلمت قال لها قولي فقالت، (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)) فمن عظيم حكمة الله رتب الشهود على الأعمال: الأرض والزمان والأعضاء والصحف والملائكة، كلهم يشهدون؛
ولذا يقول بعض أهل القرون الأولى وبعض التابعين والصحابة؛ دخلتُ المسجد الحرام وصلينا فرض، وهذا رجل يصلي هنا ورجع وتحرك وصلى هنا وتحرك وصلى هنا؛ مالك تفعل هكذا؟ قال: قرأتُ قوله (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4))؛ فأحببتُ أن تشهد لي، أريد هذه البقعة تشهد، وهذه البقعة تشهد، وذي البقعة تشهد، وهذه البقعة تشهد، ولهذا يحبون يوزعون الصلوات النوافل في أماكن متعددة من شأن ذا يشهد وذا يشهد، ما من أرض تسجد عليها وإلا شهدت لك يوم القيامة .
(يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5))؛ أمرها بذلك سبحانه وتعالى، فأوامر الله تصدر للكائنات حتى الجمادات:
وكان علَّم منطق عدد من الحيوانات أيضاً، والآن في معهد اللغات لا حد يتعلم هذا؛ لا يتعلمون منطق الطير، ولا منطق.. حتى النمل، أما الهدهد فمن جملة الطير؛ (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ) [النمل:20-21]، جاء له بسلطان، السلطان هو العلم قال: (أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ) عندي علم ليس عندك يقول للنبي سليمان، فافتخر بالعلم، ما معك؟ (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّه ) [النمل:22-24]، استنكر -زعل- الهدهد قال: ربي خلقهم ويذهبون يسجدون للشمس وينسون ربهم الذي خلقهم وخلقها، استنكر!! فهذا طائر عنده ضمير حي لا يرضى لإنسان يخرج إلى المهانة ويعبد غير الذي خلقه وغير الذي أنشأه من العدم يذهب لمخلوق آخر مثله ويعبده!
قال: (وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [النمل:24-26]، سبحانه؛ هذا الخبر الذي جئتَ به لنتأكد من وقوعه فعلا -وصدقك فيه- أصدقتَ أم كنت من الكاذبين؛ خذ هذا الكتاب لأهل هذا المسلك وأهل هذا العمل على ظهر هذه الأرض، حتى يرجعوا إلى سبيل الله وإلى عبادة الله، (اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ).
بعد ما تُوصِل الكتاب، إنتحِ ناحية وانتظر ماذا سيقولون، هات لي خبر. سمعتوا كلام الهدهد (فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ) ماذا سيقولون على هذه الرسالة وهذا الكتاب؟ وهذا الكتاب (بسم الله الرحمن الرحيم) (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) [النمل:30-31] وأُلقي على ملكتهم بلقيس، رأتْ الكتاب وسمعوا عن النبي سليمان وهكذا، والآن كيف؟؟ جمعتْ قومها وعرضتْ عليهم الشورى؟!! ماذا يعملون في هذا الأمر؟ (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ) [النمل:29-32]، فهذه ما يذكر الله من عقلها ومن حسن إدارتها للأمور وسياستها في الحكم، مذكور في القرآن، (مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ) -ما في استبداد عندها- (قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ) [النمل:32-33]؛ لأن المسألة لا تدور على مجرد القوة، الرأي قبل شجاعة الشجعان، والرأي مسلك قويم وبعد ذلك الشجاعة والحماس، (قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ۖ وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) [النمل:34-35]،
نقيس هذا الإنسان إن كان من ملوك الأرض، ستعجبه الهدية، ومنطقه سيختلف معنا في الكلام، وإن كان نبي حقا سيختلف الكلام ، لن تؤثر فيه الهدية ولن يلتفت إلى ما بعثنا، (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) [النمل:35]، ذهب الهدهد إلى عند سيدنا سليمان، جمَّعتْ قومها وتشاورت معهم وقالوا كذا وامضوا كذا، قال: (أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ)؛ ما أنا من الذين ما تهذب ولحب الخير شديد، أنا عبد الله ونبيه ورسوله، (…أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) -أنتم الذين تُعظِّمون هذه الأشياء- (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ) [النمل:36-37]، وكان ما كان من خبر سيدنا سليمان وقدِمتْ حتى أسلمتْ وآمنت وعلمت صدق هذا النبي صلى الله على نبينا وعليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
وكذلك منطق النمل، النمل ليس من الطير، ولكن أيضاً (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [النمل:17-18]، رأيتوا العجب هذا والغرابة هذه؟!! عاد ما توصَّلوا بأجهزتهم الحديثة ليعرفوا كلام النمل، ومن بعيد سمع وأجاب (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا) -قولها اللفظ- (وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) [النمل:19].
فهكذا القول لمختلف الحيوانات قال بعض الأولياء: كنت جالس في الحرم فإذا بحمامه تكلِّم صاحبتها وتقول كذا وترد عليها، ثم التفتَت حتى تقول ذاك الرجل يعرف كلامنا -تقول لصاحبتها- قالت تنظرين لذاك الرجل يفهم كلامنا! ويسمع كلامنا يفهمه!! ليس مثل غيره من الناس، قال الله عن سيدنا سليمان: (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا..) [النمل:19]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) [النمل:16]، ونبينا ﷺ كلمته الغزالة وكلمه الجمل وكلَّمهُ الجذع.
جَآءَتْ لِدَعْوَتِهِ الْأَشْجَارُ سَاجِدَةً *** تَمْشِيْ إِلَيْهِ عَلى سَاقٍ بِلاَ قَدَمِ
صلوات ربي وسلامه عليه
وشهدت له بالرسالة الضب والغزالة
وقال الأعرابي: يا محمد هذا الضب معي، اخرجهُ من كمِّه -صاده- قال: لا أؤمن بك حتى يؤمن بك هذا الضب قال ﷺ: أيها الضب من أنا؟ قال: أنت رسول الله هذا .وسعد من آمن بك وصدقك وخاب وخسر من خالفك وكذبك، الأعرابي رأى الظب، مُدْ يدك: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
وجاء أعرابي آخر يقول لنبي ﷺ : لا أؤمن بك حتى أرى آية منك، قال: هل ترى تلك الشجرة؟ قال: أُدعها قل لها رسول الله يدعوك، قال لها: رسول الله يدعوك. اهتزت من مكانها، خطَّت الأرض خطَّا بعروقها تمشي تخط الأرض خط إلى عند النبي ﷺ، فأكبَّتْ بين يديه، بين حجريه ساجدة، سجدت وقامت قال: ارجعي الى مكانك، ورجعت تخط الأرض خط حتى وصلت إلى محلها وقامت قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله.
جَآءَتْ لِدَعْوَتِهِ الْأَشْجَارُ سَاجِدَةً *** تَمْشِيْ إِلَيْهِ عَلى سَاقٍ بِلاَ قَدَمِ
والعجيب أنه ما دعا بنفسه، قال لواحد من الصحابة قل للشجرة: رسول الله يدعوكِ، وصَلَ الخبر فتحرَّكت الشجرة صلوات ربي وسلامه عليه.
الله يكرمنا وإيّاكم بقربه، وبحقيقة حبه، والسير في دربه، ويحشرنا جميعاً في زمرته، ويجعل لنا من حقائق القبول في رمضان خيرات نسْبح في بحورها طول الزمان، تستقيم بها الأقدام، على مراقبة عالم السر والإعلان، يا من هو بنا خبير، مطلّع على ما في الضمير، اغفر لنا كل قليل وكثير، وصغير وكبير، ثبتنا على حسن المسير في هدي البشير النذير، احشرنا جميعا في زمرته وأسعدنا بحقيقة محبته في لطف وعافية.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
08 شوّال 1435