تفسير سورة الزخرف -01- من قوله تعالى: { حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) } إلى الآية 8

للاستماع إلى الدرس

الدرس الأول من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الزخرف، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1446هـ ، تفسير قوله تعالى:

{ حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) }

السبت 1  رمضان 1446هـ 

نص الدرس مكتوب:

الحمد لله الذي أكرمنا ببدء الشهر الكريم، والدخول في الموسم العظيم، موسم التكريم والتفخيم والجود الجسيم من الرحمن الرحيم. اللهم لك الحمد شكرا كما بلغتنا أول الشهر فبلغنا آخره، واجعلنا اللهم ممن يحوي مواهبك الفاخرة وهباتك التي تهبها أهل القلوب الطاهرة في هذه الأيام المنورة والليالي الزاهرة برحمتك يا أرحم الراحمين. الحمد لله الذي أكرمنا بالقرآن وتنزيله على لسان عبده وحبيبه ورسوله؛ (هُدًۭى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٍۢ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ) [البقرة:185]، يطهرنا به من الأدران ويكشف به عنا النيران ويرفعنا به -إذا استمعنا وأصغينا وعملنا وأخلصنا- إلى أعلى مكان.

اللهم لك الحمد على ما نزلت وأوحيت إلى قلب رسولك المصطفى الدليل الهادي إلى خير سبيل، صل اللهم وسلم وبارك وكرم عليه وارزقنا حسن الاقتداء به في تعظيم القرآن وتفهم معانيه والعمل بما فيه، وصل معه على آله المطهرين وأصحابه الغر الميامين وعلى من والاهم فيك واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعلى آبائه وإخوانه من النبيين والمرسلين وآلهم وأصحابهم وملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

أما بعد:

فإننا في نعمة تأملنا لكلام ربنا وتنزيله ووحيه وخطابه وتعليمه وتبيينه، ابتدأنا فيما مضى وعامنا الماضي في سورة الزخرف؛ 

  • السورة التي بين الله فيها عظمة هذا الكتاب ومكانته ومنته على هذه الأمة.

  • وبين لهم السبيل فيما يسلكونه.

  • وأن لا يتأثروا أو يتغيروا أو ينزعجوا لما يحصل من تكذيبات وافتراءات وما إلى ذلك مما يقوم به الكافرون والمضلون على ظهر الأرض. 

فإن ذلك سنة من سننه، وقد مضى مثل الأولين وقد أهلك من هو أكثر منهم قوة؛ فالخير والسعادة في الإيمان واليقين واتباع المصطفى الأمين خاتم النبيين، أكرمنا الله بهذه السعادة ورقانا في علاها وحققنا بحقائقها، اللهم آمين.

يقول -جلَّ جلاله- في السورة الكريمة: (حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(3))، (حم) وهي الحروف المقطعة التي جاءت بها سور في كلام الله -تبارك وتعالى-؛ 

  • قيل أنها من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله.

  • وقيل فيها دلالات وإشارات ومعارف ومعاني يتكلم عنها كثير من أهل التفسير وأهل نور الضمير، فقيل أنَّ (حم) من أسماء نبينا ﷺ؛ فهي خطاب له، أي: يا محمد. 

  • (حم (1)): فيه إشارة إلى الحَمْدِ والمَجْدِ.

(حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)) قَسَمٌ حَلْفٌ من الله بهذا الكتاب المُنزل على سيد الأحباب.

(وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ) أي: 

  • وحقّ الكتاب المبين وقَدْر وعظمة الكتاب المبين. 

  • يُقسِم الله على أنه جعله قرآنا عربيا؛ لنَعقِل، ومنزلته عُليَا.

ورمضان شهرٌ ابتِدَئ فيه نزول القرآن، ويُفتَح فيه للمؤمن من المعاني ما لا يكون في غير رمضان؛ فيَسهُل له العبور إلى أسرار ما أَنزَل العزيز الغفور -جلَّ جلاله-. اللهم وفِّر حظَّنا من القرآن، وفهم معانيه، والاطلاع على أسراره، والعمل بما فيه يا أرحم الراحمين، وارفعنا بهذا القرآن.

(وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2))، (الْمُبِينِ): الذي هو في نفسه بيّن؛ إذ نزل بلغتهم في دائرة قريش وما حواليهم من العرب، وهو الكتاب المبين: الذي يُبَيِّنُ الفرق بين الحقِّ والباطل والهدى والضلال والخير والشر والصلاح والفساد، مبين: يُبَيِّن حقيقة الفساد وحقيقة الصلاح، حقيقة الضلال وحقيقة الهدى، حقيقة الحق وحقيقة الباطل؛ فهو كتاب مبين: بيَّن الله كما قال: (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) [النحل:9]. فينبغي أن نَتبَيَّن بتبيين ربنا لنا، فهذا شرفنا وعزتنا.

إن كان يَستَقِي تصوّرات الأشياء ومنهاج حياة الناس من بعضهم البعض ومن فِكر بعضهم البعض ومن طرح بعضهم البعض ومن وضع بعضهم البعض؛ فإن الذين آمنوا بالله يأخذون التصور عن الأشياء والمنهج في الحياة عن خالق الموت والحياة، عن خالق الأرض والسماء، عن الذي أحاط بكل شيء علما، وكفاهم بذلك شرفا وعِزّا ومجدا وعُلوّا.

(وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)) نحن نتبيّن الأشياء من مصدرها الأعلى.. من وحي ربنا، من تنزيل إلهنا. فمن أين تُستَقى الثقافات الأُخَر؟! ومن أين تُستَقى التصورات الأُخَر؟ عند جميع البشر والجن في الشرق والغرب..من أين؟! من مجرد تجارب ومن مجرد نظر؟ أم مجرد رجوع إلى بعضهم البعض؟ مُفَكِّر وعبقري وحكيم ومُخَطِّط ومُخَبِّط.. إلى غير ذلك!

  • ما كان فيها موافقًا للصواب فهو موافق للكتاب.. وهو قليل، 

  • وما خالف الصواب فهو السوء الذي يأتونه من أوهامهم وظنونهم التي قال عنها: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)[الأنعام:116]، (إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ۖ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ)[النساء:157].

فإن كان من عِلم فعِلم الذي خلَق (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)[الملك:14]، وعلمه أحاط بكل شيء -جلَّ جلاله-. ونحن نَستَقِي تصوراتنا ومعلوماتنا وتوجهنا في الحياة من وحي الإله الذي خلَق. فيَا ما أعظمها من نعمة، مَكِّنَّا اللهم فيها وارفعنا في مراقيها. 

(حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)) المبين لكل ما أشكل والتُبِس، مُبَيَّن كُلَّ ما وقع فيه الاختلاف.

  • (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[البقرة:213].

  • (إِنَّ هَٰذَا ٱلْقُرْءَانَ يَهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًۭا كَبِيرًۭا)[الإسراء:9].

  • (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ)[المائدة:15-16].

يُبَيِّن لك الطريق، ومعالمها، وكيف تَسلُك، وكيف تصل إلى الملك؛ (مبين)، (يَهْدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَٰنَهُۥ سُبُلَ ٱلسَّلَٰمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِهِۦ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَٰطٍۢ مُّسْتَقِيمٍۢ)[المائدة:16]. 

اللهم اجعلنا منهم، وأهلينا وأولادنا، ومن في ديارنا وأصحابنا، وقراباتنا وجيراننا، وأهل بلداننا والمسلمين، وأنقذهم من ظلمات الوهم والخيالات والضلالات، أَغِث اللهم أُمَّة حبيبك محمد وأنقذهم من الأوهام والظلام والخيالات، وارزقهم الاستنارة بنور الحَقِّ بما أوحيتَ على خير الأنام.

قال: (وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ) -الله أكبر، لا إله إلا أنت يا عالمًا بكل شيء خصَّصتنا بالكتاب- (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا) أي: صيّرناه وجعلنا تلاوته بينكم باللسان العربي (قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(3)): 

  • تَعوُنَ المعاني والأسرار التي لا يُحيط بها منكم بل ولا من أهل السماء أحد، وإنما يحيط بها مُنزِلها الواحد الأحد، ولكن تتشرّفون وتعتزّون وتتزيّنون وتنالون المجد والفخر؛ بإدراك نصيب من معانيها الكريمة، وتَستَنِيرون بأنوارها الفخيمة. 

  • (لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)، وفيه امتنان أيضًا على من يعرف اللغة العربية؛ أنهم أقرب إلى وعي الخطاب وفهم الدلالات، ففيه توبيخٌ للعرب الذين أعرضوا، وفيه تبشيرٌ للمسلمين من غير الناطقين بالعربية: أن يتعلموا اللغة العربية، ويكون مقصدهم ودافعهم: أن يفقهوا خطاب الملك الحق؛ فهم بذلك يكونون أقرب إلى فهم المعاني.

  • (لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُون) تَعوُنَ وتُدركون أسرار ما أنزَلنا وقلنا مما لا يُحيط به غيرنا (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ)[البقرة:255]. ولكن تتشرفون بإدراك نصيب من هذا العلم الصحيح القويم.

يا ربِّ علِّمنا وفهِّمنا، ووفِّر حظَّنا من عقل خطابك ووحيك وآياتك وكتابك. 

 (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا) مقروءًا تتلوه الألسن، (عَرَبِيًّا) بلسان محمد ﷺ الذي اخترناه، (لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(3)) لأجل أن تَعقِلوا وتدركوا النصيب الوافي من هذه الحقائق والسِّر العظيم والعلم الصافي الصحيح النَّقِي (لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).

(إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(3))، وإذا سَرَت سِرَايَة العقل لمعاني الكتاب؛ اِلتذَّت الروح بالخطاب، وعَشِقَت كلام ربِّ الأرباب، وأخذت تُفَتِّشُ عمَّا فيه من خزائن، وما جعل الله فيه من دفائن المعارف وكنوز اللطائف. إذا عَقَلَ القلب معنى القرآن عَشِق القرآن، قال سيدنا عثمان بن عفان: "لو طَهُرَت قلوبنا ما شَبِعَت من كلام الله". 

وواظب على درس القرآن ** فإن في تلاوته الإكسير …

الذي تَنقِلِبُ به الأعراض، وتنقلب به الذوات؛ فينقلب النُّحَاسُ ذهبًا، "فإن في تلاوته الإكسير": تتبدل صفاتك الذميمة بالحميدة ومفاهيمك المغلوطة بالصحيحة المضبوطة 

          ** في تلاوته الإكسير والشرح للصدر

ألا إنه البحر المحيط وغيره  ** من الكتب أنهار تُمَدُّ من البحر

تدبَّر  معانيه  ورتِّله  خاشعًــــا ** تفوز من الأسرار بالكنز والذُّخْرِ

وكن راهبًا عند الوعيد وراغبًا ** إذا ما تلوت الوعد في غاية البِشْرِ

(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ)[البقرة:121]. اللهم اجعلنا منهم، واجعل لنا في رمضاننا هذا نصيبًا كبيرًا من تدبُّر القرآن، وفهم القرآن، واتصال بمعاني القرآن، وكشف لأسرار القرآن، ورفع بالقرآن يا كريم يا منان. 

(إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا..): 

  • (وَإِنَّهُ) هذا الذي أوحينا إلى حبيبنا محمد ﷺ، ومكّناكم من قراءته ومن تفهُّمِ معناه، ومن حفظه ومن العمل بما فيه لمن صدق منكم في القيام بالمهمة. 

  • هذا الكتاب جليل عظيم. (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ): في اللوح المحفوظ، وفي أصل الكتاب.

واللوح المحفوظ وأم الكتاب والعرش والكرسي وما إليها كلها مخلوقاته -سبحانه وتعالى-، فالأصل هو "هو" -جل جلاله-.

  • يقول الله: أنا ميّزت هذا الكتاب، أنا اخترته، أنا قدّمته على ما سواه، (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا) -عندنا- (لَعَلِيٌّ): رفيع القدر والمنزلة، الله أكبر! هذا الذي مُكِّنتم من قراءته وأُوصِلَ إليكم على يد الصفوة للحق، قال (عليٌّ)، قال الله: هذا عندي عليّ، أي شيء كبير رفيع القدر عالي المستوى.

(وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ(4))، (حَكِيمٌ): ذو حكمة؛ يوقفك على حقائق الأشياء، ويُبصِّرك بذات الأمور على ما هي عليه،

  • (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا)، هذا الكتاب الذي أوحيناه إلى حبيبنا محمدﷺ ومكّناكم من معرفته ودراسته و قراءته وتلاوته وتفهم معناه: عظيم جليل القدر، لا تتصورون علوّه وشرفه (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا)،

  • يقول الجبار الأعلى: (لَعَلِيّ) رفيع القدر شريف المنزلة، (لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ).

ما هذا الذي وصل إلينا من حضرة الرَّب! ما هذا الذي أوتيناه من القدوس! ما هذا الذي شُرِّفنا به من ذو الجلال والإكرام ملك الملوك! كيف نُهمله؟ كيف نغفل عنه؟ كيف نترك تدبُّره؟! 

(وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ(4))، يقول الله بكرمي ومِنّتي أنزلتُ هذا الكتاب بهذا المستوى إليكم، وإن كان فيكم مُكَذِّبين ومُنكرين وجاحدين وسابِّين وشاتمين ومؤذين ومعرضين.. ولكن مع ذلك كله تكرَّمتُ وأنزلت الكتاب.

  • (أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا)، يعني هل نترك إنزال هذا الكتاب العظيم الذي أردتُ أن أُشَرِّف به مَن شَرَّفتُ منكم معشر الأمة؟ 

  • (أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا)، فلا نرسل نبينا ولا ننزل عليه الكتاب؟ 

  • (أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا) أي إعراضاً؟ (أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ(5)) بسبب إسرافكم؟ 

يقول الله: من عظمة جودي وكرمي بَسَطْتُ البِسَاط ومددتُ السِّمَاط للكل، وفي المعرضين والمسرفين والمجرمين أرسلتُ الرسل وأنزلتُ الكتب، حتى جاء دور الخاتم للمرسلين ﷺ.

قال الله: أفأترك هذا التنزيل وما شرّفته فوق الكتب وجعلته مهيمنًا على الكتب وتنزيله لحبيبي محمد ﷺ من أجل إسرافكم الذي تماديتم فيه؟! 

(أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ(5))، قال الله ما هذا شأني! (رُّسُلاً مُّبَشِّرِینَ وَمُنذِرِینَ لِئَلَّا یَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ)[النساء:165]، بل يُبيِّن ويُعلِّم -سبحانه وتعالى- خلقه: أن لا يتركوا من أعرض ومن تولى ومن استكبر، وأن يعاودوهم بالكلام، وأن يعرضوا عليهم الخير؛ فلعل الله يهدي، ولعل نفحة من نفحاته تأتي؛ فيُنقَذ بها من أراد الله، فهذا شأنه. 

قال: مع إسرافكم (أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ(5))، نَمتنع عن إنزال الكتاب العظيم -بما فيه من أسرار وأنوار وحكم وبيان وعلم ومعارف- نتركه من أجل إسرافكم، ومن أجل طغيانكم؛ مع ذلك كله أنا أُنزِله على نبيي وأنفع به مَن شاء: 

  • "إنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بهذا الكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ به آخَرِينَ".

  • (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [القمر:17]. 

قال مَطر الوَرَّاق كما نقل البخاري في صحيحه في تفسير: (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)، قال: هل من طالب علم فيُعَان عليه؟ هل مَن يريد معرفة الحقيقة فيُعان بهذا الوحي وهذا التنزيل وهذا الكلام الرباني؟. 

(أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنَّكُمْ قَوْمٌ مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ(6))، قال الله: هذه حكمتي في الوجود وسُنّتي؛ (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ)[فاطر:24]؛ أُرسِلَ الرسل (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ)[النساء:165]؛ ليتلوا بعضهم بعضا، (ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ)[الحديد:27].

يقول: (وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ)، أنت خاتِمهم يا حبيبنا فلا تقلق لإسراف هؤلاء ولا مكابرتهم وإنكارهم وجحودهم بك؛ فقد أرسلنا قبلك رسلا كثيرا، وما من رسول يأتي إلا وجعلنا له معارضين ومنتقدين ومعارضين -والعياذ بالله-

(وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7))، هذا وضع البشر، 

  • وكل ما قام نائبٌ عن نبيّ في بيان حَقٍّ وهدى مؤتمنٍ على الوراثة النبوية لهداية الخلق من أصفياء الله وأوليائه؛ وُجِدَ في الأرض من به يستهزئ به ومن يُنكر عليه ومن ينتقد عليه.. فلا عبرة بهم (وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ). 

  • كذلك حال الأولياء من بعد الأنبياء، ما من نبي أوَليٌّ صالح نُشِرت له الرايات إلا عودي: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) [الأنعام:112].

(وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6))، وفيه تسلية للنبي محمد وتطمينٌ له وللمؤمنين به وتهديد لهؤلاء الفجار والكفار المعاندين، يقول ماذا عملنا بالذين عاندوا من قبلكم، أين الذين  عاندوا شيثا؟ أين الذين عاندوا إدريس؟ أين الذين عاندوا نوحا؟ أين الذين عاندوا هودا؟ أين الذين عاندوا صالحا؟ أين الذين عاندوا إبراهيم؟ ماذا فعلنا بهم؟ أين الذين عاندوا موسى وهارون؟ ماذا فعلنا بهم؟ وماذا تنتظرون أنتم؟ تُعاندون أنبياءنا وأولياءنا ونترككم؟ كما فعلنا بالأولين نفعل بكم: 

  • (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ) [فاطر:43]، 

  • (قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) [يونس:102]، 

النهايات في الدنيا ثم الجزاءات في الآخرة محكومة محتومة ما أحد يقدر يقلِب شيئا فيها..

 فيَا فوز مَن ثبَت وصَدَق وأقبل، ويَا خَيْبَةَ مَن أعرض واستكبر واغترَّ بشيء من الزخرف والفاني، ومن الشهوات ومن القواطع عن الحق.

قال تعالى: (وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا)، أُمَم كثيرة أكثر وأقوى عُدَّةً وعدداً واسلحةً وتمكيناً في الأرض من جماعتك هؤلاء قريش ومن معهم، أُمَم كانوا أقوى وأعتَى وأشد وأكثر عُدَّة وعددا وتجربة وصناعة على ظهر الأرض (أَهْلَكْنَاهُمْ)، (فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَىٰ مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)) أُمَّة بعد أُمَّة، (وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا) [الفرقان:38-39].

(وَمَضَىٰ مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) ضربنا لك الأمثال في القرآن بأُمَّةِ نوح، وأمة هود، وأمة صالح، وأمة إبراهيم، وأمة موسى، وغيرهم.. ضربنا لك الأمثال، وهذه سُنّتنا في الحياة. قال تعالى: (فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَىٰ مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)) جعلنا الله وإياكم من المُدِّكِّرين.

 يا ربِ افتح لنا في القرآن العظيم فتحا مبينا، افتح لنا بابا في الفهم عنك نُدرك به يا ربِّ عظَمة ما جاء منك؛ حتى توصلنا إليك، برحمتك يا أرحم الراحمين، برحمتك يا أرحم الراحمين، ارفعنا بهذا القرآن ولا تضعنا، وانفعنا بهذا القرآن ولا تحرمنا، وارفعنا إلى أعلى مكان.

ووفِّر حظنا من رمضان الذي قد مضَت علينا من أيامه المعدودة ليلة كاملة وصدر اليوم الأول، فعوِّضنا عمَّا مضى فيما بَقِي، وبارك لنا فيما مضى منه وما يأتي، واجعلنا من خواصِّ أهله عندك يا رحمن، بوجاهة مَن أنزلتَ عليه القرآن أصلح لنا كل شأن.

 بسر الفاتحة 

إلى حضرة النبي محمد  وعلى أصحاب 

الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

02 رَمضان 1446

تاريخ النشر الميلادي

02 مارس 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام