(228)
(536)
(574)
(311)
الدرس الثاني من تفسير العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الذاريات، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1444هـ ، من قوله تعالى:
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)}
الحمد لله مُكرمنا بالقرآن وتنزيله، وبيانه على لسان عبده وحبيبه ورسوله، سيدنا محمد النبي المُجتبى المصطفى صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله الأطهار وصحبه الشرفاء وعلى من والاهم في الله ولمنهجهم اقتفى، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين سادات الحنفاء، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمته إنه أرحم الراحمين.
وبعد: فإننا ابتدأنا تأملَ كلام ربنا سبحانه وتعالى في سورة الذاريات التي أقسم فيها بالذاريات ومن أرجح أقوالها أنها الرياح التي تذْرُو السحابة والتي تذْرُو الحشيش ونحوه {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2)} وفهمنا المراد بالحاملات من السحب الحاملات الماء ومن السفن الحاملات للأحمال الثقيلة {فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3)} من السحاب وجريها ومن السفن تجري باليسر فوق البحر {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4)} من الملائكة الذين يقسمون بأمر الله تعالى أرزاقًا وأمطارًا وحوادث تحدثُ في العباد في ظواهرهم وبواطنهم بتقدير حكيم عليم خبير أوكل إلى ملائكة كرامٍ تصريف ذلك الأمر وتدبيره تحت مشيئته وإرادته ونظره جل جلاله وتعالى في علاه.
أقسم الله هذه الأقسام بأنَّ ما وُعدنا به على لسان رسوله صادق حق واقع لا ريب فيه ولا مِرية، وأن الجزاء واقع وحاصل لكل المكلفين من الإنس والجن فيحاسبون ويُجزون على أعمالهم كما قال جل جلاله {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا * وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۗ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء 123-125] ثم أقسم بالسماء ذات الحبك وذلك يُطلَق على الطرق ويُطلَق على الحسن والبهاء والجمال وحسن السبك لها وأنه يقال للثوب الذي أُحسنت صناعته: لقد حسُن حبكُه وحبك حبكاً حسنًا.
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7)} في قوتها وبهائها وجمالها وما فيها من الأبواب المنفتحة والطرق إلى غير ذلك {إِنَّكُمْ} يا معشر الكافرين بمحمد وما جاء به عنا {لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ (8)} لا تتفقون على أمر في جميع ماخالفتم فيه نبينا، فلو كان واقعا وحقيقة لم تختلفوا فيها ولكان قولكم واحدا، ولكن لأنكم تبنون أموركم على الظنون والأوهام اختلفت أقوالكم فكنتم من الخرَّاصين الذين حل عليهم الصخة والعذاب، {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)} وإذا قلتم عن نبينا وعبدنا صلى الله عليه وسلم إنه ساحر فإنكم أمام السحرة تخافون منهم وتدَّعون لهم اطلاعا على شؤون وغيوب ولا تفعلون ذلك معه فأنتم متناقضون ثم تقولون: إنه كذاب فكيف يكون ساحرا أو كذابا، فإذا هو كاذب فأين السحر؟ ثم تقولون بعد ذلك: إنه مجنون والمجنون لا يكون ساحرًا! ولا يوصف بالكذب! فما هذا القول الذي تقولونه؟ لا أساس لكم فيما تدَّعون ولما تقومون عليه {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ (8)} وأحيانًا تقولون إنه شاعر! والشعراء كذلك لهم أوزانٌ ولهم طرقٌ في إيراد الكلام ليس منها ما جاء به هذا القرآن فأين ما تقولون من الشعر؟ فأنتم متناقضون مع ما تقولون ومكذبون في أقاويلكم لبعضها البعض وتقولون عن القرآن: إنه شعر!، ثم تقولون: أساطير الأولين، وأساطير الأولين ليست بشعر، والشعر شيء غير أساطير الأولين ولم يأتِ على نظم الشعر ووزنه الذي هو معروفٌ بينكم {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ (8)} قلنا إن المكذبين بالحق لا يزالون مختلفين في أقوالهم عن تصوّر هذه الحياة وعن كلامهم على الأنبياء والمرسلين وعن شؤونهم التي يتحدثون عنها، لأن مبنى أمورِهم على الظن، وأخبر الحق تعالى أنه: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)}: إما دعاويكم الباطلة تكون سببًا لصدّ كثيرٍ من الناس، فقد تقَّسموا الطرق الداخلة إلى مكة في بعض السنين ليُباشروا من يأتي أن في هذه البلدة ساحر و كذابٌ ومجنونٌ فاحذروا منه، تحذرون منه لتصدّون الناس عن الإيمان به، فيتضرر بنشركم الكذب والدّعايات من يتضرر ويُصَد عن معرفة الحقيقة والإيمان {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)}.
كما ذكرنا المعنيين الآخرين في قوله: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)} إما يُؤفك عن رسولنا وينصرف من سبقت عليه الشقاوة -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، أو ينصرف عن هذا القول المختلف ويهتدي بنور الله من سبقت له السعادة فيوقن أن قوله هو الحق، وأن أقاويلكم المختلفة لا أساس لها سوى ما تجدون من عصبيتكم لأصنامكم وآلهتكم المزعومة وما تكون لكم من دوافع حسدٍ وحقدٍ وكِبرٍ إلى غير ذلك، كوَّنتم بها أقوال حاولتم أن تجعلوا لها منطقاً أو أن تجعلوا لها حُجيِّة ولا حُجيِّة فيها. وقال تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11)} غُمِروا بأهوائهم وبشهواتهم وبعصبيّاتهم فسَهوا ولَهوا وخرجوا عن الحق والحقيقة، {يَسْأَلُونَ} سؤال استهزاءٍ وتكذيب {أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12)} ما هذا يومُ الجزاء الذي تقول عنه؟ قال الله تعالى: إنه اليوم الآتي بلا ريب {إن يوم الفصل كان ميقاتا} [النبأ:17] وأنتم في ذلك اليوم على النار تفتنون { يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَٰذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)} وذكر الحق تبارك وتعالى مصير المتقين، ألحقنا الله بالمتقين وجعلنا منهم، وجاءنا في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم في سنن الترمذي وغيره: (لن يبلغ العبد درجة المتقين حتى يترك ما لا بأس به حذرًا ممّا به بأس) أي يحتاط ويحذر في أموره وشؤونه، فالدين قائم على الصدق والجد والاحتياط لا على التساهل ولا على الإهمال ولا على دعاوي من يأخذ بأن الدين يُسر وهو يُسر، وأن الدين سهلٌ وهو سهل، ولكن ليس بلعبٍ ولا سخرية ولا يصلح التهاون فيه، ولا يقوم الدين إلا على الورع وعلى الاحتياط، وبذلك كان يقول ابن عمر عليه رضوان الله: (لو صليتم حتى تكونوا كالحنايا وصمتم حتى تكونوا كالأوتار لم يُتقبل ذلك منكم إلا بورعٍ حاجز) فلا بد من الاحتياط في الدين، ولا بد من الاستبراء للدين والعِرض، يقول صلى الله عليه وسلم: (الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهاتٍ لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعِرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه) فخُذ دينك بصدقٍ مع الذي تدِين له بالعبودية، وتُقر له بالألوهية إنه الله عالم سرّك ونجواك {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ۚ}[البقرة 135] ويقول -جلّ جلاله-: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِير} [آل عمران 28] {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}[آل عمران 30].
إنّ المتقين الذين اتقوا الغضب من أول درجة وهي اتقاء الكفر والشرك، إلى ما فوقها من اتقاء البدعة والزيغ، إلى ما فوقها من اتقاء المحرمات بأصنافها، إلى ما فوقها من اتقاء الشبهات، إلى ما فوقها من اتقاء الغفلات بأصنافها، إلى ما فوقها من اتقاء كل ما لا يقَّرب إلى الله ولا يوصل إليه ولا يكون عُدّةً للقرب منه جل جلاله {هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ} [آل عمران: 163] ولن يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15)} من الأنهار الجارية لهم ومن الجنات البساتين والعيون تلك المياه النابعة قال تعالى {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان:6] تمشي معهم حيث أرادوا ويقول للعين في الجنة اجري هاهنا ولا فرق عندها بين صعود ولا هبوط ولا أرض مستوية يصنع الماء في جريه كل شيءٍ في الجنة يطلع إلى فوق كما ينزل إلى تحت ويقول: مُر تحت سريري في هذا المكان واخرج إلى لغرفة الفلانية ومُر تحت الغرفة الفلانية فيمضي معه {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا}[الإنسان:6] فهم في جنات وعيون هذا حِلالهم في يوم يبعثون فأين يسكن المكذبون والمجرمون؟ {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [المرسلات: 15] .
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15)} الحقنا اللهم بالمتقين وارزقنا محبة المتقين ومشابهة المتقين ومتابعة المتقين والحقنا بالمتقين برحمتك يا أرحم الراحمين {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} راضين بقسمته فرِحين بما يوتيهم ويعطيهم ويتفضل به عليهم، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} أعطاهم وتفضل به عليهم ربهم: مربيهم الذي كونهم من العدم ورعاهم نُطفًا وعلَقًا ومُضَغًا وعظامًا وكساها لحمًا ونفخ فيهم الأرواح ويسّر لهم السبيل وأخرجهم من بطون أمهاتهم ورزقهم وأمدهم بالسمع والأبصار والأفدة وأنواع ما يحتاجونه فنِعم الرب ربهم -جل جلاله- {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} ويقول بعض أهل التفسير أنه: {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} أنهم كانوا عاملين بما شرع لهم وبما أوحى وبما آتاهم من أحكام فكانوا آخذين بها مُنفذين لها عاملين بها ولكن، يترجح القول بأنه حال من كونهم في الجنات والعيون {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} أي: مُتقَلِّبين في أنواع النعم التي يُغدِقُها عليهم سبحانه وتعالى مما لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر اللهم اجعلنا من أهل جنتك
{ءَاخِذِينَ مَآ ءَاتَىٰهُمۡ رَبُّهُمۡۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَبۡلَ ذَٰلِكَ} إنهم كانوا قبل ذلك أي:وعوا وانتبهوا فمضت حياتهم الدنيا على مسلك قويم وصراطٍ مستقيم واختاروا أن ينتهجوا في نهج ما بعث الله به الأنبياء إليهم والمرسلين ولم يستسلموا لأهوائهم ولا إلى شهواتهم فضلًا عن أهواء غيرهم كما هو حال أكثر الناس يستسلمون لأهواء غيرهم ولشهوات غيرهم ولإيحاءات غيرهم فيعملون عليها ويُألِّهونهم والعياذ بالله تبارك وتعالى الله من دون الله ويصيرون لهم كالعبيد إن قالوا يمينًا قالوا يمينًا وإن قالوا يسارًا قالوا يسارًا بأي حق بأي دليل بأي استحقاق ولا شيء إلا العصبيات والأهواء واتباع الأنفس والإغترارات التي تُصيب الخلق على ظهر الأرض {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الانعام: 116]
ولهذا كان أصل التشريع للعباد على ظهر الأرض في التحليل والتحريم حق للربوبية والألوهية ولذا قال لنا ربنا {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل:116] لأن الحق لله الذي يحلل ويحرم جل جلاله {لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل:116]، وبذا وجدنا كثيرا من فقهاء الأمة الراسخين في العلم يستلمون الأسئلة فما يحبون من السائل أن يقول لهم ما قول الشريعة؟ ولا قول الدين؟ ويقولوا: قل لنا ما قول العلماء في هذه المسألة احتياطا وورعا مع أن العلماء الذين ينتمون إليهم لا يقولون قولًا من عند أنفسهم ولا بأهوائهم ولا بأفكارهم ولكن بحسن استنباطهم من الأدلة والنصوص ومع ذلك يحتاطون ويقولون هذا من انتهى إليه اجتهادنا ونظرنا في وحي الله تعالى وبلاغ رسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه سلم، وأين هذا ممن لا يعلم عظمة هذا الدين فيأخذ التحليل والتحريم من آرائه واجتهاداته ويقول: هذا حكم الله ويجعل حكمه حكم الله ويجعل اجتهاده كنص جاء من عند الله ونظره ورأيه كأنه وحي لا يُتخلّف عنه نعوذ بالله من الجراءة على الله وعلى رسوله و(أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار) والعياذ بالله تبارك وتعالى.
يقول جل جلاله:انتَهجوا في الحياة الدنيا انتهاج الإحسان أدّوا الفرائض وتركوا المحرمات وزادوا إحسانا في اكتساب الفضائل والمستحبات والمندوبات والسنن وكثرة الحسنات وتنزَّهوا عن الشبهات وعن المكروهات فأحسنوا أيام كانوا في الدنيا {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُحْسِنِينَ (16)} أقاموا العدل وزادوا فصاروا في مراتب الإحسان عليهم رضوان الله تبارك وتعالى أقاموا العدل بامتثال الواجبات المفروضات وفعلها وترك المحرمات والانتهاء عنها، وزادوا إحسانا فوق ذلك بالمندوبات والسنن وأنواع الطاعات والصلاح والزيادة من عندهم في كل العطاء والإنفاق،وكذلك تجنبوا المحذورات من الشبهات والمكروهات وتنزهوا عنها وتباعدوا منها واحتاطوا لنفسهم احتياط، فهم المحسنون يعبدون الرب كأنهم يرونه تعالى في علاه {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُحْسِنِينَ (16)} يعبدوننا بفعل الطاعات وترك المحرمات والمكروهات والشبهات، كأنهم يروننا محيطين بهم عالِمين بأخبارهم قادرين عليهم مدبرين لهم كأنهم يروننا في هذه الأوصاف العظيمة ومن كان هكذا كأنه يراه كيف يكون حاله؟ وكيف يكون أدبه؟ وكيف تكون استقامته {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُحْسِنِينَ (16)} وذكر الله لنا مظاهر الإحسان التي كانوا عليها في عالم الدنيا فقال؛ { كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)} والهجوع: النوم في الليل النوم في الليل هجوع {كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) أي كان هجوعهم في الليالي قليل فأكثر الليالي يمر بهم قائمون بين يدي ربهم عابدون له بأنواع العبادات ويهجعون قليلًا من الليل {كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)} بالتفسير الآخر: أي قليلا من الليل يبتعدون فيه عن الهجوع أي: جزء ونصيب من الليل لا يهجعون فيه ويتركونه لله تبارك وتعالى ويبذلونه لله {كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)} أي: يَقِل أن تكون لهم ليلة تستغرقهم فيها الهجوع والنوم، فما من ليلة إلا ولهم فيها قيام ولهم فيها نصيب من الذكر والعمارة بالطاعات {كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)}، جاء في تفسير آخر: كانوا قليلا أي: عددهم هذا الصنف من المحسنين أقل الناس كما قال {ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ *وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة:13-14]، وقال تبارك وتعالى: {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } [ص:24] وقال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}[سبأ: 13] {كَانُوا قَلِيلًا} وصْفُهم من الليل ما يهجعون وهذا وصف الأكابر الذين تركوا الهجوع أصلًا في الليل {كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)} حتى جاء وثبت وتواتر عن عشرات من التابعين أن أحدهم يصلي الصبح بوضوء العشاء سنتين وأربع وخمس وعشر وعشرين وثلاثين وأربعين سنة {كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)} ومع عبادتهم وإقبالهم الكلي على الله يلجأون إلى الاستغفار اعترافًا بالتقصير وإيقانًا بأن ما قاموا به من العبادات ما يساوي الإنعام والإفضال من الرب وأن التوفيق للعبادة فضل منهُ عليهم أيضًا فما معهم إلا أن يستغفروه وأن يلجأوا إليه خاضعين منكسرين لا يعجَبون بأعمالهم ولا ما وُفقوا له من الخير.
وَبِالْأَسْحَارِ} والسحر سُدس الليل الأخير {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)} وفي ثلث الليل الأخير في غير ليالي رمضان يختص بالثلث الأخير من الليل يأتي النداء من الرب أما في رمضان فمن المغرب وفي غير رمضان وغير ليلة الجمعة ففي الثلث الأخير ينادي منادي الرب لعباده الذين يعيشون على ظهر الأرض من المؤمنين به (هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر عليه؟ هل من سائل فأطيه سُئله؟ هل من طالب حاجة فأقضي حاجته؟ هل من مبتلى فأعافيه؟ ) ولا يزال مناديه ينادي في الثلث الليل الأخير إلا في رمضان فمن المغرب، في كل ليلة من ليالي رمضان من الغروب إلى الفجر هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من طالب حاجة فأقضي حاجته؟ هل من سائل فأعطيه سؤله؟ هل من مبتلى فأعافيه؟ إلى غير ذلك مما يتكرم به الحق على عباده، وبذلك في هذه الآية وفي آية في سورة آل عمران وصفهم بالاستغفار وقت السحر قال في هذه آية {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)} يطلبون غفراننا ويطلبون أن نتجاوز عمَّا كان منهم من تقصير فما أعجب ما يؤتيهم العلي الكبير جل جلاله وقال في سورة آل عمران : {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}[آل عمران: 17]
عليهم رضوان الله تبارك وتعالى وقد كانت بيوت المؤمنين و مساجدهم معمورة بالاستغفار في السحر وكان ذلك إقامةًلبرامج أوقاتهم على حسب ما آمنوا به وصدقوا وما دعاهم إليه القرآن والسنة الغراء فبرمجوا أوقاتهم على هذه الدعوات الإلهية وانظر كيف لعب بنا أعداؤنا فتحكَّموا في برمجة أوقاتنا حتى صرنا نشتغل في كثير من الأوقات بما رتبوه هم لا بما دعانا الله إليه ولا بما دعانا إليه رسوله، بل ولا بما ينفعنا بل ولما لا يتناسب مع هذا الوقت من الأعمال ولو كانت مباحة وبينما شغلوا من شغلوا من المسلمين بأعمال المكروهات والشبهات بل بالأعمال المحرمات والعياذ بالله تبارك وتعالى، فنعوذ بالله من هذا الانحطاط والتردي، حتى يقودنا سفلة العالم إلى مخالفة مكَّون الوجود وخالق الأكوان سبحانه وتعالى.
يقول: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)} فكانوا يرتبون الوقت ولهم استغفارهم في السحر ومضت أُُسر في عدد من مجتمعات المسلمين يوقظون أطفالهم وقت السحر، ويقوم الأطفال، أطفال صغار ما يعرفون يقومون يقال لهم: هؤلاء ما يعرفون لا يقرؤون ولا يصلون يقولون خلهم يلعبون يجلسون المهم هذا الوقت وقت استيقاظ ما هو وقت نوم برمجة في الحياة من صغره يألف هذا الوقت يقوم ماشي نوم في هذا الوقت فإذا بدأ يعلم يعقل ويفهم ويميز اشتغل بالقراءة واشتغل بالذكر واشتغل بالمناجاة للرب جل جلاله وتعالى في علاه، هكذا، برمجة المؤمنين لأوقاتهم حسب وحي ربهم وبلاغ رسولهم وهو القدوة العظمى صلى الله عليه وعلى وصحبه وسلم {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 31]
وبذلك استقت أرواح الموقنين من أهل الصديقية من الرعيل الأول، من الصحابة عظَمة التبعية لخير البرية، فصار أحدهم يريد السفر فيتذكر في سفره لرسول الله متى خرج من المدينة؟ في أي وقت؟ والساعة كم؟ ويوم أيش من أيام الأسبوع؟ فيشابهه فيه ويخرج في مثل الساعة التي خرج فيها، واليوم الذي خرج فيه، ثم يفكر أين ظل ذلك اليوم؟ وأين رقدت تلك الليلة؟ وأين صلى؟ وأين أكل طعامه؟ فيمشي وراءه في المكان الذي أكل فيه طعام يأكل، في المكان الذي نام فيه ينام، وهكذا.. عليهم رضوان الله تبارك وتعالى، علموا سر هذه القدوة بهذا الأسوة فعلموا مكانتها عند الرب وعلموا أنهم في ذلك يكونون خرجوا عن كل هواء وعن كل إرادة لهم في أنفسهم غير إرادة وجه الله جل جلاله وتعالى في علاه وذاقوا لذلك حلاوة في القرب من ربهم بل ومن حبه فيقول: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 31] جل جلاله.
يقول: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)} ولما كانوا في رتبة الإحسان قال { وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)} ولم يقل حق معلوم في رتبة العدل وأوائل التقوى، في الآية الأخرى قال {حَقٌّ مَّعْلُومٌ} [المعارج:24] والزكاة المفروضة وما فُرض عليهم من إقراء الضيف والإعطاء في النايبة بس لكن لما جاء فيهم رتبة الإحسان ما قال {حَقٌّ مَّعْلُومٌ} [المعارج:24] {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)} مفتوح قليل كثير كلما وجدوا سائل كلما وجدوا محروم أعطوا.
ولذلك علمنا ما قال شيبان الراعي عليه رحمة الله تعالى: لما زاره الإمام الشافعي، استصحب معه تلك المرة الإمام أحمد بن حنبل، فقال الإمام أحمد بن حنبل: يا شيبان هذه الغنمة التي ترعاها كم زكاتها؟ قال: يا أحمد على مذهبكم أو على مذهبنا؟ قال: فيها مذهبان؟ قال نعم. قال: فعلى مذهبنا ماذا؟ قال: على مذهبكم في الأربعين شاه شاه، حتى تصل إلى مئة وواحد وعشرين ففيها شاتان، حتى تصل إلى مئتان وواحدة فيها ثلاث شياه، ثم في كل مئة شاه، قال: صدقت، هذا الذي نعلم، فما هي على مذهبكم؟ قال: يا أحمد على مذهبنا، العبد وما ملك لسيده!! وحده ثنتين وعشرين كلها لله!! ما نمسكها إلا طلبًا لمرضاته، وحيث أحب الإنفاق أنفاقناها، لا واحدة ولا ثتين ولا ثلاثة ولا أربعة!! وإذا احتجنا في حاجة إلى إنفاقها كلها في ساعة واحدة أنفقناها!! نحن عبيد وهو الملك الرب، وقد اشترى منا أنفسنا وأموالنا!! أُغمي على الإمام أحمد من جواب هذا الراعي، كان يقول الإمام الشافعي: قد قلت لك تسمع منه كلاما بديعًا!! وكان ظاهره يرعى الأغنام، ليس منتصبا مناصب أهل العلم ولا أهل المظهر، ولكن كان العلماء مثل هؤلاء الأكابر الشافعي وأحمد، يعرفون قدر أهل هذا السر، ويعرفون قدر أهل هذه القلوب المتصلة بالرب جل جلاله وتعالى في علاه، فكان يتردد عليه وعلى زياراته الإمام الشافعي، بل وصفوا الإمام الشافعي مع سعة علمه ووفور عقله، إذا جلس بين يدي شيبان الراعي يجلس كالصبي بين يدي المعلم، يجلس كالصبي في المكتب عند المعلم!! رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
ولكنَّ من يُحَكّم عقوله في الأمور كلها، يريد أن يزِن العلم بميزان رأيه!! وأن يزن الأدب بميزان رأيه!! ويتجرأ يريد أن يزِن الشريعة بميزان رأيه!! وما جاءت الشريعة إلا لتخرجنا من أهوائنا، وتخرجنا من قصورنا ونقصنا، وأن تعلمنا استعمال العقل في مكانه وموطنه وحيث هو مفيدًا كما خلقه الله تبارك وتعالى، وأراد الانتفاع به لمن يُحسن استخدامه.
يقول تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)} السائل:هو الذي لا يسأل، السائل الذي يذكر حاجته، أو تظهر في الأفق حاجته فيُعلم أنه محتاج، والمحروم: لا تظهر في الأفق حاجته، بأن لا يكون له دخل ولا كسب ولا يقدر عليه، ولا يُظهِر للناس حاجته وفاقته، متعففًا، فهذا محروم، {لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)} قال الكل يستفيد من أموال هؤلاء، فإنهم رأوا أنفسهم وكلاء على مال الله جل جلاله، وأنهم فيما دخل في ملكيتهم بحكم الشرع، دخل تحت حوزة رعايتهم وعنايتهم، وإلا المُلك لله، هم وما ملكوا للسيد، العبد وما ملك لسيده جل جلاله، فيترقّبون المواطن التي يحب الله الانفاق فيها فينفقون فيها، ويترقٍبون الحاجات للمؤمنين والأهم من تلك الحاجات فيقدمون الأهم على المهم، قال {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)}.
يقول تبارك وتعالى: وكل ما ذكرنا لكم، دلالات الصدق فيه، وثبوت البراهين في كل ما حواليكم: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ (20)} تكوينها وترتيبها واختلاف أجزائها وتوطيدها بالجبال، وبَرّها وبحرها وما ينبت عليها من أشجار، وكيفية طلوع الشمس عليها وغروبها، في الأرض آيات! تأمّلوا أرض الله كيف كوّنها؟ وكيف براها؟ {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:17-20]، {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ} [الأعراف:185] يقول الله ما أمامكم في الأرض يشهد بقدرتي وبعظمتي، وبتدبيري وبإرادتي، فما لكم تشكّون فيما يذكر لكم أنبياؤنا من محشر؟ ومن قيامة؟ ومن جزاء؟ ومن حساب؟ ومن مرجع إلينا؟ ليش؟ ليش بالشك؟ وهذه الآيات أمامكم؟ {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ (20)} انظروا فيها، انظروا عاقبة من مضى قبلكم فيها، والقرون التي مرّت عليها، انظروا من يُسيّرها ومن مهّدها لكم؟ {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} [النبأ:6-7] -جلّ جلاله- {وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ}[النحل:15]، {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك:16] ومن بيمسكها؟ بتقولون يا من؟! ويُجري لكم فيها المياه {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ} [الملك:30]، وجعل لكم فيها الحرث وما تحتاجون إليه {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة:63-65] تعجبون متأثرين حزنانين، ايش تقولون؟ : {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [الواقعة:66-67]
وبهذا قال بعض أهل التفسير في أنّما قوله: [ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)} أن المحروم: الذي وقعت به الجائحة ونزلت به النازلة أو نابته النائبة هذا محروم! وتلى الآية، إذا كانت الأرض هلكت الزرع عليها فيهم تقولون: {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} قال: لما جاءت الجائحة وأهلكت زرعهم، فكذلك كل من نابته نائبة ونزلت به شدة، فهو محروم: فيُعطَى من هذه الأموال {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)}. من نزلت به جائحة ووقعت به فاقة وحصلت له شدة، وحدثت له حادثة أتعبته، محروم، يعطون في النوائب، وفي الحديث: (ثلاث من كُنّ فيه وقيَ شح نفسه من أدى الزكاة وقرى الضيف وأعطى في النائبة)، عندما تنوب المسلمين نائبة، تنزل بهم شدة، من زلازل من صواعق من فيضانات تغرقهم إلى غير ذلك، يُعطي، فيُوقَ شح نفسه {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]، من أدّى الزكاة وقرى الضيف وأعطى في النائبة.
يقول سبحانه وتعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ} في الأرض آيات وفي أنفسكم أنتم! كيف تكوّنت أسماعكم؟ كيف تكوّنت أبصاركم؟ كيف تكوّنت أدمغتكم وأمخاخكم هذه؟ كيف تكوّنت لكم الألسن؟ كيف قام جهاز هضمكم؟ كيف ترتّب جهاز تنفّسكم؟ كيف ترتب عندكم جهاز بولكم؟ كيف ترتّبت المسام فيكم؟ كيف ترتّبت العروق؟ كيف ترتّبت فيكم الدماء وجريانها في كل عضو؟ ومن رتب مجاريها؟ ومن رتّب دفعها إلى هنا وإلى هنا؟ وأنت تقوم قائم، وإيش يطلع الدم إلى رأسك فوق ويُجريه في وجهك! لا يحتاج تنتكس كذا منشان لو كان على قاعدة السائل، السائل يدبُر إلى المنخفض ينخفض فيه، فيحتاج لابد ساعات من النهار تتنكس منشان ينزل الدم ولا كيف؟! ما يحتاج كل هذا، من الذي يجريه؟ الله الله الله الله! وشؤون مسامكم هذه وما تكتنفه أجسامكم من آيات وخلايا، كيف ترتّبت؟
{وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} وبعدين تتعجبون!! يقولون إذا رجعنا إلى عظام وتراب كيف نعود ثاني مرة؟ وكيف جيتم أوّل مرة! اللي جابكم أول مرة أين راحت قدرته؟ يجيبك ثاني مرّة وثالث مرّة أيش الذي يصعب عليه في ثاني مرة؟ إذا جابك أول مرة!! وش اللي يصعب عليه يجيبك ثاني مرة؟ مو أول مرة منين جابك ها! اشترى شيء من عندك ولا من عند أهلك؟ لا اشترى لحم ولا عظم ولا دم ولا عروق ما اشترى من عند حد شي! وقل لي بالله عليك كيف تتحول نطفة إلى خلايا ما تعد؟ كيف تتحول نطفة إلى عظام؟ عظام! هات لي عظام وسط النطفة! بسم الله الرحمن الرحيم، منين تجي العظام وسط النطفة؟! كيف تتحول نطفة إلى لحم؟ ما هي آيات؟ بديعة غريبة عظيمة؟ كيف تشك في البعث؟ كيف تشك في الحشر؟ شوف أنت من أين جيت! {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ۖ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:77-79] ليش أول مرة جات من حقك المصنع؟ ولا منين جات؟ في شركة كوّنتها ولا إيش؟ هو اللي كوّنها أول مرة، ليش معاد يقدر يكوّنها ثاني مرة؟ إيش العقل هذا! من لم يُكوّن شيء يُمكن لعقلك أن يشك يُكوّن أو ما يكوّن! لكن الذي قد كوّن أوّل مرة!! ما للعقل حق أن يشك أنه يكوّن ثاني مرةّ!! ليش ما يقدر ثاني مرة؟ قدر أول مرة ويقدر ثاني مرة وثالث مرة -جلّ جلاله- فهؤلاء متناقضون مع عقولهم! كوّنْ وأبدع أمامهم بغرائب ثم قالوا: كيف يرجع ثاني مرة؟ طيب قل لي أول مرة كيف جاء؟ سأقول لك كيف يجي ثاني مرة، هو كوّنها بقدرته البالغة -سبحانه وتعالى- خلاص انتهت المسألة، ومن بيسلب القدرة عليه!
يقول سبحانه وتعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} ما تشوفوا ما تشاهدوا؟ أنفاس لكم تتنفسونها في اليوم والليلة كيف ترتيبها؟ ومنين يجيكم هذا الأكسجين ويُخلق لكم ويترتب ومجانًا تأخذونه، ولو ملّكناه بعض الخلق، لأتعبوكم، وإذا غضب الواحد منكم قبل ما تُراجعونه يسكن ويعطيكم بتموتون. فلما أنَّه بسرعة إذا انقطع الهواء يموت الإنسان، ما ملّكه الله أحد، بعده يجيء الماء، جعل منه سبحانه كميات هائلة ويندر في أحوال ما يوجد الماء إلا ويقدر يصبر مدّة حتى يراجع هذا، وأعطنا ويطلعوه، وأكثر منه الطعام، والطعام يملك أكثر، ملك الطعام بأيدي الخلائق أكثر، يكون بقدر ما تكون الطاقة الخَلقية التكوينية للجسد أقدَر على الصبر عنه مدّة فيكون بيد الغير، إلى حدود محدودة، والكل ملكه -جلّ جلاله-.
يقول تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} ما تشوفو ما تنظروا! الله أكبر! {وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)} يعني: نُقدّر أرزاقكم وآجالكم وعذابكم ونعيمكم، بأقدار نُظهرها في سمائنا، في أمّ الكتاب وفي اللوح المحفوظ، وعلى أيدي الملائكة وفي صُحفهم، حتى إذا تكوّن جسد أحدكم بعد أن ينتقل من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى عظام تُكسى لحم، فيُنفخ فيها الروح، ينزل الملك ويقول: أي ربّ ذكر أم أنثى؟ أي ربّ شقيّ أم سعيد؟ أي ربّ ما رزقه؟ أي ربّ كم عمره؟ يكتب {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)}.
يقول الأصمعي: إني مررت على قوم وفيهم أعرابي، قالوا: اقرأ علينا شيء من القرآن قرأت سورة والذاريات وصلت قوله: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)} قال فاهتزّ الأعرابي هذا! وقام إلى ناقة معه وذبحها وقسّم لحمها، وقام إلى ماله وأنفقه وراح، قال بعد السنوات وأنا جيت إلى الحج أسمع صوت يُنادينا، قال:فالتفت فإذا به الأعرابي، قال: وجدت ما وعدنا الله حقّ! قل لي بالآية، اقرأ عليّ، قرأتها إلى أن وصلت عند {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)} صاح! وقال: وجدت ما وعد الرب حقّ، أنا من تلك السنة اعتمدت عليه، قال له: بعدها شيء؟ قال: نعم {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ (23)} قال: ويلهم ويحهم! ما صدقوا حتى يحلف لهم؟ من هذا الذي يشكّ في قول الرب حتى يحلف! قالوا صاح صيحة ومات محلّه. لا إله إلا الله! {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ (23)} قال: ويلهم أغضبوا ربّهم حتى يحلف لهم! ما صدّقوه؟ قال لهم في السماء رزقكم وما توعدون؟ قالوا: كيف كيف؟ {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} الأمر كما قال محمّد صلى الله عليه وسلم يقين {مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ (23)} هل تشكّون في نطقكم؟ فهذا لا شكّ فيه، كما لا تشكون في نطقكم الذي تنطقون به وأنتم أيضًا ما تدرون من أين يجي النطق حقكم هذا؟ من أين ينبعث؟ رزق كذلك! و(أبى الله أن يرزق عبده المؤمن إلا من حيث لا يحتسب).
{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ (23)} ثم شرح الحقّ لنا قصة من قصص الأنبياء لسيّدنا إبراهيم خليل الرحمن، يأتي خبرها معنا إن شاء الله.
انفعنا بالقرآن يا رب، وارفعنا بالقرآن يا رب، واجمعنا على سرّ القرآن يا رب، واجعلنا عندك من أهل القرآن يا رب، نسألك يا منزل القرآن في رمضان بالقرآن ومن أنزلت عليه القرآن ورمضان المبارك أن لا ينصرف عنا إلا وقد أثبتّنا وأحبابنا وأصحابنا في أهل القرآن عندك الذين هم أهلك وخاصّتك، بشاهد قول نبيّك: (أهل القرآن هم أهل الله وخاصّته) حقّق لنا ذلك في حياتنا هذه يا ملك الممالك، يا قوي يا قدير يا متين يا وهّاب يا رحمن يا رحيم يا الله! وفّر حظّنا من رمضان ولياليه وأيامه وساعاته واجعل لنا فتحًا مبينًا في تدبّر القرآن، وفهم معانيه، وفي العمل بما فيه برحمتك يا أرحم الراحمين، واحفظنا بما حفظته به القرآن الحكيم، وانظِمنا في سلك أهل الصراط المستقيم بسر الفاتحة إلى حضرة النبي محمد، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الفاتحة.
ولا تنسوا كثرة الصلاة والسلام على نبيّكم في يومكم هذا يوم الجمعة وقراءة سورة الكهف والحضور مع التبكير إلى الجمعة، اللهم اجعلها من أسعد الأيام علينا وأبرك الجُمَع لنا ولأمة حبيبك محمد برحمتك، الحمد لله رب العالمين.
03 رَمضان 1444