تفسير سورة الذاريات، من قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ}، الآية: 24

درس الفجر الرمضاني 1444هـ.jpeg
للاستماع إلى الدرس

الدرس الثالث من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الذاريات، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1444هـ ، تفسير قوله تعالى:

{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)}

 

نص الدرس مكتوب:

الحمدلله مكرمنا بالتنزيل والوحي الشريف الجليل، وصلى الله وسلم على من أنزل عليه صاحب التكريم والتبجيل سيدنا محمد، من خصصه الله على الكل بالتقديم والتفضيل، صلى الله وسلم وبارك وكرم علىه وعلى آله وأصحابه وأهل اتباعه في أقوم سبيل، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم وتابعيهم، والملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، أنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

وبعد: فإننا في نعمة تأملنا لكلام ربنا وتنزيله ووحيه على عبده ورسوله سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، تدبرنا أوائل آيات سورة الذاريات، وانتهينا إلى قول الربِّ جل جلاله وتعالى في علاه في الآية الرابعة والعشرين {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ}[الذاريات:24] هل بلغك ووصل إليك وانتهى إليك وإلى علمك حديث خبر ضيف إبراهيم؟ {الْمُكْرَمِينَ}، خليل الرحمن سيدنا إبراهيم عليه السلام يُلقَّبُ بـأبي الأضياف وكان يضيف الناس ويكثرُ إطعام الطعام، إكرامًا منه ورحمةً للأنام عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام.

والحق تعالى يقول لحبيبه: هل بلغك هذا الخبر؟ إذاً ففي الخبر شان وللخبر منزلةٌ ومكان، والرحمن يقول لأكرم خلقه وخاتم رسله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ}، ففي ذلك الحديث وتلك القصة فوائد وعبر ومنافع كثيرة لمن ادَّكر ولمن اعتبر {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر:22]، اللهم اجعلنا من المدكرين المعتبرين.

يقول جل جلاله {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ}، الذين جمعوا الكرامة من جهات، جمعوا الكرامة من كونهم ملائكة معصومين، ومن كونهم ضيوف كريمٍ عظيم القدر عند الإله العظيم، وضيف الكريمِ كريم، ويقول العوام -عندنا-: إن ضيفَ الكريم يدعو للضيافة، يعزم لكونه ضيفًا على كريم، فهو منبسِط اليد في أن يدعو الغير إلى مائدة ذلك الكريم.

وإن كان هو ضيف، فضيفُ الكريمِ كريم، وضيف الكريم يعزم أي: يدعوا غيره إلى تلك الوليمة لما علِمَ من كرمِ صاحبها، فلما نزلوا أضيافًا على الخليل الكريم صاروا مكرمين، ثم إن الخليل قام بحق إكرامهم فبادرهم بحسنِ ردِّ السلام، وبَشَّ في وجوههم ورحَّبَ بهم وأحسنَ استقبالهم، ثم كما وصف الحق {فَرَاغَ إِلَىٰ أَهْلِهِ} يعني: انسلَّ في خفية وسرعة {فَرَاغَ إِلَىٰ أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ}[الذاريات:26] وقرَّب إليهم أحسن ما عنده من الطعام، وكان له بقر، فاختار عجلًا سمينا من أولاد تلك البقر، فذبحه وأمر امرأتهُ وساعدها أن تقوم بِشَيِّهِ على الحجارة، قال في الآية الأخرى: {أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ}[سورة هود:69] أي مشوِيٍّ على الرضف على الحجارة، {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} وهذا هو الأصل في الإكرام لا أن يجعل الطعام كما جاءوا به من تقليد بعض الغربيين وغيرهم في مكان آخر، ثم يقول الضيوف تعال إلى عند الطعام، {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} قدَّمُه إلى عندهم وجاء -حطُّه- بين أيديهم مبالغة في الإكرام.

{فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:27] ثم ودَّعَهُم لما خرجوا وشيَّعهُم وخرج معهم إلى خارج المنزل فبذلك تمَّ الإكرام .

{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} فإكرامُ الضيف الذي يقول الإمام أحمد بن حنبل: أنَّ إقراء الضيف واجب، وإن قال أكثر الفقهاء أنهُ سًنَّةٌ من سنن الشرع المصون وقد تقدم معنا حديث " ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وُقِيَ شُحَّ نَفْسِهِ : مَنْ أَدَّى الزَّكَاةَ ، وَقَرَى الضَّيْفَ ، وَأَعْطَى فِي النَّائِبَةِ ".عند الشدائد ووقوع النوائب أعطى، فبهذه الثلاث يكون وُقِيَ شح نفسه { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }[الحشر:9].

وقال بعض أهل العلم: إنه من الواجب على المسلم إذا نزل به الضيف أن يكرمه وأن يقرِيَه.

{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} ويُرْوى عن سيدنا علي بن أبي طالب أنه بكى يوما، فقيل: ما يبكيك؟ قال: مرَّ بي ثلاثة أيام أو أسبوع لم ينزل بي ضيف، لهذا يبكي يقول أخشى أن الله أعرض عني وصرف الضيوف عني.

وقد جاء فيما يذكر من الآثار عن الخليل نفسه على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، أنه مرَّ بهِ مجوسي، فقال له: أسلم ونطعمك، قال: لا، ولا أريد طعامك إذا كان ذا بشرط الإسلام وذهب، فأوحى الله إليه إن هذا يشرك بي ويعبد غيري، يعبد معه النار، وأنا أرزقه منذ خلقته، واستضافك يوم لطعام في وقعة واحدة فما أطعمته، قال لا حول ولا قوة إلا بالله، قال: أذهب وآتي به، فذهب إلى السوق يبحث عن الرجل حتى وجده، قال: اتفضل، قال: لقد جيت إلى عند بيتك وقلت لي أسلم، قال؛ قد عاتبني ربي، قال: ايش؟! عاتبك ربك في أنا وأنا، أعبد معه غيره،أول أسلم أولا ثم أمشي معك، فأسلم ومشى مع الخليل إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.

{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} وكانوا ثلاثة، وقيل عشرة أو اثني عشر، فيهم الثلاثة جبريل وميكائيل وإسرافيل، وكان في معنى ما كانوا به مكرمين أن بدوا بصورة الفتيان عليهم الجلال والمهابة والنور.

{إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ} فعجِبَ من دخولهم، ولم يدري بهم إلا وسط البيت، فدخلوا من دون استئذان {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا ۖ }ابتدأوا بالسلام ليعلم أنهم جاءوا بخير، {قَالَ سَلَامٌ} ورد عليهم بالرفع وفيه إشارة وتلميح إلى أعظمية الرفع على النصب، فكان خيرُ رد للسلام عليهم {قَالَ سَلَامٌ} وقال في نفسه {قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} ما أعرف هذه الوجوه، وعليها جلال ونور وهيبة، ما هي مثل أحد من الذين حوالي، ولا من أهل هذه القرى والمدن من حوالي {قَوْمٌ مُّنكَرُونَ}.

ثم إنه اشتد منه الإنكار لهم، وتوجس منهم حين أبوا أن يأكلوا،  ولكن مع إنكارهم لعدم معرفته لهم من هم هؤلاء، وفيه أن الملائكة قد يتصورون بصور، فَيُخْفَوْنَ عن الأنبياء وعن غيرهم، وجاءنا في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم نبينا المصطفى أنه أتاه جبريل، وكان يسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان وعن الساعة وعن علاماتها، فلما تولى، قال: ردوا عليَّ الرجل، فقاموا فلم يجدوا له أثر، قال أما إنه جبريل لم يخفى علي في مرة إلا هذه المرة" في أي مرة يأتي بصورة دحية الكلبي أو بغيرها يعرفه صلى الله عليه وسلم، بمجرد ما يجي يعرف أن هذا جبريل بأي صورة كان، ولكن في تلك المرة أخفاه الله تعالى عنه، وكان جبريل يحب أن يظهر بمظهر السائل التلميذ، وسأل الله أن يخفيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يتم بينهُ السؤال والجواب كأنه آخذ ومتلقي، ولو قد عرفه صلى الله عليه وسلم لكان وجَّهَ الجواب لسواه، لما يعلم أنه إنما يسأل ليعلِّمَ الحاضرين، وهو يعلم هذه الأشياء التي سأل عنها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ولكن لما خفي عليه وجه الخطاب إليه كأنه يعلِّمُهُ وهذا الذي أراده جبريل من هذه المرة على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام .وقال لسيدنا عمر:" أتدري السائل؟ من الذي جاء في تلك الساعة، وسألنا وسمعتموني أجيبه، قال: الله ورسوله أعلم ! ما عرفته قال إنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم."

يقول تعالى { إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا ۖ قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } [الذاريات:25]، ومع عدم معرفته من هم؟ ومن أين جاءوا؟ ولا ماذا يريدون؟ باشر مبادرةً إلى الإكرام، فهذا وصف الكرام، ووصف خيار الأنام، مباشرة، {فَرَاغَ إِلَىٰ أَهْلِهِ} أي: انسل بخفية وسرعة وذهب إلى أهله {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} لسرعة ذبحه وطبخه، باشر الحقًّ بالفاء للتعقيب {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} يعني: لم يبطِء عليهم، وهذا من مظاهر الإكرام، وقد يكون الضيف الذي نزل بك تعب من الطريق وعنده جوع، وتؤخره وتجلس أنت وإياه منتظر الطعام متى يجي حتى يشتد به الجوع، فليس هذا من الإكرام، ولكن بسرعة {فَرَاغَ إِلَىٰ أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} ذبح العجل، واختاره لهم من بين عجوله وبقره، فاختار أحسن واحد وذبحه لهم، وشوَّاهُ مع زوجته سارة على الحجارة، {بِعِجْلٍ حَنِيذٍ}[سورة هود:69] 

وقدمه إليهم { فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} وضعه بين أيديهم، وإذا بهم ما يأكلون { فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ۖ} ؛ لأنه إذا أكرمت أحداً فلم يأكل عندك، فيمكن أن يُضمر لك سوءًا أوْ شرًا، لأنه إذا أكلَ طعامك فبحكم الفطرة التي غلبت على الناس حتى بَدْوُهُم، إلا ما رأينا في دعوى الحضارات هذه التي طمست فطرة الإنسان، وتناقضت مع قيمه، يأكُل أكلَكْ ويقتلك في نفس الوقت.

ما كان حتى البدو، حتى الأعراب، يأكل طعامك يحترم أنك أكرمته وأنك أطعمته، فلا يخونك ولا يؤذيك ولا يضرك، لكن طمسوا قيم الإنسانية وكرامتها وادَّعوا الحضارة والتقدم، فحسبهم الله، ويا أسفى على مؤمنين يأخذون منهم تعاليم أو عادات أويقلدونهم في سقوط وهبوط، والعياذ بالله تبارك وتعالى.

وهكذا، مرَّ بعض البادية من بوادٍ فقيرة، وهم يطلبوا تمرًا،  قالوا له بيت حسن بن شهاب يعطيك التمر، فجاء أشرف عليه، قال: نعم، قال: أريد تمرة، قال: مرحب. أمرهم وخرجوا له كمية من التمر وذهب. وكان مع قوم هذا البدوي يقطعون الطريق، ويوم سافر الحبيب حسن بن شهاب عليه رحمة الله في طريقه إلى سيئون، فجاء جماعة هذا، وأخذوا ما عنده، فالتفت، قال هذا، هذا السيد حسن الذي أطعمنا في ذاك اليوم، يا جماعة في وجهي هذا الإنسان، قد أطعمني في يوم، رُدُّوا عليه كل ما أخذتم، وإلا أنا بتقاتل معكم أنا الآن، رَدُّوا عليه كل ما عنده، بدوي قدَّر شأن هذا اللقمة والطعمة بحكم الفطرة، والتربية على الفطرة، لكن التربية في طمس الفطرة وفي مخالفتها شأن شنيع هو الذي يعمل عليه أهل الكفر.

قال {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} لماذا لا يأكلون طعام؟ مع أنهم قد قدموا تطمينًا بالسلام، قالوا سلام لما دخلوا عنده، ولكن أيضًا لما رآهم ما رضوا أن يأكلوا من طعامه خاف، {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} وشعروا بذلك {قَالُوا لَا تَخَفْ ۖ} لا تخف من عدم تناولنا لطعامك، ولا تحزن لذلك، فإننا لسنا ببشر، نحن ملائكة منزهون عن الطعام، جعلنا الله على خِلْقَةٍ وتكوين لا نأكل ولا نشرب، عرف أنهم ملائكة اطمأنَّ، حتى إن جبريل مسح على العجل المشوي قال قم بإذن الله، فقام، قال خله يرجع عند أمه، وقام العجل كما كان ورجع، قال ما نكلفك طبخت من أجلنا وقبل الله منك ذلك وخلاص أنت بنيتك قد أكرمت والآن نحن ما نأكل.

{وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} بعد ذلك، قال له -عاد- لنا معك بشارة سيأتيك غلام عليم، يعنون إسحاق، أما سيدنا إسماعيل فقد وُلِدَ قبل، وجاءه ولد من هاجر، ولكن سارة هذه العجوز لم تلد، وهي عقيم في طول ما مضى من السنين، فقالوا سيأتيك ولد، غلام عليم، راسخ في العلم والمعرفة، هذا الذي يفرح به الأنبياء في الأولاد أن يكون الولد عليماً، وهو أيضاً حليم كما جاء في الآية الأخرى في سورة الصافات، ذكر قصته مع سيدنا إسماعيل عليه السلام وأمرهُ له بذبحه ثم قال {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:101} ثم قال {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ} في تلك الآية بعد ما ذكر قصة سيدنا إسماعيل قال {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:112] هذا بشارة أخرى، فالذبيح سيدنا إسماعيل جد النبي محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

 يقول { قَالُوا لَا تَخَفْ ۖ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} وسمعَت سارة بشارتهم لزوجها، أن الغلام يعني بيجي منها، وعجبت، كبيرة وعدّت السنين عليها ما تلِد، عقيم {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ } لما سمعت هذا الكلام لفت نظرها، فولولت، وصكَّتْ وجهها أي: وضعت أصابعها على جبهتها كحال النساء إذا تعجبت من أمر واستغربت كيف يكون، صكت وجهها {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ} وولولت تتعجب ايش هذا يقولون {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} يعني: أألد وأنا عجوز عقيم! قد مرت أيام الولادة وأيام شبابي وأيام نشأتي ولم يكن منّي حمل، فيأتيني الآن {وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} فأجابوا عليها، هذا الكلام اللي نكلمك به ما هو من عندنا، {قَالُوا كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ} ربكِ هو الذي قال إنه سيأتيكم هذا الولد والغلام، وربك على كل شيء قدير، ما يعجزه شيء {قَالُوا كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ ۖ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} 

فاطمأن سيدنا إبراهيم إلى القوم، فعرفهم هذا جبريل وهذا ميكائيل وهذا إسرافيل، ومن معهم من الملائكة، فأخذ يستخبره، فإيش الذي جاء بكم، يعلم أن الله لا يرسل هؤلاء الملائكة إلى الأرض ويأتون بهذه الصورة إلا وهناك أمر أراده مكوِّنُ السماوات والأرض يحدثهُ في الأرض، {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ} ما الشأن العظيم الذي بعثتم من أجله، فإن الحق ما يرسل الملائكة عبث، ويأتي يأمرهم بالنزول للأرض من غير حكمة، {فَمَا خَطْبُكُمْ} يعني: ما الشأن العظيم الذي بُعِثْتًم به وجئتم من أجله؟ ماذا رتب الإله جل جلاله في بريته وخلقه؟ قال {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} رسل من عند الرب جل جلاله، كما قالوا له في الآية الأخرى {إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ}[هود:81]

{ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْم مُجْرِمِينَ }، بأقبح الإجرام، وهو المناقضة للفطرة ولأصلها، وفعل الفحشاء التي عاشوا فيها على هذا الأمر الذي وجدنا الكفار في زماننا يتولون القيام به وتشريعه، وإرادة نشره بحضاراتهم وقوانينهم الساقطة الهابطة المنحطة في أمرٍ ما عُرِفَ إلا في هؤلاء القوم، وكان مستنكر منهم، اكتفى منهم الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، فوصفوا على ألسن الملائكة بأنهم القوم المجرمون. 

فما ينطلق في هذه الفواحش، بل لا يرضى بها إلا مجرم، فكيف من يشرعها؟ فكيف من يحللها؟ فكيف من يدعو إليها؟ وهذه دعوة القوم في أيامكم هذه وزمنكم، الذي يقولون إنه متطور ومتقدم، قد كان يقول سيدنا لوط لقومه { أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ }]الأعراف:80]

هؤلاء الإنس والجن، الإنس من أيام آدم إلى اليوم والجن حوالينا ما جاءوا على هذا البلاء ولا أقروا أنفسهم عليه ولا مشوا فيه ، {مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ} هذا أمر خارج عن الطبيعة وعن الفطرة وعن القيم وعن الملل، من أين جئتم به؟ {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ }[الأعراف:80] 

والملائكة وصفوهم { إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْم مُجْرِمِينَ} بفعلتهم هذه الشنيعة، {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ} بأمرِ الرّبِّ {حِجَارَةً}، الحجارة من طين لكن متحجِّرَة، متصلبة، شديدة، وهي من طين، {حِجَارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً} معلومة معينة مرتبة، هذه يرمى بها فلان، وهذه فلان، وهذه فلان، وهذه فلان، {مُسَوَّمَةً} معلومة معينة مقدرة مقررة من قبلِ القدرة، { لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} فهم مجرمون ومسرفون.

واليوم تقوم الدعوة إلى الإجرام والإسراف، ولا يستحي أربابها أن يطلبوا من دول الإسلام أن يقروا ذلك في بلدانهم وفي أوطانهم، إجرام وإسراف بالنص الرّباني، وخروج عن الأديان كلها بل عن الإنسانية والفطرة وانظر ما كانت عاقبتهم وما كانت نهايتهم { لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ } لما ذكروا ذلك، قال أن بناتي، هذي القرى حقهم،هذي تسع مدائن كانوا فيها، فيها ألوف منهم، وأننا بنقلبها عليهم، قال فيها لوط، لوط النبي هناك، قال النبي، قال نحن أعلم من فيها، {لننجينه وأهله} قال {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ} سيدنا ولوط وبناته بس، والباقي؟  حتى زوجته منهم، من المجرمين ما كانت تفعل فعلتهم، لكن كانت تقرهم وتساعدهم، وترضى فعلتهم وما كانت تفعل، لا كانت تزني، ولا كانت تتساحق مع أحد من النساء، فإن زوجات الأنبياء محروسات في الأعراض إكرامًا للأنبياء، فلا تكون زوجة ولا أم لنبي خائنة بخيانة الفاحشة، أما خيانة زوجة سيدنا لوط وزوجة سيدنا نوح بالكفر ومساعدة الكفار، فنعم، خيانة بالكفر ومساعدة الكفار، أما خيانة في الشرف والعرض فلا، لا يليقُ ببيت النبوة ولا ببيوت الرسالة أن يكون فيها هذا الانحطاط، لا زنا ولا لواط ولا سحاق، ما يكون في بيوت النبوة أبدًا، فلا أمهاتهم ولا زوجاتهم ولا أبناؤهم ولا بناتهم يقعون في هذا الوحل المنحط.

يقول تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} فأمروا سيدنا لوط أن يسري بالليل هو أهله إلا امرأته {فَمَا وَجَدْنَا} يقول الملائكة {فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ} واحد وذا البيت هو، ومحل المؤمنين ومحل المسلمين، سيدنا لوط ما أعجب صبره، كم صبر عليهم، وقاعد قاساهم، وسنين وهو يدعوهم، وما آمنوا به ولا اتبعوه، ولا تركوا فاحشتهم وجريمتهم، وهو صابر بينهم حتى جاء غضبُ الله عليهم، وأمر سيدنا لوط يخرج، ومع أنه في البداية لما وصلوا عنده، قال ايش المشكلة هذه، جاءنا ذول الضيوف، يجب علي إكرامهم، وكيف أحميهم من الخباث ذوله، القوم في القرى اللي عندي هؤلاء قوم خباث مجرمين، إذا جاء غريب يعتدون عليه وعلى عرضه.

{سِىٓءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ}[هود:77]، هذا يوم اختبار من الله لي، وفيه يوم فرجه، وهو يوم إنقاذه، وهذا دليل على أن الله يخفي عن الأنبياء ما شاء، وأن كثيرا من الناس في كثير من الأحوال يرى أمر يخاف منه ويستفظعه ويكون في طيِّهِ الفرج والفرح والخير له.

فهذا جاءوا بنصره بتأييده وبإهلاك القوم الذين يؤذونه، وهو فزع منهم  لما جاءوا {وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِىٓءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ}[هود:77] واستقبلهم وادخلهم إلى بيته،وجاءوا بالخباث وبخيانة الزوجة، قالت لهم إذا نزل عند إبراهيم ضيوف با اجعل نار برشها لكم في السطح تعالوا، تعرفوا أنه فيه جاءوا الضيوف، وجاءوا وأخذ هو إياهم يقول هؤلاء بناتي، يعني: بنات القرية وبنات المحلة تزوجوا عليهم وانكحوهم بشرع الله تبارك وتعالى حلال لكم، قالوا ما لنا في بناتك من حق، ومن جاب لكم الحق في هذا، وما لكم حق أصلًا {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ(80)} [هود]0 لا إله إلا الله، يعني: إلى قوة، وإلى من يقوم معي فينصرني، قال سيدنا المصطفى "لقد أوى لوط إلى ركن شديد" ثقته بالله وإيمانه بالله واعتماده على الله " لقد أوى لوط إلى ركن شديد"عليهم صلوات الله.

{وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} قال {وَتَرَكْنَا فِيهَا} فيما حلَّ بها وبأهلها، وبما تركنا من هذا البحر الميت العفن، الذي لا يعيش فيه حتى حيوان، الذي كانوا عليه وهو إلى اليوم معروف وسمي بالبحر الميت، يقول {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً} علامة وعبرة وعظة وذكرى ومدَّكَر، {لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} للذين يدركون الحقيقة أن الجبار الأعلى إذا عذّب فلا عذاب مثل عذابه {وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ۚ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ }[سورة هود:103]

{وَتَرَكْنَا فِيهَا} في قصة سيدنا إبراهيم وسيدنا لوط {آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} إلى آخر ما ذكر ربنا في هذه الآيات التي خلَّفَها وتركها لمن يجيء من بعدهم. 

رزقنا الله الاعتبار والإدكار والإنتفاع بالقرآن والارتفاع به، فإن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع آخرين، اللهم اجعلنا ممن ترفعهم بالقرآن، وافتح علينا في رمضان فتحًا مبينا في القرآن، في تدبر آياته والاطلاع على معانيها، والعمل بمقتضاها وما فيها، برحمتك يا أرحم الراحمين.

واجعل القرآن أمامنا يقودنا إلى جناتك برحمتك يا أرحم الراحمين. واجعله إماما لنا نهتدي بهديه ونتبع أوامرك فيه وننتهي عن زواجرك فيه، ونقوم بحقه كما تحب ونتلوه، على النحو الذي ترضيه، اجعلنا ممن يتلوه حق تلاوته، برحمتك يا أرحم الراحمين بسر الفاتحة إلى حضرة النبي اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه.

 

 

 

تاريخ النشر الهجري

04 رَمضان 1444

تاريخ النشر الميلادي

25 مارس 2023

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام