(536)
(239)
(576)
الدرس الأول من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الدخان، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1445هـ ، تفسير قوله تعالى:
{ حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) مْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) }.
الإثنين 22 رمضان 1445هـ
الحمدلله مكرمنا بآياته وتنزيلها، وبيانها على لسان عبده وحبيبه وتفصيلها، اللهم أدم صلواتك على النور المبين الذي به اهتدينا إليك سيدنا وعبدك المختار سيدنا محمد، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار، ومن والاه فيك واتبع سبيله الأرشد، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين وهبتهم من فضلك الواسع بغير عد ولا حد، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى ملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين يا واحد يا أحد.
أما بعد..
فإننا في منّة الله ونعمته علينا في تدبرنا لكلامه وخطابه ووحيه وتنزيله وتعليمه وإرشاده على لسان نبينا محمد ﷺ تأملنا بعض معاني سورة الجاثية وانتهينا إلى آخرها، وهذه قبلها سورة الدخان.
السورة المسماة بسورة الدخان مكية إلا بعض آيات نزلت بالمدينة المنورة وهي قوله: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ (10)) الآيات بعدها..
فهي السورة التي اتخذها كثير من صالح الأمة من أوراده، ومنهم من واظب عليها في ليلة الجمعة ويوم الجمعة سورة الدخان، وفيها ذكر الساعة والآخرة وهي تقوم في يوم الجمعة -تقوم الساعة في يوم الجمعة- لا يُعلم أي جمعة هي، ولا سنة كم هي، يقول: (لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً )، (لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ) [الأعراف: 187]. جل جلاله.
يقول تعالى: (حم (1)) بما يرمز ويشير إليه من هذه الحروف المقطعة والتي وقع في قلوب بعض صالحي الأمة شيءٌ من معانيها، (حم (1)) وقيل: أنه خطاب لحبيبه محمد بحرفين من اسمه (الحاء والميم) (حم (1)).
(وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)) قسمًا بالكتاب الجامع للخيرات والأنوار والهِدايه والرشاد والسعادة هو القرآن الكريم، الْمُبِينِ الذي:
كلها في هذا الكتاب.. فهو كتاب مبين مشرق بالنور، يبين السير إلى الله والطريق إليه، ويبين المحمود والمذموم من الأوصاف والأقوال والأفعال.
(وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)) إنَّا بعظمتنا وجلالنا وكبريائنا وألوهيتنا (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ)؛ نحن الذين أنزلناه، (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ) عليكَ وعلى قلبك يا صفوتنا، (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ..(3))، جعلنا ابتداء إنزاله في ليلة كثيرة البركة والخير؛ وهي ليلة القدر.
(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ..(3)):
ومن حيث ما يرتبط بك ارتباطا خاصا فله من عنايتنا اختصاص، واخترنا لك الليلة العظيمة البركة، عظيمة الخير والرحمة، وهي ليلة القدر.
(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ..(3))، كما قال تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر:1].
والإنزال بمعنيين:
ثم أخذ ينزل بإذن الله وعلمه وقدرته أنزله إليك بعلمه، ينزل عند الحوادث والحاجات من وقت لآخر، منجّمًا مفرقًا خلال ثلاث وعشرين سنة، فكان من العجائب هذا الترتيب والتبين، احيانًا تنزل آية من سورة كذا وأحيانًا من سورة كذا وأحيانًا من سورة كذا.. ثم يطلع الترتيب كما هو مُبهر مبهج في غاية القُدرة. والخلق لا يستطيعون أن يؤلفوا بهكذا أسلوب.. يكتب كتاب، فصل بعده فصل من أوله لآخره؛ ولكن:
وكان كلما نزلت عليه آية أو عدد من الآيات استدعى من حواليه من الكتبة للوحي، ويحضر الاثنين أو الثلاثة أو الأربعة فيملي عليهم، وكان من أكثر من يملي عليه سيدنا زيد بن ثابت عليه رحمة الله -تبارك تعالى-. وكان يقول: إنه إذا نزل عليه شيء من الآيات فاستدعَاني، فأملى علي، قال فكتبت. يقول: اقرأ عليّ بعد ما أكتبها.. قال: حتى إنه ولا يخلُّ بي القلم فاقفز عن كلمة إلى كلمة أخرى، يقول: هذه كذا، أردها عليه حتى أتلوها كما نزلت عليه وكما تلاها، فإذا تأكد من ذلك قال: خُذها.. قال: فأخرج بها بعد ذلك إلى الناس. أي: ليَنقلون منه.
ثم الذي رُوجِع به عند وقت ما يُمليه في حياته جُمُّع جُمُّع جُمُّع.. فكان في خزانة؛ فيها بعضها من خزف وبعضها من العظام وبعضها المكتوب فيها الآيات التي كُتبت في حياته وقُرأت عليه؛ فكان هذا الأصل، وبقي قليل بعض الآيات عند بعض الصحابة.
فلما عَزم على جمع القرآن في عهد سيدنا أبو بكر، لما استحل القتل في القراء؛ استدعى سيدنا أبو بكر: سيدنا عمر وسيدنا زيد بن ثابت، وقال له: أنت شاب لا نتهمك؛ كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فاجمع لنا القرآن، أي؛ في نسخة واحدة فهو مفرق، هذا من حيث الكتابة، أما من حيث السماع فالعدد الكبير سمعه من فم النبي ﷺ، وما من آية إلا وسمعها عدد كثير من الصحابة، ولكن من حيث إثبات الكتابة؛ من حيث إثبات الكتابة على ما قُرِأ ﷺ كان هذا على يد سيدنا زيد بن ثابت.
فكان من أجل إثبات الكتابة، أما من أجل القراءة فكل الآيات سمعها كثير من الصحابة متواترة لكن من أجل إثبات الكتابة حتى احتياط، ما يقبل من أحد جاء بشيء غير الذي كتبه، هو الذي أخذه والباقي يقول له: أتشهد أنك عرضت هذا على رسول الله ﷺ في حضرته بهذا الرسم؟ لأنه كان لما يرسمون.. حتى هو ﷺ يرشدهم يقول: اكتب هذه بالواو، اكتب هذا بدل الألف، الحياة بعضها، والصلاة بعضها، يقول: اكتبها بالواو، النبي يقول: اكتبها بالواو اكتبها كذا بالرسم حقها ﷺ، وهو أمي ما يقرأ ولا يكتب ولكنه يحدد لهم حتى كيفية الكتابة؛ لهذا جاءت رسوم في القرآن على غير المنتشر في الإملاء بين الناس؛ ومخصوصة في القرآن، حتى لما أملى عليه سورة الربا، قالوا اكتبها بالواو -الربوا- لا توجد فيها واو، قال: دعوا فيها واو، وكان في هذا أسرار ومعاني كثيرة، فكان هكذا يأمرهم ﷺ ويحدد لهم كيفية الرسم.
فكان سيدنا زيد بن ثابت إذا جاء اثنان يشهدان أن هذا الرسم هو الذي قُرئ على رسول الله ﷺ؛ يثبت عنده، فوجده كله بالشهود من أجل الكتابة إلا آيتين وجدهما عند سيدنا خزيمة بن ثابت:
قال له: ومن يشهد معك أنه قرئ؟ قال: أنا حضرته على النبي ﷺ وقرأنا عليه هذا المرسوم نفسه هذا الخط، قال: من يشهد معك؟ قال: ما أحد عندي يشهد، قال أبا بكر وعمر؛ خزيمة جعل النبي شهادته بشهادة رجلين؛ نثبت الرسم الآن على ما شهد به خزيمة، قال: نعم، بعد أن يحكم رسول الله فيه بحكم شهادته انتهت المسألة، فكما اثنين وأكثر خلاص انتهت؛ فأثبتها كما وجد هذا من احتياطهم في الرسم ونقل الكتابة.
أما السماع من فمه ولسانه الشريف فالأعداد الكبيرة سمعوا الآيات كلها من هنا ومن هنا، وتفرقت في بعضهم وحفظ بعضهم هذا وبعضهم هذا، ولكن كله متواتر عنه ﷺ.
بعد ذلك لما ينزله الحق -تبارك وتعالى- عليه وأذن له في أن يأذن للأمة بقراءته على سبع أحرف، كان يتصرفُ في القراءة فيقرأ الكلمة أحياناً كذا وأحيانا ً كذا وأحيانًا كذا، مع أنّ الإنزال واحد، الإنزال للكلمة واحد، تنزل بكل معانيها؛ وبكل قراءاتها؛ وبما فيها. هو بعدها يبينها ﷺ في كيفية النطق بها، فحفظوها عنه، فما هناك مرجع للقراءات إلا مروي من نطقه ﷺ. والنطق راعَى فيه في رسمه يجيء على هذه اللهجة وهذه اللهجة وهذه اللهجة من اللهجات العربية، وإن كان الأكثر يكون موافقًا للهجة مضر، فسِعه من الله جاءت في التبليغ.
(وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ) إنا نحن:
(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3))، كان من صفتنا رحمةً بعبادنا أننا ننذرهم العذاب قبل وقوعه، وما كنا لنعذب قوم ولا قرية إلا بعد إنذارهم، وهكذا وصفنا ودأبنا: (إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3))؛ ولإتمام ما يتعلق بالصفة هذه منا لخلقنا بعثناك يا خاتم الرسالة بالكتاب:
(إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3)):
يقول: (إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3))؛ وقيل: أن هذا جواب القسم (إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3)). (وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3))؛ وقيل الجواب (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ).
(إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3))، (فِيهَا) -أي في تلك الليلة- (يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)):
وَقد جَاءَتْنَا الْأَحَادِيثِ بِفَرْقِ الْأَمْرِ فِي لَيْلَةِ القدر وفي ليلة النصف من شعبان:
وإنما جاءتنا السنة بنسخ الآجال وبفرق الأحكام كذلك في ليلة النصف من شعبان وفي ليلة القدر جاءت فيها أحاديث، ففي ليلة النصف من شعبان فضائل وفيها أيضًا عتق من النار وفيها غفران وما إلى ذلك مما وردت به الأحاديث.. وفي ليلة القدر كذلك.
ويبدأ هذا الترتيب الإلهي بإنزال الأحكام التي تكون خلال السنة في ليلة النصف من شعبان ويبقى فيها ما يُقدم ويُؤخر وما يُبدل أو ينسخ فإلى ليلة القدر، في ليلة القدر تسلم للملائكة في ليلة القدر -كما شاء الله تبارك وتعالى- فما يكون فيها التبديل والتغيير، قال: المحو والإثبات؛ (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) [الرعد:23]، فيكون المتناول مع الملائكة في ليلة نصف من شعبان قابل للمحو والإثبات إلى ليلة القدر يكون قد بيّن الله ما قضى به في علمه وفي الأزل شيء واحد هذا هو. ففيه في هذا العام: من يحج .. من يموت .. من يولد .. من يطلع .. من يسافر .. من يقيم .. من يمرض .. من يصح، وكل واحد في وقته وحاله وشكله وهيئته ما يتعدى ما كُتِبَ له -لا اله الا الله- "رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ".
يقول: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا) أمرًا: فرقاً (مِّنْ عِندِنَا ..(5)) فالفرق أيضًا بمعنى الأمر يفرق، يمر ويرتب وينظم (كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)). (أَمْرًا) -فرقاً- (مِّنْ عِندِنَا ..(5)) على أنه مصدر؛ وقيل بمعنى أيضًا أنه بالأمر من عندنا، (أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا) فلا يكون كائن في الأرض ولا في السماء في الملك ولا في الملكوت إلا بأمر المكون، إلا بأمر الخالق، إلا بأمر الإله الحق -جل جلاله- (أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا).
يقول جل جلاله: (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5)) أي: جعلنا واصطفينا رسلًا من الملائكة والناس؛ لإنذار الناس وتبشيرهم ولبيان الهدى لهم.. (رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ..(6)). (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ..(6)) بالرحمة من عنده؛ فكل رسول أرسل إلى قومه رحمة من الله -تبارك وتعالى-، ولكن الرحمة الكبرى الشاملة للعالمين الأوسع بعثة محمد الذي:
رحمةٌ كلُّهُ وَحَزْمٌ وَعَزْمٌ *** وَوَقَارٌ وَعِصْمَةٌ وَحَيَاءُ
مُعجزُ القَوْلِ والفِعَالِ كريمُ ال *** خلقِ وَالخُلْقِ مُقْسِطٌ مِعْطـــاءُ
صلى الله وسلم وبارك عليه
مَا سِوَى خُلْقِهِ النسيــمُ وَلا *** غَيْرَ مُحَيَّاهُ الرَّوْضَةُ الغَنَّاءُ
اللهم صلِّ الله عليه وعلى آله، فهو الرحمة المهداة والنعمة المسداة؛ وبهذه الرحمة وقر الإيمان في قلوبنا، وبهذه الرحمة قامت هذه الأماكن والأماني وبهذه الرحمة عُقدت هذه المجالس وانتشر هذا الخير وتنزلت هذه المنن من حضرة الله تبارك وتعالى.
(رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ..(6)) -جل جلاله- وكان ممكن يقول: رحمة من الله، أو رحمة منّا، لكن قال: (مِّن رَّبِّكَ)؛ إشارة إلى ربطه الرحمة بهذه الذات، وأنه بها يرحم، وأنه مصدر رحمة الله لبريته كلها: (رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ).
(إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ..(6)) الذي رباك واصطفاك وجعلك مظهر الرحمة الربانية وعين الرحمة الربانية ﷺ، (رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)) بكل شيء المحيط علمه بجميع الأشياء (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ..(7)) في قراءة وأكثر القراء قرأوا: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..) أي:
كم كرر الحق تبارك وتعالى علينا في هذا ليزيل الغبش الذي يعشعش في أفكار الناس من الافتتان بالسماء والأرض وما فيها؛ أو حكامها أو ذهبها أو فضتها أو زخرفها أو رونقها؛ أو شيء مما يحدث فيها ومن أجزائها. يقول: هذه كلها تكويني وبيدي ومن عندي أين تذهبون؟ لا يغويكم شيء ولهذا شعارنا في كل صلاة فيما ندبنا إليه وسن لنا نقول: "وجَّهتُ وجهِيَ للَّذي فطرَ السَّماواتِ والأرضَ"، ما عاد يبقى لي قاطع من أرض ولا من سماء، أنا قد عرفت من فطرهن، خلاص؛ سقط قطعهن لي؛ سقط وقوفي معهن؛ سقط انبهاري بهن، أنا عرفت المكون الذي كونهم؛ "وجَّهتُ وجهِيَ للَّذي فطرَ السَّماواتِ والأرضَ"؛ فحينئذ لا يبقى له مطلوب ولا مرهوب أرضي ولا سماوي؛ لأنه توجه للذي فطر السماوات والأرض خلاص، انتهى أمر السماوات والأرض لما توجّه لفاطر السماوات والأرض.
والحق ربنا يكرّر علينا: (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ..(7))، (له مُلْكُ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضِ)؛ حتى يخرج ما يعشعش في الأذهان من هذا الغبش من الإفتتان بشيء مما في السماء ومما في الأرض، كلها خلقه وكلها ملكه وكلها تحت قبضته وكلها في يده، فلا تغفل عنه ولا يلهيك شيء عنه؛ ولا تفتتن بشيء مما يجعله أمامك؛ يقول: (قُلِ ٱنظُرُوا۟ مَاذَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَمَا تُغۡنِی ٱلۡـَٔایَـٰتُ وَٱلنُّذُرُ عَن قَوۡمٍ لَّا یُؤۡمِنُونَ) [يونس:11]، ما يجدونها إلا فعله وتدبيره (إِنَّا جَعَلۡنَا مَا عَلَى ٱلۡأَرۡضِ زِینَةً لَّهَا لِنَبۡلُوَهُمۡ أَیُّهُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلًا) [الكهف:7].
(رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ (7)) إن كان عندكم يقين بالواقع والحقيقة، وما بعثنا بخير الخليقة (إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ)
فإذا عندكم هذه الرغبة فقد جعلت فيكم المؤهلات لأن تحصلوا اليقين بما أتيتكم من عقول وأسماع وأبصار، فأحسنوا النظر وتأملوا يأتيكم اليقين.
(إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ (7) لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ..(8)) الإله الحق، المبدئ الخالق، المقدم المؤخر، الرافع الخافض، النافع الضار، المحيي المميت، الأول الآخر، الظاهر الباطن..
(لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ)، لا يستحق الألوهية ولا الربوبية شيء من جميع مكوناته ومخلوقاته ولا خالق إلا هو، ولا إله إلا هو، ولا رب إلا هو، ولا موجد للوجود إلا هو.
(لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ..(8)) بيده أمر الحياة والممات، (تَبَـٰرَكَ ٱلَّذِی بِیَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرٌ* ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَیَوٰةَ لِیَبۡلُوَكُمۡ أَیُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلًا وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡغَفُورُ) [الملك:1-2]، يختبرنا.
(يُحْيِي وَيُمِيتُ ..(8))، ومع كونه يحيي ويميت، هؤلاء الذين حيوا كلهم أمامنا من الإنس والجن والحيوانات، من رتب إحياؤهم ووجودهم؟ وباختيار من كان ذلك؟ وبترتيب من كلهم؟ ولم يشركه أحد، كذلك لا يموت أحد منهم بسكتة قلبية وإلا بصدمة وإلا بأي مرض من الأمراض؛ وإلا بقتل… إلا بتقديره هو وإرادته، من دون ما يريد ما يمكن، ما يمكن ذبابة ولا حشرة تموت حتى يأذن بذلك، وقد قدَّر وقتها كذلك، والإنس والجن وكلهم ما يقدر أحد منهم يموت إلا في الوقت الذي يريده -جل جلاله وتعالى في علاه-. وبحسب ما سبَّبَ لهذا الموت يكون السبب وبحسب الحال الذي جعله لصاحب هذا الموت يكون حالة هذا الميت، نسأل الله حسن الخاتمة.
وهكذا حتى يقول بعض أهل للسيرة إنه من أسباب موت الصديق، الكمد على فراق رسول الله؛ شدة المحبة والشوق انقطع نياط قلبه فمات، فما استقر بعد وفاته إلا سنتين وستة أشهر ما قدر يحيا بعدها، وتصف زوجته أسماء بنت عميس تقول: بعد وفاة النبي ﷺ يدخل علي في الليل يصلي، ثم يضع رأسه بين رجله يقول: واشوقاه إلى رسول الله -ويبكي ويبكي- واشوقاه إلى رسول الله واشوقاه. قالت: حتى أرثي له. فأقوم أخفف عليه، تقوله له يا خليفة رسول الله عايشته وعشرته وصاحبته ورافقته من صغرك كنت معه، حتى جاءه الوحي ثم رافقته وحتى هاجرت معه، وكنت معه في الغار، وشهدت معه الغزوات، وتوفي وهو راضٍ عنك، وسوف تلقاه؛ تخفف عليه وترثاه من شدة الحالة التي تنازله أيام خلافته هذا، واضع رأسه بين رجليه واشوقاه إلى رسول الله، واشوقاه إلى رسول الله؛ شهيد محبة -عليه رضوان الله-. وهكذا حتى جاء على ألسن عموم الناس: إن من المحبة ما قتل.
(لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ..(8)) فبيده الإحياء والإماتة في الظاهر والباطن.. يا حي أحيي القلوب تحياها، اللهم أحيي قلوبنا بأنوار معرفتك ومحبتك وزدنا حياة، (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱسۡتَجِیبُوا۟ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمۡ لِمَا یُحۡیِیكُمۡ) [الأنفال:24]، هذه الحياة المعنوية وكلها بيده الحسية منه والمعنوية منه- سبحانه وتعالى- يا محي يا مميت.
ولذا كان بعض العارفين يقرأ: يا محيي يا مميت، يذكر من بعض معانيها يقول: يا محي القلوب يا مميت النفوس، إن النفس الأمارة ما دامت حَيَّة فهي حَيَّة، ما دامت حية فهي حية -أفعى- إذا ماتت حيي القلب، ويحيي القلب ذكر الله الحي.
(لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ رَبُّكُمْ ..(8)) يا معشر الخلائق الذين أرسل إليهم حبيبنا الصادق: (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8)) جيلًا بعد جيل إلى أول من كون من البشر آدم -عليه السلام-؛ رب الكل -جل جلاله- (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8)).
قال تعالى: (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)) على أنفسهم وعلى عقولهم وعلى من يستمع قولهم وبهذا الشك وما تمادوا به من الغيب، دعا ﷺ عليهم قال: اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف؛ أي: السبع الشداد، قحطوا أهل مكة واشتد القحط بهم حتى صاروا من شدة الجوع يتخيل لأحدهم بينه وبين السماء دخان من شدة الجوع، (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ (10)) وعذبوا بذلك ورجعوا لا يوجد مخرج إلا اتصلوا به وأرسلوا إليه وأبو سفيان نفسه وهو مع أنه قائد في الكفر قبل إسلامه، ولكن بعث للنبي قال: يا مُحمَّد أنت بعثت بصلة الرحم، وهؤلاء قومك وقبيلتك وعشيرتك وجماعتك في شدة ادع الله لهم يسقيهم، فدعا لهم ﷺ سقاهم الله، (إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا (15)) لكنهم رجعوا ثاني مرة، قالوا: إذا أنقذنا الله من الشدة هذه بنسلم ونأتيمعك، ولكن ما تم شيء -لا إله إلا الله- وهكذا الإنسان الجحود يفعل.
والله يرزقنا الأدب معه والعبودية المحضة؛ ويربطنا بهذا السيد المختار ربطًا لا ينحل أبدًا، حتى نرافقه في دار القرار وفي الفراديس العلا وفي ساحة النظر إلى وجه الكريم الأعلى اللهم آمين بالفضل والإحسان والجود والإمتنان، وأكرمنا بهذا الزاد والتهيؤ لذلك في شهر رمضان؛ وما بقي من أيام قليلة وليال قليلة، اجعل خيراتها جليلة واجعل مواهبها جزيلة، واجعلنا يا مولانا نشرب في محبتك ومحبة مُحمَّد ﷺ زلاله وسلسبيله اسقنا من ذاك الشراب، ألحقنا بأولئك الأطياب، وأدخلنا في أولئك الأحباب، وجد علينا يا وهاب، وافتح لنا الباب، وشرفنا بكشف الحجاب، عن سمير حضرة قاب في مقام الاقتراب، واجز عنا خير الجزاء، وصل عليه أفضل الصلوات منك عنا في كل لمحة النفس، وسلم عليه أعظم التسليمات منك إليه عنا في كل لمحة في كل ونفس، برحمتك يا أرحم الرحمين وجودك أجود الأجودين، واجعلها ذخرًا لنا لكريم لقائه في سروره وانبساط قلبه وفرحه وعظيم هنائه، واجعل لنا من ذلك الهناء هناء لنا يدوم، نرافق به السيد المعصوم يا حي يا قيوم، هذا الدعاء ومنك الإجابة هذا الجهد وعليك التكلان، بحقه عليك ومنزلته لديك لا فرقت بيننا وبينه، حنن روحه علينا وعطف قلبه علينا وارزقنا كريم ومرافقته، وأنت راضٍ عنا في خير ولطف وعافية.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد
اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه
الفاتحة
22 رَمضان 1445