(536)
(208)
(568)
الدرس الثالث عشر من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الحجرات، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1444هـ ، تفسير قوله تعالى:
{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)}
الحمد لله على نعمة خطابه، وتنزيله لكتابه على سيد أحبابه، وتبيين المصطفى - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- لنا ما أنزل عليه ربه - سبحانه وتعالى- ليهدينا به. اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك الهادي إليك، والدال عليك سيدنا مُحمَّد، وعلى آله، وأصحابه، وأهل حضرة اقترابه من أحبابه وأبائه وإخوانه من أنبيائك ورسلك وآلهم، وصحبهم، وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين، وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد، فإننا في نعمة تلقينا لتوجهات ربنا - سبحانه- ولتعليماته، ولآياته - جل جلاله- وصلنا في سورة الحجرات، المعلمة للآداب، المربية على منهج الهدى والصواب، المقربة إلى رب الأرباب، وصلنا إلى قوله - جل جلاله-: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)}، جل جلاله وتعالى في علاه.
وقد علَّمنا - سبحانه- الأدب مع نبيه، وعلَّمنا - سبحانه وتعالى- الأدب مع بعضنا البعض، وأن نتجنب الأذى؛ فإنَّ أذى الأمة يؤذي النبي - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- ثم أرشدنا إلى ما يحصل في واقع البشر من طغيان النفوس ومن عصبيتها ومن حميتها ومن غضبها فتحصل مناوشات ومنازعات.
فأوجب الحق تعالى على المؤمنين في هذه الأمة أن يقودوا زمام الإصلاح، والتقريب، وحل الإشكالات، ونقل الناس من الخلافات، والمباعدات إلى الاتفاقات والمقاربات، وهذا دورٌ عظيم يقوم به الأكياس من الناس، وعد الله فاعله إذا فعله لأجله بالأجر العظيم، قال تعالى: {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ…} [النساء:114]، المخاطبات التي تحصل بينهم والمكالمات كثير منها لا خير فيه {...إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [ النساء:114]. فربما كثر الذين يفسدون، والذين يزيدون البغض والشحناء بين الناس، والذين يؤلبون المسلمين على بعضهم البعض بالوسائل المختلفة، وقلَّ المستجيبون لأمر خالقهم، فأصلحوا بينهما، وبذلك يحصل كثير من الشطط، وكثير من الخلط والخبط، والوقوع في مصائب القتال والحرب المتجاوز من الألسن والأيادي إلى القتال والعياذ بالله تبارك وتعالى.
قال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا…}، وفيه أنَّه البغي مع كونه جرم وإثم عظيم، لكن لا يُخرج عن دائرة الإيمان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا، فسماهم (من المؤمنين) هؤلاء وهؤلاء فما يخرجون عن دائرة الإيمان إلا بالتكذيب بالحق، أو صفاته، أو البعث، واليوم الآخر، أو بأحد من رسله، والعياذ بالله - تبارك وتعالى- وغير ذلك من المكفِّرات المخرجات عن الملة. وأما الجرم الكبير بالسب، أو الشتم، أو الغيبة، أو المضاربة، أو الوصول إلى القتال إثمٌ كبير، وجرمٌ عظيم، ولا يخرج عن الملة.
يقول: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا..}، بدعوتهما إلى الرجوع إلى حكم الله، وأمر الله وشريعته، لتكون الفاصل بينهم، {فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ} أبت أن تستسلم لمنهج الله، وشريعة الحق - جل جلاله- {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي}، فقاتلوا التي ترفض الانقياد لأمر الله - تبارك وتعالى-، {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ}، ترجع إلى شرع الله وإلى حكمه - سبحانه وتعالى-. {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} على المراتب منها: الزجر. ومنها: إغلاظ القول. ومنها: الحمل على ذلك بأنواع من المضايقة، وما يسمونه: الضغط. قاتلوا التي تبغي، ومنها: ما يرجع أمره إلى الإمام والحاكم بأن يقاتِل، وينتخب، ويأخذ جماعة من الرعية، يقاتل الفئة الباغية، وهي التي أبت أمر الله تعالى، وشرعه أن تنقاد له وتخضع {فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ} أبت أن تخضع لحكم شرع، وتستسلم له وتكتفي به وترضى.
{فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ} ومن ذلك أيضا ما اصطلح عليه في فقه الشريعة من تخصيص اسم الباغي للجماعة الذين يخرجون عن أمير المسلمين، وعن حاكم المسلمين، وينصبون لهم إمامًا، ويكون لهم عُدة يريدون القتال، فهؤلاء يقال لهم البغاة. وجاءت الاستفادة من حكمهم في الشريعة، بما صنع سيدنا علي - كرم الله وجهه ورضي عنه- مع البغاة في زمانه. وقاتلهم على التأويل، كما قاتل رسول الله على التنزيل، وقد أخبر بذلك في حياته صلى الله عليه وآله وسلم ويقول "أيكم يقاتلهم بعدي على تأويله كما قاتلتهم على تنزيله" فتعرض له الصحابة، فقال: "صاحب النعل ذاك" كان سيدنا علي يخصف نعل له تالف، قال: هذا صاحب النعل. هو الذي يقاتل على التأويل، كما قاتل رسول الله على التنزيل، فجعل في هذا القتال، أنه لا يُتَّبع مدبره، من أدبر يُترك، ولا يذفف على جريح فيهم، ولا يقتل أسير، ولا تؤخذ لهم منهم غنائم، فكان ذلك هو الحكم الذي أخذ به أئمة الشريعة من بعد.
وجاءت أحكام قتال البغاة، ولما احتج بعض المقاتلين معه، وقال: كيف نقاتل ولا نغنم ولا نسبي؟ قال له سيدنا علي: ليسوا بكفار، إنما بغاةٌ بغوا علينا، أفرأيت،.. ويقول على وقعة الجمل: لو أن أم المؤمنين وقعت في سهم أحدكم، أيستحل منها ما يستحل من أمته! فكان ذلك الحكم الذي مضى عليه -عليه رضوان الله-. وجاء أنه كان في المسجد، فقام أحد من هؤلاء الخوارج البغاة، يقول.. يقول: الحكم لله، فقال سيدنا علي: كلمة حق أريد بها باطل! إن لكم علينا ثلاث: ألا نمنعكم من المساجد تذكر اسم الله فيها، ولا نمنعكم من الفيء إذا جاء، فندخلكم في جملة المسلمين، ونعطيكم من الفيء، ولا نبدأكم بقتال، ولا نبدأكم بقتال.
وهكذا، وقد فصَّل -صلى الله عليه وسلم- في أخبار من يأتي من البغاة بعده، والخارجين عن سواء السبيل، ومنهم الذين قاتلوا الصحابة، وقاتلوا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار في عهد سيدنا علي، وحتى قال: "آيتهم ذو الثنية، رجل له عضد كثدي المرأة" ولما كانوا في صفين بعد انتهاء القتال قال سيدنا علي: ابحثوا بين القتلى عن هذا الذي ذكره - صلى الله عليه وسلم- لأن عنده خبر أنه في هذا المعركة، فراحوا يدورون ما جاءوا عليه، فرجعوا قال: إلا، وقام بنفسه، وجد بين أموات مجتمعين، قال: ارفع ذا، ارفع، شوف، فظهر الرجل وعضده كما وصف. فقال: الحمد لله.
عرف سيدنا علي أنه الأمر الذي قد بينه - صلى الله عليه وسلم- وقد ارتضى فيه هذا الصنيع الذي صنعه - عليه رضوان الله- فقال له بعض الصحابة: يا أمير المؤمنين، الحمد لله قد قتل ذو الثنية، وذهب هؤلاء القوم. قال: لا، لا يزال في الأمة منهم، قرن بعد قرن، كلما قطع قرن، بدا قرن حتى يقاتل آخرهم مع الدجال.. حتى يقاتل آخرهم مع الدجال، يقاتلوا سيدنا المهدي، وسيدنا عيسى، ويقولون: إن هذا مبتدع، وضال وكذا إلى غير ذلك، ما يفعلون. فيقاتل آخرهم مع الدجال، نعوذ بالله من غضب الله!
يقول: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ} رفضت حكم الله، والرجوع إلى الشريعة {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ} والقتال بالزجر، والإغلاظ القول، وبالمضايقة، والضغط مفسوح للناس، والقتال بالسيف والسلاح ممنوع إلا بمرجعيةٍ إلى الحاكم والإمام، فيأمر بقتالهم {حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ} ترجع إلى أمر الله، وترضى به {فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} بإعطاء كل ذي حقٍ حق {وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ ..} أقسطوا يعني اعدلوا {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)} الذين يقيمون العدل، ويعطون الحقوق لأربابها.
وفي الحديث "إن المقسطين على منابر من نور يوم القيامة على يمين العرش، إن المقسطين يبعثون على منابر من لؤلؤ" إلى غير ذلك، فالمقسط هو: العادل، بخلاف القاسط، فهو: الجائر، المقسط هو: الذي يزيل القسَطَ، وهو: الجور، والقاسط: الذي يقيم القسَط، الذي يقيم القسط هذا: قاسط، قال تعالى: {وَأَمَّا ٱلۡقَـٰسِطُونَ فَكَانُوا۟ لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن:15] هم الذين يقيمون الجور والظلم، وينفذونه هؤلاء: القاسطون، وأما الذين يحكمون بالعدل، وأمر الشريعة فهم: المقسطون، الذين يزيلون القسط الذي هو الجور: مقسط. قال تعالى: { وَأَقۡسِطُوۤا۟ۖ إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِینَ} الله أكبر! وهم الذين كما جاءنا في الحديث، يعدلون في أنفسهم، وأهليهم، وأموالهم، وما ووَلُوا، أي: ما تولوا عليه من أمر، يعدلون فيه، هؤلاء المقسطون، أي شيء تولوا عليه، يقيمون فيه الشرع، والحكم الرباني، ولا يحيفون، ولا يظلمون، ولا يميلون إلى طرف، ولا يعتدون، هؤلاء المقسطون في أنفسهم، في أهليهم، في أموالهم، وما ولوا، أي كل ما تولوا عليه، إن حد ولاهم على دائرة، إن حد ولاهم على خزينة، إن حد ولاهم على وزارة، يقسطون، ما يحيفون! ولا يمشون وراء الهوى، والأغراض. {إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِینَ}.
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} هذا عقد أخوة بين من آمن بالله - تبارك وتعالى- لمرجعهم إلى أصل واحد، هو إيمانهم بالله - الواحد-، ورسوله الحبيب الماجد - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-، فبقوة رجوعهم إلى الإله ورسوله، صاروا كالإخوة الذين ينحدرون من أب واحد، يرجعون إلى أصل واحد، وهؤلاء ربط بينهم رابطة الإيمان بالله ورسوله {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} فالمضيعون لحق هذه الأخوة، هم الذين استهانوا بهذا العقد الرباني، عقد الأخوة بين من آمن به - سبحانه وتعالى- وبرسوله، إنما المؤمنون إخوة، فما أسهل ما يضيعون هذا العقد، ويخونونه، ويخالفونه، لأجل غرضٍ مادي، أو اجتماعي، أو سياسي، أو لأجل سلطة، أو مذهبي، لأجل رأي، ولأجل فكر، ويضيع الأخوة {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} ولاعاد عرف أخوة، ولا قدر أخوة، وفعل، وترك، وسب، وشتم، وأذى، وضر، ومعاداة، وبغضاء، إِنَّا لِلَّهُ وإنا إليه رَاجعونَ، دعوة إبليس! لكن هذه دعوة الرب -جل جلاله-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} يقول الله: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} حثٌ من ربنا على أن نتولى هذا الأمر، ونسعى فيه.
وقد جاء في بعض الأحاديث "أن من سعى بين متخاصمين حتى أصلح بينهما، كان أفضل له عند الله من ثلاثين حجة مقبولة" الصلح بين الناس، والتقريب بينهم، وبذلك يقول شاعر من الحكماء:
إنّ الفضائلَ كلّها لو جُمّعتْ *** رجعتْ بأجمعِها إلى شيئين
تعظيمِ أمرِ الله جلّ جلالُه *** والسّعْيِ في إصلاح ذاتِ البيْن
تعظيم أمر الله -جل جلاله- والسعي في إصلاح ذاتِ البيْن، فذكر مقابلها آخر، وعكس البيتين في المقابل، وقال:
إن الرذائل كلّها لو جُمّعتْ *** رجعتْ بأجمعِها إلى شيئين
إهمال أمرِ الله جلّ جلالُه *** والسّعْيِ في إفسادِ ذاتِ البيْن
إهمال أمر الله، قال: ذاك تعظيم أمر الله ، إهمال أمر الله - جل جلاله-، والسعي في إفساد ذات البين، هذا قال: والسعي في إصلاح ذات البين، وهذا قال: والسعي في إفساد ذات البين،
وبيَّنَ - صلى الله عليه وسلم- أنْ غايةَ ما يطمع فيه إبليس في المصلين من أمته التحريش بينهم؛ لأنه آيسه الله أن يحوِّلَ مصليًا من المسلمين إلى مشرك يعبد غير الله، كما جاء في صحيح مسلم: "إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، فإن يطمع فيه شيء، ففي التحريش بينهم". هذا غاية ما يقدر عليه، مما يفرحه، ويسر قلبه عدو الله؛ لأنه يغضب الجبار -جل جلاله- ويوقع المسلمين في الهاوية فهو يحب ذلك يحب الإفساد بينهم، يحب التحريش بين المسلمين والعياذ بالله، والشريعة حرمت التحريش؛ حتى بين الديكة والحيوانات يحرم أن يأتي واحد يثير ديك على ديك يتركهم يتضاربون! حرام ويأثم بذلك؛ حتى الحيوانات حرام تحرش بينها، فكيف بين الناس؟! فكيف بين المسلمين؟! {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ} القيام بكل ما تقدرون به من الإصلاح بين المسلمين، ولا تقصروا في ذلك واتقوا الله أن تتعدوا الأمر وتجاوزوا الحد فتفسدوا بين اثنين وتفارقوا بين اثنين وتخالفوا بين اثنين، "ومن فرَّق بين متحابين بيني فرَّق الله بينه وبين ما يحب يوم القيامة"، لا إله إلا الله! إذًا فالمؤمن أخو المؤمن لا يظلمه ولا يشتمه ولا يحقره، ولا يسلمه، ولا يخذله. ويقول عليه الصلاة والسلام: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ} في بذل الجهد في الإصلاح وعدم التقصير في ذلك والبعد عن التفريق وَاتَّقُوا اللَّهَ {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} فإن الراحمين يرحمهم الرحمن -جل جلاله وتعالى في علاه-.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ} حرم السخرية والاستهزاء وجعل ذلك فعل الجاهلين والغافلين البعيدين عن معرفة الحقيقة وعن الإيمان برب الخليقة؛ ولذا لما قالوا أصحاب سيدنا موسى لسيدنا موسى: {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ۖ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67]
يعني: الاستهزاء بالناس جهل، وأنا إذا كان استهزأت بكم فقد جهلت {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67]، وذلك لما أشكل عليهم وجدوا قتيلًا تحت بيوت طائفة منهم، فاتهموهم أنهم قتلوا وجاءوا إلى سيدنا موسى؛ ليبين لهم، فأنكر أهل القرية هذه، والبيوت هذه التي كان الميت تحت بيوتهم، أنكروا أن يكونوا قتلوه أوطرحوه، ما يدروا من الذي جاء به إلى هذا المكان؟! فبقوا متحيرين، ورجعوا إلى النبي موسى، فأوحى الله إليه قل لهم: اذبحوا بقرة {وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] فَهُمْ ما فَهِموا المقصود الآن! كيف نقول نسألك عن قتيل؟! وتقول لنا: اذبحوا بقرة، ما دخل البقرة في القتيل؟ {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ۖ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} ما أحد يستهزئ بالناس إلا جاهل {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} قالوا: هيا طيب، مادام هكذا ربك أمرك أن نذبح بقرة وبيظهر لنا الخبر، ما هيَ لو راحوا يشترون أي بقرة ويذبحون أدنى بقرة، وأطرف بقرة، لكفاهم ذلك؛ لكنهم شددوا فشدد الله عليهم: {قَالُوا۟ ٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ یُبَیِّن لَّنَا مَا هِیَۚ قَالَ إِنَّهُۥ یَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا فَارِضٌ وَلَا بِكۡرٌ عَوَانُۢ} [البقرة:68] لا كبيرة مسنة كثير، ولا صغيرة، عوان بين ذلك {فَٱفۡعَلُوا۟ مَا تُؤۡمَرُونَ}، قالوا: ما لونها؟ {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا} [البقرة:69]، واذبحوا أي لون.. ويكفيكم قاموا إلا: ما اللون؟ {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} قالوا: ما تعرفنا على هذه البقرة؟! إن البقر تشابه علينا {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة:70] ، قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: "فلو لم يقولوا: إن شاء الله، لما اهتدوا إليها؛ لكن لما قالوا: إن شاء الله" بعد ذلك قال الله: راحوا بحثوا، وحصلوا الأوصاف كاملة ببقرة واحدة عند واحد، وقام شَارَطَهم عليها؛ حتى أخذ فيها المبالغ الكبيرة؛ شددوا فشدد عليهم؛ فلما ذبحوا قال: {اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} [البقرة:73]، خذوا بعض البقرة واضربوا ذلك الميت فقام.
{كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ} قام، من قتلك؟ قال: ابن أخي هذا مستعجل يريد يأخذ التركة حقي، رأى أني ما مت قام قتلنا، وحملنا إلى هذه القرية، ووضعنا تحت بيوت هؤلاء، انتهت المسألة وفُضِحْ واقْتُصَ من ذلك، وحُرِمَ الإرث -ما يرث شيء-؛ لكنه رأى عمه تأخر مَوْته وهو منتظر المال؛ قام قتله اغتاله، ووضعه تحت تلك القرية، فكم تفعل هذه النفوس البشرية بزيغها وضلالها ؟! وكم تعمل؟!
قال: واتقوا الله العلي العظيم؛ لأنه {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ} والقوم: يشمل للذكور والإناث؛ ولكن رده تأكيدًا؛ لأنه يكثر من بين النساء سخرية بعضهم ببعض، أو السخرية بالناس، فقال: {وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ} مع أنهم قد دخلوا في القوم، القوم: يشمل رجال ونساء؛ ولكن كرر ذلك؛ لأنه يكثر بينهن السخرية والانتقاد والاستهزاء بالناس أكثر؛ فردد المسألة وأكد عليهن {وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ}، وذلك أيضًا جاءت فيه عدد من الحوادث في وجود سخرية بعض الناس، وقد وصف الله المنافقين على الذين لا يجدون من المؤمنين إلا جهدهم فيتصدقون بما قدروا، فيسخرون منهم ويقولون: إن الله غني عن هذا، ولما جاء بعض المؤمنين بصدقة كبيرة، قالوا: هذا مرائي، وجاء واحد بقليل ما يملك إلا هو قالوا: الله غني عنه، ما الذي بيصلحه هذا حقه؟! وشأنهم السخرية والعياذ بالله تبارك وتعالى، ومنهم كذلك من سخر ببعض الفقراء، كما حدثت هناك حوادث في الطائفتين من المؤمنين بين الأوس والخزرج، ومن جملة ذلك ما كان من قتال، لكن دون السلاح ودون السيف، ولكن تناولوا بالنعال والأيدي؛ وذلك أنه قيل للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- : لو أتيت عبد الله بن أبي رجاء أن يسلم؛ قبل ما يظهر إسلامه -قبل أن يظهر أنه مسلم- ؛رجاء أن يسلم، فركب -صلى الله عليه وآله وسلم- على حماره قالوا: أنه قاعد مع جماعة في المكان الفلاني، لو أتيته فخرج عليه -صلى الله عليه وآله وسلم- وجاء على حماره فدنا منه، ولما دنا منه قال: إليك عني؛ آذاني ريح حمارك، فغضب بعض الصحابة قال: ريح الحمار رسول الله خير من رائحتك يا عدو الله. فثار له بعض قرابته جماعة فرد عليه، فرد عليه، فتضاربوا ونزلت: {وَإِن طَائِفَتَانِ ..} فهَدَأهم -صلى الله عليه وآله وسلم- حتى قضى وهكذا.
ومر بعض اليهود يوم، فوجد جماعة من الأوس و الخزرج منسجمين منبسطين لبعضهم البعض فرحين، تفرج اغتاط؛ لأنه كان شغلهم من قبل أن يأتي -صلى الله عليه وآله وسلم- يثيرون هؤلاء على هؤلاء، ما يتكلمون بينهم البين، ولا يتزاورون، والحين صاروا يضحكون مع بعضهم البعض؛ اغتاظ راح إلى بعض أصحابه وقال: إذهب إلى المحل الفلاني وتدرج معهم في الكلام وذكرهم بيوم بعاث -يوم وقعة كانت بين الأوس الخزرج وقتل فيها منهم كثير- ولا تنصرف من عندهم؛ حتى تفتنهم، فجاء دخل اليهودي بينهم، وأخذ يدخل معهم في حاجاتهم إلى أن ذكرهم بيوم بعاث، قال: حصل منكم.. قال: أنتم، قالوا: يا للأوس، وقال الثاني: يا للخزرج، قاموا يتضاربون بلغ النبي الخبر، خرج، قال: "دعوها فإنها منتنة" هذه العصبيات والتفاهة دعوها، فإنها منتنة أ تفعلونها وأنا بين أظهركم ؟! فأخذ يكلمهم، فثابوا إلى..، فأخذ يعانق بعضهم بعض، وازداد غيظ اليهود فوق، فرجعوا بمحبة أكثر مما كانت، ودامت بينهم برسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- {وَٱذۡكُرُوا۟ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَاۤءً فَأَلَّفَ بَیۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦۤ إِخۡوَ ٰنًا} [آل عمران:103].
وهكذا تأتينا الآيات في هذه الآداب البديعات العظيمات التي نحتاج إليها، وتحتاجها الأمة وحصل الإخلال بها كثيرًا في واقع المسلمين، وسبب هذا الإخلال بها كثير من المشاكل الواقعة والدائرة اليوم بين أفراد وبين أسر وبين مجتمعات وبين دول، كله من الإخلال بهذه الآداب من إضاعة هذا الخطاب الرباني الإلهي، ولو أصغوا إليه وقاموا بتنفيذه بحكم إيمانهم لما كانت هذه البلايا والمشاكل والآفات ولكن {ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِی ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ بِمَا كَسَبَتۡ أَیۡدِی ٱلنَّاسِ} [الروم:41]، {وَمَاۤ أَصَـٰبَكُم مِّن مُّصِیبَةࣲ فَبِمَا كَسَبَتۡ أَیۡدِیكُمۡ وَیَعۡفُوا۟ عَن كَثِیرٍ} [ الشورى:30] ، قال {لِیُذِیقَهُم بَعۡضَ ٱلَّذِی عَمِلُوا۟ لَعَلَّهُمۡ یَرۡجِعُونَ} [الروم:41] .
الله يرزقنا الرجوع إليه، والإنابة إليه، والتخلق بأخلاق القرآن، والتأدب بآداب القرآن، أحيي هذه الآداب فينا يا رب، واجعل هوانا تبعًا لما جاء بها حبيبك الأطيب، واكشف عنا الشغب والتعب، والبلايا والنصب، وعافنا في الدنيا وفي المنقلب، واجمعنا في دار الكرامة مع من أحببت وقربت، يا رب يا رب يا رب برحمتك يا أرحم الراحمين، و أصلح شؤوننا والأمة أجمعين، واختم لنا بالحسنى وأنت راضٍ عنَّا.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه
الفاتحة،،
14 رَمضان 1444