(535)
(365)
(605)
تفسير الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الحاقة، من قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ }، الآية: 38 إلى نهاية السورة
﷽
(فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ ۚ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ (42) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52))
الحمدلله مولانا المُتَفَضل، وإلهٰنا المُتَطَول، لا إله إلا هو وحده لا شريك له، يقدّم ويؤخّر ويُبَدِّل ويُحَوّل، بِيَدِه مَلكوتُ كُلِ شَيء، وإليه مَرجِعُ كُل شيء، وهو الباطن الظّاهر الآخر الأوّل، أرسل إلينا عبده المصطفى الأكمل، سيّدنا محمد الصادق المَصدوق، أكرَمِ كلّ مخلوق، حبيب الرحمن المُنزَل عليه القرآن، صلى الله وسلم وبارك وكرم في كل وقت وآن عليه وعلى آله المُطَهَرينَ عن الأدران، وأصحابه الغُر الأعيان، وعلى من تَبِعَهُم بإحسان، على ممر الزمان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين من عظَّم الحق لهم القدر والشأن، وعلى آلهم وصحبهم والملائكة المقرّبين وجميع عباد الله الصّالحين ذوي العرفان، وعلينا معهم وفيهم، إنّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين الواسع المنَّان.
وبعد،،،
فإننا في غَدواتِنا المُباركة في شهر رمضان بتأمُّل القُرآن، انتهينا إلى أواخرِ سورة الحاقَّة، التي فيها ذِكرُ اليوم الذي يَحِقُّ فيه الحقّ، ويُحَقُّ كلُ أَحدٍ بما عَمِل، ولا يَبقى للباطِل وجود، ولا يَكونُ مآلُ أصحابه إلّا النّدامةُ والحسرةُ والبُعد والطرد مع كل مطرود- والعياذ بالله تبارك وتعالى-. حقّقنا الله بحقائق الإيمان، والحقائق الحق الذي بعث به نبيه المصطفى من عدنان، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه في كل آن.
وانتهينا إلى قوله -جلّ جلاله وتعالى في عُلَاه-: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40))، يقولُ: بعد البيان العظيم عن الحاقّة والقارعة والمُكَذِّبين بها والمُستَهزِئيّن والمُعانِدين للرُسل وعواقِبهم ونِهاياتهم، ثم ما سَيَحصل في اليوم المُقبل من خلال إخبار ربّ الأيام كلها وربّ الخلائق كلهم -جلّ جلاله- (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) [النساء:122]، ومن أصدق من الله حديثا..
يقول تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ..(38)):
(فَلَا أُقْسِمُ (38)) أي فَحَقّا أُقسِم وأحلِف لكم، وهو الحقُّ وقوله الحقّ -جلّ جلاله-، ومع ذلك يُقسِم (بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39)) بِكلِّ شيء:
فالأمرُ إذاً عظيم، (فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39))، إنّه هذا القول الواصل إليكم على لِسان نبينا:
(فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40))، أي في تبليغه إيّاكم وإيصاله إليكم:
(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ) كما يقول بعض الكفار، وتردّد كلامهم لمّا أرادوا التّكذيب به، وأرادوا أن يَتبَعهُم الناس في التّكذيب به، تردّد كلامهم ما بين الشاعر والكاهن، (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ ۚ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ (42))، وساحر ومجنون، هذا الكلام الذي يُرَدِّدونه.
(وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ ۚ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ (41)) أي: معدومٌ في القلوب التي سبقت عليها الشّقاوة أن تُؤمن.
(قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ (41))، كما قال لهم في الآية الأخرى: (لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون:2-6].
(قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ)، أنتم تعرفون الكُهّان وما يتقوّلون وكيف يَتَكَلَّمون، (قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ (42))، ما تتأمّلون هذا الكلام الذي أتى به محمد، تصرِفون أنفُسكم عنه، (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) [فصلت:26]، لماذا؟ لأنّهم لو تَذَكَّروا وتَأمَّلوا؛ سيعرفون أنّه الحقّ ويهتدون، وهم خائفين أنّهم يَهتدوا، ولمّا خافوا أن يهتدوا، (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) [فصلت:26]، وهكذا.
ولا يزال النّاس أيضًا في مُختلف الأوقات، إذا نَطق بالحقّ والصِّدق مُخلص وصادق، فصادف أنّ أرباب الرّغبات النّفسية والمُرادات ما وافقهم كلامه وأرادوا الإنصراف عنه، يقولون لأصحابهم لا تسمعون له هذا سيسحركم، إذا سمعتموه سيسحركم؛ لأنّه ليس لديهم حُجة يُقابلونه بها، وإذا سمعوه الناس فَهِموا أنّ الأمر يَعلُوه النّور والبَهاء والصّدق، ما فيه أيّ شيء، وهكذا، ولكن يَستَعمِلون هذه الأساليب.
وكَلّموا سيّدنا الدّوسي -الطُّفيل بن عامر- كَلَموه: انتبه! لا تَسمَع، لمّا أراد أن يطوف خاف أن يسمع كلام النبي، جاء بالعُطُب -الصّوف- ووضعه في أذنيه، ودخل يَطوف والحبيب هناك يقرأ، وأبَى الله إلّا أن يَسمَع، يرى هذا الإنسان بوجهه المُنير وحَاله العجيب، يقرأ ..
بل بعض زُعمائهم مع عنادهم وكُفرهم استرْوحت فِطَرهم وأرواحهم، حُسنَ القَول:
ويقول كبار زُعمائهم -كبارهم مثل أبو جهل وعقبة بن مُعيط- يقول كبارهم:
ما الذي جاء بنا إليه؟ تعالوا نتعاهد أن لا أحد يأتي الليلة الثانية، فيَتعاهدون، ويذهبون فإذا جَنّ الليل، تحرّك روح هذا وفطرته للكلام ذاك العذب الطيب!
(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ۖ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ) -بقلوبهم يَعلمون، يعلمون صِدقَك- (وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) [الأنعام:33]، قَبِلوا ابن الدّغنة أَجير لأبي بكر الصديق، لكن قالوا: شَرط أنه لا يَجهر بقرآءته ولا يُصَلي إلا في بيته؛ لأن له صوت بالقرآن وَرِقّة في قَلبه و بُكاء؛ فَقَبِل ذلك.
بقي سيدنا أبو بكر مدة ثم عَنََّ له أن يتخذ له مصلى -مسجد- بجانب البيت، فبنى له مصلى وصار يُصلي هناك في الليل، فيأتي أولادهم وبعض نسائهم يسمعون قراءة أبوبكر وهو يقرأ ويبكي.
أرسلوا لابن الدّغنة تعال، أبو بكر خرج عن العهد، قلنا لك ما يمكن إلا وسط بيته ولا يجهر، إنه صار الآن مُستَعلِناً بقراءة القرآن هذا، وخفنا على أولادنا ونساءنا أن يَفتِنهُم -يفتنهم يعني: يَهديهم، يعني: يَدُلّهم على الحق، يُنَور قلوبهم،- هذا يعني يَفتِنهم.
فرعون يقول لقومه: اقتلوا موسى، (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر:26] المُفسِد مَن هو؟ّ مَن يصنع الفَساد في الأرض؟ مَن الذي يُقَتِّل خلق الله؟ مَن الذي يَستَعبد عباد الله؟ مَن المفسد؟ قال هذا لا يفسد، هو الذي جاء يُصلح الفساد ويُخلّص الناس من الفساد، لكن هكذا.
وقالوا له قل له: إمّا يكفّ عن هذا ويدخل إلى وسط بيته -وداخله- حتى لا أحد يسمعه من أولادنا ولا نسائنا وإلا يَردٌ عليك جوارك، فإنّا كرهنا أن نَخْفِرَك في ذمّته، ورجع إلى سيّدنا أبي بكر وقال: يا أبا بكر إنّ الجماعة قالوا كذا كذا، قال: أرُدّ عليك جِوارك وأرضى بِجِوار الله، رُدّ الجِوار وقال أن ذمّتك بَرَأت.
وتعددت أذاهم لسيدنا أبي بكر بعد ذلك، وهو يصبر حتى كادوا أن يقتلوه في بعض الأيام، بدفاعه عن النبي ﷺ وتخليصه له ﷺ، لَقِيَهُ جماعة من كبار المشركين فلَوَوْا الرّداء على رقبته ﷺ، وأخذوا يشدّونه عليه؛ فأقبل سيدنا أبو بكر -دخل بينهم- وقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟! وخَلّصه من بينهم، ومشى النبي، رجع، أَحْنَقَهُم وغضب عليهم، وضربوا أبابكر، رجعوا -ضربوه! .. ضربوه!- ضرب شديد مُبرّح، حتى من شدة الضّرب والورم ما عاد يُعرف أنفه من بقيّة وجهه.
فَجاء جماعته -بني تيم- وحملوه إلى عند الكعبة، وقالوا: إن مات لَنَقْتُلَنّ فلان وفلان- عصبية القَبَلِية-. ثم أخذوه إلى البيت فبقي مُغمى عليه من شدة ما آذوه وضربوه إلى آخر النهار؛ فأفاق. أول ما أفاق قال: ما فَعَلَ رسول الله؟ أين النّبيّ محمد؟ فجماعته الذين عنده من المشركين قالوا: بسببه وقعت في هذا كلّه والآن أوّل ما تسأل عليه أنت فعلت كذا، قال: والله لا آكل ولا أشرب ولا أطمئنّ حتى أعرف أين رسول الله.
زعلوا وسبّوه، بكُوا وخرجوا، قالت له ابنته أسماء: رسول الله بخير، قال أين هو؟ كان في تلك الساعة في دار الأرقم، قال: خُذِينِي إليه، فاستدعت بعض أقاربها -وهو لا يقدر على المشي- وأفاق الآن، من الصّباح وهو مُغْمى عليه من شِدّة الضّرب ولكن عاوَنوه حتى يمشي.
فخرج رسول الله ﷺ، لمّا وصل، خرج إلى عند الباب احتَضَنه وبَكيا، ما يقدر يَأكُل ولا يشرب حتى يرى النبي، مضروب، وطول النّهار مُغمى عليه، وآخر النّهار استيقظ ما يقدر يأكل ولا يشرب حتى يرى النّبيّ ويطمئنّ عليه، فلمّا رآه ﷺ نَاوَلوه الماء.
يقول تعالى: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ ۚ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ (42))، اجلسوا، تَأمّلوا وانظروا ستفهمون الحقيقة، ستظهرْ لكم، دعوا عصبيًتهم، اهدئوا، اقرؤا، تَذَكَّروا، انظروا ماذا يقول؟! (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۖ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ) [سبأ:46]، أين هي الجِّنة التي يقولون عليها؟ أين الجُنون في فعله؟! في قوله؟! في عمله؟! في دعوته؟! أين الجنون الذي فيه؟ تعالوا فكِّروا، (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ) [سبأ:46] ﷺ.
قال: (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ ۚ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ (42) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (43))، هذا الكلام الذي يُكَلِمكُم به، نَزّلناه عليه من عِندنا.
(تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (43))، انظر بركة هذا الكلام، نجتمع في رمضاننا؛ هذا عام الأربعين بعد الأربعمائة وألف من هجرة هذا النّبيّ؛ طيّب، حَسَن، عَذب، إنّ القرآن نَتَنَور به، نَتَطَهّر به، نقْرُب إلى الله به، ونُتَصفّى به، ونُصَافَى به، ونُدرِك خَيرات -الله أكبر- يا ما أعجب هذا القرآن!
ومرت عليه هذه القرون كلّها والمحاولون يُحاوِلون أهل الشرق والغرب أن يُبَدِّلوا .. يُغَيِّروا .. يُبعِدوا حَرف .. يَزيدوا حرف .. يُبعدوا كلمة .. يُبدّلوا كلمة؛ ما قَدروا -الله أكبر-، (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9] -الله- نقرأه ونَجِد فيه حاجة الأمّة في شؤون حياتها المختلفة أجسامًا وأرواحًا، في شؤون محتاجة إلى ما في هذا القرآن.
(تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (43))..
أين الدّساتير التي معكم؟! احضروها لنراها، بعد كل فترة قصيرة تغيِير، بعد كل فترة تعدِيل وقرارات وتبديل، وَدَعَا مجلس نوّابهم -يُسمّونه- زَوّدوا، طلّعوا، نزّلوا، غَيّروا، بَدّلوا، عَدّل الدستور، ماذا معكم؟! ما عندكم شيء ثابت، ما عندكم شيء عظيم.
(تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ)، خالق الإنس والجنّ والملائكة أعلم بمصالح عباده، وأعلم بحاجتهم وأعلم بما يُسعدهم وأعلم بالخير لهم في مختلف شؤونهم وأحوالهم، (أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق:12].
(تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (43)):
يقول الله وتظنّون أنّنا نَترُك لو جاء أحد يَتقوّل علينا ويجيء بكلام ويَنْسِبه إلينا، يقول: ربي قاله! ونتركه؟! ماذا نصنع بالمُتقوّلين علينا؟ الذين يقولون: إنّا أرسلناهم، وما أرسلناهم، وإنّهم جاءوا من عندنا، وأنّ هذا من عند الله؟!
قال: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44)) كم يَختَلق من عنده، يأتي كلام ويَنسِبهُ إلينا، (لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45))، يُقال للّذي في عالَم الخَلق يُرادُ به أن يُذَلّ ويُقهر: خُذ بِيَمِينة واُلٔطُمه واصْفعه و اقْتله،
(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46))، نُمِيتُه، هل يعجز علينا أن نُميت أحد؟! (ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46))، عِرق القَلب، نِيَاطَ القَلب: وَتِين.
(ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47))، هل أحد سيمنعنا؟! هل أحد سيَحجُز بيننا وبين مَن أردنا أن نتصرّف فيه؟!
(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47))، لا أحد يستطيع أن يمنع لا إله إلا الله. انظروا الى عَظَمة الألوهيّة والربوبيّة، إنما يَختار ويصطفِي رُسل يُرسِلهُم إليكم، (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا) ولَو تَقَوّل عليهم مُتَقَوِل لَأهلكه -جلّ جلاله-.
يقول: (وَإِنَّهُ..(48)) -هذا النّبيّ- (وَإِنَّهُ) القول الذي يَقول لكم ويُبَلّغكم القرآن الكريم؛ (لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (48))، تَنكَشِفُ حقائق مَعانيه، وعَجائب ما فيه بِقَدر التّقوى؛ كلّ مَن آمن به وصَدقه واتّبعه؛ فَيكون له تَذكِرة يَكشِفُ له عن الأسرارِ التي جَعَلها الله تعالى مَودوعةً في روحِ هذا الإنسان من مَعارِف تتعلّق بِعجائب التّكوين ولَطائِف وإبداع الخَلق والإيجاد وأسرار الوُجود مَطويّة في الإنسان؛ إذا:
عَلَّمهُ الله وكَشَفَ لَه وانكشف له من هذه الذّات فَتَذَكّر، فهو يَتذكّر المعاني الواردة، فكأنّه يشهدُ ما في الكتاب العزيز من معاني رَأْي عين، على قدر ما يتهيّأ له هذا المُتّقي.
أمّا أرباب الصّدى والغفلات والذّنوب الثّقيلات، فإنّه يمر عليهم ولا ينكشف لهم سِرّه ولا يشرق في قلوبهم نوره ولا يَهتدون بهُداه لِما رَان على قلوبهم، لكن مَن اتّقى (تَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (48)):
(وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (48))، ولمّا كانت روح سيدنا عثمان ينكشف لها المعاني وتَتَّذكر وتَتَّذكر:
(وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ(48))، (وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ)، لكن (لِّلْمُتَّقِينَ). اللّهمّ ارْزقنا التقوى وألٔحِقنا بأهل التقوى (وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة:282] جلّ جلاله.
(وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ (49)) بالحقّ الواضح الصّريح البيّن، اتّباعًا لأهوائهم وأنفسهم ورَغباتهم السّاقطة.
(وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ (49)) حَقَّ القول عليهم -والعياذ بالله - (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) [يونس:100].
(وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50)) حسرة كبيرة، النور أمامهم والخير أمامهم والحُجّة أمامهم والبرهان أمامهم وسبب الرّقيّ أمامهم وسبب الوصول وسبب النّعيم وسبب السّعادة، ويُهمِلون ويتركُونه وتتقفّل الأبواب ويُكَذِّبون؟! حسرة.
وأرباب العناد منهم يُريدون أن يأتوا بمثله، لا يقدرون، يريدون يُعَارِّضوه لا يقدرون، حسرة وبعدها حسرة في القيامة- ياليتنا اتّبعناه، ياليتنا عملنا، ياليتنا صدّقنا، ياليتنا آمنّا- لأنه في القيامة، لا أحد غير مؤمن بالقرآن، كلّهم مؤمنين بالقرآن؛ حتّى أباجهل الذي قتلوه في بدر مؤمن مصدّق، حتّى فرعون، حتّى الملاحدة الذين في زمنكم والذي قبله، هم هناك مؤمنين بالقرآن؛ لكن ما نفعهم الإيمان بعد الموت: إنّما المؤمنون الذين آمنوا في الحياة الدنيا فقط -إله إله إلا الله-.
اللّهمّ زدنا إيمان وقَوّنا إيمان واجعلنا من أقوى الأمّة إيمانا، نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا، تجمع بها شملنا، اللّهمّ أعطنا إيمانا صادقا ويقينا ليس بعده كفر، ورحمة ننال بها شرف كرامتك في الدنيا والآخرة. اللهم أعطنا إيمانا صادقا يُباشر قلوبنا، وأعطنا يقينا صادقا حتى نعلم أنّه لا يُصيبنا إلا ما كتبته علينا .
يقول: (وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51)) اليقين؛ هو الحق، الموصل إلى حق اليقين عند مَن اتّبعه وقام بحقّه، فيوصله إلى رُتبة حق اليقين
(وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51)). يقول لحبيبي في هذه الضجات واللّيات والمصارعات، أُثبت على ما أرشدناك في صِلتك بنا، (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)) وقل لأتباعك أن يتعلقوا بتعظيمنا واجلالنا والتسبيح بحمدنا، بعد أن يُحسنوا البيان ويقيموا الحجة يتركوا أهل الفوضى، يتركوا أهل المعاندة.
(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)) اثبت على طريقك، أمشِ (فَسَبِّحْ) -قدس ونزه- (بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) سبح ربّك العظيم، سبّح باسمه .. قدس .. نزه ذاته وصفاته عن مُشابهة وعن نقص، وامتلِئ بالعظمة.
اللّهمّ كما أنعمت علينا بالإسلام فزدنا منه، وكما أنعمت علينا بالإيمان فزدنا منه، وكما أنعمت علينا بالعافية فزدنا منها، وكما أنعمت علينا بالعمر فبارك لنا فيه.
وغير المؤمنين الموجودين على ظهر الأرض يتمنّون لو آمنوا، ونحن يشقّ علينا عبادة الله تعالى، أنهم يتعرضّون لموقف يتمنون أنهم حَصَّلوا لحظة من هذه اللحظات، أنّهم سمعوا هذه الآيات، والموجودين في زماننا من جميع المُعاندين الذين كذبوا بآيات الله وقد بلغتهم الدعوة كلّهم سيتمنّون هذا، ولا يقدرون عليه -لا إله إلا الله- (يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا) [الفرقان:27-28].
ونحن إن قَبِل الله منا وجهاتنا ومجالسنا وما يدور فيها؛ كنا في الرّفقة الكريمة المباركة وبَعيدين عن النّدامة فبِئْست النّدامة ندامة يوم القيامة: (وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)).
اللّهمّ ارْزقنا التّسبيح والتّقديس والتّحميد والتّهليل والتّكبير لك والإعظام والإجلال والإكبار والحضور معك، ونغنم ذلك في أيّامنا المعدودة وحياتنا المحدودة، نرقى فيها مَراقي شريفة مشهودة لائقة بجودك يا حيّ يا قيوم .. يا أرحم الرّاحمين وياأكرم الأكرمين.
ما أعظمها من سورة، وما أعظم ما ذَكّر الرّحمن عباده، فنشهد أن الله بَيَّن وأن حبيبه بلَّغ، ونشهد أن الحجّة واضحة والمحجّة بيّنة، والبرهان قائم وأنّه لا عذر للفاجر ولا للكافر بعد تنزيل رب العالمين.
أَبَعْد تَنزيل ربّ العالمين وَما *** أقام من حُجج كالشّمس والقمر
يَبقى لذي مرض أو مِرْيَة شُبه *** أو مُشكل لَا ورَبِّ البيت والحجر
لكن شقاوة أقوام وحَظُّهم الـ *** منحوس أَوْقَعهم في الشّرّ والشّرر
والعياذ بالله تبارك وتعالى.
لك الحمد على نِعمة الإسلام، لك الحمد على نِعمة الإيمان، لك الحمد على نِعمة التّصديق بخاتم النّبيّين، فارْبُطنا به ربطا لا ينحلّ وارْفعنا به إلى أعلى محلّ.
اللّهمّ شرّفنا بالقرآن وكرّمنا بالقرآن وارْفعنا بالقرآن؛ فإنّك ترفع بهذا الكتاب أقواما وتَضع آخرين.
اللّهمّ اجْعلنا يامولانا من الآذان الواعية والقلوب الصّاغية الواعية الصّافية التي تَعي أسرار التّنزيل وتَقتدي بنبيّك في خير سبيل.
اللّهمّ ادفع عنا شر أهل القال والقيل وأهل الكذب والتّضليل، واجْعلنا ممّن استقام على سواء السّبيل، واسْقنا من أحلى سلسبيل في عِرفانك وقُربك ومن رضوانك وحُبّك برحمتك يا أرحم الراحمين.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
12 رَمضان 1440