(535)
(365)
(605)
تفسير الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الحاقة، من قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ }الآية: 18
﷽
(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ ۜ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَّا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37))
الحمدلله، يا كريم الحمد لله مولانا الكريم العفوّ، الواحد الأحد الحي القيوم الذي له جميع الوجوه تخضع وتعنو، نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يحقّ لعبده أن لا يخاف ولا يرجو إلا هو، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله وحبيبه وصفيُّه وخليله، جعله الله أعلى مَن في العلا يعلو، اللّهمّ أدم صلواتك على عبدك المصطفى سيدنا محمد وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار، ومَن سار في سبيلهم واقتفى لآثَارهم فيما يُسرّ وفيما يبدو، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، سادات أهل الرِّفعة والمجد والسّموّ وعلى آلهم وصحبهم أجمعين، وعلى ملائكة الله المقرّبين وعلى جميع عباد الله الصّالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين، يا كريم، يا صفوح، يا عفو.
وبعد،،،
فإنّنا في هذا الغُدُوّ المبارك، نغدو في أيام الشهر المنير بإقامة الصلاة وذِكر العليّ الكبير والصلاة على البشير النّذير، والتأمّل لآيات الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وقد انتهينا في تأمّل آيات سورة الحاقّة إلى قوله تعالى: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ (18)) -يوم حصول هذه الأشياء التي أشار إليها- (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَائِهَا ۚ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ) -يوم حصول هذه الأشياء كلّها- (تُعْرَضُونَ).
وقد علمنا:
وذكرنا أن هناك أنواع من العرض تكون، ومنها ما أشار الحقّ إليه بتطاير الصحف، وأنّ الله -جلّ جلاله- جعل كل ما يفعل المكلّف مَحصيّ ومكتوب بأنواع من الإحصاءات والتّسجيلات والتّوثيقات:
والذي كَتبه الحافظان -الملكان رقيب عتيد- والذي كتبه الحفظة مسجّل، إلى آخر ما كان عليه فعله عند الغرغرة وما حَكم الله -تبارك وتعالى- فيه ممّا أسقطه وممّا عفا عنه وما أبقاه فيَبقى، ثم يُقابل به.
هذه الصحف المسجلة فيها:
ويُذكِّر عبده به؛ ويفضح مَن شاء، ويستر من شاء، اللهم استرنا بسترك الجميل في الدنيا والآخرة: (أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ) [العاديات:9-11]، أخبَر وأعلَم وأعرف به من أنفسهم -جلّ جلاله-.
فمنهم إعطاء الكتب إما بالأيمان وإما بالشمائل؛ ولا قدرة للإنسان أن يتحكّم لا في يمينه ولا شماله:
قال تعالى:
(هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنتُ ..(20))، أي أيقنت لما كنت عايش في الدنيا، موقن أنني سأُلاقي حسابيه؛ فلهذا استعديتُ لهذا، لقد غفر الله لي، الآن كتابي أبيض طيّب.
(هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنتُ) -أي أيقنت أيّام كنت في الدنيا- (أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20))، وهكذا يقول صاحبنا الشيخ نوح، من الأردن -عليه رحمة الله- نوح القُضاة يقول لي ابنه: قد رأيته بعد الوفاة يقول: أبي، ما أكثر شئ نَفعك في الآخرة لمّا متّ؟ قال: خوفي من هذا اليوم، خوفي من هذا المصير، قال قلت له: وقيامك بالليل؟ قال: بعد، لكن أوّل ما نفعنا خوفي من هذا اليوم، كنت أهاب هذا اليوم وأفزع المرجع إلى الله.
انظر: (إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20))، كنت موقن أنّي راجع إلى الربّ و أهابه..
الخوف من الله فيه الأمان كلّه، وكل مَن يطلب الأمن بدون خوف من الله فلن يكسب إلا التّعب في الحياتين: يقول: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) [الأنعام:82]:
إذا الإيمان ضاع فلا أمان *** ولا دنيا لمَن لم يُحيي دِينا
(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) [الأنعام:82]، وإن قليلا من النّفوس التي تقف بحكم الفطرة والعقل أو في الكفّ عن إيذاء الغير أو عن أخذ حقّه في مختلف الظروف .. قليل؛ ولكن مَن تمكّن فيهم الإيمان:
هذا يقول: (إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20))، ماهي النتيجة لهذا الذي يعيش في الدنيا وهو موقن بالحساب فيَهاب ويخضع لربّ الأرباب؟
(فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22)) كل الجنان، البساتين التي أعدّها الله في دار الكرامة عاليات، (فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ) فكلها فوق السماوات، يكفيك عُلوّها فوق السماوات، كلها فوق بعضها البعض وأعلاها الفردوس، سقفها العرش -ليس سدرة المنتهى- العرش.
فالحكم لمجاوزة سدرة المنتهى بعد النفخة الثانية في الصُّور يختلف:
فالجنّات عالية وأعلاها الفردوس وسقفها عرش الرحمن، (فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ) وكل واحد منهم في مكان رفيع وبساتين مُعتلية.
(فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23))، الجنّة العالية، هو فيها، كل ما يحتاجه من ثمارها وما يَقطف من فواكهها وأطعمتها؛ دانية منه، يعني تحت أمره يتناولها وهو قائم وهو قاعد وهو مضطجع على السرير حيث يبقى، كيف؟! عايشين في دار الضيافة، أو تريد تشبيههُ بالإلكترونيات أو بالأزرار تحرك الأشياء بزر؟! خاطره زرّ لكل ما في الجنة، خواطره تعمل أي شيء، أي شجرة يريدها خاطره، تأتي بها، هذه هذه، تلك، تلك الاخرى، بمجرد ما يخطر تأتي، قائم، قائم، قاعد، قاعد، مضطجع، مضطجع، على السرير محلّك، (دَانِيَةٌ) -قريبة- دار الضيافة، هذه دار الكرامة.
(قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23)):
كلّه قريب في حضرة القريب، كلّه قريب، الله! (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) [الواقعة:10-11]؛ فكلّ شيء عندهم قريب.
(فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23))، وهكذا شأنهم مع الأنهار؛ فبمجرد الأمر والخاطر: إمشِ هنا، تعال تحت السرير هذا، نهر اللبن اذهب، تعال نهر الخمر، اذهب، تعال نهر العسل، تحت الطلب. على الخاطر مباشرة؛ متفاعل مباشرة، الله! عجائب في دار الكرامة.
وهكذا يُضيِّف على قدره، لمّا يُضيِِّف يعرف يُضيِّف ربك -جلَّ جلاله-، الله أكبر!
(قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23))، الأنهار تحت أمره، الأشجار، الطيور تحت أمره؛ يأتي الطير الفلاني، يأتي النوع الثاني، يأتي الثاني، يأتي الثالث، العاشر، مائة، خمسة، ستمائة، الذي تريده، مباشرة من الخاطر ستمائة .. ستمائة، ثلاثمائة .. ثلاثمائة، مائة .. مائة، واحد .. واحد.
طائر يُعجبه سمنه ولَحمه -طيب- في الهواء، يتمنى أن يخطر على باله مشويًا، يقع مباشرة في الإناء من الذهب والفضة مشويّ، بمجرد الخاطر، كُل؛ يأكل، أكملت الأكل؟ يطير ثاني مرة، من أجل أن لا يقول واحد طائر نقص عليه، لا يوجد واحد نقص، كله كمال، زيادة؛ هذه ضِيافة ربك -جلَّ جلاله-.
اللهم أدخلنا جنتك، اللهم اجعلنا من أهل جنتك. النّبيّ كان لمّا يصفها- يذكر أوصافها- يقف يقول: "وفيها ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ، اقرأوا إن شئتم: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة:17]"، قال سيدنا؛ هناك أكبر من هذا؛ رضى الرب عنه ورؤيتهم إياه من غير حاجبِ، الله أكبر!.
(قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا) أعلى معاني الهناء والرّاحة واللّذّة والسرور والأُنس..
لمّا قالوا لبعض العارفين والصالحين في القرون الأولى لمّا رُئى بعد موته ما فعل الله به؟ كان كثير المجاهدة قال: بسط لي الجنة بحذافيرها وقال الملائكة: كل يا مَن لا تأكل، اشرب يا مَن لا تشرب، قال لي: تركت شرب كثير من أجل ربك، كُل .. كُل، يا مَن لم تَأكل، اشرب يا مَن لم تشرب.
يقول: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) -الماضية- وكان بعض العارفين إذا قرأ الآية يقول: "فقدِّموا في الأيام الخالية للأيام الباقية" إنّ أيّامكم هذه خالية، ماضية ، تذهب، ستأتي أيام باقية لكم هناك؛ فقدّموا من الأيام الخالية للأيام الباقية.
(كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24))؛ هذا مَن أُعطي كتابه بيمينه، فاللهم اجعلنا منهم ولا تجعل من أولادنا وأهلينا وأهل ديارنا وأقاربنا وأصحابنا وطلابنا وأهل مجمعنا ومن يسمعنا وأهليهم وذويهم وجيرانهم؛ إلا أعطيته كتابه بيمينه، يا الله!
(يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26)) ولا عرفت ما المؤاخذة هذه والوزن والكتابة في الصحف والتسجيل لما عملت. (وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (25) يَا لَيْتَهَا) -الموتة الأولى- (كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27)) موتة واحدة ولا رجعت وقمت، وكان في الدنيا أكره شئ له الموت، والآن يتمنى الموت.
لمّا كان في الدنيا أكره شئ له الموت والآن يتمنى ما يحصّله!، يريد الموت ما يحصّله!، في الدنيا أخطر شيء عليه الموت، أشدّ شيء عليه الموت وهو يخاف من الموت، (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ) [ق:19] تفزع، ما يريد يموت، والآن يتمنى (يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ)، لا إله إلا الله!
(مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ (28))، كان الأنبياء يقولون لك: ما الذي سيُغنيك إذا ما اتقيتَ الله؛ والأولياء يقولون لك وأنت تضحك عليهم!
الآن قلت: (مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ)؛ كنت لا تتفاخر إلا به، ودائما تُفكّر رصيدك كم؟ ودخلك كم؟ وكيف يتحسّن الدّخل؟ وكيف يتمّ؟ وقال: (مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ)؛ بعضهم أصحاب أموال -رؤوس أموال كبيرة- (مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ)؛ أنت كم وصل رصيدك؟!، سبحان الله! أصبح (مَا أَغْنَىٰ عَنِّي)، سبحان الله!
هم في الدنيا الآن، في زماننا فقط، كم عدد الشخصيات في العالم عندها رؤوس أموال كبيرة في سويسرا وبأرقام سريّة، لا يعرفها حتى أهلهم وأقاربهم، مِن هؤلاء الأشخاص: مَن مات ومَن قُتل ومَن وقع في حادث، والمال أين هو؟ في عمره ما انتفع به، هناك بقي عند أولئك ينتفعون به، وبعد موته ولا عاد له، ولا لأولاده، ولا لأهله، ولا لجماعته، مبالغ كبيرة.
ونحن في الدنيا، انظر اللعب كيف! وطول عمره ما انتفع بِالذي وضعه هناك، وتضعها هناك من أجل ماذا؟ استعملها وانفع بها بلدك وقومك، جماعتك؛ حالك، فقط يجمّع، فقط.
وعندما يصل عند الحق: (مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ (28))، (مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ) قد نصحوك ما انتصحت، ذكّروك ما تذكّرت، علّموك ما تعلّمت، نبّهوك ما تنبّهت؛ الأنبياء قالوا لك هكذا وأتباع الأنبياء قالوا لك هكذا، أما تُصدّقهم، صدّقت مَن؟
صدّق نفسه الأمّارة، وصدّق أصحابه الفاسدين، وصدّق الشياطين في الدنيا؛ ما نفعوه، رجعوا كلّهم يقولون: (مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ):
الآن الحاضر؛ غنيّهم وفقيرهم وأوّلهم وآخرهم، الحُجّة للنّجاة وللبراءة؛ لا يوجد عندهم؛ (هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ):
لا يوجد عنده سلطان، لا يوجد عنده حجة، انتهى، يكذب؟! لا يوجد كذب:
بعد أن تشهد عليهم، ماذا بعد ذلك؟!
(وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا)؟ الجلود ترد عليهم في النار يقولون:
العبر أمامه وهو يقول: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ ۜ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)) ما لي حُجة الآن، وبعد ذلك؟! ألم تكن في الدنيا نافذ الكلمة؟! لا شيء الآن، أما كنتَ من صنَّاع القرار؟ انت؟!
يقول الله للملائكة: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ) -غُلّوا يديه لعنقه وقمِّطوه- (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31))، صَلُّوهُ؛ احرقُوه، شوّوه فيها، (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ)؛ لأنه هو رَضِي بجحيم الغفلة عنّا والبعد منّا والمعاندة لأمرنا ورسولنا، خذ هذه النتيجة: (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا) -ذراعهم بعضهم أكبر من بعض، الذراع التي عنده-
(خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا) وهو والكفار الكبار، غلظ الجلد مسيرة ثلاثة أيام، كم الذراع التي عنده هذه؟ سلسلة على قدر الأذرع -سبعون ذراعا من التي عنده- و يُسلسلونه بها، الله!
(ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32)) هذا نتيجة ماذا يا رب؟! هذا في واقع الأمر، والحقيقة عن ماذا ينتج هذا؟
(إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33))، هذا رأس الشّرّ والمصيبة؛ ثم يتبعه الأعمال: (وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)) مسكين!
(إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35)):
(فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35))،، انتهى؛ لا توجد له صداقة، وهم كانوا يسمون أنفسهم أصدقاء، لا يوجد صديق، (وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا) [العنكبوت:25]، ما في صداقة، لو كان صادق أحد في الله..
فإن خَاللت أو آخيت *** فَفي الله فَاجعَل مَن تُؤاخي
تُآخيه في الله؛ علاقة طيبة، هذا صديقك موجود يتفقّدك وتتفقّده، ثم في القيامة لا يجدون فلان، أين فلان؟ أين فلان؟ في ظل العرش، على منابر من نور، إخوان في الله؛ هذه الصداقة، هذه الصداقة؛ الله يُبيّن لنا بهذه الآيات علائق الخلق بأصنافها المختلفة، لا شيء إلا ما قام لوجه الله، سمعت! كلّ العلاقات في الأرض تقوم على غير قصد وجه الله ليست بشيء؛ (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35)):
الحكم رجع لصاحبه، واستَبان عنّا الوهم الذي كنّا فيه، أنّه لا حاكم إلّا هو: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) [يوسف:40].
(هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35))، حَمِيمٌ يعني صديق، (وَلَا طَعَامٌ) ولا طعام، وهو عائش ملهوف على الطعام، أهمّ شئ عنده الطعام، عاش عيشة عبْد البطن والطعام، هنا لا يوجد طعام؛ (إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36)) من صديد، الصديد عُصارة أهل النّار الذي يخرج من فروج الزّنا والزّانيات؛ هذا طعامهم، كان عنده عقلية الطعام أهم شئ في الحياة؛ طعام من حرام، من حلال، من ربا، ما يكون في الحياة من طعام، خذ الآن، لا يوجد طعام إلا هذا: (وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَّا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37))، الذين وصلتهم الدّعوة ورفضوا، الذين ردّوا أمر الله -جلَّ جلاله- (لَّا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ)، وأقسم ربنا أن هذا هو الحق.
اللّهمّ ارزقنا كمال اليقين، كمال الإيمان، نعيش نوقن أنّنا نرجع إليك وأنّنا نُلاقي حسابنا؛ فتملأ قلوبنا بالإيمان وبِاليقين؛ ترزقنا الاستعداد لهذا المصير وترزقنا حسن المسير، حتى نلقى البشير النذير، ونُرافق السراج المنير، ونرد على حوضه مع أوائل الواردين
يا ربّنا مَن اصطفيتهم من أمته، توردهم على حوضه، طائفة بعد طائفة؛ فنسألك بجاهه عليك، أن تُوردنا في أوائل الطوائف الواردين على حوضه المَورود، تسقينا منه شرابا لا نظمأ بعده أبدا، وتحلّنا معه في جنات الخلود من غير سابقة عذاب ولا عِتاب ولا فِتنة ولا حِساب.
يا كريم، يا وهاب، يا خير مسؤول، يَا أَكرم مأمول، نُلحّ عليك، نُلحّ عليك، نُلحّ عليك طالبين أن تُدخلنا جنتك بفضلك ورحمتك، أن لا تُعرّضنا لعذابك، أن لا تُعرّضنا لغضبك، أن لا تُعرّضنا لسخطك، أن لا تُعرّضنا للنّار. يا ربِّ لا آتيت أحدا منّا كتابه إلا بيمينه، يا ربنا لا آتيت أحدا منّا كتابه إلّا بيمينه، يا ربنا، يا ربنا، يا ربنا، يا ربنا، يارب لا آتيت أحدا منّا كتابه إلا بيمينه، وأدخلنا جنتك بغير حساب مع الأحباب، أهل حضرة الإقتراب، يا كريم، ياوهّاب، يا أكرم الأكرمين، يا أرحم الراحمين.
أنت تستجيب الدعاء وهذا شهر القبول عندك وشهر الوجهة إليك؛ فَبمُحمد وما أنزلت عليه، والقرآن الذي أَنزلته عليه، ورمضان وما تتفضل فيه، اجعلنا من أهل جنتك، أعطنا كُتبنا بأيماننا وأدخلنا جنّتك بغير حساب يا كريم، يا وهّاب، ياالله! مَن حضر ومَن سمع وجميع أهلينا وأهليهم وأَولادنا وأولادهم وأقَاربنا وأقاربهم وجِيراننا وجيرانهم وطلّابنا وأصحابنا وذوي الحقوق علينا، أعطنا أجمعين كُتبنا بأيماننا، وأوردنا على حوض نبيّك في أوائل الواردين، وأدخلنا معه جنّتك مع السّابقين من غير سابقة عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب، برحمتك يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الرّاحمين.
واجعل في أهل هذا الفضل العظيم، تأتيهم إياه عبدك سالم بن علي الحامد الحدّاد، وزده من هذا العطاء الوافي والإمداد والإسعاد ما أنت أهله يا كريم .. يا جوّاد، وافعل كذلك بموتانا وافعل كذلك بنا وافعل كذلك بأهلنا وزدنا من فضلك ما أنت أهله يا متفضل، يا منعم، يا متطوّل، يا حيّ، يا قيّوم، يا مَن يَهَبْ ولا يُبالي و يقبل ولا يُبالي، ولو لم تريدنا إلى ما نرجو ونَطلبه من فيض فضلك، ما ألهمتنا الطلب، فيا مَن لم تحرمنا الدعاء، لا تحرمنا الإجابة، دعوْناك كما أمرتنا، فاستجِبْ لنا كما وعدتنا، إنك لا تخلف الميعاد.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد
اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه و سلم،
الفاتحة
11 رَمضان 1440