تفسير سورة الحاقة -4- من قوله تعالى: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ (18))

تفسير سورة الحاقة، من قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ }الآية: 18
للاستماع إلى الدرس

تفسير الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الحاقة، من قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ }الآية: 18

نص الدرس مكتوب:

(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ ۜ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَّا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37))

الحمدلله، يا كريم الحمد لله مولانا الكريم العفوّ، الواحد الأحد الحي القيوم الذي له جميع الوجوه تخضع وتعنو، نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يحقّ لعبده أن لا يخاف ولا يرجو إلا هو، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله وحبيبه وصفيُّه وخليله، جعله الله أعلى مَن في العلا يعلو، اللّهمّ أدم صلواتك على عبدك المصطفى سيدنا محمد وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار، ومَن سار في سبيلهم واقتفى لآثَارهم فيما يُسرّ وفيما يبدو، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، سادات أهل الرِّفعة والمجد والسّموّ وعلى آلهم وصحبهم أجمعين، وعلى ملائكة الله المقرّبين وعلى جميع عباد الله الصّالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين، يا كريم، يا صفوح، يا عفو. 

وبعد،،،

 فإنّنا في هذا الغُدُوّ المبارك، نغدو في أيام الشهر المنير بإقامة الصلاة وذِكر العليّ الكبير والصلاة على البشير النّذير، والتأمّل لآيات الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وقد انتهينا في تأمّل آيات سورة الحاقّة إلى قوله تعالى: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ (18)) -يوم حصول هذه الأشياء التي أشار إليها- (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَائِهَا ۚ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ) -يوم حصول هذه الأشياء كلّها- (تُعْرَضُونَ). 

وقد علمنا: 

  • أنّ الله يُنزّل الملائكة من السماوات.
  • وأنّهم يحيطون بأهل الموقف بعد النفخة الثانية في الصور. 
  • وأنّه تأتي جهنّم من ورائهم لها زفير وشهيق، يُسمع زفيرها من مسافة مائة عام. 
  • وأنّها يشتدّ شوقها إلى الكفرة الفجرة المخالفين لأمر ربّها -جلّ جلاله-. 
  • وأنّها تُؤمر بالرجوع إلى أيدي الزّبانية وتُحيط بأهل الموقف وتستأذن ربها: 
    • أن تخطف من بين أهل الموقف كبار العتاة الطغاة من المنكرين المكذبين المعاندين للرسل. 
    • فيَأذن الحق لها، فتُخرج خيوطاً من النار كأعناق الإبل تمتدّ، فتَخطفهم من بين الناس واحداً فواحداً، والعياذ بالله! اللهم أجرنا من النار. 

وذكرنا أن هناك أنواع من العرض تكون، ومنها ما أشار الحقّ إليه بتطاير الصحف، وأنّ الله -جلّ جلاله- جعل كل ما يفعل المكلّف مَحصيّ ومكتوب بأنواع من الإحصاءات والتّسجيلات والتّوثيقات:

  •  فمنه ما جعل الحق تعالى بتسجيل الاعضاء نفسَها. 
  • وتسجيل الأرض التي يُعمل العمل عليها: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) [الزلزلة:4]. 
  • تسجيل الزّمان -الساعة من يوم كذا فيها تشهد وتتكلم- تقول: فيّ حمَلوا، وفيّ قال، وفيّ فعلوا .
  • منهم سجلّات الملائكة: 
    • منهم الحفظة؛ (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) [الانفطار:10-12]، يكتبون كل الذي تفعلون. 
    • ومنه سِجلّ رقيب عتيد: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ص:17-18].
  • ومنه ما جعل الله تعالى في تركيب عُنق الإنسان، حاسّة خاصّة لشريحة غريبة، تسجل كل ما يفعله الإنسان ويقول، ثم تخرج من العنق في القيامة وتُنشر له؛ (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا) [الاسراء:17]. 

والذي كَتبه الحافظان -الملكان رقيب عتيد- والذي كتبه الحفظة مسجّل، إلى آخر ما كان عليه فعله عند الغرغرة وما حَكم الله -تبارك وتعالى- فيه ممّا أسقطه وممّا عفا عنه وما أبقاه فيَبقى، ثم يُقابل به.

هذه الصحف المسجلة فيها: 

  • جميع ما عمل الناس، قال تعالى: ( وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ) [القمر:52-53]. 
  • وأذهان الملائكة أيضا سجّلت، ومن جوده إذا غفر مغفرة كبرى لأحد: 
    • محاه من السجلات، من ذواكر الملائكة الحفظة، الأعضاء، الزمان، المكان، مُسح. 
    • لكن هو لا ينسى، هو الذي لا ينسى -جل جلاله- لا إله إلا هو!. 

ويُذكِّر عبده به؛ ويفضح مَن شاء، ويستر من شاء، اللهم استرنا بسترك الجميل في الدنيا والآخرة: (أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ) [العاديات:9-11]، أخبَر وأعلَم وأعرف به من أنفسهم -جلّ جلاله-. 

فمنهم إعطاء الكتب إما بالأيمان وإما بالشمائل؛ ولا قدرة للإنسان أن يتحكّم لا في يمينه ولا شماله: 

  • فأَرباب الجنة ومَن رحمهم الله، تتحرك أيديهم -الأيمان- وتأتيهم كتبهم من قبل وجوههم من اليمين فَيتناولونها. 
  • والآخرون لا يستطيعون أن يحرّكوا إلا شمائلهم وتأتيهم كتبهم من خلفهم، من وراء ظهورهم ويمدّ شِماله إليها ويمسكها. 

قال تعالى: 

  • (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ) -أوتيَ، ليس مسك ولا أخطأ، أوتي- (أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ)، لا إله الله! فينظر، هذا فيه العفو والصفح، المغفرة والحسنات، هذا أخذ كتابه بيمينه. 
  • (فَيَقُولُ هَاؤُمُ) -تعالوا اقْرَءُوا- (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19))، تعالوا اقرأوا كتابيه؛ فرحان، فيه بهجة وسرور، حصّل كلام جميل وشيء يُسرّه في ذاك اليوم. 
  • (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ) تعالوا-هَاؤُمُ- تعالوا اقْرَءُوا وانظروا ماذا في كتابي. 

(هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنتُ ..(20))، أي أيقنت لما كنت عايش في الدنيا، موقن أنني سأُلاقي حسابيه؛ فلهذا استعديتُ لهذا، لقد غفر الله لي، الآن كتابي أبيض طيّب. 

(هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنتُ) -أي أيقنت أيّام كنت في الدنيا- (أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20))، وهكذا يقول صاحبنا الشيخ نوح، من الأردن -عليه رحمة الله- نوح القُضاة يقول لي ابنه: قد رأيته بعد الوفاة يقول: أبي، ما أكثر شئ نَفعك في الآخرة لمّا متّ؟ قال: خوفي من هذا اليوم، خوفي من هذا المصير، قال قلت له: وقيامك بالليل؟ قال: بعد، لكن أوّل ما نفعنا خوفي من هذا اليوم، كنت أهاب هذا اليوم وأفزع المرجع إلى الله.

 انظر: (إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20))، كنت موقن أنّي راجع إلى الربّ و أهابه.. 

  • (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ) -في الجنة- (قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا) -في الدنيا- (مُشْفِقِينَ) [الطور:25-26]، عندنا خوف من الله؛ الخوف من الله فيه الأمان. 
  • ولا أمان لمَن لم يخف الحقّ: (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) [الأنعام:81-82]. 
  • ثم أَيقن أنّه لا يجِد قلبًا من الأمن في حوادث الحياة صَعُبت أو سَهُلت، تيسّرت أو تعسّرت، ارتخت أو اشتدّت. 
  • لا تجد قلبا أحسن طمأنينة وأمنا من قلوب المتّصلين بالله، أهل شدّة الخوف منه؛ هم المطمئنّون في هذه المواقف ولا آمن من قلوبهم في القيامة، جزاء خوفهم من الله تعالى. 

الخوف من الله فيه الأمان كلّه، وكل مَن يطلب الأمن بدون خوف من الله فلن يكسب إلا التّعب في الحياتين: يقول: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) [الأنعام:82]:

  • إنّ الذين يعيشون على بثّ الأنظمة وسيطرتها لاكتساب الأمن؛ أعتَى العصابات المجرمة، الخارجة عن الأنظمة، توجد عندهم.
  •  بلاد الذي أُريد فيها استتباب الأمن ببثّ النظام والسيطرة، تنطفئ الكهرباء لمدة دقائق إلا وحدثت جرائم وفَظائع؛ لمدة دقائق! في أي عمارة، في أي حارة. 
  • النفوس مُستعدة للسّوء؛ لكن حقائق الأمن في الإيمان: 

إذا الإيمان ضاع فلا أمان *** ولا دنيا لمَن لم يُحيي دِينا 

(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) [الأنعام:82]، وإن قليلا من النّفوس التي تقف بحكم الفطرة والعقل أو في الكفّ عن إيذاء الغير أو عن أخذ حقّه في مختلف الظروف .. قليل؛ ولكن مَن تمكّن فيهم الإيمان: 

  • فكل مَن تمكن فيه الإيمان يرسخ في قلبه هذا الأمر، "المؤمن مَن أمنه الناس على دمائهم وأموالهم وأعراضهم"، ما ينتهك حُرمة أحد، مهما تيسّرت له الأسباب والظروف والإغراءات وعنده حاجة وفقر مُضطرّ. 
  • فإنه لا يخون، لا يأخذ حق الغير، لا يكذب؛ هؤلاء أهل الإيمان، هذا في عالم الدنيا، الله! لا إله إلا الله! (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ). 

هذا يقول: (إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20))، ماهي النتيجة لهذا الذي يعيش في الدنيا وهو موقن بالحساب فيَهاب ويخضع لربّ الأرباب؟ 

  • (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (21)) والذي طلب رضانا؛ فصار راضيا وعيشَته راضية:
    • أي مرضيّا عنها لقوّة الرضى فيها؛ صارت كأنه ليس صاحبها هو راضي؛ بل هي نفسها راضية؛ مبالغة فيما تُجبر به خواطرهم وتنعم به من السرور نفوسهم. 
    • قال: العِيشَة نفسها راضِيَة، المهم هم راضيين، هم راضين أو العيشة راضية. 
    • العيش فيها راضي أو هي العيشة راضية، لقوة الرضى عند صاحبها، صارت هي نفسها راضية، يعني صارت هي نفسها رضى. 
  • (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (21)) يعني مرضية لكن بقوة طيبها ونعيمها وقوة رضى صاحبها، نُسب الرضى إليها، كأنها هي العيشة راضية: (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ)، الله أكبر! نسألك رضاك والجنة.

(فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22)) كل الجنان، البساتين التي أعدّها الله في دار الكرامة عاليات، (فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ) فكلها فوق السماوات، يكفيك عُلوّها فوق السماوات، كلها فوق بعضها البعض وأعلاها الفردوس، سقفها العرش -ليس سدرة المنتهى- العرش. 

فالحكم لمجاوزة سدرة المنتهى بعد النفخة الثانية في الصُّور يختلف: 

  • فكثير يتجاوزون سدرة المنتهى، ولكن بعد النفخة الثانية في الصُّور، أمّا قبل ذلك كما أشرنا:
    • حتى ملائكة السماوات -سكان السماوات من الملائكة وملائكة الأرض- لا يتجاوزون بأجسادهم سدرة المنتهى.
    • وإنّما الملائكةُ الموجودون في الحُجب وحملةُ العرش والكروبيّون الذين ذكرناهم -أعلى الملائكة- هم الذين حوله -الذين يحملون العرش ومَن حوله-.
  • أمّا من عداهم من الملائكة؛ فما هناك جسد غير هؤلاء؛ اخترق الحُجب، فوصل إلى العرش من جميع بني آدم ومعهم الجن وملائكة السماوات والأرض؛ إلّا جسد محمد في ليلة الإسراء والمعراج. 

فالجنّات عالية وأعلاها الفردوس وسقفها عرش الرحمن، (فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ) وكل واحد منهم في مكان رفيع وبساتين مُعتلية. 

(فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23))، الجنّة العالية، هو فيها، كل ما يحتاجه من ثمارها وما يَقطف من فواكهها وأطعمتها؛ دانية منه، يعني تحت أمره يتناولها وهو قائم وهو قاعد وهو مضطجع على السرير حيث يبقى، كيف؟! عايشين في دار الضيافة، أو تريد تشبيههُ بالإلكترونيات أو بالأزرار تحرك الأشياء بزر؟! خاطره زرّ لكل ما في الجنة، خواطره تعمل أي شيء، أي شجرة يريدها خاطره، تأتي بها، هذه هذه، تلك، تلك الاخرى، بمجرد ما يخطر تأتي، قائم، قائم، قاعد، قاعد، مضطجع، مضطجع، على السرير محلّك، (دَانِيَةٌ) -قريبة- دار الضيافة، هذه دار الكرامة.

 (قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23)):

  • قريبة منك، إن كنتَ مضطجع، إن كنت جالس، إن كنت قائم، حيثما تريد، فقط يخطر على بالك؛ خُذ.
  •  تريد الغصن هذا يأتي إليك، تريد الغصن ذاك يأتي إليك، تريد الثاني يأتي، ثاني يأتي، الثاني الذي في الجانب هذا، في الجانب هذا من الشجرة، هذه، هذه، لا يوجد بعيد، كله قريب.

كلّه قريب في حضرة القريب، كلّه قريب، الله! (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) [الواقعة:10-11]؛ فكلّ شيء عندهم قريب. 

(فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23))، وهكذا شأنهم مع الأنهار؛ فبمجرد الأمر والخاطر: إمشِ هنا، تعال تحت السرير هذا، نهر اللبن اذهب، تعال نهر الخمر، اذهب، تعال نهر العسل، تحت الطلب. على الخاطر مباشرة؛ متفاعل مباشرة، الله! عجائب في دار الكرامة. 

وهكذا يُضيِّف على قدره، لمّا يُضيِِّف يعرف يُضيِّف ربك -جلَّ جلاله-، الله أكبر! 

  • (نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ) [فصلت:32]، ضيافة من غفور رحيم، قادر، قوي، كريم، الله أكبر! 
  • وبعد ذلك وسط هذه الضيافة: "إنَّ لَكُمْ أنْ تَشِبُّوا فلا تَهْرَمُوا أبَدًا، أنْ تَحْيَوْا فلا تَمُوتُوا أبَدًا، أنْ تَنْعَمُوا فلا تَبْأَسُوا أبَدًا، وأنْ تَصِحُّوا فلا تَمْرَضُوا أبَدًا".

 (قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23))، الأنهار تحت أمره، الأشجار، الطيور تحت أمره؛ يأتي الطير الفلاني، يأتي النوع الثاني، يأتي الثاني، يأتي الثالث، العاشر، مائة، خمسة، ستمائة، الذي تريده، مباشرة من الخاطر ستمائة .. ستمائة،  ثلاثمائة .. ثلاثمائة، مائة .. مائة، واحد .. واحد. 

طائر يُعجبه سمنه ولَحمه -طيب- في الهواء، يتمنى أن يخطر على باله مشويًا، يقع مباشرة في الإناء من الذهب والفضة مشويّ، بمجرد الخاطر، كُل؛ يأكل، أكملت الأكل؟ يطير ثاني مرة، من أجل أن لا يقول واحد طائر نقص عليه، لا يوجد واحد نقص، كله كمال، زيادة؛ هذه ضِيافة ربك -جلَّ جلاله-. 

اللهم أدخلنا جنتك، اللهم اجعلنا من أهل جنتك. النّبيّ كان لمّا يصفها- يذكر أوصافها- يقف يقول: "وفيها ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ، اقرأوا إن شئتم: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة:17]"، قال سيدنا؛ هناك أكبر من هذا؛ رضى الرب عنه ورؤيتهم إياه من غير حاجبِ، الله أكبر!.

(قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا) أعلى معاني الهناء والرّاحة واللّذّة والسرور والأُنس.. 

  • (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا) -فقط تذكّروا- (بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)) الأيام الماضية المحدودة القصيرة الفانية، خِفتمونا فيها وكففتم عمّا حرّمنا عليكم والآن: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ)
  • ومنهم ممّن يُخاطب بهذا من قبْل دخول الجنة؛ لجماعة المؤمنين المُعتنين بالصوم، الذين يصومون في خلال السنة كثيرا: 
    • هؤلاء تُبسط لهم موائد والناس في المواقف، يقام لهم موائد قبل دخول الجنة في ظل العرش. 
    • وتقول لهم الملائكة: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ)، كانوا الذين حواليكم يأكلون و أنتم لا تأكلون؛ لأجل الصّوم، الآن كلوا! وهم يأكلون، كلوا الآن. 
  • (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ)، كل مَن ترك شيء من أجل الله، وصام في أوقات الصوم من أجل الله؛ عُوّض عن ذلك عوضا جميلا، بديعا، وسيعا بإعطائه أنواع من النعيم ما كانت تخطر على باله، عوضا من الله، "مَن ترك شيئا لله عوّضه خيرا منه".

 لمّا قالوا لبعض العارفين والصالحين في القرون الأولى لمّا رُئى بعد موته ما فعل الله به؟ كان كثير المجاهدة قال: بسط لي الجنة بحذافيرها وقال الملائكة: كل يا مَن لا تأكل، اشرب يا مَن لا تشرب، قال لي: تركت شرب كثير من أجل ربك، كُل .. كُل، يا مَن لم تَأكل، اشرب يا مَن لم تشرب. 

يقول: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) -الماضية- وكان بعض العارفين إذا قرأ الآية يقول: "فقدِّموا في الأيام الخالية للأيام الباقية" إنّ أيّامكم هذه خالية، ماضية ، تذهب، ستأتي أيام باقية لكم هناك؛ فقدّموا من الأيام الخالية للأيام الباقية. 

(كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24))؛ هذا مَن أُعطي كتابه بيمينه، فاللهم اجعلنا منهم ولا تجعل من أولادنا وأهلينا وأهل ديارنا وأقاربنا وأصحابنا وطلابنا وأهل مجمعنا ومن يسمعنا وأهليهم وذويهم وجيرانهم؛ إلا أعطيته كتابه بيمينه، يا الله!

  • (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ (25))؛ هؤلاء أكثر، أكثر من جهة العدد، لمّا ترى العصيان في الأرض أكثر والغفلة في الأرض أكثر! فالذين يستلمون كتابهم بالشمال أكثر -أعوذ بالله!- 
  • (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ) بمجرّد أن يرى الكتاب والسواد الذي فيه والظلمة (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ). 
  • (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ)، فيقول -يصيح-: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25)) يا ليت ما استلمت الكتاب ولا أوتيت كتاب ولا أُعطيت ولا عُرِّضت لهذا الموقف، وأنت الذي كنت مُتبجّح مُتشطح في الدنيا وأنت الان في هذا الموقف (جَزَاءً وِفَاقًا) [النبأ:26]. 

(يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26)) ولا عرفت ما المؤاخذة هذه والوزن والكتابة في الصحف والتسجيل لما عملت. (وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (25) يَا لَيْتَهَا) -الموتة الأولى- (كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27)) موتة واحدة ولا رجعت وقمت، وكان في الدنيا أكره شئ له الموت، والآن يتمنى الموت.

لمّا كان في الدنيا أكره شئ له الموت والآن يتمنى ما يحصّله!، يريد الموت ما يحصّله!، في الدنيا أخطر شيء عليه الموت، أشدّ شيء عليه الموت وهو يخاف من الموت، (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ) [ق:19] تفزع، ما يريد يموت، والآن يتمنى (يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ)، لا إله إلا الله! 

(مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ (28))، كان الأنبياء يقولون لك: ما الذي سيُغنيك إذا ما اتقيتَ الله؛ والأولياء يقولون لك وأنت تضحك عليهم! 

  • الآن أنت تقول: (مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ)؛ هذه حقيقة قد ذكروها لك أنت، لماذا كنت مكذب؟! مغرور،غافل، لِم لا تصدق الصادقين؟! تصدّق نفسك الواهمة وتصدِّق الكذّابين الفسّاق. 
  • الأنبياء قالوا لك: هذا المال إذا ما تتقي الله فيه، لن ينفعك، أنه خَطَر عليك؛ اتقِ الله!، خذه من حلّه واصرفه في محلِّه، قُم بأمر الله فيه، وإلّا سيكون بلوى عليك. 

الآن قلت: (مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ)؛ كنت لا تتفاخر إلا به، ودائما تُفكّر رصيدك كم؟ ودخلك كم؟ وكيف يتحسّن الدّخل؟ وكيف يتمّ؟ وقال: (مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ)؛ بعضهم أصحاب أموال -رؤوس أموال كبيرة- (مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ)؛ أنت كم وصل رصيدك؟!، سبحان الله!  أصبح (مَا أَغْنَىٰ عَنِّي)، سبحان الله! 

هم في الدنيا الآن، في زماننا فقط، كم عدد الشخصيات في العالم عندها رؤوس أموال كبيرة في سويسرا وبأرقام سريّة، لا يعرفها حتى أهلهم وأقاربهم، مِن هؤلاء الأشخاص: مَن مات ومَن قُتل ومَن وقع في حادث، والمال أين هو؟ في عمره ما انتفع به، هناك بقي عند أولئك ينتفعون به، وبعد موته ولا عاد له، ولا لأولاده، ولا لأهله، ولا لجماعته، مبالغ كبيرة. 

ونحن في الدنيا، انظر اللعب كيف! وطول عمره ما انتفع بِالذي وضعه هناك، وتضعها هناك من أجل ماذا؟ استعملها وانفع بها بلدك وقومك، جماعتك؛ حالك، فقط يجمّع،  فقط.

وعندما يصل عند الحق: (مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ (28))، (مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ) قد نصحوك ما انتصحت، ذكّروك ما تذكّرت، علّموك ما تعلّمت، نبّهوك ما تنبّهت؛ الأنبياء قالوا لك هكذا وأتباع الأنبياء قالوا لك هكذا، أما تُصدّقهم، صدّقت مَن؟ 

صدّق نفسه الأمّارة، وصدّق أصحابه الفاسدين، وصدّق الشياطين في الدنيا؛ ما نفعوه، رجعوا كلّهم يقولون: (مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ):

  • الذي عنده مال قليل والذي عنده كثير، والذي عنده مبالغ، كلهم: (مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ)
  • (مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ) ما نَفعني ذاك المال، ما أفادني ذاك المال، (مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ).
  • بعد ذلك: (هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29))، ضاع من بين يديّ سلطاني، قوّتي، قدرتي.

الآن الحاضر؛ غنيّهم وفقيرهم وأوّلهم وآخرهم، الحُجّة للنّجاة وللبراءة؛ لا يوجد عندهم؛ (هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ):

  • يديه تشهد عليه.
  • رجليه تشهد عليه.
  • عينيه تشهد عليه.
  • الأرض تشهد عليه. 

لا يوجد عنده سلطان، لا يوجد عنده حجة، انتهى، يكذب؟! لا يوجد كذب: 

  • (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ) [المجادلة:18]. 
  • (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ۖ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ ۚ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ) [المجادلة:18-19]. 

بعد أن تشهد عليهم، ماذا بعد ذلك؟!  

  • وهذه صورهُ أمامهُ، وهذه الأرض تشهد، وهذه اليد تشهد، وهذه العين تشهد، وهذه الأذن تشهد؛ ويدخّلونه بعد ذلك الى النار. 
  • يرجعون على أعضائهم وعلى جلودهم، عنكم كنا ندافع؟! والآن تفضحونَنا؟! 

(وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا)؟ الجلود ترد عليهم في النار يقولون: 

  • (أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) [فصلت:21]، نسيتم هذا الإله وعظمته واغتررتم بالزّخرف القليل الحقير، نحن عبيد هذا الإله الذي خلقنا وخلقكم، (أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ).
  • ماذا يقولون بعد ذلك؟! ما أجهل الإنسان! ما أحمق الإنسان! (قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) [عبس:17-18].

العبر أمامه وهو يقول: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ ۜ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)) ما لي حُجة الآن، وبعد ذلك؟! ألم تكن في الدنيا نافذ الكلمة؟! لا شيء الآن، أما كنتَ من صنَّاع القرار؟ انت؟! 

  • لا شئ الآن: (هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) أما كنت الرئيس المهاب في دولة من الدول؟! أين وَكنت أين؟! 
  • (هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) ما عندي سلطان؛ هلك، انتهى، ذهب من يدي، لا يوجد شئ (هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ).

يقول الله للملائكة: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ) -غُلّوا يديه لعنقه وقمِّطوه- (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31))، صَلُّوهُ؛ احرقُوه، شوّوه فيها، (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ)؛ لأنه هو رَضِي بجحيم الغفلة عنّا والبعد منّا والمعاندة لأمرنا ورسولنا، خذ هذه النتيجة: (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا) -ذراعهم بعضهم أكبر من بعض، الذراع التي عنده- 

  • (فَاسْلُكُوهُ (32)) يعني اسْلُكُوهُا فيه، أدخلوها من فمه تخرج من دبره، يُقمِّطونه بعد ذلك. 
  • (فَاسْلُكُوهُ) قمّطوه: 
    • (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُّقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا) دعوا على أنفسهم بالوَبال والثُّبور. 
    • (لَّا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا) [الفرقان:13-14]. 
    • هلاك كبير، كثير عليكم، نعوذ بالله من غضب الله!. 

(خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا) وهو والكفار الكبار، غلظ الجلد مسيرة ثلاثة أيام، كم الذراع التي عنده هذه؟ سلسلة على قدر الأذرع -سبعون ذراعا من التي عنده- و يُسلسلونه بها، الله! 

(ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32)) هذا نتيجة ماذا يا رب؟! هذا في واقع الأمر، والحقيقة عن ماذا ينتج هذا؟ 

  • (إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33)) نسي ربّه، نسيَ إلهه، الذي في كل شيء له آية تدل عليه، عينه وأذنه؛ كلها دالة على الله وعلى عظمة الله، والأرض والسماء والهوى والغرس. 
  • ثم يأتي يقول: لا يوجد إله، ولا يقوم بطاعته، ولا يتحرّز مما حرّم عليه ونهى، نسي الله: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ) [الحشر:19]. 

(إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33))، هذا رأس الشّرّ والمصيبة؛ ثم يتبعه الأعمال: (وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)) مسكين! 

  • لا يخرِّج الزكاة. 
  • لا يُعطي المحتاج حقه. 
  • حريص على ماله. 

(إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35))

  • يعني الصداقات والعلاقات الطيبة ما حَام حولها أصلا. 
  • بنى علاقاته في الدنيا على أساس الشهوات والملذات الفانيات في مخالفة الآيات البيِّنات، والخروج عن الرسل. 

(فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35))،، انتهى؛ لا توجد له صداقة، وهم كانوا يسمون أنفسهم أصدقاء، لا يوجد صديق، (وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا) [العنكبوت:25]، ما في صداقة، لو كان صادق أحد في الله.. 

فإن خَاللت أو آخيت *** فَفي الله فَاجعَل مَن تُؤاخي

تُآخيه في الله؛ علاقة طيبة، هذا صديقك موجود يتفقّدك وتتفقّده، ثم في القيامة لا يجدون فلان، أين فلان؟ أين فلان؟ في ظل العرش، على منابر من نور، إخوان في الله؛ هذه الصداقة، هذه الصداقة؛ الله يُبيّن لنا بهذه الآيات علائق الخلق بأصنافها المختلفة، لا شيء إلا ما قام لوجه الله، سمعت! كلّ العلاقات في الأرض تقوم على غير قصد وجه الله ليست بشيء؛ (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35))

  • (مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) [الصافات:25-26]. 
  • (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا) [الأعراف:38]. 
  • (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ) [البقرة:166]. 
  • (فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ ۚ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ): 
    • نحن كنّا الظّالمين، مَن قال لكم تتّبعونا؟! في زمانكم أَولياء وأَصفياء وناس خيّرين، أنتم أتيتم ورانا، اللّوم عليكم، اسكتوا. 
    • (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ) [ابراهيم:21]؛ لا توجد فائدة، لا إله إلا الله! 
  • (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ)، قالوا: (إِنَّا كُلٌّ فِيهَا) نحن وإياكم وسطها، اسكتوا، لا توجد صداقة، أين تلك العلاقة؟! والدولة الصديقة والشقيقة، أين ذهبت؟ جماعة الأصدقاء، أين ذهبت؟ لا توجد صداقة؟! (إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ) [غافر:47-48]،

الحكم رجع لصاحبه، واستَبان عنّا الوهم الذي كنّا فيه، أنّه لا حاكم إلّا هو: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) [يوسف:40].

(هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35))، حَمِيمٌ يعني صديق، (وَلَا طَعَامٌ) ولا طعام، وهو عائش ملهوف على الطعام، أهمّ شئ عنده الطعام، عاش عيشة عبْد البطن والطعام، هنا لا يوجد طعام؛ (إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36)) من صديد، الصديد عُصارة أهل النّار الذي يخرج من فروج الزّنا والزّانيات؛ هذا طعامهم، كان عنده عقلية الطعام أهم شئ في الحياة؛ طعام من حرام، من حلال، من ربا، ما يكون في الحياة من طعام، خذ الآن، لا يوجد طعام إلا هذا: (وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَّا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37))، الذين وصلتهم الدّعوة ورفضوا، الذين ردّوا أمر الله -جلَّ جلاله- (لَّا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ)، وأقسم ربنا أن هذا هو الحق. 

اللّهمّ ارزقنا كمال اليقين، كمال الإيمان، نعيش نوقن أنّنا نرجع إليك وأنّنا نُلاقي حسابنا؛ فتملأ قلوبنا بالإيمان وبِاليقين؛ ترزقنا الاستعداد لهذا المصير وترزقنا حسن المسير، حتى نلقى البشير النذير، ونُرافق السراج المنير، ونرد على حوضه مع أوائل الواردين

يا ربّنا مَن اصطفيتهم من أمته، توردهم على حوضه، طائفة بعد طائفة؛ فنسألك بجاهه عليك، أن تُوردنا في أوائل الطوائف الواردين على حوضه المَورود، تسقينا منه شرابا لا نظمأ بعده أبدا، وتحلّنا معه في جنات الخلود من غير سابقة عذاب ولا عِتاب ولا فِتنة ولا حِساب. 

يا كريم، يا وهاب، يا خير مسؤول، يَا أَكرم مأمول، نُلحّ عليك، نُلحّ عليك، نُلحّ عليك طالبين أن تُدخلنا جنتك بفضلك ورحمتك، أن لا تُعرّضنا لعذابك، أن لا تُعرّضنا لغضبك، أن لا تُعرّضنا لسخطك، أن لا تُعرّضنا للنّار. يا ربِّ لا آتيت أحدا منّا كتابه إلا بيمينه، يا ربنا لا آتيت أحدا منّا كتابه إلّا بيمينه، يا ربنا، يا ربنا، يا ربنا، يا ربنا، يارب لا آتيت أحدا منّا كتابه إلا بيمينه، وأدخلنا جنتك بغير حساب مع الأحباب، أهل حضرة الإقتراب، يا كريم، ياوهّاب، يا أكرم الأكرمين، يا أرحم الراحمين.

أنت تستجيب الدعاء وهذا شهر القبول عندك وشهر الوجهة إليك؛ فَبمُحمد وما أنزلت عليه، والقرآن الذي أَنزلته عليه، ورمضان وما تتفضل فيه، اجعلنا من أهل جنتك، أعطنا كُتبنا بأيماننا وأدخلنا جنّتك بغير حساب يا كريم، يا وهّاب، ياالله! مَن حضر ومَن سمع وجميع أهلينا وأهليهم وأَولادنا وأولادهم وأقَاربنا وأقاربهم وجِيراننا وجيرانهم وطلّابنا وأصحابنا وذوي الحقوق علينا، أعطنا أجمعين كُتبنا بأيماننا، وأوردنا على حوض نبيّك في أوائل الواردين، وأدخلنا معه جنّتك مع السّابقين من غير سابقة عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب، برحمتك يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الرّاحمين. 

واجعل في أهل هذا الفضل العظيم، تأتيهم إياه عبدك سالم بن علي الحامد الحدّاد، وزده من هذا العطاء الوافي والإمداد والإسعاد ما أنت أهله يا كريم .. يا جوّاد، وافعل كذلك بموتانا وافعل كذلك بنا وافعل كذلك بأهلنا وزدنا من فضلك ما أنت أهله يا متفضل، يا منعم، يا متطوّل، يا حيّ، يا قيّوم، يا مَن يَهَبْ ولا يُبالي و يقبل ولا يُبالي، ولو لم تريدنا إلى ما نرجو ونَطلبه من فيض فضلك، ما ألهمتنا الطلب، فيا مَن لم تحرمنا الدعاء، لا تحرمنا الإجابة، دعوْناك كما أمرتنا، فاستجِبْ لنا كما وعدتنا، إنك لا تخلف الميعاد. 

بسر الفاتحة 

إلى حضرة النبي محمد

 اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه و سلم، 

الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

11 رَمضان 1440

تاريخ النشر الميلادي

15 مايو 2019

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام