(535)
(365)
(605)
تفسير الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ لسورة الحاقة، من قوله تعالى: {وَجَاء فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ }، الآية 9
﷽
(وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13))
الحمدلله الملك الحق المُبين، يقصُّ علينا أحسن القَصص ويتلو علينا الآيات مُبيَّنات على لسان خير البريّات؛ لنزداد في اليقين، ولنتمكّن في المعرفة، ولِتنكَشف لنا الحقائق، ولنثبت على قَدِم خِيار الخلائق.
له الحمد شكرًا وله المَنُّ فضلًا، أرسل إلينا عبده المُصطفى المُجتَبى المُختار الناطِق بالحق، والدّاعي إلى الهدى حبيب الإله سيّد الخلق، المُنقِذ من الرَّدى، مَن علَّمه الله ما لم يكن يعلم، ثم قال لنا: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) [ البقرة:151].
اللهم فَصَلِّ وسلِّم على عبدك الأكرم سيدنا محمدٍ وعلى آله الطاهرين المُرتَقين به عَلِيَّ القِمَم، وعلى أصحابه المُخلصين الصادقين الذين انتَهَجُوا في أشرف مَنهَجٍ ولَقَم، وعلى مَن تَبِعهم بإحسانٍ على ممرِّ الأيام والسنين إلى يوم الهَولِ الأعظم، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين سادات أهل الفَضل والكَرم، وعلى آلهم وأصحابهم والملائكة المُقرّبين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا رحمن يا أكرم.
وبعد،،،
فإننا في غُدُواتنا المُباركة في أيام رمضان بتوفيق ربنا الرحمن -جلّ جلاله- نتأمّل آياتٍ من كتاب الله -تبارك وتعالى- في الشهر الذي أُنزِل فيه القرآن، طهّرنا الله بذلك عن الأدران، ورَقّانا إلى أعلى مكان، وأصلَح لنا السِّر والإعلان، وثبَّتَنا على ما يُحِب مِنّا ظاهراً وباطناً إنه الكريم المنَّان.
وصلنا في سورة الحاقة إلى قوله تعالى:
الْمُؤْتَفِكَات: أصحاب القُرى التي اتفقت على أهلها فانقلبت، فصار عاليها سافلها، وهم قوم سيدنا لوط وعلى نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام.
(وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ) -جاءوا- (بِالْخَاطِئَةِ (9)): شِركَهم بالله، تكذيبهم لأنبياء الله، استبداد فرعون واستعباده للناس، وفِعل الفواحش والمنكرات من قوم لوط؛ جاءوا بالخاطئة، وهكذا اقتضت حِكمة الله أن يكون في الأرض كُفّار وفُجّار وعُصاة في كل زمان، يجعلهم حطبًا وقودًا لجهنم التي: (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) [البقرة:24] والعياذ بالله تبارك وتعالى.
(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [يونس:99] فما مُهمّة مَن أُكرم بوَعي الحق إلا:
وليس له من الأمر شيء، بل الأمر لربّ كل شيء، وخالق كل شيء: (وَلَٰكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [السجدة:13]، لا إله إلا هو -جلّ جلاله-، فنسأله أن يثبّت قلوبنا وأن ينقّيها وأن يرفعنا مراقي قُربه مع خواصّ مَن أحبَّ وارتضى إنه أكرم الأكرمين.
حدثنا عن ثمود وعن عاد: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4)) وأنّهم هلكوا، وهؤلاء الذين ذكرهم الله في القرآن،
أمم .. أمم، طوائف .. طوائف، طوال .. عِراض، كبار .. صِغار، الذي قال والذي قال والذي قال؛ كلهم عدّوا، كلهم مرّوا،لا إله إلا الله.
ما مقدار مَن هم موجودون الآن على ظهر الأرض بالنسبة لمن مرّ؟ ليسوا بشيء بالنسبة للطوائف الذين مروا.. الله! الله! الله! الله! الله!، ملايين الملايين الملايين بأفكار مُختلفة مُتشابهة مع ما هو موجود، ذهبوا كلهم.
وهؤلاء كذلك يذهبون، يبقى الباقي، ويحكم بين الخلق يوم التّلاقي جلّ جلاله؛ (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ) -لا أحد يرجع منهم إلى الدنيا، سبق القول أنهم إليها لا يعودون،- (وَإِن كُلٌّ) -الذين ذهبوا والموجودين والذين أتوا بعدهم- (وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ) [يس:31-32] فالجميع حُبِس، أولهم حتى يأتي آخِرُنا، وإذا وصل آخرنا جاء وقت النفخة الأولى والثانية، (فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ) [الزمر:68-69].
هؤلاء كذلك لا تقلق بشيء؛ الرب هو الرب، والإله هو الإله، والكل راجع إليه -جلّ جلاله وتعالى في علاه-: (وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ) [يس:32]، أَيْنَ فِرَعُونُ وَهَامَانُ وَمَنْ مَلَكَ الْأَرْضَ وَلَّى وَعَزَلَ، أَيْنَ؟
سيُعيدُ اللهُ كلاًّ منهمُ *** وسيجزي فاعلاً ما قدْ فعلْ
يقول سبحانه وتعالى: (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ) [القمر:52-53]، كلٌه مُسطّر مُسجّل ويأتي يوم الحساب للجميع، لا إله إلا الله.
(وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ ..(9)) جماعاته وقوم من الأقباط الذين شايعوه وناصروه والذين استخفهم فأطاعوه، (وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ) -من قَبله أممٌ كثيرة-
(وَالْمُؤْتَفِكَاتُ)، أصحاب القرى المؤتفكة: قوم سيدنا لوط؛ تِسع قُرى، أقلّ قرية يسكنها مئة ألف، حمل التسع قرى من الأرض -سيدنا جبريل عليه السلام- بريشةٍ من جناحه وصعد بها فوق، ثم قلَبها، وأُتبِعوا بالحجارة من السجيل: (وجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا) [هود:82]، لا إله إلا الله.
جاؤوا (بِالْخَاطِئَةِ) بالخطايا:
(فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ ..(10)) عصَوا كلٌ منهم الرسول الذي أُرسل إليه؛ لأن الرسُل مُتّحدين في الدعوة إلى الله، عدّهم كلهم واحد:
آية قال: (إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ)، وهذه (رَسُولُ) واحد؛ فالرسل -صلوات الله عليهم وسلامه- شيءٌ واحد.
(فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) -هؤلاء موسى وهؤلاء لوط، عصَوا رسول ربهم- (فَأَخَذَهُمْ..(10))؛ (فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ۖ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ * وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ۚ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود:101-102] والعياذ بالله تبارك وتعالى.
(فَأَخَذَهُمْ ..(10)) قال سبحانه وتعالى، وقال في آيةٍ أخرى يقول: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ) [العنكبوت:40] فكلا أخذنا بذنبه، طوائف من الناس أفراد كثيرين، يقول -جلّ جلاله وتعالى في عُلاه-: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ:
هذا المصير لتلك الأمم كلها (فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً (10)):
يقول -سبحانه وتعالى-: (فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً (10)) قاصمة لهم، شديدة عليهم، أنهتهم، يقول -جلّ جلاله وتعالى في عُلاه-:
(فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً (10))، (فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ) [القمر:42]، يخاطبنا الحق؛ ليسمع كل واحد من المؤمنين من أمة ما في أي زمان كان: (أَكُفَّارُكُمْ) -يا مؤمن بمحمد مَن في زمنك ووقتك من الكفار- (خَيْرٌ مِّنْ أُولَٰئِكُمْ)، هل هم خير من أولئك؟!
أمثالكم كثير؛ (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) [ق:15]؟
(وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً (10))، يتنزّل لنا الحق يُعلّمنا، يُبصّرنا، يُفّهمنا؛ كلكم الموجودين من أمة محمد على ظهر الأرض الذي أرسلتُ إليكم هذا النبي من جميع بني آدم -عربهم وعجمهم- كنت ركّبتكم في سفينة نوح، ونجّيتكم من الغرق، وأهلكت كل الذين كذبوا بنوح؛ واليوم تأتون من بعد وتعملون هذه الأفاعيل كلها، تنسون هذه الحقيقة.
يقول الحقّ -سبحانه وتعالى- مُخاطبا إيّانا: (إِنَّا) -سبحانك! ما أعلى عظَمَتك!- (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ ..(11))، مرّت أيّام وساعات على ظهر الأرض، الماء فيها طاغي لا يُمكنكم أن تحيَوا فيه أبدا، أنتم تشعرون وتُحسّون وتُشاهدون أمام عيونكم؛ أنّكم لا تستطيعون الحياة وسط الماء، وأنّكم تموتون وتغرقون، والماء قد طغى وأحبط طُغيان الماء بعينٍ من عِناياتنا راعَيْناكم وجعلناكم في أصلاب أهل السفينة.
(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ ..(11)) لك الحمد، نِعم الحامل أنت، نِعم المُوجد أنت، نِعم الخالق أنت، لا إله إلا أنت.
(حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11)) بعد هذا الكلام الواضح البيّن، يأتي أحد لمّا يذكر بعض صلحاء الأمة وأخيارها تنقّل الرّوح له من الأصلاب، وهؤلاء في العالم يقول: أوه هذا خرافات؟! كلام ربك يا قليل الأدب! يا قليل العلم! يا قليل الفهم! يا قليل المعرفة! يا قليل التّدبّر!
(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11))؛ بل هذا المعنى هو ما ذكره سيدنا العباس بن عبد المطلب للحبيب وقرأه عليه وما أنكر عليه شيء ﷺ، من قبلها؛ يقول:
من قبلها طبت في الظلال وفي *** مستودع حيث يخصف الورق
من قبل -الدنيا وحياتها- طبت في الظلال، -كنت في ظلال الجنة هناك مع آدم- وفي مستودع حيث يُخصف الورق (وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ) [طه:121].
تنقل من صالب إلى رحمٍ * إذا مضى علم بدا طبقُ
حتى احتوى بيتك المهيمن من * خندفَ علياء تحتها
ثم هبطت البلاد لا بشـــرٌ *** أنت ولا مضغةٌ ولا علقُ
بل نطفة تركب السفين وقد *** ألجم نسرا وأهله الغرقُ
تنقل من صالب إلـــى رحيمٍ
في بعض روايات الأبيات يقول فيها:
وردت نار الخليــــل مكتتماً *** في صلبه أنت كيف يحترقُ
ما يحترق سيدنا الخليل إبراهيم وأنت وسط صُلبه ومن صلبه، وسيأتي إسماعيل جدك، وسيأتي إسحاق عمك، كيف يحرقونه؟! ما يقدرون يحرقونه: (يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ)[الأنبياء:69]، النبي لم يقل له: من قال لك في الأصلاب؟ كيف تأتي بالكلام هذا؟ والعبّاس كيف أدرك هذا؟! كيف وصل فهمهم إلى هذا؟ فهو أمر معلوم بين الصّحابة؛ ما فيه إشكال، يعملون بَلْبَلة على بعض الصّالحين والأولياء بجهل .. بغفلة.. بغفالة.
(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11)) فِي السَّفِينَةِ:
إذا اتّفقت البُنوّة مع الأُبوّة في الأصل، تمّ الاشتراك بينهم في شؤون ذلك الأصل الذي اتّفقوا عليه: خيراً أو شراً، نوراً أو ظُلمة، حقاً أو باطلاً؛ لهذا نجده يُخاطب اليهود الذين في زمن النبي محمد (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللَّهِ) [البقرة:91].
هم أدركوا مَن مِن أنبيائهم؟! لم يروا أحدا، ولا حصّلوا واحد! أجدادهم -أصولهم- قتّلوا الأنبياء؛ هم على طريقة أجدادهم، فاتفقوا معهم، لم ينكروا عليهم ذلك، فنُسِب إليهم، الله! فهناك شيء بين البُنوّة والأبوة وبين الأصول والفروع، لابد أن يُحذَر، ولابد أن يُعرف قدره؛ مُشار إليهم في الآية:
ما هذه الترابطات؟ ما هذه التواصلات بين الأصول والفروع؟ ومَن كان له أُصولٌ شريفة كريمة، وَوَالَاهُم واتّفق معهم على الأصول، سَرَت خَيْريّته إليهم، وامتدّت بركتهم عليه، وهكذا..
هذه شؤون واردة، لا تتعارض ولا تتناقض أبدًا مع الأصل الثّابت أنه:
ومع ثبوت هذا الأصل أنّ الله لا يُؤاخذ آخر بذنب آخر، وأنه يرى سَعيَه ومع ذلك يتفضّل برفعة درجة هذا، وزيادة خير هذا، وربط هذا بهذا؛ فالآيات كلّها مترابطة:
إلى أن ينتهي العلم بالحقائق في الخلائق إلى حبيب الخالق ﷺ، فلا أعلم منه بأسرار حكمة الله ولا بحقائق الوجود -ما أحد أعلم منه- وفوقه الله: (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) [النساء:113] -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-.
ومِن أعلم الخلائق بأسرار الخلق والوجود، الملائكة، ومع ذلك فهم أصحاب الشعار المذكور في القرآن:
اللّهمّ أعنّا على ذِكرك وشُكرك وحُسن عبادتك.
قال لنا ربّنا: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11))؛ صَدقْت يا ربّنا، وما بقي من بني آدم إلا مَن حملتهم في الجارية؛ السفينة التي تجري بعينك في ماءٍ طاغٍ، مع طُغيانه طغى على الجدران وعلى الحواجز، على السدود، على الجبال، سمعت!! ولكن ما قدر أن يطغى على السفينة، أيّتها أقوى الجبل أم السفينة؟!
قال تعالى: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11))، قال سبحانه وتعالى:
وجرت السفينة (بِأَعْيُنِنَا) رعايتنا وعنايتنا، ماء طاغي أهلك جميع من في الأرض ولا وقف عند حدود سد ولا جبل ولا جدار، ولكن عند السفينة أديب!!
وبعد ذلك هلك كل أحد: (يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي) -سبحان رب الأمر- (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ).
(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً) أمْر السفينة وبَقاءها سنين، حتى يُقال إن أوائل الأمة هذه أدركوا نفس الخشب للسفينة.
(لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً):
(لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12))، أذن سامعة.. مُطيعة.. حافظة.. تُدرِك الحقائق، (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) وهكذا:
كلهم وُعاة وعلماء؛ ولكن لكلٍ ميزة وخصوصية أعطاه الله إياها، (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)) وفي رمضان كثير ما يكرم الله بالوعي من شاء من أهل طهر الجنان، وسمعتم قول الامام عيدروس بن عمر الحبشي: "إن الله يُجدّد لي فتحا في كتابه العزيز في رمضان في كل سنة لم يكن معي في العام الذي قبله".
(وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) ثمان ليال مرّت عليك من رمضان ربع كامل اكتمل، بدأنا في الربع الثاني من أرباع رمضان المبارك:
(وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) اللهم افتح لنا فتحا مبينا في تدبر القرآن وفهم معانيه، والاطلاع على أسراره والاغتراف من بحر علمه، والاهتداء بدلالة رشده، واجعله لنا شاهدا عندك في العمل بما دعانا إليه يا أكرم الأكرمين.
وانت بين يديك ومعك أيام مُباركة؛ أحسِن طرق بابه فستجده نعم المسؤول، نعم المَطلوب، نعم المَدعو، نعم المَرجو، نعم المُؤمَّل، نعم المُتَوجَّه إليه، قال:
يقول: انظروا يدعوني وأنا أعطيهم؛ المعنى: وأنتم اطلبوا.. وأنتم اسألوه، وستجدوني؛ (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) [البقرة:186]، سمعته يقول: (فَإِنِّي قَرِيبٌ) ماذا قد يبقى معك إلا أن تنطرِح عليه وتجتمع عليه وتقول: يا رب؛ فستجده مجيب قريب: (فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي) ينظرون، هل سيجدون أحدا أحسن مني في المعاملة؟ إذا عاملوني أحسنت لهم من المعاملة: (أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) [البقرة:41].
اللهم ارزقنا الإنابة إليك والاقبال الصادق عليك، يا نعم المُجيب، يا أكرم مُستجيب، يا ربنا يا قريب، بسيدنا الحبيب طهّرنا طُهرا، وهب لنا أجرا، وارفع لنا قدرا، وارفع لنا عندك ذِكرا، وتولّنا في الدنيا والأخرى، ولا يأتينا بها الشرّ طُرا، وتجمعنا بها مع أهل الذُّرا، في المقامات الكُبرى، وأنت راضٍ عنّا، يا من علِم سِرّنا وجَهرنا، يا مُطّلعِاً على ضمائرنا، يا من هو أعلم بنا من أنفسنا.
يا حي يا قيوم يا رحمن يا رحيم، اجعل لنا في رمضان هذا من عطائك العظيم، ومّنِّك الجسيم، ما نرقى به على مراتب التكريم، مع كل كريم، ونثبت به على صراطك المستقيم، وتثبّتنا به عندك في أهل الحظ العظيم وتؤتينا الفضل العظيم يا ذا الفضل العظيم يا من (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [آل عمران:74].
لا إله إلا أنت، آمنّا بك فعامِلنا بفضلك ومُنَّ علينا بوصلِك وامنحنا كريم طَولِك، واربطنا بخاتم رُسِلك، ربطا لا ينحلُّ أبدا، ولا ينفكُّ سرمدا؛ نرقى به إلى أعلى مراتب الاتصال بذلك الجَناب، في أعلى درَج الاقتراب، في الاتصال الأسنى بسيد الأحباب، يا كريم يا وهّاب
شرِّفنا بكشف الحجاب، عن سميع حضرة قاب، في مقام الاقتراب، وأدخِلنا عليك من هذا الباب، يا وهّاب، يا الله يا نعم المُجيبون يا أكرم الأكرمين يا عالم الظهور والبطون، جمعتنا على هذا الوحي فأكرِمنا بنور الوَعي، وأثبِتنا في ديوان أهل الصدق معك من أهل الاستقامة، وأتحِفنا بالكرامة، ولا تُفرِّق بيننا يوم القيامة واجمعنا في دار الكرامة أمين، يا نعم المُجيبون آمين، يا نعم المُجيبون آمين، يا نعم السامع يا نعم المُستجيب يا نعم المُعطي يا نعم القريب يا حي يا قيوم يا الله.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي محمد
اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه
الفاتحة
09 رَمضان 1440