(575)
(536)
(235)
الدرس الرابع من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الجاثية، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1445هـ ، تفسير قوله تعالى:
{ هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) }
الخميس 18 رمضان 1445هـ
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله على نعمة تأمل آيِ الكتاب وتفهم البيان والخطاب من رب الأرباب المُوحَى إلى سيد الأحباب، سيدنا محمد عالي الجناب صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرم عليه وعلى آله وأصحابه خير آلٍ وخير أصحاب، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم المآب، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، أحبُّ الخلائق إلى رَبِّ الأرباب، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، والملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
أما بعد؛
فقد تأمَّلنا بعض معاني كلام ربِّنا في أوائل سورة الجاثية، حتى وصلنا في وسطها إلى قوله -جَلَّ جلاله- (هَٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)):
وبعد كونه بصيرة؛ تُوضِحُ الحقيقة فيه أنَّ الكائنات محتاجة إلى مُكَوِّنٍ، وأنَّ المُكَوِّن عظيم قدير واحد، بعد هذه البصيرة في هذا القرآن وما جئت به.
وهكذا قال تعالى في الآية الأخرى: (قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ) [الأنعام:104]. فالبصائر هذه الآيات التي جاء بها خير البريات صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فهي للعقول والقلوب كمثل النور للبصر. وهل يُنتَفَعُ من البصر من دون نور؟ فكذلك لا يُنتفع من العقول والقلوب بدون وحي الله وبدون تعليم الله.
قال: (هَٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20))، رزقنا الله كمال الإيمان واليقين، ووفَّرَ حظّنا من البصائر بالآيات المباركة، وجعل القرآن لنا هدى ورحمة (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ۖ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) [فصلت:44]. (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ) [التوبة:124-125] -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
(هَٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20))، قال الله: وتأمّلوا في دِقَّةِ خَلْقِنا لهذا الوجود، وإعطائنا لهذا المكلف من الإنس والجن الاختيار في جوانب، فحادوا بها عن سواء السبيل أكثرهم، وظلم بعضهم بعضا، وآذى بعضهم بعضا، ولم يستووا؛ فكان منهم المُحسِن والمُسِيء، وكان منهم النافع وكان منهم الضار، وكان منهم المساعد وكان منهم المؤذي، وكان منهم المؤمِّن وكان منهم المخيف المرعب.
فهل من المعقول أن يمشي الناس هكذا ويتصرفوا بما أوتوا من قدرة وإرادة واختيار.. ثم لا يكون حساب، ولا يكون جزاء، ولا يكون عقاب؟ هذا مَن يرتضيه؟ أيَّ عاقل يرتضي هذا لمن له يَدْ عليه أو وُلِّي عليه؟ يجعلهم يظلم بعضهم بعض ولا يوجد حساب على أحد! والمُسئ كما المُحِسن! والمؤذي كما النافع! والمؤمِّن مثل المرعب والمخيف! كلهم سواء! كيف كلهم سواء؟ هذا يتناقض مع القدرة ومع الحكمة؛ فكيف بقدرة الذي كوَّن السماوات والأرض وما بينهما أو خلق ما فيهما! هو عبث خلق الناس؟ خلق الناس باطل؟!
قال سبحانه وتعالى: ثم من العجب أن هؤلاء الذين يكفرون ويعاندون الرُّسُل ويخالفون.. يقولون إذا في آخرة نحن مثلهم وأحسن منهم هؤلاء المؤمنين! عجيب! يعني: التصوّر عندكم عن عظمة الإله إلى هذه التفاهة تصورتموها!
(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ ..(21)) اكتسبوها وجرحوا أنفسهم بها!
(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ) - يعني: محياهم ومماتهم سواء- (..سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21))، هذا الذي لا يمكن أن يكون ولا أن يتم عند كل ذي عقل؛ أن يكون مُجتَرِح السيئات من الكفر والذنوب كمثل المؤمن العامل للصالحات!
ففي عقل مَن المتساوون هؤلاء؟! ولذا وجدت في كل الدول وفي كل الأحزاب والأنظمة تدين هذا وتقبض على هذا، وتجعل عقاب على هذا؛ لأن الناس ما هم سواء! وإذا كان هذا فيما يدّعونه هم -وإن كانت أكثر الأنظمة قائمة على النقص وبعضها على الجور وبعضها على الهوى- ولكن مع ذلك ما يرضون لأنفسهم أن يقولوا في أيّ دولة ولا في أي حزب الذي يصَلِّح والذي يخرِّب سواء! والذي ينفع والذي يضر سواء! ما أحد يقدر يقول هكذا!
فكيف ظننتم أنّ الكون هكذا يمشي ثم يمضي الناس بلا حساب! فأين عظمة الذي كَوَّن؟! وأين حكمته الذي دبَّر وسيَّر الأفلاك ورتَّب الشمس والقمر؟!
ما النظام هذا كله؟ وبعد ذلك يفوت عليه أن يقضي بين الخلق ويحكم بينهم.. هل معقول هذا؟! ما يُمكن!
(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ..(21))؛ أبدا ما يستوون.
في المَحْيَا المؤمنون والذين عملوا الصالحات لهم من الألطاف والطمأنينة والعناية الإلهية ما ليس للكفار والفجار، وإن كان شؤون التقلبات والظروف والأحوال تُصيب ذا وذا:
فهذا الذي تقتضيه حكمته وعدله، وتدلّ عليه، هذا التكوين وهذا الإيجاد وهذا الإبداع وهذا الاختراع.
يقول: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21))، ساء الحكم حكمهم، فلا يَقبل هذا عقل ولا منطق، ولا يقوم على أي أساس من العلم والمعرفة. بل لا يستوي المؤمن والكافر، ولا يستوي عامل الصالحات وعامل السيئات، ولا يستوي المُصلِح والمُفسِد، ولا يستوي النافع والضار، ولا يستوي المُحسِن والمُسيء.. أبدا.
وفي الممات هؤلاء يموتون (وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ ۖ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ) [الأنعام:93]، وهؤلاء يموتون يبشرون عنَّد الموت بلقاء الله والرضوان عنهم فيَفرحون لذلك ويحبونَ لقاء الله، ثم هؤلاء في البرزخ في عذاب وهولاء في نعيم ثم في القيامة كذلك ثم في الجنة كذلك.. ما هم سواء، لا المحيى سواء ولا الممات سواء، الذين اغتروا بشيء من المال كبعض الكفار قالوا: أنتم أكثر أتباع محمد ﷺ؛ خصوصا في البداية أكثرهم فقراء وضعفاء، والكفار والملحدين فيهم أغنياء فيقولون لهؤلاء ما هذا الصدق عندكم .. نحن أحسن منُكم، كما نحن في الدنيا أحسن منُكم لدينا أموال ولا أحسن منهم في الدنيا ولا في الآخرة لكن هكذا التصورات والظنون الباطلات، وتنكشف الحقيقة للكل بعد ذلك.
يقول: (سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21))، قال كما قال هذا: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا) [مريم:77]، قال: بعد ذلك في الآخرة سيكون لديهم أموال وأولادهم تعالوا أعطيك حقك هناك استهزي بالمؤمنين؛ (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْدًا) [مريم:78] من أين يأتي بالكلام هذا قال: (كَلَّا ۚ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ) [مريم:79]. وإذا جاء القيامة ماذا سيحصل؟ (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا) [مريم:79-80]، هيا الآن هات الذي عندك؛ (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء:88-89].
يقول الله تعالى ارجعوا إلى حكمتي وما أريتكم وأشهدتكم من عظمتي، يقول:
(وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ..(22))، فلا يتناسب الباطل أبداً بأنواعه مع حكمة خلق السماوات والأرض؛ خلقها الحكيم القادر بقدرتهِ الباهرة ليدل على عظمته (وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ..(22))، يكون النهاية من هذا الخلق البديع والتكوين الرائع العجيب جزاء كل نفس بما كسبت. وأنتم يا معشر الذين أعطيناكم إرادة واختيار في الدنيا تعالوا خذوا الجزاء: من أطاع ومن عصى، من آمن ومن كفر.
(وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ..وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ(22))، لا يمكن أن يكون الجزاء إلا مطابقاً للواقع:
(..وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22))، لكن انظر مع هذه الآيات الواضحات والدلائل القاطعات ماذا تصنع بمن نسي الإله؟ الذي خلقه وعظمته وحكمته ورحمته ونعمته التى أنعم بها عليه ووحيه الذي أوحاه وكتبهُ التي أنزلها ورسوله الذي رسلهم؛ وجعل الإله هوى، وباع نفسه لهوى تغلب عليه كأن الهوى خلقه وكأن الهوى يجازيه وكأن الهوى مرجعه إليه، ضلال في ضلال وسقوط في سقوط.
(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ ..(23))، فهؤلاء الذين لا يدركون شيء من هذه الحقائق قرأنا: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ..(21))، أصفياء وأوفياء من الصحابة ومن التابعين وتابع التابعين كان يسهرون عليها ويبكون لها:
أثرت الآيات فيهم، أن قلوبهم فيها قابلية لفهم الخطأ لإدراك المعنى وأرواحهم تناسبت مع الآيات، ونقرأها وما كأنّا قرأنا شيء، ويبيت طول الليل وهو يفكر في معنى الآية.
(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ ..(23))؛ نسي خالقهُ وإنعام عليه وإفضالهُ، والتكوين البديع الذي أمامه وإرسال الرسل وإنزال الكتب ويدلُّونه؛ هذا الذي خلقك وصفه كذا وخلقك لكذا ومرجعك له تناسا هذا كله، وراح في هذه الحياة يعبد الهوى -أي: ما تهوى نفسه ما تشتهيه- ما له رادع ولا له أمل، مع ذلك كله فعبدت الهوى هؤلاء سلط الله عليهم من يجعل بنظامه وقانون بهواه عليهم ويحكمهم، ثم يقول: هواكم في حدود كذا وكذا وكذا، بعد ذلك نظام كذا مفروض عليهم، قوانين يسمونه في العالم، والحق -تبارك وتعالى- قد تولى تخليص الخلق من شر هذا الهوى، وأنزل النظام، تركوا نظام الله وراحوا عملوا أنظمة من عندهم، فما زادتهم إلا جُرمًا فوق جرم، وظلما فوق ظلم، وأذىً فوق أذى، وتعبًا فوق تعب.
قال: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ ..(23)) حتى الأصنام يقول له حجرة تعجبه، ثم نشوف واحدة تعجبه أحسن يرمي هذه ويأخذ هذه، لايوجد إِلَٰهَ أصلا هو هوى، لايوجد إِلَٰهَ! كيف هذا يقول -ما قلت- كانت إِلَٰهَ لك ؟ ما الذي خرب الألوهية حقها؟ لأنها أصلا ما هي إِلَٰهَ فقط هوى ثم ينسى، أحيانًا من تمر أو من حلوى يصنع له صنم، يصلح له إِلَٰهَ؛ كيف إِلَٰهَ؟ أنت شكلته وكونته بيدك وبعد ذلك إن جاع، جاء إلى عنده، لا توجد فائدة منه! يأكل منه! يقرب منه يأكله، ثم يصير معبوده في بطنه؛ هذا كلام كله بعيد عن العقل، بعيد عن المنطق، لا اله الا الله.
(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ) -والعياذ بالله تعالى- (عَلَىٰ عِلْمٍ ..(23)) قد علمه من سوء اختياره، وعلم الله تبارك وتعالى ما سيختار هذا لنفسه، وما سيمضي فيه من حركة، وما يسخّر فيه ما يُعطى من قدرة وإرادةٍ واختيار، فهو قد أوتي ما يمكن أن يتبصَّر به؛ ولكنه مُعاند ومُتكبر (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) [النمل 14]. وقد سبقَ في عِلم الله تعالى ماذا سيختار، فهو على علم أنه ما يُمكن هو والكون هذا يتكوّن من نفسه أصلا مهما غالط نفسه، مهما غالط نفسه، يعرف أنه ما يمكن هذا، ولكن يقول: لا .. لايوجد ..ما في شيء ؛ أنت ما تصدق حتى بورقة من نفسها جاءت مثل هذا، واحد يقول لك انظر هذه بدون أي مصنع ولا أي شيء؛ هذه طبيعة! حتى الكتاب الذي فيه طبيعة والخطوط هذا طبيعة! يقول لك: مجنون أنت .. روح أنت المجنون، مش هذا والكون كله ما فيه، تقول له: ما له خالق! من نفسه جاء! والورقة ذي الصغيرة ما تصدق! إلا أنه في يد خطّتها وحكّمتها وخططتها وكتبت عليها وما يمكن من نفسها تجيء، والكون كله كيف يجيء من نفسه؟ مغالطة يغالط نفسه بنفسه، وهكذا وإذا أعطيته اللطمة، ويقول له: هذي طبيعة .. يعني طبيعة .. طبيعية هي، أصلا طبيعة كذا، أي طبيعة يعمل؟ بيقوم وبيحاسبك عنه، وما هذه الطبيعة التي تقول عنها أنت؟ وما الطبيعة؟ وما هي الطبيعة؟ كل شي له فاعل .. فاعل.. كل فعل فاعل.
(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ ..(23))، هذه الآيات أمامه والحجج ولكن يضل كما إما حسد إما كِبر وإما غرور وزور وينكر الحقائق أمام عينه (وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ).
(وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ ..(23))، فما يستمع الحق ولا الهدى ولا الحجج ولو جئت له بكل شيء.
ما عمل للجماعة الذين رأوا آية ما رآها من قبلهم ولا من بعدهم؟ انشقاق القمر، ما هذه الآية الكبيرة هذه؟! وشاهدوه كلهم وبعدها قالوا: إلا سحرنا محمد، ويردوا على بعضهم البعض، قالوا: ما بيقدر يسحر على الأرض كلهم، يسألون الناس الذين يأتون -كل من ورد- إلى مكة، هل حصل شيء؟ قالوا: انشقّ القمر، قالوا: هل هذا قريب؟ هؤلاء هنا الذين سيأتون في الحج، ثم جاءوا من كل مكان ووصلوا إلى مكة، يسألونهم: نعم في ليلة النصف من شعبان انشقّ القمر؛ شهدها أهل الأرض، حتى وجدوا هذا في بعض كتب في الصين تاريخها بانشقاق القمر، مؤرخة من سنة انشقاق القمر -لا إله الا الله- شاهدها الكل، بسم الله الرحمن الرحيم: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ) [القمر:1-3].
(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ ..(23))، انظر لمحمد ﷺ وجهه يكفيك، كلامه يكفيك، كلامه يكفيك، وشقّ الله على يده القمر لك، وبعدك تكفر! ايش من آدمي انت؟ ايش من عاقل انت؟ ايش من إنسان أنت؟ (وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ)، قال الله لحبيبه خلهم: (وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ) [القمر:3]؛ إلا قد أسماء معينة يختارون هذا الهوى والهوان ويخسرون فيه وأنت منصور ما جئت به هو المؤيد في الدنيا والآخرة (وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ) [القمر:3].
يقول: (وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً ..(23))، فما يهتدي إلى الحق وهو واضح أمامه بهذه الصورة، يقول: (فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ..(23))، أرأيت من كان هذا وصفه يهتدي؟
(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ..(23))، كيف يهتدي هذا؟ فمن يهديه من بعد إضلال الله له بهذا الإضلال كله؟ من الذي يقدر يهديه؟ اللهم اهدنا في من هديت، (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ) [النور:35]. وجعلكم في أمة النبي محمد ﷺ خير الأمم، وجعلكم من المصلين ومن الصائمين وبلغكم رمضان وأكثره مرّّ عليكم؛ وعسى البركة في باقيه إن شاء الله، هدايةً منه لكَ الحمد يا من هديتنا فزدنا هدى.
(أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23))؛ هذه الحقائق والمعنى: عليكم يا من آمن بأن تشكروا النعمة التي أنعمت بها عليكم، وأن تؤدوا الواجب في التذكير والتعليم والتبيين، واعلموا أنه لن يهتدي الخلق كلهم، وسيظل فيهم المسلم والكافر والصالح والطالح، والمفسد والمصلح والخيِّر والشرير، وهذا يختار هذا ويختار هذا، وإلا الحق واضح وبيِّن، لكن أقيموا أمر الله ثم لا تتكبروا على أحد! فإن كثيرًا من الكافرين والمعاندين أهديهم متى ما شئت وأردّهم، وبعض الذين ظهر فيهم الاهتداء أقلِب قلوبهم وأرديهم -والعياذ بالله-. إذًا فكونوا تحت هيبة مُلكي وتدبيري في أدب معي، وشهودٍ لربوبيتي وألوهيتي حتى أثبِّت قلوبكم وتلقوني وأنتم مؤمنون بي وأنا راضٍ عنكم ويصير مصيركم السعادة الأبدية، اللهم أكرمنا بذلك، (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران:8]، يا رب الأرباب.
وجاؤوا هؤلاء في أفكارهم الباطلة الضالة: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ۚ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ ..(24))، كما نتأمل هذه الدلالات العظيمة والإشارات الفخيمة من ربنا فيما يأتي إن شاء الله.
رزقنا الله وإياكم التقوى والاستقامة والتنوّر بنور القرآن وجعله لنا هدىً ورحمة وشفاءً اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا وجلاء همومنا وغمومنا، وشفاءً لصدورنا، اللهم اجعلنا عندك من أهل القرآن واهدِنا فيمن هديت يا رحمن، وزِدنا هدى في كل آن كما أنت أهله بما أنت أهله وفرِّج كروب أهل الإسلام والإيمان واختم لنا بأكمل الحسنى وأنت راضٍ عنا.
بسرّ الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد ﷺ
اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه
الفاتحة
16 رَمضان 1445