(536)
(228)
(574)
(311)
يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1436هـ.
﷽
(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَٰذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8))
الحمد للهِ أرحم الراحمين وأحكمِ الحاكمين، وصلى الله وسلمَ على عبده المجتبى المصطفى الأمين سيدنا محمدٍ خاتمِ النبيين وسيدِ المرسلين، وعلى آله وصحبه الغُرِّ الميامين، وعلى أهل محبتهِ واتباعهِ من الصادقين، وعلى آبائه وإخوانه من النبيين والمرسلين، وآلِ كُلٍّ منهم وأصحابِهم وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعدُ،،،
فإننا في موائدِ كَرَمِ ربِّنا وجودِهِ نتأملُ معاني الآيات في هذه الغدوات المباركات مِن أيام الشهرِّ الأَغَر.
وقد بدأنا نتأملُ معاني سورةَ التين وما أقسمَ الله به مِن الأقسام على أنه خلقَ الإنسانَ في أحسنِ تقويم، وقد جاء في الصحيحين:
حَلَفَ ربُّنا بالتين والزيتون وطور سينين، قد أشرنا إلى اختلاف أهل التفسير في ذلك، وأن الأوضح الأصرَحَ أنَّ هذا التين الشجرُ المعروف والفاكهة المعروفة، وكذلك الزيتون، وأنَّ الله جعل فيهما من الفوائد والمنافع الشيء الكثير.
ثم أَشَرْنَا إلى ما قيلَ أنَّ المرادَ بالتينِ، جبلُ نوح الذي بناهُ على الجودي، وإلى القول الثاني: أنَّ المرادَ بالتينِ جبل دمشق، وبالزيتون جبل بيت المقدس، ومنبتُ التينِ والزيتونِ كثيراً في الشام وفي المقدس، وهو منشأُ سيدنا عيسى عليه السلام ومُبْتَعَثَه، وطورِ سِيناء محلُّ كلام موسى، والبلد الأمين منشأ ومَوْلِد ومَبْعَث سيدنا محمد، وهؤلاء ثلاثةٌ مِن أولي العزم مِن الرسل، أكابر المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم، والأماكنُ مرتبطةٌ بهم.
أقسمَ الله تباركَ وتعالى ليُظهر لنا فضلاً ومزايا في هذا المُقسَمِ به مِن التين والزيتون – سواء قلنا أنهما الشجرة أو الأماكن- والبلد الأمين، وطور سيناء (وَطُورِ سِينِينَ (2))، هو مكان الطور الجبل الذي كلَّم الله عليه موسى عليه السلام.
فبيَّنَ اللهُ فضلَ هذه الأماكن وشرَفَها فحَلَفَ بها: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3))، وعلِمْنَا أنَّ طور سينين هو طور سِينَاء، وأنه يُقَالُ في سِينَاء وسَيْنَاء: سِينين، كما يُقال في إلياس: إل ياسين، قال: (سَلَامٌ عَلَىٰ إِلْ يَاسِينَ) -أو إلياس- (وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) [الصافات:123]، ثم ختم الآية بقوله: (سَلَامٌ عَلَىٰ إِلْ يَاسِينَ) [الصافات:130]، هو نفسه إلياس، فكذلك طورُ سِيناء أو طورُ سَيْنَاء يقال فيه: طور سِينين.
(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)) هذا البلد الذي وُلِدَ به النبي وبُعِثَ به النبي -مكةَ المكرمة- وسيأتي معنا سورةُ البلد يقول الحقُّ فيها: (لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ * وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ) [البلد:1-2]
(وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3))؛ مكةَ المكرمة زادَها الله شرفا وحمَاها وحرَسَها وحفِظْهَا وصانَها ودفعَ الأسواء عنها، وقد جعل الله فيها بيتَهُ الذي قال عنه: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ) [المائدة:97] يقومُ بأمره وبقيامِهِ أمر الناس (قِيَامًا لِلنَّاسِ) وقال: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ) [آل عمران:96].
وكانت بلدةُ مكة وحَرَمُها عظيمةَ الحُرمَة، مُهَابة في الجاهلية والإسلام، حتى كان في زمنِ الجاهلية يَرى ابن المقتولِ قاتِلَ أبيه وسطَ الحرم فلا يَمَسَّه ولا يُكلمه ولا يَناله بسوء احتراماً للمكان؛ احتراماً لهذا المكان، بلد أمين.
(وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3))؛ ولذا جاء الاختلاف عند الفقهاء في جواز إقامة الحدود وسط مكة أو يُخرَج مِن الحرم، وقال ﷺ: "إن الله أحلَّها لي ولم تحَلَّ لنبي قبلي، وإنما أحلَّها لي ساعةً مِن نهار، ثم عادت حُرْمتها اليوم كحرمتها بالأمس" في دخوله مكةَ في عام الفتح، قال "مَن ترَخَّص لقتالِ نبيكم، فقولوا: إن الله أَذِنَ لنبيّه ولم يأذن لكم"، يقول: "وإنما أُذِنَ لي ساعة مِن نهار".
(وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3))؛ قال الله عن ذلك البيت: (وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا)[آل عمران:97]؛ فأوجب علينا أن نُؤَمِّنَ مَن دخل وسط هذا البيت وحدود هذا الحرم، وهي بُقْعَةٌ هابَها ابن عباس وذهبَ يسكنُ الطائف، وقال: إنها بقعة يؤاخذ الله فيها على الإرادة ولا يؤاخذ في غيرها، فإنه قال: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)[الحج:25]؛ فلذلك تتضاعف الحسنات بمكة، والمتجرِّيء على الله العاصي وسط الحرم، يضاعفُ عليه عقابه وإثمه لشدة جراءته على الجبار -جل جلاله- وتعالى في علاه.
مع شرفِ هذه البقعة ومكانتِها فقد تعرَّضت لأحداث كثيرة على مدى القرون والتاريخ في الأمم السابقة، ثم في هذه الأمة، وقد رُمِيَت بالمنجنيق مِن قِبَلِ الحَجَّاجِ أيامَ عبد الله بن الزبير، وقد أعاد بنائها ابن الزبير على ما أحبَّ رسول الله أنْ تُبنى عليه، وألصقَ بابَها في الأرض وجعل لها بابين، وأدخل ما نقص من الحِجر في الكعبة فهدَّموها مرة أخرى وأعادوها إلى هذا البناء بعد قَتْلِ ابن الزبير.
تتعرَّض لما تتَعَرَّض له حتى يكون آخر الزمان وتُنقض حَجَرةً، حَجرة، وتُرمى في البحر، وهذا بعد زمنِ سيدنا عيسى، ثم لا تُعْمَر بعد ذلك أبداً، فإن عامة الخير في الدنيا -بعد عيسى بن مريم- يَنقطع، ولا يبقى بعدَهُ إلا أكبر العلامات وأقربها مِن قيام الساعة، مِن مثل رفع القرآن، وطلوع الشمسِ مِن مغربِها، وهُبوبِ ريحٍ تَخْطَفُ رُوحَ كلَّ مَن في قلبه مِثقال ذرة مِن إيمان حتى لا يَبقى على ظهر الأرض مؤمنٌ قط، وحتى ينشأ بعدهم جيلٌ وبعدهم جيلٌ مِن الكفار ليس فيهم مَن يقول الله، كما قال ﷺ، وهم شِرارُ الخلق عليهم تقوم الساعة بغتة، ثم يُجمع الأول والآخر، الكل مِنَّا يجتمع، مَن كان عمره قصير، ومَن كان عمره طويل، ومَن كان ملك ومَن كان مملوك، ومَن كان أمير ومَن كان مأمور، ومَن كان غني ومَن كان فقير، ومَن كان خَيِّر ومَن كان شرير، الكل يُحشر والكل يُجمع، والحكم لواحد.
يفوز مَن آمن به واتَّبَع رِضاه وغيرهم خاسر.. يكون ما يكون، موظف غير موظف، تاجر غير تاجر، طيار مهندس غير مهندس، يقع ما يقع الأصناف كلهم يُحشرون، والفوزُ لمن اِتَّقَاهُ فقط، مَن آمن به واتقاه ومن خالفه عليه الهلاك، يقع مَن يقع، رئيس مرؤوس، صغير كبير، عربي أعجمي، أبيض أسود أحمر، مريض صحيح، قوي ليس كلهم؛ المؤمن والتقي هو الفائز مِن هؤلاء كلهم، ومَن ضَيَّع الإيمان والتقوى فحسبه الخُسران والنيران، يكون ما يكون، يقول أنا كنت ضابط، وإلَّا أنا كنت رئيس، ما ينفع شيء مِن هذا. كيف كان حالك مع الله؟ كيف كان إيمانك؟ كيف كانت تقواك!
(وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3))؛ أمرَنا أن نؤمِّن مَن دخل فيه، فالمؤمنون على قدر إيمانهم يُعظِّمون هذه الأماكن تعظيماً، يقول ﷺ فيما حَرَّمَهُ مِن المدينة: "إنَّ إبراهيم حرَّم مكة وإني حَرَّمتُ المدينة ما بين لابتيها، مَن أَحْدَثَ فيها حَدَثَا أو آوى مُحْدِثاً فعليه لعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين، لا يُقبل منه صِرْفٌ ولا عَدْل" لا فرض ولا نفل، "لا يقبل منه صرف ولا عدل".
"مَنْ أحدث فيها حدثا أو آوى محدث": يعني عمل مصيبة في المدينة وإلاَّ آوى أهل الشرور والبلايا والفساد في المدينة المنورة.
هكذا، ثم فيما يتعلقُ بالأمنِ: "من مات بأحد الحرمين بُعث مِن الآمنينَ أو كنتُ له شفيعا يوم القيامة" ووراء هذا مَن وصلَ إلى سِرِّ الحرمين الشريفين، سرِّ الكعبة، سرِّ المدينة، مَن وصل إلى سِرِّها مُتصلاً بالله مُقبلاً عليه أمَّنهُ الله مِن عذابه.
(..الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3))؛ وهي حَرَمُ الله -جل جلاله- ووَرَدَ في الآثار أنَّ "الحجر الأسود يمينُ الله يُصافِحُ به عِباده"، ووَرَدَ: " أن الله لما أخذ الميثاق علينا أرواحاً مجردة وحين أخرجنا مِن ظهر آدم في نَعْمَان – نعمان الآراك بجانب عرفة- كتبَ كِتاباً على الأدراج وأَلْقَمَهُ الحجر، فهو يَشهدُ لمَن استلَمَهُ بالموافاة" وفي مسند الإمام أحمد عنه ﷺ: "أن الحجر الأسود يأتي يوم القيامة وله لسانٌ طَلْق ذلق يشهد لمن استلمه" وقد اختارها الله تعالى مسكن إسماعيل ابن إبراهيم وذريته حتى جاء سيد الخلق منهم محمد بن عبد الله فولد بها ونشأ بها وبُعث بها، وهاجر منها إلى المدينة فتوفي بها صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
مولده بمكة الأمينة *** وفاته بطيبة المدينة
أتمَّ قبل الوحي أربعينَ *** وعمرُهُ قد جاوز الستين
فأصحُّ الأقوال أنهُ في ثلاثٍ وستين، كان منها قبلَ البعثةِ أربعون سنة، وبعد البعثة في مكة ثلاثة عشر سنة، وبعد الهجرة عشر سنين، فتمَّت ثلاثة وستون سنة، وودَّعَنَا فيها وقد تركنا على المحجةِ البيضاء، جزاه الله عنَّا خيراً، بسرِّ بعثتِهِ قامت هذه المجالس، وهذه الدُّوُر، وهذه الأماكن وما قبلها وما يقوم بعدها إلى حيث يأذن الله إلى آخر الزمان ببركةِ دعوتِهِ وصبرِهِ ومجاهدتِهِ وبلاغِهِ ورسالتِهِ ﷺ.
(وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ) -جنس الإنسان- (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)) أحسنِ قَامَة، أحسن اعتدال، أكمل خِلْقَة، أفضل شكل (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)) الحمدُ لله، على ذلك خلَقَ الكل، ثم بعد ذلك أشرنَا إلى الحُسْنِ أيضاً إلى الإنسان في جسمه إلى الحُسْنِ والتقويم الحَسَن في روحه، وقلنا: نَعَم عَالَمُ الْأَرْوَاح خَيْرٌ مِنَ الجِسْمِ وقلنا "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم، ولكن ينظرُ إلى قلوبكم"، وأنَّ الأكياس مِن الناس يتخلَّقون بأخلاقِ ربَّهِم فيكون نظرهم إلى القلوب.
(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)) ويمضي من مرحلةِ الطفولة إلى مرحلة القوةِ والشباب، ثم يعودُ في الدنيا، إذا بقي وامتدت أيامهُ إلى ضعفِ الشيخوخة وإلى الهرم، ويطرأ الأمر عليه بلا اختيار، مهما دافع ذلك مُدافعات يأتيه، حتى صار العوام يقول: "إذا تركَك الموت لم يتركك الكِبَر"
يصير في البداية يقول: لا زلتُ قويا الحمد لله ، لازلتُ في الخير، ويبدأ الضعف فيه، فتجده طريقة طلوعه في الدَرَج تختلف، كان أول يقفزها قفزة، وبعد ذلك صار على وحدة، وحدة يعدّها، في بداية الأمر إذا أحد معه يتكلَّف ما يظهر شيء.. إذا وحده.. آه آه على وحدة، وحدة، بعد ذلك إن أحد معه وإن ماأحد ضروري، وقد يحتاج إلى العصا وقد يصلّحون له قصبة في الدرج يتمسَّك بها من درجة إلى درجة (خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً) [الروم:54]
قال تعالى: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5))،
(إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ..(6))، ما لهم؟
في الدنيا من تعمَّر منهم يستمر له أجره لا ينقطع، ما كان يعمله أيام صِحَّتِهِ وشَبَابِه وما أخَّرهُ عنه إلاَّ الضعف الذي نَزَلَ به؛ يُكتَبُ لهُ كأنَّهُ يعمله.
يقول: (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ(6))، غيرُ مُنقطع "الله أكبر“ مستمر، وأمَّا في الآخرة فلا يُعرَّضُونَ للنار ولا لوحشتها ولا تُغيَّر صورِهم بسببها قط (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ..(6))
فبقي الذين لم يؤمنوا ولم يعملوا الصالحات مِن المكلَّفين الذين بلَغَتهم الدعوة، فمن طال عمره منهم مُعَرَّض في الدنيا لأرذلِ العُمُرِ بلا ثواب، لأنه ما عمل في أيام الشباب، وفي الآخرة يسودّ وجهه (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آل عمران:106]، (كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا) [يونس:27]، ولهم النِتَن والروائح المُنْتِنَة والصور الموحشة ثم النار (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا) [النساء:56]، فيكون لأسفل السافلين معنيان:
والمعنى الثاني: النار ودخولها وتغيُّرُهم فيها.
فيُسْتَثْنَى مِن ذلك (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ..(6))، ففي الدنيا يَستمرُّ أجرهم، وغالباً، وغالباً أنه على قدر حسن استقامتهم ظاهراً وباطناً في أيام الشباب حتى وإن كبر سِنُّه لا يَخْرَف، ولا يَذْهَب عقله ولا يتعرَّض لبعض الأشياء، غالباً المؤمنين والذين عملوا الصالحات، ومِن هذا الغالب ما جاء أنَّ بعض من حرص على لقاء طاؤوس اليماني عليه رحمة الله، جاء إلى صنعاء يسأل عنه حتى وصل إلى بيته، فخرج له شائب كبير قال: عمن تتكلم؟ قال: عن طاؤوس. قال: ذاك أبي سأستأذنه لك -عليه-. قال: أبوك! أنت شائب كبير السن، فإذا كان ذلك أبوك، أخاف أن يكون قد شاخ وخَرِف! قال: لا، إن المؤمن لا يَخرف، أبي لم يخْرف، وهذا الغالب في المؤمنين الأخيار إلاَّ ما ندر، قال: فدخل عليه. استأذن له فجاء. فقال: أبي يقول أوجز، فإنه على مشارف القبر، ما معه عُمر، الآن وقته انتهى، فأوجِزْ كلامك، اختصِرْ. دخل سلَّم عليه: نعم، ما جاء بك؟ قال: وصية منك توصني بها. قال: هل تحب أن أجمع لك التوراة والإنجيل والزبور والفرقان في ثلاث كلمات؟ قال: نِعْمَ ذلك. قال: خَفْ مِن الله، خف من الله حتى لا يكون شيء أخوف عليك منه وحده، وأرجُهُ أكثر مِن خوفِكَ منه، وأحبَّ للناس ما تُحب لنفسك، اذهب فإنك إن عملْتَ بهذا فقد عملت بما في التوراة والإنجيل والزبور والقرآن؛
تَصْلُح أحوالك، تصلح معاملاتك، خلوتك جلوتك، أقوالك أفعالك مضبوطة، تخاف، ترجوه، تحب للناس ما تحب لنفسك، انتهى، ما في مشكلة، تكون عامل بالشرع كما أحب الله -جل جلاله- وارتضاه منك.
هكذا (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5))، أما في عالِم الدنيا فبما يُرَدُّ إليه من أرذل العمر، وقد استعاذ النبي من ذلك وقال " وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر" ومنهم مَن يجاوز الستين والسبعين والثمانين والتسعين وعنده نصيبٌ مِن القُوَى وذهنه كامل محفوظ ووعيه وإدراكه، وهكذا على درجات، ولكن كل ما أَخَّرَهُ عنه ضعف القُوَى والكبر يُكتب له كما كان يعمله في أيام قوته، فضلاً من الله ونعمة جل جلاله وتعالى في علاه.
وأَسْفَلَ السَافِلِينَ؛ النار الموقدة والعياذ بالله تعالى شأنُها أشد وأفظع وأشنع، اللهم أجرنا من النار، بل تتغير صورة الإنسان العادي -مؤمن كان أو كافر- إلا خواصّ المؤمنين مِن مثلِ الأنبياء والشهداء، وحفظة القرآن العاملين به، والعلماء العاملين بعلمهم، والمؤذنين المحتسبين لله، فلا تمس الأرض أجسادهم، أما غيرُهم من المسلمين والكفار، فلو رأيتَ حالتَهُ وصورته بعد دفنه بثلاثة أيام لهالَك ذلك، لهالك وأفظعك الأمر، ورأيتَ صورة ما تستطيع النظر إليها، ولا التحديق فيها، ولهالتك تغيره وانتفاخه وتحوّلِهِ وبداية الدود فيه، لا إله إلا الله. وأول ما يَنْتَن من ابن آدم بطنه، فانظر ما تطرح في بطنك مال حلال "إنَّ أول ما ينتن من ابن آدم بطنه" لا إله إلا الله.
ولكن على حسبِ الأعمال الصالحةِ تُبعثُ الوجوهُ في الآخرةِ، وحينئذٍ يكون الحكمُ للأرواح وتتبعها الأجساد، فلا يصير حال الذي كان منافقا وكان كافراً وعنده صحّة ولون حَسَن في الدنيا مبعوث على تلك الصورة، ربما يُعْرَف أنه فلان، ولكن على صورةِ كلبٍ، أو على صورةِ خنزيرٍ، أوعلى صورةِ سبعٍ، على حسب الأوصاف الغالبة عليه في الدنيا، فيُشَاهَد بها في القيامة، وهذا مِن أسفل السافلين.
(ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ..(6))، قال تعالى في ذكرِ تفاوت الوجوه في المحشر:
(ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)): ثواب يستمر في الدنيا وجزاءٌ للأعمال في الآخرة لا ينقطع أبدا. قال في الآية الأخرى: (عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) [هود:108] أي غير منقطع.
(فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7)) الله الذي خلق الإنسان في أحسنِ تقويمٍ ومرحلة عمره وأطوار عمره هكذا، وهو الذي ابتدأه سبحانه مِن لا شيء، فلماذا تكذبون بالجزاء: بالدين؟ (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7)) بالجزاء والحساب الذي يكون بعد الحشر، بعد النَّشْرُ؛
فَسَوْقُهُم وجمعهم يقال له: حَشْر، وخروجهم نشر، فيُنشرون ويُحشرون. (.. يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ *مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ ۖ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَٰذَا يَوْمٌ عَسِرٌ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) [القمر:7-9]
وهكذا فَعَلَت الأمم وكانت النتائج، ولو يَعْقِل العاقل، ليس على ظهر الأرض اليوم أحد مِن بني آدم إلاَّ مِن ذرية مَن حُمِل مع نوحٍ في السفينة فقط، وكل الذين كذَّبوا هلكوا ولا نسلَ لهم، فما عاد بقي جنس الإنسان إلاَّ مَن ركب سفينة نوح عليه السلام.. بس منهم، وهم قليل، والأكثر مِن بني آدم في تلك الأيام كفروا، وحتى منهم ابنه وطلع ابنه كنعان إلى جبل، قال: (يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا) [هود:42] تعال إلى سفينتنا وإلى ديننا وإلى إيمانك بالله وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ.
قال له: ماذا؟ تِخَوِّفنا أنت بالماء والمطر والسيل (سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ) -قال له سيدنا نوح: إذا جاء أمر الله لا جبال ولا غيرها تنفع- (قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ) -جاءت الأمواج، طلع في الجبل والماء يلحقه- (وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) [هود:43] ماالذي حصل؟!
(فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ *وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا)، تسمعهم في زمنك يتحدثون عن فيضان هنا وهنا وكيف صلَّح وماذا صلَّح؟ أين هذا من هذا؟ ما الكِبَر في الأمر؟! (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ) لكن قال: (عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) [القمر:11-12] كله بتقدير، الله أكبر سبحان العظيم، وهذا تقدير لا تستطيع تقوم به دول صغرى ولا كبرى قديمة ولا حديثة، الأخشاب والمسامير؟! اليوم في سفن بصناعة حديثة قوية إذا تلاطمت عليها الأمواج في البحر رَوَّحت، وهذه أمواج عمَّت الكرة الأرضية ماذا ستعمل السفينة هذه؟! قال لك: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) رعاية فوقها ربانية، الله أكبر.. كَبُرت المياه كَثُرت، سفينة نوح في أمان، مَن دخلها نَجَى ومَن تخلَّف عنها غَرِق وهَلَك هكذا.
(تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ * وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) [القمر:14-15]، اليوم الموجودين المسلمين والكفار كلهم مِن نسل الذين آمنوا وكانوا مع نوح في السفينة، أما الآخرين غرقوا ولم يبقَ لهم ذرّية ولا نسل، آية من الآيات، ولهذا خاطبنا الله قال: (حَمْلْنَاكُم)؛ لأننا كنا هناك في أصلابهم في السفينة، (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ) [الحاقة:11] ، الله يقول: (لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) [الحاقة:12].
(فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7))، ما الذي يَحْمِلَك على استبعاد الحشر والنشر والاجتماع والحساب يوم القيامة؟ هذا الذي خلقك مِن العدم، وهذه الآيات، وهذه أطوار العمر منه سبحانه وتعالى ليست بوضع غيره.. مَن رتَّب هذا؟ لا أحد غيره هو الذي رتَّب هذا
فكل المراحل: المسلم والكافر مقهورون لها، غاية الأمر أن يُرَتِّب، ما الذي يناسب في هذه المرحلة، والذي يناسب في هذه المرحلة أو ينفع أو يفيد ليس بترتيبه ولا بجعله هذا الذي اكتشف.. إلا بجعل الخالق، هو بحث وجرّب واكتشف، لكن ما رَتَّب مِن عنده شيء، لا لا ما يقدر يرتّب شيء، لا أكبر مخترع، ولا أكبر طبيب في العالم.. يقول أنتِ يا مادة فلانية كوني كذا، دواء لكذا، ما يقدر، إلا أن ينظر هل الخالق، وضع فيها أو ما وضع، الذي يضع الأشياء هو، وإنما يجتهدون ليأخذوا من مائدة كونه ما يَنتفعون به، لكن ليس من جعلهم هم، هم ما يقدروا يرتبوا شيء إلا أن ينظروا ما رتّب هو، فيمشون مع ترتيبه -جل جلاله- فهم مقهورون.. الكلُّ مقهور. ليس فقط لا يقدر أن يحوّل المادَّة إلى أن تضر هذا أو تنفع هذا.. لا، لكن يَرى المكوّن كَوَّن فيها شيء يُناسب ذا أو يَضُر ذا..فقط يكتشف هذا، لكن هو يُحَوِّل شيء ما يقدر يحول، سبحان مَن يُحَوِّل ولا يَتحول وهكذا.
كما جعل الإحراق في النار.. فإذا افتكت عليه النار ثم قال: لا تحرقي، لا تحرقي وقفي الحريق هنا.. يقدر؟!! لكن الخالق يقول: (يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ) [الأنبياء:69] لأنه هو الذي جعل وهو الذي يرفع، أما المخلوق مخلوق، فإذا جاء وصوَّبَ بُندقيته أو صاروخه على المكان، ولمَّا أطلق قال لا لا هذا غلط، لا تصيب لا تصيب.. ممكن؟ روَّح لك، وقال: أنا غلطت ما أريد هنا، صاحبك ولا غير صاحبك، إذا انطلقت... انطلقت، لكن الحق تعالى يقول: أطلق السبب ويوقِّف المسبب، هل هذا ممكن؟! ممكن.. لا إله إلا هو -جل جلاله.
أدخلْ في النار وما تحترق.. ما هذا؟ سبحان القادر، معجزة للخليل إبراهيم وقعت في أولياء أمة محمد، وكم سمعتم قصة سيدنا أبي مسلم الخولاني لمَّا أدخله العَنْسِي في النار وخرج سالم، وطرده وجاء المدينة، وسيدنا عمر أجلسه بينه وبين سيدنا أبو بكر وقال: الحمد لله الذي أراني في أمة محمدٍ مَن جعلَ عليه النارَ برداً وسلاما كما جعلها على إبراهيم برداً وسلاماً -جل جلاله-.
(فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7))، ما الذي يحمِلُكم على التكذيب بالجزاء والحساب (كمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ) [الأنبياء:104]، (وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا) [مريم:66]، (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ۖ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ) [يس:78-79] خلاص، أول مرة من أين جاءت؟ هو الذي جابها أول مرة يردّها (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) [يس:79] -جلّ جلاله-
(فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)) أقضى القضاة يَقضي ويَحكم ولا مُعَقِّبَ لحكمه فاطمئن يا محمد، مَنْ كذَّبك مرجعه إلينا ونحن نتصَرَّف معهم، أمضِ بَلِّغ الرسالة وأَدِّ الأمانة وإلينا مرجع الخلق وأنا الذي أحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ)؟
وقد جاء في الخبر: " مَن قرأ والتين إلى آخرها فليقل (بلى)" وفي رواية: "فليقل بلى وأنا على ذلك من الشاهدين" (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) بلى ونحن على ذلك مِن الشاهدين.
فَيَا أحكم الحاكمين أحكم لنا بالخير، وهَبْ لنا منك الخير، وادفع عنا الشر والضير، واجعلنا مِن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، واجعلنا مِن خير بني الإنسان، ومِن أشرف الناس في التقوى والإيمان والعِرْفَان، ورقنّا أعلى مراتب الصدق والإيقانِ والإحسانِ، وعاملنا بالفضل والإمتنان منك يا منَّان، وأصلح شؤوننا وشؤون أهل الإسلام والإيمان، وادفع عنا كيد النفس والهوى والشيطان.
وبارك لنا في شهرنا هذا الشهر رمضان في أيامه ولياليه وكل ساعةٍ وآن، ووفقنا لاغتنام ليلة القدر وحسن القيام فيها على وجه الصدقِ والإخلاصِ والإحسانِ، وزِدْنَا اللهم يقينا في كُلِّ نَفَس، وهب لنا من عطائك الأنفس، واجمعنا اللهم في حظائر القدس مع مَن بنورك والصدق معك تَقَدَّس.
اللهم واكفنا شر الوسواس الخناس، وأعذنا من شر الجنةِ والناس، واجعلنا ممن قامت أمورهم في التقوى على أقوم أساس، واربطنا بعبدك محمد خير الناس، في الدنيا والبرزخ والآخرة.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
08 رَمضان 1436