تفسير جزء عمَّ - 93 - تكملة تفسير سورة التكوير {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ}
للاستماع إلى الدرس

يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1438هـ.

نص الدرس مكتوب:

 (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (27) لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29))

الحمد لله مولانا العلي العظيم الواحد الأحد الفرد العظيم الحليم، نشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله الهادي بإذنه إلى الصراط المستقيم.

 اللهم صلّ وسلم أفضل الصلاة وأزكى التسليم على عبدك المجتبى المصطفى سيدنا وعلى آله وأصحابه وأهل حضرة اقترابه من أحبابه وآبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين وعلى الملائكة المقربين وجميع عبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

أما بعد،،

 فإننا في تأمل آيات ربنا جلّ جلاله، في غدوات الشهر الكريم المبارك شهر رمضان، ويستقبلنا اليوم أول جُمعة من جُمع هذا الشهر، وعند طلوع الشمس يكثر العتق من النار، كما هو عند غروب الشمس من جُملة ساعات الليل والنهار في رمضان، اللهم وَفِّر حظنا من العتق من النار ومن العذاب ومن الذنوب ومن الآفات والحُجب يا رب العالمين.

تأملنا في سورة التكوير حتى انتهينا إلى قول العلي القدير: (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ(16)) أي يحلف جلّ جلاله وتعالى في علاه بمظاهر من قُدرته فيما كَوَّن من خلقه (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ(16)) مضى أكثر المُفسّرين على أنها النجوم، وهل هي نجوم مخصوصة أم جميع النجوم؟

  • خُنَّس: تَخْنس في امتداد طلوعها عامًا بعد عام
  • وخُنَّس: تَخنس بالاختفاء في النَّهار.  
  • الْجَوَارِ: الجاريات في هذا الفضاء بِقُدرة الحق -جلّ وعلا- قال تعالى: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [يس:38].
  • (الْجَوَارِ الْكُنَّسِ(16)) اللاَّتي تأوي إلى مجراها ومطلعها ومغربها فَتكنس فيه، (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ(16)) قيل فيه: أنه يُراد به البقر الوحشي، وقيل أنه: يُراد به الملائكة، جمهور المفسرين على أنها نجوم.

ومن عجيب ما اكتُشِف في هذا الفضاء أنه وجد على مسافات من سطح الأرض نوع من النجوم تتلقى ما يلقيه هواء الأرض من الدُّخانات وما تحمله من أنواع من المكروبات وأنواع من المُستهلكات التي تتصاعد في الهواء، فتلتهمه التهامًا وبذلك تكنِّس هذا الجو والفضاء الوسيع المحيط بالأرض، فتلتهم كل ما يصعد من هذه الأرض من أصناف الدُّخانات والغبار وما شابه ذلك، فهي نجوم خُنَّس وجوار كُنَّس تكنس هذا الغلاف للأرض وتنظفه تمامًا، ولله في خلقه شؤون، ومهما اطَّلع العباد على بعض أسرار الخَلقِ فلا يُحيط بِسرِّ الخَلق إلا خالقهم جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه.

( فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ(16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17)) أي: وأقسم بالليل (إِذَا عَسْعَسَ) أي: أقبل ظلامه، وإنما يُقبل ويَشْتَد ظلامه بإدباره وقد قيل في لفظة (عَسْعَسَ) أنها تُستعمل للإقبال والإدبار، ولكن إذا فُسِّر بإقبال الظلام، فإنما يشتد إقبال الظلام عند إدبار الليل وفي آخره (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ) إذا اشتد ظلامه وأدبر فأشرف على الانتهاء.

(وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ(17)وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ(18))، أشرق ضوؤه وانبسط (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ)، ومن عجيب ما يذكر في سيرة سيدنا عبد الله ابن أم مكتوم رضي الله عنه، وهو الأعمى الذي كثيرا ما يستخلفه ﷺ على الإمامة بالمدينة عند خروجه في الغزوات، وهو المُؤذن، جاء في ترجمته أنه كان يَشُّم طلوع الفجر، فللفجر نَفَس، كان يَستنشقهُ هؤلاء، وهو أيضًا المؤذن لصلاة الفجر أو لدخول وقت الفجر، ويؤذن قبله سيدنا بلال قبيل طلوع الفجر، وكان ﷺ يقول: "إن بلالا يؤذن بليل فلا يمنعن أحدكم آذان بلال عن سَحوره كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم" وأن بلال كان بصير وابن أم مكتوم أعمى وكان الأولى بمشاهدة الفجر البصير، ولكنه صاحب بصيرة عليه الرضوان.

 ( فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ(16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ(18)) إنه أي: هذا القرآن الذي يتلوه عليكم نبينا محمد مُبلَّغ إليه على يد الأمين، أمين الوحي من الملائكة، الذي نرسله إلى رُسلنا وأنبيائنا من البشر ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ(19)) جبريل عليه السلام، أي: انه هو الذي يُبَلِغ عَنَّا كلامنا إلى رسولنا محمد فما تشكُّون فيه من أنه يُملى عليه من ذا أو ذاك أو يأتيه به شيطان؛ كلام فارغ، لا يتناسب مع عظمة الكلام وجزالته واعجازه وعظمة ما فيه من معان وأحكام.

  • (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ(19)) كما قال في الآيات الأخر: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيّٖ مُّبِينٖ ) [الشعراء: 195-193].
  •  (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ(19)) ولما كان إنزال الوحي على يده، نُسب إلى الكرم، وإن من أعلى ما يكون من الكرم بين الخلق؛ الهداية والدلالة على الحق والرشاد، فكيف بتبليغ كلام الرب الخالق- جل جلاله-؟
  •  (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ(19)) ذو كرامة عند الله.

 (ذِي قُوَّةٍ) آتاهُ الله قوة في إيمانه ويقينه، وفي مكانته عند ربه وفيما آتى جسمه النوراني من قوة؛ قَلَع بريشة من جناح له، قُرى قوم لوطٍ فاجتثها ورفعها نحو السماء ثم قلبها (جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا) [هود:82] ومعانٍ كبيرة من هذه القوة (ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلۡعَرۡشِ مَكِينٖ (20)) عند صاحب العرش، رب العرش، بارئ العرش، خالق العرش، والعرش في عالم المخلوقات أعظم مخلوق يحيط بجميع الكائنات الأُخر، فجميع السماوات بل والكرسي تحت العرش وجميع الكواكب تحت السماء وما بين السماء والأرض من كل النواحي مما ملأ الله الجو به والفضاء من أصناف النجوم والكواكب محيطٌ بالعرش بكل تلك العوالم.

وقد جاء في الأحاديث أن الأرضين السبع والسماوات السبع، لو وضعت في الكرسي لكانت كسبعِ دراهم مُلقاة في فلاة واسعة، ما أعظم هذه العظمة، ولو أن السماوات السبع والكرسي وضعت في العرش لكانت كسبعِ دراهم ملقاة في فلاة واسعة، فالعرش أعظم مخلوق كوَّنه الله تعالى يُحيط بهذه الكائنات، ووصف جبريل بأنه: 

  • (ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلۡعَرۡشِ..(20)) مُوجد هذا العرش ومُكوِّنه وخالقه -سبحانه وتعالى- وحامله (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا ۚ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ ۚ) [فاطر:41] ما أمسكهما من أحد من بعده -جلَّ جلاله- (ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلۡعَرۡشِ مَكِينٖ (20)) مُمَكّن في علمهِ ووعيهِ وأخذه للوحي وتبليغه إلى الأنبياء والمرسلين في كل مقاماته ومهماته التي أوكلها الله إليه، مَكِينٖ: مُتمكن مُتقِن مُستوعِب حافظ مؤدٍ للأمر على وجههِ. 
  • (ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلۡعَرۡشِ مَكِينٖ (20) مُّطَاعٖ ثَمَّ أَمِينٖ (21)) هناك في الملأ الأعلى له نفوذ بين الملائكة يطيعونه وينقادون له؛ لكونه يأمر بأمر الله قريبا من الله، (مُّطَاعٖ ثَمَّ أَمِينٖ) مأمون على وحي الله وتنزيله وما آتاه الله تعالى من أسرار.

(مُّطَاعٖ ثَمَّ أَمِينٖ (21) وَمَا صَاحِبُكُم) -محمد ﷺ-  (وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجۡنُونٖ (22)) كيف يكون مجنون؟! صاحب الخلق العظيم! وهل الخلق العظيم إلا منهج سوي في استقبال أحداث الحياة والتعامل معها، كيف يكون مجنون؟! ولذا قال في سورة نون: (نٓۚ وَٱلۡقَلَمِ وَمَا يَسۡطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِنِعۡمَةِ رَبِّكَ بِمَجۡنُونٖ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجۡرًا غَيۡرَ مَمۡنُونٖ * وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ) [القلم:1-4] هذا أبعد ما يكون عن الجنون إنما هو قوة العقل واستحكامه، وقد جاء في بعض الأخبار أن الله لما خلق العقل جَزأهُ مئة جزء فوزع بين عباده جزءا وجعل تسعة وتسعين جزءا لرسوله محمد ﷺ فهو أعقل الخلق.

(وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجۡنُونٖ (22) وَلَقَدۡ رَءَاهُ بِٱلۡأُفُقِ ٱلۡمُبِينِ (23)) ولقد رأى محمد جبريل عليه السلام (بِٱلۡأُفُقِ ٱلۡمُبِينِ (23)) الواضح الواسع وهكذا أورد المفسرون حديث رؤية جبريل من رؤية النبيﷺ محمد لسيدنا جبريل أي على هيئته التي خلقه الله عليها؛ مَرةً في الأرض، ومرة في السماء ليلة المعراج (وَلَقَدۡ رَءَاهُ نَزۡلَةً أُخۡرَىٰ * عِندَ سِدۡرَةِ ٱلۡمُنتَهَىٰ) [النجم:14-13] تَصوَّر له بالصورة التي خلقه الله عليها، وإنما يبدو في العالم مُتشكِّلا، فكثيرا ما يَتصور بصورة دحية الكلبي ويراه جمع من الصحابة، حتى لما مر على النبي ﷺ في غزوة بني قريظة ثم قال إني ذاهب إليهم، وخرج ﷺ وراءه ولقي بعض الصحابة في الطريق فقال: "هل مر هنا أحد؟ قالوا: دحية الكلبي على فرس قال: ذاكم جبريل".

وفي الصحيحين أن سيدنا عمر ابن الخطاب ذكر شخصًا رجلًا دخل إلى النبي وسأله الأسئلة عن الإسلام والإيمان والإحسان ثم قال: "ردوا علي الرجل فلم يجدوا له أثر، قال؛ ذاكم جبريل -إنه لم يخفى علي في مرة إلا هذه المرة- جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" فجاء بصورة الطالب المُستفتي يسأل النبي، والنبي ﷺ يُجيب والصحابة يسمعون.

(وَلَقَدۡ رَءَاهُ بِٱلۡأُفُقِ ٱلۡمُبِينِ (23) ) حتى جاء أنه لما نظره على الهيئة العظيمة أُغشي عليه ﷺ، (وَمَا هُوَ) -صاحبكم محمّد عليه الصلاة والسّلام- (عَلَى ٱلۡغَيۡبِ بِضَنِينٖ (24))، جاء في القراءة بالضاد وجاء في قراءات بالظاء بظنين بضنين، فأما على قراءات بضنين بالضاد فإن معناها: البخيل ما هو ببخيل، بل يُحدثكم عن أعلى ما يحتاج إليه الإنسان وما يُصلِح له به الشأن من أخبار الغيب والمعارف الجليلة يحدثكم عنها لا كما يفعل الكاذبون عندكم والكهّان الذين يُريدون منكم الحلوان والأجرة فيضِنون ويبخلون بالأخبار؛ لكنّ نبينا ينطق باللسان الحق ويُحدثكم بالصدق ويبلغ صغيركم وكبيركم وذكركم وأنثاكم.

(وَمَا هُوَ عَلَى ٱلۡغَيۡبِ بِضَنِينٖ (24)) أي: ببخيل، فعنده أغلى البضائع وأشرف العلوم ولا يكتمها عليكم ولا يُقصر في إيضاحها وإيصالها إليكم. وعلى القراءة بالظاء: (بظنين) مُتَهم، فهو ليس بِمُتَهم على الغيب، ولا على الوحي، فإنه الأصدق الناطق بالحق، ما عبْدُنا بِمُتَهم، ما تدور حوله التُّهمة، فقد جعلناه في القِمَّة ورفعناه على الخلائق، فجعلناه في البرية أصدق صادق، -صلوات ربي وسلامه عليه- (وَمَا هُوَ عَلَى ٱلۡغَيۡبِ بِظنِينٖ (24)) أي بِمُتَّهم.

(وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجۡنُونٖ (22) وَلَقَدۡ رَءَاهُ بِٱلۡأُفُقِ ٱلۡمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى ٱلۡغَيۡبِ بِضَنِينٖ (24) وَمَا هُوَ بِقَوۡلِ شَيۡطَٰنٖ رَّجِيمٖ (25)) الذي يُحدِثكم ويُخبركم من كلامنا ووحينا؛ ماهو ( بِقَوۡلِ شَيۡطَٰنٖ رَّجِيمٖ (25)) كما يقول بعضكم؛ إنه يُحدِّثه الشيطان ويأتينا بهذا الكلام.

(فَأَيۡنَ تَذۡهَبُونَ (26)) بعد هذا الصراط الذي جاء به محمّد، والحق الذي نطق به، والمَسلك الواضح البيّن، أين تذهبون؟ أيّ مذهب معكم؟ أيّ مسلك معكم؟ أيّ مسار في الحياة أطيب وأرغب وأعجب وأقوم من هذا المسلك الذي دعاكم إليه محمّد؟ إيمانٌ وتوحيد واستقامة وتسوية وعدل وهدى؛ 

  • (فَأَيۡنَ تَذۡهَبُونَ) بأي طريق لكم غير طريق محمّد ما هذه المُكابرة؟ ما هذا التطاول؟ 
  • (فَأَيۡنَ تَذۡهَبُونَ) ماذا عندكم مُقابل هذا المنهج القويم، والصراط المستقيم، والذكر الحكيم والشرع العظيم الحاوي للمصالح والخيرات لكم للأرواح والأجسام 
  • (فَأَيۡنَ تَذۡهَبُونَ)، ماذا عندكم مقابل هذا؟ تَعكفون على الأصنام، يأكل القوي منكم الضعيف، تُفسدون في الأرض، تمشون وراء المسكرات هذا الذي معكم مقابل هذا المنهج (فَأَيۡنَ تَذۡهَبُونَ). 
  • (فَأَيۡنَ تَذۡهَبُونَ) أي، لا طريق لخلقي إلا من منهج هذا التّقي.

(فَأَيۡنَ تَذۡهَبُونَ (26) إِنۡ هُوَ) -محمد ﷺ والوحي الذي نَزل عليه- (إِلَّا ذِكۡرٞ لِّلۡعَٰلَمِينَ (27))؛ مُذكّر جميع العالمين بأعلى الحقائق من معرفة الخالق والرجوع إليه، وما كَلّف به المكلّفين من المنهاج الموصل إلى رضاه -سبحانه وتعالى- (إِلَّا ذِكۡرٞ لِّلۡعَٰلَمِينَ). 

(إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ لِّلۡعَٰلَمِينَ (27)) ولكن مع كونه تذكرة وتبصرة للعالمين كلهم، ينتفع به من أراد الاستقامة، من أراد الثبات، من أراد الوصول إلى الحق، من أراد الاتصال بالإله (لِمَن شَآءَ مِنكُمۡ أَن يَسۡتَقِيمَ (28))، هو ذكرٌ صالح لهداية العالمين كلهم؛ لكن ينتفع به من العالمين من شاء أن يستقيم، من أراد الهدى، من أراد الحق: 

  • (لِمَن شَآءَ مِنكُمۡ أَن يَسۡتَقِيمَ)؛ فكل طالب للحق هذا دواءه وهذا رجاءه وهذا مُبتغاه؛ كلام الله -جلَّ جلاله- فلا نجد صادقا في شرق الأرض وغربها من عربي ولا عجمي ولا إنسي ولا جني، عنده إرادة صادقة أن يعرف حقيقة الخلق والوجود والكون والحكمة فيه وإلى أين يصير؟! ما يصْدق في هذا أحد إلا وهذا القرآن -ولو بترجمة معانيه إلى اللُّغات- أحسنُ بيانٍ له، وأوضح بُرهانٍ عنده، وأقرب مُؤثر في إدراكه الحقيقة.
  • (لِمَن شَآءَ مِنكُمۡ أَن يَسۡتَقِيمَ)؛ كُل من شاء الاستقامة في معرفة الحقيقة وواجب الخليقة معنى له كلام ربنا الخالق، لن نجد أوفى منه ولا أصفى ولا أوضح ولا أفصح ولا أبين ولا أزين ولا أحقّ ولا أوضح بُرهانًا. بل نجد من عموم بعض الكفار يسمع القرآن وهو لا يعرف معناه؛ من تالٍ ولو في شريط فيُحس في داخله بانجذاب نحوه، أو بطمأنينة تهدأ ما في باطنه من غليان الهموم والأكدار، هذا يَحصُل في تلك البقعة وتلك الدولة وتلك البلدة. 

فكل من أراد أن يُدرِك الحقيقة من هؤلاء المكلفين، فأوضح برهان له قرآن ربنا، وخير مُرشدٍ له ودال لا فكر المُفكرين ولا فلسفة المُتفلسفين ولا اختراعات المخترعين ولا اكتشافات المُكتشفين كلام من (أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق:12]، (وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) [الجن:28] هو الذي يَدلُه على الحقيقة.

(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (27) لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ (28)) وهؤلاء بما أوتوا من عقول ومن أسماع وأبصار، لماذا لا يريدون الاستقامة كلهم؟ لو كانوا كلهم يريدون الاستقامة فلم خُلقت النار؟ ولكنهم تغلبهم نفوسهم وأهواءهم فلا يريدون الاستقامة؛ (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت:26] لماذا لا تسمع؟! قال: يؤثر عليك؟! يؤثر؛ يعني يتجلّى الحق فيه واضحا، إذن دعنا نعرف الحق، يقول: لا لا لا تسمع، ابعد (لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)؛ من أجل الأغراض والمطامع، يقول: لا تتسمع، لأنه إذا سمعت، لا شي أنسب للفطرة منه، ولا أحسن تحريكا للقلب والباطن من كلام الرب، ولذا سَمِعهُ من سَمِعهُ من بعض كبارهم وزعمائهم فرجع إلى قومه يقول: "لا هو شعر ولا هو سحر ولا هو كهانة، إنه كلام لا يأتي من بشر، ولا هو كلام مخلوق، إن أعلاه لمورق وإن أسفله لمغدق، ولا يقوله هذا بشر". 

هكذا يقولون ولكن مع ذلك يُكذبون، ويمسكه أصحابه يقولون: تقول هذا الكلام؛ انظر نتبع هذا محمد؛ لا إن هو إلا قول سحر، إن هذا لقول بشر؛ هذا سحر، هو يتناقض مع نفسه، ولما سمعه قال هذا ليس كلام بشر لكن أحاطت به ظروف المقاصد والأغراض والصداقات التي تقوم على المطامع، قال هو فقط (إِنَّهُۥ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيۡفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيۡفَ قَدَّرَ) [المدثر20-18]، (فَقَالَ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا سِحۡرٞ يُؤۡثَرُ * إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا قَوۡلُ ٱلۡبَشَرِ)  [المدثر:25-24] قال الله هذا الذي وضَح له الحق، وتصامُم من أجل غرضه (سَأُصۡلِيهِ سَقَرَ * وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا سَقَرُ) [المدثر27-26] نار موقدة (لَا تُبۡقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٞ لِّلۡبَشَرِ) [المدثر:29-28] تلوح (لِّلۡبَشَرِ) أجارنا الله من ناره.

(لِمَن شَآءَ مِنكُمۡ أَن يَسۡتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَآءُونَ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ (29)) يعني أنتم عدم ما كنتم، هو خلقكم، والمشيئة خلقها لكم بمشيئته -جل جلاله- يعني لا يخرج عن قبضته شيء ولا أحد؛ الكل في قبضتهِ، فما عندكم من مشيئة موهوبة من قِبله لا يمكن إنكارها، وبها قامت الحُجج عليك؛ ولكن أنتم ومشيئتكم تحت أمري ومشيئتي أصلكم عدم ما كنتم (هَلۡ أَتَىٰ عَلَى ٱلۡإِنسَٰنِ حِينٞ مِّنَ ٱلدَّهۡرِ لَمۡ يَكُن شَيۡـٔٗا مَّذۡكُورًا * إِنَّا خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ) [الإنسان:2-1]، نحن الذي خلقنا فكذلك ذاتك ومشيئتك وسمعك وبصرك وما عندك منه، وبخلقه وبإيجاده، هذه عظمة الألوهية. 

(وَمَا تَشَآءُونَ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ (29)) وفي هذا بشرى لمن صدق في مشيئة الخير وإرادة القرب من الحق؛ أن الله سمح له بذلك وأذِن له بذلك؛ أن يصرف مشيئته في نيل الدرجات العلى وفي إدراك الحقيقة والقرب من العلي الأعلى، إذا صَحَّت منه المشيئة، فالرب أذن له أن يصرف مشيئته الموهوبة له من قِبله تعالى إلى هذا المقصد الأعلى فهذه نعمة كبيرة ومنها يقول قائلهم:

لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه *** من فيض فضلك ما ألهمتني الطلبا

فالحمدلله على نعمة الإسلام، والحمدلله على نعمة الإيمان، اللهم كما أنعمت علينا بالإسلام فزدنا منه، وكما أنعمت علينا بالإيمان فزدنا منه، وكما أنعمت علينا بالعافية فزدنا منها، وكما أنعمت علينا بالعمر فبارك لنا فيه، حتى نزداد هدى على المدى في كل لمحة ونفس (وَٱلَّذِينَ ٱهۡتَدَوۡاْ زَادَهُمۡ هُدٗى وَءَاتَىٰهُمۡ تَقۡوَىٰهُمۡ) [محمد:17] اللهم اجعلنا ممن اهتدى فزدته هدى.

(لِمَن شَآءَ مِنكُمۡ أَن يَسۡتَقِيمَ (28))؛ فيُحرم نور القرآن وفائدته وبركتهمن أعرض وتولى، ومن لا يريد الاستقامة. وقد كان ﷺ يتلو القرآن في لياليه حتى أيام كان بمكة وكان يأتي نحو بيته بعض كبار زعماء قريش فتعجبهم تلاوته وما يقول، ويُصبحون مُكذبين معاندين، فإذا اجتمع منهم عدد قالوا: اسمعوا، إذا رجعنا ثاني مرة، ثالث مرة، سنتأثر به، فلا تعودون؛ فيتعاهدون أن لا يعودوا ويذهبون. فإذا جنّ الليل وجاء وقت التلاوة، فِطرهم تحركت، يريد يسمع مثل ذاك الكلام، ولا هناك شفاء للروح مثله، فيخرج الواحد منهم يقول في نفسه أنه لن يخرج أحد، الجميع قد تعاهدوا أنه لا أحد، إلا هو وحده، وإذا بالثاني جاء وجاء الثالث والرابع وإذا نفس الأربعة، الخمسة الذين كانوا البارحة تعاهدوا أنهم لايأتون، قد جاؤوا ثاني ليلة، تعاهدوا ثاني ليلة، ووصلوا ثالث ليلة؛ كلهم يشدّهم معاني هذا القرآن وقد كانوا لهم ذوقٌ من جهة اللغة والفهم فساعد ذلك على ابتعاث الفطرة، فكانوا يشتاقون إلى سماع القرآن، ومع ذلك يغالطون أنفسهم بالتكذيب والعناد،لا إله إلا الله، و(يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء)[النور:35]، (إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ) [الإسراء: 9] فمن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار.

اجعل القرآن إمامنا يارب، واجعله اللهم جلاء أحزاننا وذهاب همومنا وغمومنا واجعله ربيع قلوبنا، ذكّرنا منه ما نسينا وعلمنا منه ما جهلنا واجعلنا عندك من أهل القرآن.

(إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ لِّلۡعَٰلَمِينَ (27) لِمَن شَآءَ مِنكُمۡ أَن يَسۡتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَآءُونَ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ (29)) رب إن الهدى هداك وآياتك نور تهدي بها من تشاء، اللهم اهدنا فيمن هديت واجعل لنا في رمضان هذا اتصالا بالقرآن وأنواره وأسراره وانفتاحًا للباب في الاتصال بذوقه والغوص على حقيقته، اللهم اربطنا بالقرآن ربطًا لا ينفك أبدا، واجعلنا بالقرآن من أسعد السعداء هنا وغدَا، إنك ترفع بهذا الكتاب أقواما وتضع آخرين، فمن رفعت لا يُوضع، ومن وضعت لا يُرفع، فارفعنا بالقرآن، ارفعنا بالقرآن، ارفعنا بالقرآن، وانفعنا بالقرآن، واجمعنا بنور القرآن عليك، يا من أنزلت القرآن على قلب سيد الأكوان، محمّد خير إنسان، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان

 بسرِ الفاتحة 

وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه، 

الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

08 رَمضان 1438

تاريخ النشر الميلادي

03 يونيو 2017

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام