(535)
(363)
(339)
يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1438هـ.
﷽
(وَإِذَا ٱلۡمَوۡءُۥدَةُ سُئِلَتۡ (8) بِأَيِّ ذَنۢبٖ قُتِلَتۡ (9) وَإِذَا ٱلصُّحُفُ نُشِرَتۡ (10) وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ كُشِطَتۡ (11) وَإِذَا ٱلۡجَحِيمُ سُعِّرَتۡ (12) وَإِذَا ٱلۡجَنَّةُ أُزۡلِفَتۡ (13)عَلِمَتۡ نَفۡسٞ مَّآ أَحۡضَرَتۡ (14))
الحمدلله مولانا المَلك العَظيم، مُنْزِل القرآن الكريم والذِّكر الحَكيم، على قلب عبده المُجتَبى ذي القَدر والخُلُق العَظيم، سيدنا محمد ابن عبد الله، صلى الله وسلم وبارك وكَرَّم عليه أفضل الصلاة وأزكى التَّسليم، وعلى آله وصحبه أئمة السائرين على طريقه القويم وصراطه المستقيم، وعلى من تَبِعَهُم بإحسانٍ من كل ذي قلبٍ سليم، وعلى آبائه وإخوانه من أنبياء الله ورُسله وآلهم وأصحابهم والملائكة المُقرَّبين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين، وأرحمُ الراحمين .
وبعد،،،
فإننا في غَدواتِنا الرمضانية المباركة في التأمُّل للآيات القُرآنية العظيمة، وصلنا إلى تَأمُّلِ سورة التكوير؛ التي تُبَيّن لنا خبر المآل والمصير، واليوم الذي يُقبِل فيجتمع فيه الأول والأخير، ومررنا على معاني في قولهِ سبحانه:
(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِرَتْ (6)) وفي قراءة: سُجِّرت (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)) وتأمَّلنا معنى تزويج النفوس بأرواحِ كل جسدٍ، ثم بمن يُحشرُ معه من:
ومع ذلك فإن كُلاً من الأصناف الثلاثة، داخِلهُ أقسامٌ، فكل قسمٍ مما يَغلُبُ عليه من الصًفات أقرب إلى أن يكون مَحشوراً مع ذلك القِسم الذي غلبت عليه صفاتُه.
(وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)) ما يقول -جل جلاله- مُنَبهاً عن أمرٍ كبيرٍ خطيرٍ؛ وهو شأن النفوس، وما يحصل على وجه الخصوص في قتل النفوسِ؛ مِنْ قتْل الأطفال، خصوصاً ما يتجرأ عليه أهل الجاهلية من قتل البنات ودفنهن حيّات!
يقول: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ (8)) المَوءودة: البنت التي وُئِدَت، أي وُضِعَت على الأرض فأُثقِلَ عليها بالتُراب حتى ماتت! (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ) ومن المعلوم أن المَوءودة طِفلةٌ لم تَبلُغ أوان التكليف بعد؛ ولكن السؤال الذي تُسأل، سؤال تَبكيّتٍ لِمن وَأدَها (بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ (9))؟ فإنّه من أعظم الذنوبِ، التجَرؤ على إزهاق النفوس بغير بَصيرةٍ وبَيّنة من -الله تعالى- وهو أول ما يُقضى فيه بين الخلائق يوم القيامة..! حتى أن الرَّاضي بقتل نفسٍ بغير حقّ يُحشر مع قاتل تلك النفس فيُسأل كما يُسأل؛ يُقال لهذا لِم قَتلت؟! ويقال لهذا لِم رَضيتَ؟!، على أن المساعدةَ على سفكِ دم من لا يَستحقُ السفك بأدنى مساعدة ولو نصف كلمة، تَجعل صاحبها محشوراً يوم القيامة، مكتوبٌ بين عينيه "آيسٌ من رحمة الله".
"من أعانَ على قَتل مسلم ولو بِشَطرِ كَلِمة، لقيَ الله مكتوبًا بين عينيه "آيس من رحمة الله"، "ولربما قُتلت نفسٌ ظُلماً بأقصى المَشرِق فشارك في إثم أهل قَتلها من كان بأقصى المَغرب" ولرُبَّما قُتِلت نَفسٌ قبل قرون فشارك في إثم قتلِها من جاء بعد تلك القُرون وارتضى ذلك القَتل، فلا يورط الإنسان نَفسه"، فلا يزالُ المسلم في فُسحة من دينه ما لم يصب دما حراما، ولا يجوز أن يرضى بما تتمنى النفس نحو الآخرين إلا ما كان خيراً يرضاه الله و"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"؛ بل أن قلب المؤمن الصادق مع الله، يكون عنده إسلام الكافر الخبيث المُجرم وعودته إلى الدّين، أحب إليه من أن يُقتل، فلو خُيّر بين الأمرين لاختار أن يُسلم الكافر، وأن يعود إلى ربه، هذا هو اللازم الواجب.
وقد كان يُعبَّر عن المعنى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ويقول لبعض السرايا التي يُرسلها للحرب وقتال المحاربين المقاتلين من الكفار المشركين: "ادعوهم إلى الإسلام، فوالله لئن تأتوني بإسلامهم أحب إلي من أن تأتوني بأموالهم غنائم، وبأهليهم سبايا" قال خيرٌ لي أن تأتوني بإسلامهم! صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
فإذا كان هكذا حال المؤمن مع ذلك الكافر، فكيف مع المسلم؟! فكيف مع المؤمن؟! أما أن تَغلُبه نفسه ويُحب قَتل هذا وإيذاء هذا وضُر هذا، يَسمع عن واحد خُطف، أو واحد قُتل، أو واحد ضُرب، أو واحد انهدم عليه بيته، فيقول: يستحق -القتل-، خُذ جَزاءاً على قولك يستحق!
لا أنت الذي هدَّمتَ البيت، ولا أنت الذي فجّرت القنبلة فيها، ولكن بقولك يستحق -القتل مثلا- إن كان هو عند الله يستحق ذلك، فأنت نجوتَ، وإلّا خذ إثمَك، خذ ذنبك! وهكذا لمّا خاضوا فيما كان حَصَل في القرن الأول من بعض المواقف فقال بعض الصالحين: تلك دماءٌ طَهّر الله منها أيدينا فلا نُلوِّث بها ألسنتنا، قال؛ طهَّر الله أيدينا منها، لن ألوِّث بها لساني -الحمدلله- قد سَلِمتُ، فلن أسبب لنفسي مشكلة؟! قد سَلِمتُ منها بِيَدي فلن أُلوِّث لساني بها، وأقع في سؤال..
(وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ (9)) هذا السؤال تَبكيتٌ لِقاتِلها، فيقال: كيف قتلتَ هذه؟ بأي ذنب استحقَّت هذه البنت أن تقتلها؟ فلقد كان لهم تعامُل شَنيع مع البنات في ذلك الوقت، فمنهم من يتفق مع الأم مباشرة إذا قَرُبَت الولادة، هذه حُفرة تلدين عندها:
فهكذا، وقد قال تعالى في وصف حالهم: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِٱلۡأُنثَىٰ ظَلَّ وَجۡهُهُۥ مُسۡوَدّٗا وَهُوَ كَظِيمٞ * يَتَوَٰرَىٰ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ مِن سُوٓءِ مَا بُشِّرَ بِهِۦٓۚ أَيُمۡسِكُهُۥ عَلَىٰ هُونٍ أَمۡ يَدُسُّهُۥ فِي ٱلتُّرَابِۗ أَلَا سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ) [النحل:58-59] سواءً كان الدافِعُ لذلك:
(وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ (9))؟ وقال ﷺ: "لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلاثٍ : النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، والثَّيِّبُ الزَّانِي، والتارك لدينه المُفارِق لِلْجَمَاعَةِ" وقد قالﷺ لِجماعة المُشرِكين بِمَكة حين فَتَحَها: "اذهبوا فأنتم الطُلَقاء" بعد أن نادى مناديه: "مَن دَخَلَ المَسجِد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل بيتهُ فأغلق عليه بابهُ فهو آمن" نشر لهم هذا الأمن وقت دخوله إلى مكة المكرمة -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-، وأَمَرَ جَيشه وَجُندَهُ أن لا يُقاتِلوا إلّا من قاتَله، أن لا يبدأوا أحداً بقتال، مع أنَّ مركز الدّار الحربيّة التي كانت تُحاربهم من المشركين هذا محلهم، ولكن لمّا دخل عندهم كان هذا هَدْيُهُ وهذه سيرته -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-.
ولما عَيَّن عدداً مُعَيناً من هؤلاء ممن استَحقوا القتل، أكثَرَهُم شُفع لهم وتَرَكَهُم بعد ذلك! العدد الذي عيّنهم -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-، حتى لما استُؤذن له في -عِكرمة ابن أبي جهل- وذُكر له أنه يُقبِلُ على الإسلام إذا قُبِل وأُمِّن، وطلبوا منه علامة على تأمينه فأعطاهم عمامة له، وعند إقباله قال: "إنَّ عكرمة سيأتي راغباً في الإسلام فلا تَذكُروا أباه أمامهُ بسوء" قال للصحابة: إذا وصل عكرمة ما أحد يذكر أبو جهل بسوء، أمام ابنه عكرمة، أبو جهل؛ فرعون هذه الأُمة؛ لكن الله ما تَعبّدنا بالسِّباب والشتائم والإيلام أو إيذاء بعض الأحياء على أُناس قد مَضَوا وحِسابُهُم على الله -تَبارك وتعالى- "فلا تَذكُروا أباهُ أمامهُ بِسوء" ما أعظمَ تَهذيبهُ وتَأديبهُ ﷺ ومنهاجَهُ الكريم..
(وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ (9))؟ قال سيدنا علي: أنا أول من يَجثو للخُصومة يوم القيامة، أنزَلَ الله تعالى في القتال يوم بدر (هَٰذَانِ خَصۡمَانِ ٱخۡتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمۡ) [الحج:19]، مشركين كفار يُقاتِلونَ النبي ﷺ والمؤمنين بغير حَق، والمؤمنون يُقاتِلونَ بأمر الله تعالى المُقاتِلينَ بالمنهاج الذي ارتضاه (هَٰذَانِ خَصۡمَانِ ٱخۡتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمۡ)، وكان من أول المُبارِزين في يومِ بدرٍ، وقد أخرج النبي ﷺ ثلاثةً من الأنصار إذ خَرَجَ شيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد ابن عتبة من المشركين، قالوا: أخرِج لنا أكفاءً مِن عِندك، فأخرجَ لهم ثَلاثةً من الأنصار جاؤوا، قالوا: من أنتم؟ قالوا: فلان، قالوا: أكفاء كرام لكن، نريد من أصحابنا، من أبناء عُمومتنا من هؤلاء الذين خرجوا من عندنا، فلما قالوا، قال: النبي ﷺ قُم يا حمزة، قُم يا أبا عُبيدة ابن الحارث ابن عبد المطلب، قُم يا علي، فقام الثلاثة فَتَقابَلوا، فَقَتَلَ سيدنا حَمزة؛ عُتبة بن ربيعة، وقَتَلَ سيدنا علي؛ الوليد ابن عتبة، واختلفا ما بين الكافر وأبو عُبيدة ابن الحارث بن عبد المطلب بضربتين ضرب كلاً منهما صاحبه، فأجْهزوا على الكافرِ، وحَمَلوه إلى الخيمة بجروحه واستقبله ﷺ ووضع رأسه على فخذه وكان يقول: يا رسول الله لو رآنا أبو طالب لعلم أنها حق بقوله:
ونُسلِمه حتى نُصَرّع حوله *** ونَذهَلَ عن أبنائِنا والحَلائل
ويقول: يا رسول الله، هل أنا شهيد إن مُتُّ من هذا؟ فيقول ﷺ: أشهد أنك شهيد عند الله يوم القيامة. فَبَقيَ حتى انتهت المَعركة وأقام ﷺ ثلاثة أيام، ثم سار، وساروا به، وهو معهم مريض من أثر القِتال، فلمّا كانوا بالصفراء في رجوعهم، فاضت روحه فقبرهُ هناك صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
فهؤلاء الذين تَبارَزوا في أول وقعةٍ بين سيد الوجود والكفار المشركين، أول من يُدعى من الأمة لِحَل القَضية بينهم -قَضِية سَفك الدماء- فأوَّل ما يُقضى بين النّاسِ في الدّماء! فلذلك قال أنا أول من يجثو للخُصومة بين يدي الله- تبارك وتعالى- يوم القيامة.
(وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ (9)) فعَرَضَ لنا -سبحانه وتعالى- من جُملة الأسئلة الكبيرة في القيامة هذا السؤال؛ ليُبَيّن لنا وجه القيامة كيف يكون!
(وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)) (نُشِرَتْ) وفي قراءة و(نُشِّرَت)، في القراءة كما قال: (بَلۡ يُرِيدُ كُلُّ ٱمۡرِيٕٖ مِّنۡهُمۡ أَن يُؤۡتَىٰ صُحُفٗا مُّنَشَّرَةٗ) [المدثر:52] تُنشر وذلك:
يَذكرون أنهم يَكتَشِفون الآن معاني من التسجيلات في بعض الخلايا الموجودة في الرقبة لِكُل مايَمُر بالإنسان؛ ومهما تَوَصلوا لِشَيءٍ من ذلك فالأمرُ أكبر في ذلك المَوقف.
ثُمَّ إنَّ لِما كَتَبَ الملائِكة في الصُحُف؛ من أعمالِنا وأحوالِنا في لَيلِنا ونَهارِنا من أيام تَكليفِنا إلى وَقتِ وَفاتِنا؛ تُجمَعُ حَولَ العرش، وبينما الناس في موقف القيامة أُلقِيَت الصُّحف، وإذا نُشِرَت الصُّحف استلمَ كلٌ كتابه إمَّا بيمينه من أمامهُ، أو بشماله من وراء ظهره، فكلٌ يأتيه كِتابه إمَّا أَمامهُ ويُمَكّن أن يَستَلِمَه باليمين، ويأتي الكِتاب الآخر من وراء ظَهره! ولا يستطيع أن يمدّ إلا يُسراه يَتَناول بها كِتابه (فَأَمَّا مَنۡ أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ بِيَمِينِهِۦ فَيَقُولُ هَآؤُمُ ٱقۡرَءُواْ كِتَٰبِيَهۡ * إِنِّي ظَنَنتُ) [الحاقة:19-20] يعني: كنت مُوقِن (أَنِّي مُلَٰقٍ حِسَابِيَهۡ * فَهُوَ فِي عِيشَةٖ رَّاضِيَةٖ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٖ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٞ * كُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ هَنِيٓـَٔۢا بِمَآ أَسۡلَفۡتُمۡ فِي ٱلۡأَيَّامِ ٱلۡخَالِيَةِ) [الحاقة:20-24]، ومن جُملة معاني هذا:
وهكذا يقول: (فَمَا لَنَا مِن شَٰفِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٖ) [الشعراء:100-101] أين صداقاتِكم؟ ومَلَأتُم لنا الدنيا؛ الصديقة والشَّريكة، والأصدقاء والعلاقة الوثيقة.. أين ذهبت كلها؟ لم يعد أي شيء منها؟! (فَمَا لَنَا مِن شَٰفِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٖ) [الشعراء:100-101] يقولون: الأصدقاء أيضًا مثلُنا في النار، مُخربَطين، لا ينفع بعضهم بعض، يتبرأ بعضهم من بعض (إِذۡ تَبَرَّأَ ٱلَّذِينَ ٱتُّبِعُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ) [البقرة:166] ما عندنا صديق من المَقبول كلامهم عند الله من أهل الوَجاهة، أو من أهل الرُتَب العلِّية شفعاء في ذلك اليوم، لا يوجد صديق معنا من هؤلاء، ذهبت الصداقة التي بيننا وبينهم، لما يأتي عند رأسهم إبليس الرجيم يقول لهم: (إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمۡ وَعۡدَ ٱلۡحَقِّ وَوَعَدتُّكُمۡ فَأَخۡلَفۡتُكُمۡۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيۡكُم مِّن سُلۡطَٰنٍ إِلَّآ أَن دَعَوۡتُكُمۡ فَٱسۡتَجَبۡتُمۡ لِيۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوٓاْ أَنفُسَكُمۖ مَّآ أَنَا۠ بِمُصۡرِخِكُمۡ وَمَآ أَنتُم بِمُصۡرِخِيَّ إِنِّي كَفَرۡتُ بِمَآ أَشۡرَكۡتُمُونِ مِن قَبۡلُ) [إبراهيم:22]؛ انتهى لم يعد هناك شيء! أين الصداقة؟ أين العلاقة؟ وكل صداقة لغير الله نهايتها هكذا.. (ٱلۡأَخِلَّآءُ يَوۡمَئِذِۭ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوٌّ إِلَّا ٱلۡمُتَّقِينَ) [الزخرف:67]؛ إن كان لك صديق تقي، لك خليل تقي، هذه الصداقة الباقية "المتحابون في الله على منابر من نور يوم القيامة"، "ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه في ظل عرش الرحمن" وتَبقى هذه الصداقة والعلاقة الطيبة على التقوى.
(وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)) وعندها لايدري الإنسان مَن حواليه! ولا يعرف أب ولا أخ ولا ابن ولا بنت ولا زوجة، لا يعرف أحد،..! حتى يَستَلِم كِتابه باليمين أم باليسار،
(وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) فَتُنشَرُ الصُحف لِيَستَلِم كلٌ صَحيفَته، لا أحد في القيامة لا يعرف القراءة، كلهم يَقرَأون، لا أحد يقول أنا أُمّي! تعال اقرأ؛ كلهم يقرأون، من أولهم إلى آخرهم؛ عربي عجمي، صغير كبير، كلهم يقرأون.
قال: (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)، وفي قراءة: نشِّرت (وَإِذَا السَّمَاءُ) المتينة الرصينة القوية (وَبَنَيۡنَا فَوۡقَكُمۡ سَبۡعٗا شِدَادٗا) [النبأ:12]، (كُشِطَتْ (11)) كَشط وقَشط!! تشقَّق تَتلفَّف (يَوۡمَ نَطۡوِي ٱلسَّمَآءَ كَطَيِّ ٱلسِّجِلِّ لِلۡكُتُبِ) [الأنبياء:104]، وللكُتاب في قراءة: (كَمَا بَدَأۡنَآ أَوَّلَ خَلۡقٖ نُّعِيدُهُۥۚ وَعۡدًا عَلَيۡنَآۚ إِنَّا كُنَّا فَٰعِلِينَ) [الأنبياء:104]، السماء في عظمتها هذه وفي سمكها، كم؟!! ملايين السنين، لا تحتاج من أحد صِيانة، ولا تحتاج من أحد تَرميم ولا تحتاج -الله أكبر- إذا جاء ذلك اليوم، هذه القوة في الصنع؛ كُشِطَت؛ كَشط كَشط، تَلف بعضها بعض، تَتَشَقق وتَلفف (يَوۡمَ نَطۡوِي ٱلسَّمَآءَ) [الأنبياء:104] -لا إلٰه إلا الله- (وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطۡوِيَّٰتُۢ بِيَمِينِهِۦۚ) [الزمر:67] بِقُدرَته تعالى انطوت.
(وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11)) انظر الى القيامة كيف هي! تعرف ماهي عَظَمةِ القيامة؟ ماهذا اليوم المُقبِل علينا؟! اجعلنا يارب في عنايتك ورعايتك ورحمتك وظل عَرشِك في زمرة حبيبك محمد.
(وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِرَتْ (12)) وفي قراءة: سُعِّرت؛ سَعَّرها غَضَب الله وذنوب بني آدم، ذنوب المُكَلَّفين، في ذلك اليوم يشتدُ شَوقُها لأصحابها الذين وعدهم الله بها من الكُفارِ والفُجارِ والعُصاة؛ فَتُسعّر! حتى إذا أُقبل بها إلى المَوقف وأهل المَوقف مجتمعينَ في أرضِ الحِساب والجَزاء، لِمَ أرض الحِساب والجَزاء؟
ثم تُؤمر فترجِع إليهم فتُحيطُ بأهل الموقف، وإذا بها تُنادي أصحابها الكبار المُجرمين والفُساق تعرفهم، معروف خَبرها عندهم، وَهم وَقودَها تُناديهم (كَلَّآۖ إِنَّهَا لَظَىٰ * نَزَّاعَةٗ لِّلشَّوَىٰ * تَدۡعُواْ مَنۡ أَدۡبَرَ وَتَوَلَّىٰ * وَجَمَعَ فَأَوۡعَىٰٓ) [المعارج:15-18] يا فُلان يا فلان.. تُناديهم بأسمائهم في المَوقف يا فلان يا فلان يا فلان؛ حتى تَستَأذِن رَبها أن يأمرها بالرجوع إلى أيدي الزبانية وتحيط بهم، تقول يا رب فلان وفلان وفلان ائذن لي أخطِفهُم من بين الناس، فيُؤذن لها فَتَمُد لها خيوطًا كأعناق الإبل، تَخطف هؤلاء من بين الناس في الموقف إلى النار مباشرة، كُبارُ المُجرمين الفُساق -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
(وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13)) أيضاً بَلغَ بها الشوقُ حَدها لمن كانت تُوعَدُ بهم من المُؤمنين والصالحين فَتُزلَف، تُقرب لهم، تَتَزخرف لهم، تَتَزين لهم (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13)) "وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام".
إن كان صوت النار يُسمع من مسافة مائة سنة؛ فريح الجنة يُشم من مسافة خمسمائة سنة! -الله أكبر- ما أعظمها وما أعظم ريحها وما أحسنه، ويُحرم شَمّ هذه الريح كثير من الناس -والعياذ بالله تعالى- على أعمال جَنوا بها على أنفسهم حقيرة يسيرة ارتضوا بها؛ فحُرموا أن يشموا الرائحة، فكيف أن يدخلوا الجنة؟! -والعياذ بالله تبارك وتعالى- اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ونعوذ بك من سخطك والنار.
(وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ (14)) هذه الأشياء كُلّها أمام عينك، وقعت في تلك الساعة، الذي يَهُمك ويهم كل نفس مُكَلَّفة أنها عَلِمَت ماذا أحْضَرَت! حسنات أو سيئات، خيرات أو شرور، إيمان أو كفر، إخلاص أو رياء أمامك؛
ومع ذلك فإن هذا الأعمال المعايَنة المشاهدة بأعين القلوب والبصيرة التي تَخرِقُ أعين البصرِ في القيامة منها:
ثم عند وقوف العبد بين يديه وحده، ينشر عليه كنَفَه؛ حتى لا تدري الملائكة ما يقول له! ويُذكّره ببعضها، يقول: عبدي تذكر يوم كذا يوم فعلت كذا؟ يخاف يخاف يخاف، يظن أنه هلك يقول: ربِّ، ألم تغفر لي؟ يقول: نعم سترتها عليك في الدنيا واليوم أغفرها لك، قم فادخل الجنة برحمتي.
هذه معاملتهُ الجميلة مع من أراد أن يَستُرَه، وما أحسن من مُعاملته.. ولكن من تَأبّى وشرد على الله ولم يُبالي بعظمة الله حتى جاءه الأجل، ويلٌ له، على أبسطِ الذنوب يفضحه ويكشف عورته بين الخلائق، ومن له؟ وإذ لم يتأدب مع هذا الخالق ولم يعرف عظمته (وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦ وَٱلۡأَرۡضُ جَمِيعٗا قَبۡضَتُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطۡوِيَّٰتُۢ بِيَمِينِهِۦۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ) [الزمر:67].
(عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ (14)) ثم أتمّ الحقُ -جلَّ جلاله- ذِكرَ الأخبار بأقسامٍ جدّدها ببعض الكائنات والمخلوقات -يأتي معنا إن شاء الله-.
نسأله ونتوجه إليه أن يسترنا بستره الجميل، يا سابل الستر؛ من لذنوبنا، من لعيوبنا، من لسيئاتنا،) من لما صَدَرَ من قلوبنا ومن أعضائنا، من لذلك غيرك يا رب العالمين، آمنا بك وعَلِمناك رباً تؤاخذ على الذنب وتعفو عنه إذا شئت، وسألناك برأفتك ورحمتك وبسابق العناية لمن اعتنيت بهم أن تجعلنا ممن تسترهم بسترك الجميل، وتضفي عليهم خيرك الجزيل، وأن تُنسيَ بقاع الأرض وجوارحنا والملائكة ذنوبنا وسيئاتنا، وأن تمحوها من صُحُفِنا وتُبَدّلها إلى حسنات، يا مُجيب الدعوات اغفرلنا السيئات، سامحنا في الخطيئات.
يارب واعف عنا جميع الذنوب صغيرها وكبيرها سرّها وعلانيتها أوّلها وآخرها ظاهرها وباطنها (وَمَن يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ) [آل عمران:135] يا من لا يغفر الذنوب إلّا هو، اغفر لنا كل ذنب بفضلك واستر لنا كل عيب بِطَولك، ولا تُخزِنا يوم القيامة إنك لا تُخلف الميعاد، ولا تفضحنا بِشيء من ذُنوبنا ولا سَيئاتنا ولا خطايانا ( رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَيۡنَآ إِصۡرٗا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَآۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا) (وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَآۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا) (وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَآۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ) [البقرة:286] -آمين-.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
06 رَمضان 1438