تفسير سورة التكاثر -2- تكملة تفسير سورة التكاثر

تفسير الفاتحة وقصار السور - 23 - تكملة تفسير سورة التكاثر
للاستماع إلى الدرس

تفسير الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لسورة الفاتحة وقصار السور بدار المصطفى ضمن دروس الدورة الصيفية العشرين في شهر رمضان المبارك من العام 1435هـ.

نص الدرس مكتوب:

﷽ 

(أَلۡهَىٰكُمُ ٱلتَّكَاثُرُ (1) حَتَّىٰ زُرۡتُمُ ٱلۡمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوۡفَ تَعۡلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوۡفَ تَعۡلَمُونَ (4) كَلَّا لَوۡ تَعۡلَمُونَ عِلۡمَ ٱلۡيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ ٱلۡجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيۡنَ ٱلۡيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسۡـَٔلُنَّ يَوۡمَئِذٍ عَنِ ٱلنَّعِيمِ (8))

 

الحمد لله على منّهِ الذي يزداد، وخيره الذي جلَّ عن التعداد، وعلى واسع الإفضال والإمداد، وأن خصَّنا بعبده المصطفى خير العباد، وجعلهُ في الخلق أجود الأجواد وأمجد الامجاد، فهو الذي علا جميع الكائنات وارتفع وساد، وهو الشفيع الأسنى في دار المعاد، وبه عرفنا رمضان وأسراره، وبه تُلِيَ علينا كلام الحق -جلّ جلاله- وما أنزله عليه، مُيَسراً بلسانه، فتم علينا به واسع فضل الله وامتنانه.

 فنسأل الرحمن أن يصلِّي منه عنا، وأن يُسلّم منه عنّا، على عبده محمد المشرب الأهنى، والنور الأسنى، الذي دنا فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، وعلى آله وصحبه وأهل محبته وقربه، الشاربين من شربه، وعلى آبائه وإخوانه من النبيين والمرسلين، وعلى آلهم وصحبهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

 

ما يصح التنافس فيه ومالا يصح

وفي مائدة نعمة الله علينا بالقرآن، وخواتيم رمضان، نتأمل المعان، ونهوى تناول شريف الدِنان، في حضرات التدان، وقد مَرَّ بنا أخبار سورة التكاثر، التي قام فيها الميزان لما يصح أن يُتنافس عليه وما لا يصح التنافس فيه، ولِمَا تنبغي المسابقة إليه وإلى ما ينبغي عدم الإكتراث به، فعند انحراف الإنسان يذهب انتباهه واهتمامه واشتغاله والتهاءهُ بما لا يجدي، بما لا ينفع، بما لا يُعِزُ، بما لا يرفع، بل ربما اشتغل واهتم بما يضره وبما يظلمه، وبما يُبعده، وبما يوصله إلى العذاب المقيم الشديد والعياذ بالله تبارك وتعالى.

فانحراف هذا الإنسان فيما تهواه نفسه حتى يتكاثر به، ميزانٌ لِما وصل إليه فِكْرُهُ وانتهى إليه نظره ووصل إليه علمه، قال تعالى لنبيه: (فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) [النجم:29] انكبَّ وانصبّ اهتمامه على شوؤن دنياه.

 قال الله أعرض عن هؤلاء، وِلمَ أعرض عنهم؟ لأن الله أعرض عنهم (ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ)[النجم:30] ما تجاوزوا الحد الدنيء الساقط من العلم -هم هنا- وهو مهما كثر إذا نُسِبَ إلى ما كان يمكن للإنسان أن يُحَصِله من العلم بالله وأسمائه وصفاته وعظمته، الذي يُهَيُئُه للنعيم الأعلى يصير هذا لا شيء، كما قال في الآية الأخرى: (وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم:6-7].

إذًا فالالتهاء عن تحقيق الإنسان لسيره في الطريق ليتحقق بالفضائل ويتخلى عن الرذائل -إلتهائه عن ذلك بأي شيء- مظهر الإنحراف في الإنسان والفساد والطغيان، الذي يهوي به إلى النيران.

 فكل من سبقت لهم سوابق السعادة من الله، فلقلوبهم في هذه الدنيا وعلى ظهر هذه الأرض اهتمام بالغٌ عال بالدرجات العوال، ومعرفة ذي الجلال، والإقتداء بزين الصفات والخِلال، حميد الخصال، جامع معاني الكمال الإنسان كله -صلوات ربي وسلامي عليه- هذه علامة سابقة الخير، الله يجعلنا من هذا الصنف، وهذا القسم المُشَرَّف الذي أمدَّه الله بالتأييد واللطف.

 

انقسام الناس إلى قسمين لا ثالث لهما 

  • (فَأَمَّا مَن طَغَىٰ * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ) [النازعات:37-39]، 
  • (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ) [النازعات:40]، لأنه عرف عظمة الله، عرف جلال الله، عرف جمال الله، خاف مقام ربه أن يُحْرَم هذا الجمال، ولا جمال إلا منه، وأن يتجلّى عليه بالجلال فيُقطع عن كل إفضال، في نار موقدة تطلّع على الأفئدة (مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ)، فما يحتاج وهو يمضي في هذه المسيرة المباركة النويرة، إلا أن يزجر نفسه عن هواها.

 

متى يصير داء النفس دواءها؟ 

 وفي ذلك سأل السائل: متى يصير داء النفس دواءها؟ فكان الجواب: إذا خالفت النفس هواها، (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ) [النازعات:40-41]

   ربِّ بالقرآن ورمضان الذي أنزل فيه القرآن لا ينصرف عنا رمضان، إلا ونحن في (مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ ..) [النازعات:40]، وندوم على ذلك حتى نلقاك يا ملك الممالك.

فقد كان بعض الصالحين في تربية نفسه -تخاطبه نفسه بشيء- فجاء عنده هذا السؤال: متى يصير داء النفس دواءها؟ فذهب إلى جوار بيت الجنيد في الليل، والناس ناموا !.. فسأل الله أن يخرج له الجنيد بن محمد ليُفتيه في المسألة ولتقنع نفسه، قال سيدنا الجنيد: قمت وتوضأت لأصلي ما وجدت الحلاوة، جئت أنام ما جاء النوم، قلقتُ فخرجت.. فإذا الرجل في الشارع، إِلَيَّ يا أبا القاسم في هذه الساعة على غير موعد؟ قال: بلى خاطبت الذي يُقَلِّب القلوب أن يُحرك لي قلبك، قال: فلقد فعل.. خرَّجنا هذه الساعة من البيت، فما حاجتك؟ قال: يا جنيد، متى تكون داء النفس دواها؟ قال: إذا خالفت النفس هواها، قال: سمعتي؟ سمعتي؟ أجبتك بهذا الجواب مرّات وما قنعتي حتى قد سمعتيه؟؟ خلاص.. السلام عليكم .. وراح.. قال: ما رأيتُه قبلها ولا بعدها، إلا في تلك الليلة جاء وهو في شؤون ترقياته ومجاهداته لنفسه، وقالت النفس ستسمع الخبر من الجنيد بن محمد وسمعت الخبر وذهب، وكانت الكلمة الواحدة تؤثر على الإنسان في مسار حياته كلها وفي مدة عمره كلها.

 

موعظة ابن السمَّاك

قالوا لبعض الصالحين: بِمَ انتفعت؟ وصح إقبالك على الله؟ قال: بموعظة ابن السَمَّاك، فما موعظة ابن السَمَّاك؟ قال: مررت يوما وابن السماك يعظ في القوم، فسمعته يقول: أيها الناس؟ من أقبل على الله بكليته أقبل الله عليه جُملة، ومن أعرض عن الله بكليته أعرض الله عنه جملة، ومن كان ساعة وساعة كان الله له ساعة وساعة.

 هذا سَمِع الكلمة هذه وخلاص.. تعرف معنى خلاص؟ لزم الباب ولاذ بالأعتاب وفتح له البوّاب ودخل مع الأحباب، وأعطي بغير حساب، كلمة سمعها وانتهت المسألة، طول عمره نفعته، من أقبل على الله بكليته أقبل الله عليه جُملة، ومن أعرض عن الله بكليته أعرض الله عنه جملة، ومن كان ساعة وساعة كان الله له ساعة وساعة، الله يرزقنا صدق الإقبال عليه.

 

بيان حقيقة التكاثُر 

 سمعنا الحق تبارك وتعالى يُقيم لنا الميزان يقول: أتكاثرٌ بأموال وأولاد؟ (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا) [سبأ:35]، وهذا يُنازل العقول البشرية والفكر البشري في مختلف الجهات والفئات والطوائف والأمكنة والأزمنة، يظنون أن الاعتبار يقوم بشيء من هذه المظاهر، حتى لما قالوا لنبي من الأنبياء في بني إسرائيل (ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ  ..) [البقرة:246]، وأكد عليهم (قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ) [البقرة:246]، وقال لهم: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا) [البقرة:247] فلما جاء تَعيين الملك، جاء ثوران النفوس، (قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ) [البقرة:247]، أنتم تجيئون أول مرة (ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ) [البقرة:246]، (وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ) [البقرة:246]، والآن بعد التعيين تفعلون هكذا؟!! 

هذا الطبع البشري مصيبة، هذا لايوجد استقامة إلا عند الأفذاذ النوادر الأكياس، يقول: (وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ) [البقرة:247]، وما مصيبة المال هذا؟ ولا بُد يكون سعة من المال؟ قال: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ) [البقرة: 247] 

فالنظرة إلى شوؤن الإصطفاءات من صاحب القوة والقدرة والمُلك والحكمة وصاحب الكلمة، وهو الله، هذا نظر أهل التوحيد واليقين والإيمان والأصفياء، والنظر إلى الإعتبارات الأخرى، نظر النفوس التي لم تتم تزكيتُها، والعقول التي لم تُخرج عن عَقْلِها، العقول المَعْقُولَة، المعقولة مُعَقَّلَة، المعقلة بالتوافه والسفاسف معقلة. وإنما بَلَّةٌ من كأس المحبة والقرب تطلق العقل من العُقَال؛

فبلَّة من كاسهــــا المختــوم *** تملأ رياض القلب بالعلوم

وتحفظ الفهم عن الوؤمي ***  وتطلق العقل من العُقَـــالِ

فيدرك ويعلم علم اليقين، (لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ..(5))، رزقنا الله النصيب الوافر من هذا العلم.

 يقول إنما يصلح التنافس في نيل الدرجات العلا، قال الله وقد ذكر لنا مآلًا يؤول إليه الأصفياء والأخيار، اللهم اجعلنا منهم، (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ) [المطففين:22-23]، يقول الحق تبارك وتعالى؛ ما امددناهم به من نعيم واسع كريم، تمتلىء به بواطنهم فيفيض على أجسادهم فترى السيما والعلامة على وجوههم: (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) [المطففين:24]، ما تقع عينك على وجه الواحد (نَضْرَةَ النَّعِيمِ ..) [المطففين:24]، موجودة (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ ۚ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين:24-26]؛ 

 

أرباب العقول بترفعون عن التنافس المذموم 

فكل التنافسات في العالم هذا والمسابقات والمسارعات إلى غير هذه الحقائق ضرْبٌ من اللعب واللهو(أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) [الحديد:20]، ولكن أرباب الجد الذين عقلوا الأمر ترفَّعوا عن ذلك، (وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ..) [المطففين:26].

وقال في وصف الذين انتهى حالهم إلى أن يستقروا في دار نعيم الله وينظرون، بعض الذين كانوا يضحكون عليهم في ديانتهم وفي تَمَسُكِهم بذكر الله في الدنيا ويقولون لهم أنتم مُصَدِّقِين بالآخرة وهناك حياة بعد هذه!، (قال قائلٌ منهم إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ) [الصافات:51]، صاحبه في الدنيا، (يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) [الصافات:52-53]، قال ناداهم ملك، وهذا صاحبه -يتكلمون- قال له ملك: (هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ) [الصافات:54]، هل تريد أن ترى صاحبك هذا، أين هو الآن؟ (فَاطَّلَعَ..) [الصافات:55]، وانكشف الحجاب بينه وبين النار (فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ..) [الصافات:55]، يتقلّب في النار المؤصدة؛ فيُدرك هذا نظر صاحبه ذلك إليه (قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ) [الصافات:54-55]، قال: يا فلان، وإذا هو في العذاب وما يكاد يسمعه، من هذا؟  هذا فلان الذي كان معي في الدنيا (قَالَ تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ) [الصافات:56]، كِدْت تهلكنا لوسمعتُ كلامك في الدنيا، تمشي مع ملاحدة، تمشي مع ناس حكَّموا عقولهم، تضحك على الدين وآل الدين، (تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ..) [الصافات:56]؛ (وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي..) [الصافات:57]، بالتوفيق للطاعة والتمسّك بركب النبي ومنهجه ومَذهَبُه وطريقته (وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) [الصافات:57]، معك في البلاء هذا والعذاب إلذي أنت فيه (أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [الصافات:58-59].

 

بالتمسك بركب النبي ﷺ ومنهجه ننال الفوز

قال الله هذا المآل الذي آلَ إليه هذا المُتَمَسِّك بالدِّين، يقول جلَّ جلاله- وتعالى في علاه: (إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَٰذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ) يعني إن كان شيء عمل في الحياة، تُنشأ له مؤسسات، وزارات في مثل هذا، (لِمِثْلِ هَٰذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ) إمَّا أن يذهب كله في الأمر الحقير الفاني الزائل رَجَّة ورجَّة ونسيان لهذا!! هذا جهل وغفلة وخطر على الناس. 

قال: (لِمِثْلِ هَٰذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ)، فكيف يليق التكاثر بالأموال والأولاد؟ (وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ) والكفار قالوا، (لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَىٰ إِلَيْهِ كَنزٌ) [الفرقان:7-8] هل الشأن  كنوز أو كيف؟ عقلياتهم ما تعرف إلا.. حَوْلها نُدَنْدِن يقولون: 

رأيت الناس قد مالوا *** إلى من عنده مــــــــــالٌ

ومن لا عنـده مـــــــــــالُ *** فعنه الناس قد مـالـوا

رأيت الناس قد ذهبوا *** إلى من عنـده ذهـــــــــــبٌ

ومن لا عنــــده ذهــب ُ *** فعنه الناس قد ذهبـوا

رأيت الناس مُنفَضّة *** إلى من عنده فضـــــــــة

ومن لا عنده فضـــة *** فعنه الناس منـــفضة

ورجع بعضهم يقول في المتأخرين:

رأيت الناس قد داروا *** إلى من عنـــــــــده دولارُ 

ومن لا عنــــــــــده دولار *** فعنه الناس قد انفضوا

هؤلاء الناس الذين فقدوا العقل، فقدوا الإيمان وحقائقه، فقدوا الوعي للحياة وما بعدها هؤلاء، أما الناس الذي هم في الحقيقة ناس، لا والله (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) [البقرة:207]، (فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا..) [البقرة:200]، حتى إذا صلَّى أو قرأ أو صام لربه يقول لأجل أن ينجح المشروع الفلاني ولأجل العافية في البدن، لأجل ولده ماذا يحصل له ولأجل يشتري له سيارة، إذا لَجَّ الناس بالدعاء الى الرحمن، لصلاح قلوبهم وتنوير قبورهم، وإعطائهم الكتب بأيمانهم، وهذا يقول السيارة والولد و الدار والبيت والقصر! دعاؤه في هذا، فِكْره في هذا، حتى يعبد الله لأجل يجيء له بهذا، عجيب.. ما عرف الله أصلاً، ما عرف الله، لو عرف الله  سيقصد الله، ويعرف أن كل شيء من الله وبالله -جلَّ جلاله-.

فغريب شأن هذه النفوس، إذا لم تُهذَّب، إذا لم تُأدَّب، إذا لم تُصفَّى، إذا لم تُنَقَّى، إذا لم تُرَبى، لذا قال: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ) [آل عمران:164]، يطهرهم؛ في مقاصدهم في مراداتهم في وجهاتهم في رغباتهم، (وَيُزَكِّيهِمْ..) [آل عمران:164]، يحط عنهم القشور والأمر الحقير، يرفعهم إلى فوق (وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) [آل عمران:164]، فعاب الله على أهل هذا التكاثر بالمال: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ(1) حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ(2))، استمر تكاثركم، وانشغالكم، ولهوكم من دون أن تفيقوا، ولا تتذكروا، ولا تتأملوا الحقيقة إلى أن وصلتم إلى القبور، مُتُم ودخلتم قبوركم.

 

تفسير الآية: (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3)) 

رَدْعٌ عن هذا التكاثر بما لا خير فيها ولا شيء تحته، "إنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ علَى الإمارَةِ" قال النبي في مظهر من مظاهر هذا التكاثر على الدنيء: "إنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ علَى الإمارَةِ" لكن هذه الإمارة التي يحرصون عليها في آخر الزمان تحليلها من منظار النبوة ونتيجتها وإنها "سَتَكُونُ حسرة يَومَ القِيامَةِ" ماهذه المصيبة ! شيء سيتحوّل إلى حسرة -ليست حسرة زمن محدود مثل حسرة الدنيا- ويقال حتى البرزخ مصيبة، ولكن أخف من  حسرة القيامة (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ) [مريم:39]، وإنها ستكون ندامة يوم القيامة، وقال العلماء والعقلاء والحكماء: بئست الندامة ندامة يوم القيامة لأنها ندامة لا ينفع فيها التدارك، لا يمكن فيها التعويض، لا يمكن التخلّص منها -فات كل شيء- ندامة ندامة ندامة شديدة، ولا يمكن تداركها بأي حال، بئست الندامة ندامة يوم القيامة.

 

حبيبٌ جاء على فاقة

ولذا قال بعض الصالحين لما أدركه الموت، فنزل به قال: "حبيب جاء على فاقة، لا أفلح من ندم" حبيب جاء على فاقة لا أفلح من ندم، يقول: لما أحس بالموت، جاءت له الملائكة، قال: حبيب جاء على فاقة -أنا مشتاق- قال: "لا أفلح من ندم" الذي يندم في مثل هذا الموطن لا أفلح، من انتبه لنفسه حتى في هذا الموطن يفرح ما يندم، نِعم الرجل، نِعم الإنسان، أما الذي إذا وصل لهذه الساعة وهو ندمان لا أفلح، لا أفلح من ندم، قال سيدنا بلال عند الموت: "واطرباه واطرباه غداً ألقى الأحبة محمداً وحزبه" ﷺ، فعسى نلقاه إن شاء الله.

 

متى تنكشف الحقيقة؟

قال: (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4))، (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3))، هذه الحقيقة (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)) (ثُمَّ) لأجل التأكيد (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4))، سينكشف لكم وجه الحقيقة، والله يقول في الآية الأخرى لمن وصل للقيامة: (لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [ق:22]، (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3))، عند الغرغرة وفي البرزخ (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4))، حقاً سوف تعلمون بالمعاينة في القيامة -الله-. 

(كَلَّا..(5)) -حقاً- (لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ..(5))، يعني لو علمتم علم اليقين، العلم الذي لا ريب فيه لم تؤخذوا بالظن ولا بالوهم ولا بالشك، ولكن انكشفت لكم الحقيقة فعلمتموها كما هي. 

(لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ..(5))، ما كان منكم هذا التكاثر بالأموال ولا بالأولاد ولا بالمظاهر، يقول الحق في الآية الأخرى: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ) [سبإ:37]، إذًا فيما التكاثر؟ (إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا) [سبإ:37]، فالذي آمن وعمل الصالحات بكل شيء يتقرّب إلى ربه؛ بأكله، بشربه، بلباسه، بماله، بولده. فالتقرُّب ليس بوجود عين المال ولا الأولاد:

  • ولذا كلما ذكر الكفار، يقول: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ ..) [التوبة:55]، لا تعجبك أموالهم ولا أولادهم.
  • يقول في المؤمنين (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) [الفرقان:74]

 وقال للآخرين (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ) ..) [التوبة:55]، لماذا؟؟ لأن هؤلاء أموالهم وأولادهم يُعِدُّونَهُم للإيغال في قضاء شهواتهم التي تُزري بهم في القيامة وتوقعهم في العذاب، ويَتَوَصَّلُون بها إلى ما شَرَعُوا لأنفسهم من موجب غضب الجبار عليهم من أذى واعتداء وتطاول على الغير.

 

نعمَ المالُ الصَّالحُ للرَّجلِ الصَّالحِ

لهذا يجدون نتيجة ذلك وهم في الدنيا، فمن الأموال ما يَفنى عليهم وما يسقط عليهم وما يتحسرون على فوته وما وما.. ومن الأولاد أيضاً من يخالفهم في الرأي ومن يرجع يوجّه قوته عليهم، ومن يقف -في حلوقهم- وقفة الأذى، (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)  [التوبة:55]  حتى في الدنيا يتعذبون بها  -أموالهم وأولادهم- وهكذا نقرأ مثلاً في الحديث: "نعمَ المالُ الصَّالحُ للرَّجلِ الصَّالحِ"، المسألة ليست في المال! المسألة في قلب الإنسان  وفي عقله، وفكره وذاته ومنهجه الذي يمشي عليه، إن وقع فقير وإن وقع غني وهو صالح، فالفقر خير له والغنى خيرٌ له، "عجباً لحال المؤمن إن حاله كله خير إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له"، لكن إذا ماهو مؤمن، قائمٌ بمقتضى الإيمان، فهذه كلها ترجع مصائب عليه، إن هو غنى وإن هو فقر وإن هو مرض وإن هو صحة وهكذا.

 

حُجبْتم لأنكم ألهاكم التكاثر

يقول: (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ(5)) وبذا كان يقول كثير من أهل العلم: إن من ادّعى العلم ثم أخذ يكاثر بشيء من مال الدنيا فقد كذّبه القرآن بأنه عالم، (لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ(5)) ما تكاثرتم ولا ألهاكم التكاثر، لذا كان يشير إلى هذا المعنى بعض المنبِّهين المرشدين من الصالحين يقول:

يا من هُمُ جواهـــــر*** والسرُّ فيهم ظاهر

حُجِبتمُ لأنكم *** ألهاكم التكاثر

حُجِبْتُمُ ولو كان أصلكم طيّب ومَوْرِدُكُم على مورد عذب، ولكن اشتغلت قلوبكم بهذا الأمر فأنتم محجوبون.

 يا من هُمُ جواهر*** والسرُّ فيهم ظاهر

حُجِبتمُ لأنكم *** ألهاكم التكاثــــر

إذا صَدّقتم الغافلين الجاهلين أنَّ هناك قيمة لما أبى الرحمن أن يَلْتَفِت إليه وأن ينظر إليه منذ خلقه، "إن الله لم ينظر إلى الدنيا منذ خلقها، ولو كانت تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء، لو كانت تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً منها شربة ماء" فإذا هي لا تزن جناح بعوضة وأنت تصدِّق الناس الذين يقولون هذا شيء كبير، كل شيء عظيم. كيف تقرُب من الله؟ كيف تصدُق مع الله؟ كيف تُكشف عنك الحجب؟ حُجبتم لأنكم ألهاكم التكاثر، ويرضى الله عن سيدنا سعد قال: يا رسول الله خذ من أموالنا ما تشاء واترك منها ما تشاء؛ -حالتنا، ذوقنا، مشهدنا، بواطننا، إحساسنا- عِلمُنَا الآن ما تأخذ أحب إلينا من الذي تترك، ما تأخذ أحب إلينا من الذي تترك، رضي الله عن الصادقين.

 

مراتب اليقين

(كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ(5)) ثم قال (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6)) كيف ترون؟ أي أنّه مُقْبِل عليكم رؤية الجحيم (ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7))؛

  • الرؤيا الأولى في البرزخ قال الله في قوم فرعون: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ) [غافر:46]، لهذا كان يقول لسيدنا علي: إن ذكر عذاب القبر في سورة التكاثر (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2))، زرتم المقابر أي: وجدتم الجزاء وسط القبور، ومن جملة الجزاء وسط القبور أنّ أهل النار تُعرض عليهم النار في كل صباح وفي كل عشي، وأهل الجنة تعرض عليهم الجنة كل صباح وكل عشي ، لهذا أهل الجنة يُحبون أن يمضي الوقت بسرعة إلى القيامة من أجل أن يدخلون الجنة، فكان النبي إذا زار القبور يقول: "أبشروا فإن الساعة قريب"، الوقت الباقي للقيامة ماهو بطويل مهما كان، أبشروا فإن الساعه قريب ويفرح، الثاني يرى النار كل يوم هو في عذاب، ولكن يعرف أن ذاك أشد، فما يتمنى قيام الساعة، ما يفرح بقيام الساعة، ولكن لا بُدَّ أن تقوم على كل حال في وقتها.فهذه أول رؤيا في البرزخ: (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6))
  • ثم يأتي النفخ في الصور (ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا..(7))، بعد ذلك ترونها الرؤيا الثانية: (عَيْنَ الْيَقِينِ..(7))، أمامكم معاينة مباشرة؛ فرأيتموها أول مرة في البرازخ، وسترونها ثاني مرة في القيامة
  • وماعاد بعدها بالنسبة لآل النار إلا حق اليقين يدخلون إليها، كما قال في قوم فرعون: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) [غافر:46]، ليس عرض الآن، إنما دخول فيها (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) [غافر:46] أجارنا الله من العذاب.

قال: (ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7)) 

  • العلم الأول: علم اليقين، العلم الموافق للواقع المجزوم بالقطع المقطوع بهذا اليقين، فما دام الإنسان يتردد ويشك ما عنده علم يقين، إذا خرج من الوهم ومن الشك ومن الظن إلى القطع والجزم القوي يكون علم اليقين، علم اليقين  لكن: 
  • إذا شاهده مشاهدة صار عين اليقين
  • لكن إذا امتزج به امتزاجاً وضاق ما فيه سُمي حق اليقين، حق اليقين، نعم.. 

 

أنواع الطاعات إذا تذوقناها يظهر مفعولها فينا

فإذا قيل لك إن في هذا الكوب عسلًا ممتازاً مُمَيَّزَاً في طعمه وريحه والكأس مغطى، واحد يقول ما هذا؟ هل كلامه صدق أو ليس بصدق؟ ممكن إذا كان المُخبر رجل ثقة يبدأ الصدق فيه، لكن لم يصل بعد إلى علم اليقين، فإذا قُطع وجُزم بالأمر ثلاثة وأربعة من الثقاة، ولا أحد من السامعين يشك أن وسطه عسل بهذه المميزات العجيبة؛ هذا علم اليقين..

فإذا قرّبهُ إليهم وفتح الغطاء، فشمَّ روائح عجيبة ولون؛ هذا عين اليقين. فقد انتقل من علم اليقين إلى عين اليقين. فإذا جاء له بالملعقة وذاق؛ انتقل إلى حق اليقين.

ولما كان المقصود من كثير من شؤون الشريعة وعلومها أن نتذوقها ونتحقق بها ونعمل بها؛ قال قائلهم يُنبِّه، أنه مجرد ذكر هذه الأوصاف والأخلاق والشمائل والفضائل من دون اتصاف بها ما ينفع، يقول:

ولو كِلْتَ ألفيَ رطل خمرٍ

كلت ألفين رطل من الخمر، بالضبط حقها.

لم تكن لتصير نشواناً إذا لم تشربِ

بمجرّد الكيل حتى لو تكِل ألف رطل، ألفين رطل مفعوله لن يظهر فيك أصلاً، إلا أن تذوقه وتشربه يظهر فيك المفعول والأثر.

لم تكن لتصير نشواناً إذا لم تشربِ

فأنواع الطاعات إذا تذوقناها ظهر مفعولها فينا، فعسى نذوق صوم رمضان، قيام رمضان يظهر المفعول إن شاء الله في الحال بعد رمضان، كيف يكون؟

 

سؤال التشريف والتكريم:

قال: (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8))، فيُسأل الناس عن ما أنعم الله به عليهم، والسؤال؛

  • إما سؤال توبيخ وعتاب وتعنيف 
  • أو سؤال ملاطفة وامتنان 
  • أو سؤال تشريف وتكريم، من أجل سؤال التشريف والتكريم هذا قال سيدنا علي: ما أحب أني متُّ صغيراً قبل أن أبلغ ولا أُسأل في القيامة، لكن أحب أن يوقفني ربِي بين يديه ويقول لي: عبدي، فألتذُّ بخطابه إيّاي، ونسبتي إليه ويقول: عبدي. فعلتَ كذا أو عملتَ كذا، أعطيتك كذا، وهبتك كذا؛ هذا سؤال تشريف. 

 

المؤمن يُسأل سؤال امتنان لا سؤال توبيخ 

هو الذي قال النبي عنه لسيدنا ابوبكر وعمر: هذا النعيم الذي تسألون عنه؛ سؤال توبيخ؟ لا ، سؤال تعنيف؟ لا، سيسألون عنه. هو سؤال امتنان، سؤال تكريم وتشريف لهم، ألم أُنعِم عليكم؟ ألم أطعمكم؟ ألم أجعلكم مع نبيي؟ تأكلون، وتشربون، وترجعون بعد الجوع والعطش، من مال حلال تقويتم به على مخاطبتي، على القيام بين يدي.. هذا سؤال امتنان وتشريف وتكريم.

وذلك أنه خرج ﷺ كما جاء في الروايات، ووجد سيدنا أبابكر ووجد سيدنا عمر وتعددت الروايات، فالروايات المشهورة أنه لَقِيَ سيدنا أبوبكر وسيدنا عمر وقت الهاجرة، والناس في ديارهم؛ ما أخرجك؟ قال: الجوع، قال: وأنا مثلك، يعني بيوتهم فاضية؛ كِسْرة -خبز- ما في، تمرة ما في، لبن ما في، أي غذاء ما في! هذه بيوت أبوبكر وعمر، والذي أكبر منهم كذلك ﷺ  وكثير من الناس يقول؛ واحد في بيته ما تحصِّل حتى تمرة، ماذا بيصلِّح في الحياة؟ هؤلاء الذين صلَّحوا الحياة كلها، هؤلاء الذين قوَّموا لنا أسرار الكرامة للبشرية كلها، هؤلاء الذين بيوتهم ما كان فيها شيء! ما هذه الموازين الباطلة؟!! وكثير من ناس يقول الآن هذا مسكين حتى ما يحصِّل حتى تمرة في بيته! ماذا بيصلِّح؟ كيف بينفع في الحياة؟ هم الذين نفعوا الحياة كلها، والذين أقاموا سرِّها، وعلَّموا البشرية كرامتها ومكانتها.

والحبيب خرج وسلَّم عليهما :ما أخرجكما؟ :الجوع يارسول الله، وأنا قد وجدتُ بعض ذلك، أخرجني الذي أخرجكم وهكذا، جاء في رواية أن النبي ﷺ لقي أولا أبا بكر.. ما أخرجك في هذه الساعة يا أبا بكر؟ قال: خرجتُ لألقاك وانظر إلى وجهك، جاء سيدنا عمر قال: ما أخرجك؟ قال الجوع، قال: وأنا وجدت بعض ذلك.. تفضل.

مشى بهم إلى بيت أبي الهيثم بن التيهان. وفي رواية أخرى جاء أو في قصة أخرى مشى بهم إلى بيت سيدنا أبو أيوب الأنصاري لكن هذه الرواية التي جاءت بطرق متعددة، ذهب بهم إلى منزل أبي الهيثم بن التيهان -رجل كان كثير النخل وليس له خادم وهو يتولى الخدمة بنفسه- ساكن هو وزوجته في بستان في ناحية في المدينة، فأخذهم النبي ﷺ إلى هناك، فجاء بهم إلى عند أبي الهيثم بن التيهان، فلما وصلوا نادوا عليه بالحد، كلمتهم زوجته، فقال لها: أين أبوالهيثم؟  قالت: يا رسول الله ذهب يستعذب لنا الماء، يعني يجي لنا بالماء العذب -البئر التي عندهم ماءها ليس عذبًا، لا يشربون منه، يكتفون به للزرع- قالت؛ ادخلوا يا رسول الله، فما هو إلا قليل.. إذ أقبل أبوالهيثم، نظر إليهم ففرح وسُرَّ، قال: الحمد لله ما على وجه الأرض اليوم أكرم أضيافاً مني، ضيف رسول الله وأبوبكر وعمر، فعرف من وجوهم أثر الجوع عليهم، يقول لأم الهيثم: أما قدمتي لهم شيء؟ قالت: الآن وصلوا -هذه الساعة الآن نزلوا-، أخرج عذق من النخلة وجاء به إليهم، قال: هَلّا اقتنيت لنا منه؟ قال: لتختاروا بأنفسكم، خذوا تمرهُ وبِسْرُهُ ورُطَبُه، لتختاروا بأنفسكم. وضع قِربة كان حاملها على عاتقه لما جاء ووضعها، سلّم على النبي وصاحبيه وقدّم لهم العذق وجاء بالسكين. قال له ﷺ: إيّاك وذات الدر، أي إيّاك أن تذبح لنا شاة تدر باللبن تشربون منها أنتم. فذبح لهم عَناق.. وقال لها: ماذا عندك؟ قالت عندها بعض الشعير، قال لها: أخبزيه، قدمت الخبز من الشعير أو البُر، فقدّم لهم الطعام وجاء بالماء العذب البارد فشربوا، فقال لهم ﷺ: "خرجتم جائعين فشربتم الماء الطيب وأكلتم الرطب واللحم والخبز، إن هذا من النعيم، لتسألنَّ عنه والله (لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)).

وجاء في رواية أنهم ذهبوا الى عند أبي أيوب، بعد ما قدّم لهم الطعام، أخذ قطعةً من اللحم ومن الخبز والتمر، وقال لأبي أيوب: ارسلوا هذا إلى بيت فاطمة بنت محمد فإن لها ثلاثة أيام لم تذق طعاماً، ومرة ثانية هي جاءت له بِكسره من الخبز، فقال: ما هذا يا فاطمة؟ قالت: إن علي جاء لي بطعام فطحنته وخبزته، فلم تَطِب نفسي حتى آتيك بكِسرة منه، فتناوله منها وقال: أما إنه أوّل طعام يَلِجُ بطن أبيك منذ ثلاث، قال: أول طعام يدخل بطن أبيك منذ ثلاث أيام، ما أكل طعام ﷺ، أما إنه أول طعام يلج بطن أبيك منذ ثلاث. صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

 

النعيم الأكبر وهو محمد 

ورَبْطُهُم بالعالم الآخر والقيام والوقوف بين يدي الله والسؤال في كل حياتهم، فما أسعدهم بمصاحبة محمد. ومن هنا قال سيدنا محمد الباقر وغيره: إن النعيم الذي يُسْأَلون عنه، النعيم الأكبر وهو محمد، (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8))، ومن كذّب به وجحده سؤاله شديد، ومن أحبه واتبعه سؤال امتنان، (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ) [آل عمران:164].

كما إن الكفار لما يدخلون النار يقول لهم: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ..) [الملك:8]، هذا سؤال تبكيت! سؤال تعنيف، وأنت إذا صدقْتَ مع هذا النبي وأمته، قال: ألم أنعم عليك بمحمد؟ رحمتك به، ووفقتك لاتباعه واليوم اجعلك تجاوره وتدخل زمرته؟ هذا سؤال مِنَّة ونعمة من الله.

 

نِعَم الله سوف نُحَاسب عليها يوم القيامة:

(ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)) فهذه النعمة الكبيرة، وتدل عليها في الآية الآخرى قال الله في كفار قريش: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا) [إبراهيم:28]، قال نعمة الله؛ هذا محمد، بدلوا نعمة الله التي جاءتهم؛ المِنَّة والفضل والإحسان، قاموا بدلا من أن يتشرفون ويعتزون ويفتخرون ويرزقون بالإيمان به ونصرته ويفرحون به، قاموا كذبوه وقاتلوه (بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) [إبراهيم:28]، أجارنا الله منها.

 

الأمن والصحة من النعيم الذي تُسأل عنه

(ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8))، والحمد لله نحن في نعيم أننا من أمة محمد، في نعيم ما آتنا الله تبارك وتعالى من عافية ومن صحة، كان يقول ابن مسعود الأمن والصحة النعيم الذي تُسأل عنه كيف صرفته؟ أين صرفته؟ الأمن والصحة، كم لنا جالسين في هذا المجلس، هل في أحد منّا يخاف أن يدخل أحد عليه؟ في أحد منّا يخاف أن أحد يحبسه؟ في أحد منّا يخاف..؟ أن في شيء؟ الله الله في أَمِن من الحق -جلَّ جلاله-.

ما أحد منكم تُؤلمه أوتوجعه؛ لاعينه ولا أذنه ولا بطنه ولا لسانه.. في هذا المجلس الحمد لله، أَمِن وصحة (أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) [قريش:4]، ما أحد منا له ثلاث ولم يذق طعام فيه؟ السحور موجود وماقبل السحور والفطور والحمد لله على كل حال، الله يرزقنا شكر النعمة.

 

شكر العامة وشكر الخاصة:

يقول بعض العارفين رأى بعض الصالحين يقول له: ما شكر النعمة؟ قال: أن لا تصرف منها شيء في معصيته، أي لا تستعين بشيء منها على معصيته، قال: هذا شكر العامة، فما شكر الخاصة؟ سكتوا. قال: شكر الخاصة أن يستغرق بالمُنعم، يستغرق بالمنعم.. الله.. ما يشهد إلا هو -جلّ جلاله- من أثر الاستغراق عن سيدنا الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام يقول لقومه: (أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) [الشعراء:75-79]، الطعام منه، الشراب منه، هذا يشهد الحق! (هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) [الشعراء:79-80]

وكم من واحد يفتخر بحاجة جاءوا  له بها من إنسان عزيز، جاءت له، أو من هيئة كبيرة في العالم، أعطوه هدية، الهدية مهما كانت ولو كانت يسيره ولكنها رمز لأنها جاءت من عظيم. هذا قال (هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) [الشعراء:79]، يستلم طُعْمَتُه من فوق، كم لذَّتها؟ يستلمها من عند ربه، ولهذا قال الله للنبي داوود: "يا داوود لو سُقتُ إليك حبة مُسَوَسة" -حبة طعام مسوسة- "فاعلم أني ذكرتك بها فاشكرني عليها"، أصلاً جاءت من عند كبير، من عند العظيم -جلّ جلاله- ذكرك الله بها، ساقها إليك، فأشكره عليها.

اللهم لك الحمد شكراً ولك المَنُّ فضلاً، ياليت رمضان ما ينتهي، لا بُد يرحل عنا، لكن عسى يرحل ونحن مقبولين عند ربه، ويرحل شاهد لنا لا شاهد علينا، الآن أنتم في الثلاثة الأواخر، تعرف ثلاث؟ ثلاث أواخر خلاص، لا عاد عشر ولا خمس؛ معنا الثلاث الأواخر، لكن إن شاء الله نجني ثمرتها بعدها إن شاء الله. يارب وفقنا وأعنَّا وخذ بأيدينا وزدنا من فضلك وواسع نوالك ما أنت أهله.

 

بسرِّ الفاتحة 

وإلى حضرةِ النَّبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم

اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه

الفاتحة

 

فضل سورة التكاثر: 

 جاء في حديث أن من قرأ سورة التكاثر يعطيه ثواب ألف آية، كأنه قرأ ألف آية، الله يكرمنا بالتوفيق ويلحقنا بخير فريق.

تاريخ النشر الهجري

27 رَمضان 1435

تاريخ النشر الميلادي

24 يوليو 2014

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام