(228)
(536)
(574)
(311)
تفسير الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لسورة الفاتحة وقصار السور بدار المصطفى ضمن دروس الدورة الصيفية العشرين في شهر رمضان المبارك من العام 1435هـ.
﷽
(أَلۡهَىٰكُمُ ٱلتَّكَاثُرُ (1) حَتَّىٰ زُرۡتُمُ ٱلۡمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوۡفَ تَعۡلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوۡفَ تَعۡلَمُونَ (4) كَلَّا لَوۡ تَعۡلَمُونَ عِلۡمَ ٱلۡيَقِينِ (5))
الحمد لله حمد مُعترفاً للمُنعِمِ بعظيم النِعَم، معترفا له من نفسه بعظيم الذنب واللَمم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي المُنعم الأكرم، وأشهد أن سيدنا ونبينا وقرّة أعيننا ونور قلوبنا محمداً عبده ورسوله ذو الجاه الأفسح الأعظم، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم على عَبْدك الهادي لنا إلى المنهج الأقوم وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله إلى يوم الوقوف بين يديك، وعلى آبائه وإخوانه من النبيين والمرسلين أكرم الخلق عليك، وعلى آلهم وصحبهم ومن تَبِعَهم بإحسان من كل من وقف بالذلّةِ بين يديك، وعلينا معهم وفيهم يا أرحم الراحمين، فإن الأمر منك وإليك.
أما بعد،،
فإننا في نعمة ختم رمضان، وتدبر القرآن، والاتصال بالرحمن، وأخذ سُنّة سيد الأكوان، نَمُرُّ على الآيات الحسان، لنتلقّى الإحسان، عسى أن يصدُرَ منا في المعاملة الإحسان، فنحظى بالجنان والرضوان، فنكون ممن عَمَرَ العُمرَ واغتنمه، فمدَّ الله له فضله وكرمه، وكل من فقد من هذا العمر غنيمة الاستعداد للِّقاء بلباس ثوب التُقى، ونيل النعيم الذي يبقى، فهو الخاسر الذي خَسِرَ العمر وإن كان له فيه كثرة مال، وظواهر من صالح الحال، فهو الذي فقد أغلى شيء يكون في العمر وأجلّ منفعة يُتحصل بها من خلال هذه الحياة والعيش فيها، فيا ربنا أكرمنا باغتنام الأعمار واجعل أعمارنا مباركة علينا بركة على الدوام والاستمرار لا غاية لها ولا نهاية.
فمن بارك الله له في العمر كسب من خيراته ما لا نهاية له، كسب ما يكون نعيمه مؤبد، ونتيجته وثمرته الحسنة شيء مُخلّد، في دار قُرب من الواحد الأحد ومرافقة لحبيبه محمد ﷺ، وإذا قلنا قُرْب الأحد ومرافقة أحمد فهل تبغي ثناءً أطنب من هذا؟ أو تبغي شرحاً للنعيم أَجَلَّ من هذه الإشارة؟ أكرِمنا بجوارك ومرافقة سيد أحبابك في دار نعيمك وقربك يا الله.
ولقد مررنا على سورة الهمزة والعصر، وسمعنا الحق يحكُمُ بالخُسر على كل من لم يستجب للداعي، ولم يكن لخطاب الحق مراعي، من كل من رضي بِأَتْفَهِ المراعي، أن يغدو ويظل فيها راعي، فغرّه شيءٌ في هذه الحياة فغفل عن إجابة نداء الله، وتصاممَ وتعامَى، فويل له ثم ويل له.
(وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) جعلنا الله من خواصِّهم. ومن لطيف ما يذكر بعض المفسرين؛ قال في الأوصاف الأربعة إنها أظهر مظاهر ساداتنا الخلفاء الأولين الأربعة:
(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر:1-3].
وكلٌّ مِن هؤلاء وجميع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان؛(آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) فنسأل من أعطاهم ذلك وحلّاهم بذلك وأكرمهم بذلك أن يلحقنا بهم في ذلك، وأن يعطينا كما أعطاهم ويكرمنا كما أكرمهم ويُحلِّينا كما حلّاهم ياواهبهم هذه المزايا، هبنا إياها يا رب البرايا فإنا نسألك إيّاها تفضلاً منك بحبيبك محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
فقيام التواصي بالحق والصبر دَيْدَنُ من رعتهم عناية الله، ومِن ذلك ما يحصل من عقد المجامع الطيبة في مجتمعات المؤمنين، وما يحصل من تذكير بعضهم ببعض ونُصح بعضهم لبعض، وإذا علمت أن النجاة قائمةٌ على التواصي بالحق والصبر، فَرِحت بمن نبّهك على عيبك ومن حذّرك من شرِّك وتقلَّدت له مِنّة، وفي ذلك:
وأن الصفات السيئة عقارب وحيات، لسْعها عذاب أليم شديد، تضر الروح والقلب وتؤلم في الآخرة، فإذا نبّهك على شيء منها، من سيء الأوصاف، كيف ما تفرح منه؟! الله يجزيك خير؛ أنقذتنا من الحيّة ذاك اليوم، الله يحفظك، الله يطوّل عمرك، جزاك الله خير كلّما حصّله ذَكَره: هذا فلان له فضل علي، له مِنّة، وإلا كانت ستلْسعنا الحيّة، وما دريت، هل سأبقى حيّا وإلا متُّ -الله يجزيك خير- الله يجزيك خير.
ولكن من نبّهك على عيب من عيوبك هذه، كفاك ألم القلوب، وعذاب يوم تقلّب فيه القلوب والأبصار، هذا فضله عليك أكبر؛ فينبغي أن تفرح بذلك، وتفرح بوجود هذا التنبيه لأن أساس النجاة بارز أمامك؛ التواصي على الحق والصبر، فهذا شعار من شعارات الناجين، فإذا عشت حياتك لا أحد ينبّهك. أين هذا الشعار -التواصي بالحق والصبر-؟ سقط؟! فهذا يثير الخوف والقلق.
ولذا تجد في كلام الأكابر الفرح لنصح من ينصحوه وحث الناس على ذلك، ويقول بعضهم: كيف ما تقيموا هذا الشعار؟ أتعجَّب فيكم! وكان يقول الحبيب علي الحبشي رحمه الله: أنا علي حبشي بينكم لي كذا كذا سنة ما أذكر واحد منكم جاء يوم، ينبهنا على مسألة ولا يقول لي كذا ولا يقول لي كذا.. هؤلاء الأكابر يُعَلِّمُون الناس، يقول:
من نصحني فإني منه للنصح قاض *** أين ناصح لخلق الله للنصح باذل
وهكذا.. فكيف صار أمر النصيحة بين كثير من الناس مثار عداوة، هذا فقْد للأساس وضعْف في السير والإيمان؛ في الإيمان وفي السير، لا بُدَّ أن يتحوّل عن ذلك، ثم إذا هُمْ متآخين في الله ومتحابين في الله وفي مجالسة واحدة وفي منبع واحد يأخذون العلم، ثم كل واحد يسكت وما ينصح الثاني، يقول: إذا نصحته سيزعل مني! يقول: هذا عيب عليه! اووه كم سنين تقعد هكذا؟ شهر شهرين ثلاث.. ثم متى تصفو الحال؟ وتقوم بينكم أسس الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر؟! إنما يكون النجاح إذا قويَ ذلك.
يقول بعض الفضلاء الموجودين إذا ذكروا الوالد قال: في يوم كذا وكذا مرَّ علينا ولا حظ فقط إهمال سُنَّة من السنن عندنا في الأولاد فنبّهنا عليها، فأنا أشكره وأنا فرحان منه، هذا قبل سنين، قد مَرَّ عليه الوالد يوم فرآه مع ترّات جاءت للناس وتيارات، فصاروا يتركون بعض مظاهر السنّة فنبّهه على شيء في الأولاد، فلا يزال يذكرها إلى اليوم.
فمجتمعات الخير قائمة على هذا، فينبغي لمن تآخوا في الله وتحابوا في الله أن يقيموا الأمر بينهم على فرح ووضوح وصراحة وطيبة، وإلا متى سيصفو الحال ويصْدقون مع الكبير المتعال ويتبادلون النصح بالأقوال والأفعال؟
يقول: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر:3]، وما أُعْطِيَ عبداً عطاءاً أوسع من الصبر، من رُزِقَ الصبر هان عليه كل شيء، فكأن حقيقة الصبر متصلة بنعمة انشراح الصدر، كل من انشرح صدره اتسع صبره، ولذا وجدتَ أصبر الخلق زين الوجود ﷺ والذي لما عرض الله مراتب شرح الصدر وطلب الأنبياء لها:
فصلى الله على الكليم والخليل والحبيب، وما أعجب رتبة الحبيب صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ورزقنا الله محبتهم وحشرنا في زمرتهم.
(وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر3]، فينبغي أن يقوم هذا الأمر، وينشرح به منّا الصدر، ونتحاب ونتواصى فإنه مسلك الأخيار في الأُمم كلها والصالحين، وأثنى الله على من مضى على أتباع الأنبياء من الأمم من قبلنا:
فقال الله سبحانه وتعالى: (لَيْسُوا سَوَاءً ۗ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَٰئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) [آل عمران:113-114].
وأصلحنا واجعلنا صالحين، وشرع لنا هذا المسلك (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ) -واحد، إثنين، ثلاثة، أربعة -أُمَّة- (أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران:104].
فلو كان موكب هذا الجمع والذين يسمعونهم ويتابعونهم عبر الأجهزة، كلهم نووا صدق الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فينا الكبير والصغير والشاب والشيبة وصاحب المهنة والعمل، فصرنا أمة ، فلو انطلقنا حصل في المجتمعات خير كثير، لأن العباد يُبْذرون فقط، الربّ يُنبت ويزرع:
(وَلْتَكُن منكُمْ أُمَّةٌ) أمة يكون فيها العالم وفيهم الطبيب وفيهم المزارع وفيهم صاحب المهنة وفيهم المهندس (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) ينفعون أنفسهم وأولادهم وأهلهم وأصدقائهم وأصحابهم وأهل بلدانهم (.. وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [آل عمران:104]
وحَذَّرَ تحذيرًا، قال هناك طوائف يحضرون بينكم يتفرّقون يتشتتّون يتنازعون يتصارعون فابعدوا عنهم: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران:105]؛ والحقيقة ستوضَح لكم وسَتُرَى مشاهدة ومعاينة (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آل عمران:106]. فاجعل عاقبتنا خير واجعلنا في (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر:3] واجعل منّا أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، واجعلنا في المفلحين.
ثم أنزل الله سورة التكاثر تُبيّن حال الناس فيما يشغلهم في الحياة وليس بنافع لهم ولا بمفيد ولا الذي خُلِقُوا من أجله ولا الذي يضمن لهم المستقبل الطيّب الحسن، ولا يساعدهم على كسب المال والعاقبة وهم يشتغلون به، شُغلٌ لم يشغلهم به خالقهم ولا نَدَبهم إلى الاشتغال به، ثارت نفوسهم وثارت من بينهم دعوات لِمَن لا خلاق له من بينهم فدعوهم إلى الاشتغال بذلك فاشتغلوا، لا الله شغلهم به، ولا الشغل به يفيد ويجدي، ولاينفع ولا يؤدي إلى صلاح المستقبل، ولكن اشتغلوا؛ فعاتبهم الله وعاب عليهم هذا المسلك.
(أَلۡهَىٰكُمُ ٱلتَّكَاثُرُ(1)) التكاثر..ما التكاثر؟ التكاثر ألف ولام للتعريف، التكاثر المذموم لأنه معلوم على ألْسنة الأنبياء والمرسلين وأتباعهم عِلْمَاً بَيِّنَاً واضحاً أن التكاثر المذموم: هو ما كان بالحطام وبالرذائل وبما لا شأن له عند الله، وأنه لا ينبغي التنافس ولا يُحمد إلا فيما كان حميداً عند الدائم، عند الباقي، عند الحي القيوم -جل جلاله- .
فهناك فضلٌ وسعادةٌ للإنسان تتعلق بنفسه، الذي يتعلق بنفسه هو العلم الصحيح والخلُق الكريم.. الله! هذا يتم به السعادة؛ التنافس والتكاثر في هذا محمود، لكن بعد ذلك عنده البدن، البدن فتتم له فيه السعادة بصحته واستقامته وحسنه وعدا ذلك ما هو خارج، مثل المال والجاه وما إلى ذلك.
فإذا واحد انشغل عن موجب السعادة النفسية من العلم والخُلق الكريم وأهمله، وجاء إلى ما هو دون ذلك من صحة الجسد نقول: عندك نصيب من الحماقة.. تركت الأهم وذهبت إلى شيء أقل، أمّا يترك الاثنين وذهب يفتخر بالجاه والمال، والأكبر والثاني كلّهم تركهم وراح إلى أصغر واحد وأقلّ واحد واشتغل به.. ما شاء الله! عقل ما شي! والعجم عندكم يقولون: مخ ما في.
ولهذا كان العقلاء هم الذين يشتغلون بما هو أعلى وأعظم وأهم وأنفس، يشتغلون بالعلم وتقويم الخُلق هذا الأصل والأساس، ولذا قالوا للإمام الشافعي: إذا واحد ميت وصى بماله لأعقل الناس، نعطيه من؟ قال: اذهبوا للذين اشتغلوا بالأعظم والأهم هم هؤلاء العقلاء؛ أعطوه الزهّاد في الدنيا أعطوهم إيّاه؛ هؤلاء الزهّاد هم العقلاء لأنهم اشتغلوا بالأعظم والأهم وتركوا الأقل والأحقر. هذا هو العقل.
وإلا العقل بالعكس؛ تجيء للحقير التافه الداني وتعظّمه وتنتبه منه وتترك الأهم.. هذا عقل هذا؟! أصحاب هذا المسلك في القيامة يقولون: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [الملك:10]، ولذا أكثر الناس لا يعقلون قال تعالى: (وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا ۚ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [القصص:60].
(أَلۡهَىٰكُمُ ٱلتَّكَاثُرُ(1)):
(أَلۡهَىٰكُمُ ٱلتَّكَاثُرُ(1) حَتَّىٰ زُرۡتُمُ ٱلۡمَقَابِرَ (2)) المعنى الآخر يخاطب الله فيه ويعيب لأن:
(أَلۡهَىٰكُمُ ٱلتَّكَاثُرُ(1) حَتَّىٰ زُرۡتُمُ ٱلۡمَقَابِرَ (2))؛ لا انتفاع ولا ادِّكار لما بعد الموت، وهل شيء ينفع بعد الموت؟ سيتنبه، ماذا سيعمل ليتدارك شيء؟ (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون:99-100]؛ لا رجعة إلى الدنيا (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) -الروح- (وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ) [الواقعة:83-84] عنده أصحابه وأهله وأقاربه.. تشوّفوا لما تشبعوا، يقول الله في ذكر الحقيقة: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُبْصِرُونَ) [الواقعة:85]،
ثم يقول: (فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) [الواقعة:86] لو كان ما يقول لكم نبينا محمد أنها رجعة بعد الموت والبعث والرجوع إلينا (غَيْرَ مَدِينِينَ) -محاسبين مجازين- (تَرْجِعُونَهَا)؛ ارجعوا الروح قليلا، دعوه يجلس عندكم يوم، يومين، شهر، شهرين، ارجعوه؟! بإمكانياتكم! بالتطوّر! بالحضارة التي معكم إرجعوا واحد، إذا بلغت الروح الحلقوم رُدُّوه! بجهاز حديث! لا جهاز حديث ولا حَثيث، لا شي منه ينفع (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف:34]، (تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [الواقعة:87]، لا أحد يرجعها: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ) [يس:31]، وأين يذهبون؟ يتجمعون الى أن تأتون كلكم: (وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ) [يس:32]؛ كلكم ستصلون إلى هنا: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون:115] نعم إليك الرُجعى، فاجعل رُجْعَانا إلى رضوانك وإلى الاستقرار في جنانك، لا نتعرّض لغضبك ولا لنارك، لأن المرجع إليه لا بُدَّ، ولكن ترجع إليه كيف؟ راضي عنك؟ أو ليس راضٍ عنك؟ ترجع إلى نعيمه؟ وإلا إلى العذاب؟ اللهم اجعل مآلنا خير وعاقبتنا إلى خير واجعل مآلنا إلى جناتك التي أعددتها للمتقين.
قال: (أَلۡهَىٰكُمُ ٱلتَّكَاثُرُ(1) حَتَّىٰ زُرۡتُمُ ٱلۡمَقَابِرَ (2))، ما رَدَعَكُم وعظ واعظ ولا تذكير مذكِّر ولا تنبيه منبه ولا آيات تتلى عليكم، استمريتم على الانشغال بهذا والجمع والتكاثر فيه إلى أن مات الواحد منكم ووصل الى المقبرة
(حَتَّىٰ زُرۡتُمُ ٱلۡمَقَابِرَ) الزائر قد يمكث مدة لكنه بعد ذلك يذهب، والنفخ في الصور سيأتي وسيقوم من محله، هل الواحد سيقعد للأبد؟ اتركوه في القبر، ثم إن كان من الأصناف التي لا يأكلهم التراب ولا يأكلهم الدود ولا تأكلهم الأرض، أجسادهم محلها إلى يوم القيامة وينفخ فيها الروح وتقوم، وان اكلت الأرض جسده؛ تأكل جسده وتترك عجب الذنب هنا محله توقيع إلى وقت القيامة يتركّب الجسد ويقوم ثاني مرة ، فهم في المقابر زوَّار فقط مساكين، ما في استقرار.. الاستقرار إلا في جنة أو نار فقط، أما قبل ذلك لايوجد استقرار.
كنا في عالم الأرواح لا يوجد استقرار، والآن نحن في عالم الدنيا، انظر كيف خرجنا ما بقينا في ذلك العالم، و الآن في عالم الدنيا عمر ثاني وسنخرج، والعمر الثاني أيضاً منقضي والثالث برزخ مؤقت إلى يوم يبعثون، وهكذا.. قمنا من القبور يا الله، لايوجد استقرار، هناك حساب وجزاء، لايوجد استقرار إلا في جنة أو نار؛ هناك الاستقرار..
السفر الأول مئات الالاف من السنين وقد انتهى، وأنت مغتر بالسفر القصير هذا..! كم ألف سنة؟ ولا كم ألف، كم مائة؟ ولا كم مائة،.. انزل اترك الألوف والمئات تعال إلى العشرات فقط، والأعشار محدودة، أقلُّنا من يجاوز السبعين. الذي يرى الجمع هذا والمشاهدين، كم نسبة الصغار؟ كم نسبة الكبار؟ هيا اخبرني عن الذين جاوزوا السبعين في الجمع هذا؟ ولا واحد في المئة! الله، ولا واحد في المئة!! نسبة الذين تجاوزا السبعين منّا.. لماذا؟ لأنه سفر مستمر ما أحد يقعد!! لو كانوا يبقون كان أكثرنا الذين جاوزوا السبعين، قليل الذين جاءوا ولكن الأمر بالعكس، لأن الروحة سريعة وهكذا. فيا رب ثبتنا على الحق والهدى واجعل أعمارنا مباركة.
(أَلۡهَىٰكُمُ ٱلتَّكَاثُرُ(1))؛سمعت؟ والمفسرين يذكرون أخبار التكاثر بالأموال والأولاد، وعاد زادت أشياء، ما كان أحد مثلاً يذكر التكاثر بأعداد دخول الكرة في الملعب، ما كان أحد يذكره، ثم بعد تطوّر البشر؛ كم أهداف مقابل كم؟ وبعد ذلك من أجل هذا تتكاثر؟ -أيوه أربع لك ربعة- طيب.. وبعد ذلك هذا تتكاثر به!! من أجل ماذا؟ يعني في أي مرتبة من مراتب الحُسن والجمال، العافية، الصحة، المكانة، القدر، الصلاح للحياة، الصلاح لما بعد الحياة، ما هو؟ لعب في لعب.. ولكن تكاثر ومتفرِّجين ومشاهدين ومتابعين من هنا ومن هناك، هذا الإنسان لما تطوّر صار بحال يُضحك عليه أطفال القرون الأولى، أطفال القرون الأولى يضحكون على مثل هذا الحال.
لكل شيء له اعتدال وله حد وله مقاصد؛ ما جاوز حده رجع إلى ضده.
يقول: (أَلۡهَىٰكُمُ ٱلتَّكَاثُرُ(1) حَتَّىٰ زُرۡتُمُ ٱلۡمَقَابِرَ (2))، قال رسول الله ﷺ: "يتبِعُ الميِّتَ ثلاثةٌ: أَهلُه ومالُه وعملُه فيرجِعُ اثنانِ ويبقى واحِدٌ، يرجعُ أَهلُه ومالُه ويبقى عملُه"، وأين ماله؟ يتبعه. وأين يتبعه؟ كان أول الأرقَّاء يخرجون معهم، كذلك كثير من مالهم؛ مع أولادهم، مع أصحابهم، معهم ناس حاملين له جايين به، بعضه بلباس وبعضه بغيره، والآن بعض سياراتهم يمشونها ويركِّبونه عليها الى عند المقبرة، وبعد ذلك يضعونه في المقبرة. وأين السيارة؟!! شيء لها قبر بجانبه؟! يدخلونها عنده يمشي عليها؟!!
ترجع..! يرجع أهله وماله ويبقى عمله. وقد جاء في الحديث أنه ﷺ مَرَّ عليه بعض الصحابة سمعه يقرأ: (أَلۡهَىٰكُمُ ٱلتَّكَاثُرُ(1))، ثم قال: يقول ابن آدم: مالي مالي مالي، مالك يا ابن ادم!! من مالك إلا ثلاث: ما أكلتَ فأفنيت، وما لبستَ فأبليت، وما تصدَّقت فأبقيت، أو أمضيت) قدمته لك في الآخرة.
وقال: إذا مات ابن ادم قال الناس: ما خلّف؟ قالت الملائكة: ما قَدَّم؟ ماذا قدّم؟ الناس يقولون: ماذا خلّف؟ لكي يأخذونه من بعده، وبعضه كان حريص مسكين على التكاثر؛ مفتاح الصندوق وإلا الخزنة ما يعطي أحد أبداً حتى أولاده، مُسَجَّى في البيت. حتى وقت نزع الروح يصبح المفتاح بيد غيره، وهذا يفتح -واحد ثاني- وهو يذهب ويجد عمله هناك أمامه، الله يُحسن أعمالنا ويُصلحها ويَقبلها.
(حَتَّىٰ زُرۡتُمُ ٱلۡمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوۡفَ تَعۡلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوۡفَ تَعۡلَمُونَ (4) كَلَّا لَوۡ تَعۡلَمُونَ عِلۡمَ ٱلۡيَقِينِ (5))، يعني لو علمتم علم اليقين ما تتكاثرون بهذه الأشياء التي لا خير فيها، لا إله إلا الله. قال: فكل من ادّعى العلم وعنده تكاثر بالفانيات، قُل له سورة التكاثر تشطب اسمك من العلماء، -أنت عند العلماء برّع- لأنه قال: (لَوۡ تَعۡلَمُونَ عِلۡمَ ٱلۡيَقِينِ (5)) عندك تكاثر؟ إذن ما في علم لو عندك علم ما تتكاثر، فأنت اسمك مشطوب بقلم سورة التكاثر، شطبوا على اسمك ما أنت من أهل العلم.
الله يجعلنا من العلماء الصالحين الصادقين ويتوب علينا وعليكم توبة نصوحاً ويصلح شؤوننا ويزكّينا جسماً وقلباً وروحاً ويرفعنا مراتب أهل القرب من الدنو إليه في خير ولطف وعافية.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
الحمد لله أننا نصبح في أيام رمضان وخواتيمه في تنافس على العمل الصالح إن شاء الله وعلى القربة إلى الله والزلفى إليه، لك الحمد شكراً فاصرف عناّ كل سوء.. الله الله في الخمس الأواخر، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
27 رَمضان 1435