(231)
(536)
(574)
(311)
تفسير الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لسورة الفاتحة وقصار السور بدار المصطفى ضمن دروس الدورة الصيفية العشرين في شهر رمضان المبارك من العام 1435هـ.
﷽
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ أُولَٰئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8))
وُجهتُنا إلى الرحمنِ الأعلى بوحْيه الذي أَنْزَلَ، ونبيِّهِ الذي أرسلَ، أن ينور بصائرنا وأن يُصَفِّيَ سَرائرنا، وأن يغفرَ زلَّاتِنا وجرائرِنا، ويجعلنا من القوم الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يُثْبِتنا عنده في الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وأن يجعلَنا ممن ترعاهم عين عنايته في جميع الشؤونِ والأحوالِ والحالات إنه أكرم الأكرمين.
اللهم لك الحمد يا متفضلاً مُنْعِمَاً بالإذنِ بالسؤالِ وبالإجابةِ إذا سُئلت، يا مَن أذِنْتَ لعبادك ولو كانوا عُصَاةً أن يسألوك وأن يدعوك وأن يَرجِعُوا إليك، ووعدتهم بقبول التوبة وغَفْرِ الحوبة ورفع الرُّتْبَة، لك الحمد شكراً ولك المنُّ فضلاً فأتمم نعمتك، وصلِّ على مفتاح باب الرحمة كاشف الغمة وجالي الظلمة؛ عبدك المجتبى سيدنا محمد وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار ومَن على دربهم سار، وآبائه وإخوانه من النبيين والمرسلين ساداتِ أهل الأنوار، وآلهم وصحبهم ومَن سار على سبيلِهم على مدى الأعصار، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا كريمُ ياغفَّار.
يتقوَّى ويتركَّز في أذهانِنا ذكر هذا المصيرالفرق الفاصل بين فريق الإيمان وفريق الكفر.
وبَعْدُ، فقد انتهينا في مجالسِ تأمُّلنا وتدبُّرنا لمعاني السور الكريمة في هذه الدورة إلى سورة البيَّنة، وانتهينا إلى أواخرها؛ حيثُ يُبيِّنُ الله تبارك وتعالى الفرقَ الفاصلَ بين فريق الإيمان والكفر، وما يكون مِن شأنهم وحالهم في الدنيا والآخرة، وأنَّ ذلك هو الحدُّ الفاصل عند كل عاقلٍ وكلِّ سالكٍ فاضلٍ في اعتبار الفوارق، لا ينبغي ولا يجوز أن يَسْبِقَ إلى الذهن والعقل غيره مِن شيءٍ مِن مظاهر هذه الحياة ولا ما يجري فيها، ولا من مُلِّك أموالها الزائلة ولا مُلكها التالف، ولا غير ذلك مما يكتنف الأطوار الزائلة المنقضية في هذه الحياة، فالاعتبارُ كُلّ الاعتبار بالمآل الكبير وبالعاقبة والمصير.
يجبُ أن يتوجَّه ذهنُ العاقلِ المؤمن إلى هذه الحقيقة التي عَمِلَ إبليسُ وجنده على إبعادِها عن أذهانِنا وعن استشعارِنا وعن أفكارِنا، كما دعتنا كتب الله ودعانا رسل الله والصالحون مِن عباد الله أن يتقوَّى ويتركَّز في أذهانِنا ذكر هذا المصير، ذكر هذه العاقبة، وذكر هذا الأمر الكبير الخطير (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشُّوُرَى:7]، وأنه لا يمكن أن يُواجِه المكلَّفين شيءٌ مِن الأحوالِ والظروفِ -بكلِّ المعاني- أكبر من هذا، ولا أخطر من هذا، ولا أحق أن يُهْتَمَّ به من هذا.
هذا الذي سيواجه جميع المكلَّفين، هو أكبر ما يُمكن أن يَمُرَّ عليهم في جميع تقلُّباتِهِم وأطوارهم مِن جميع الظروف والأحوال، سواءً كان في طوال الحياة القصيرة أو كان في أيام البرزخ إلى يوم القيامة، فذلك الحكمُ بدخول الجنةِ أو النار والاستقرار هنا أو هناك هو أكبر وأخطر وأشد وأعظم ما يُقابل هؤلاء، فكلُّ مَن لم ينتبه منه فهو المغرور وهو الجاهل وهو الغافل وهو الأحمق.
"ألا إنَّ الكيس مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت، وإن الأحمق العاجز مَن أَتْبَعَ نفسه هواها وتمنَّى على الله الأماني" ألا وإن الغافل الجاهل مَن جعل الاعتبارات إما أموالٌ تُمْلَك وإما مُلكٌ للرقاب والحكم على الناس وإما زخارف، وجعلها هي الفارقُ الكبيرُ بين الناس ومحلُّ الاعتبار في المفارقة بين الأجناس! غفلةٌ وجهالة وبُعْدٌ وضلالة.. ليس الأمر كذلك ! ولكن أكبر وأجلّ وأعظم من هذا ما سيواجهنا من أمر الحكم بدخول الجنة أو النار، لا أكبر من هذا، لا أخطر من هذا، لا أفظع من هذا، ولا يجوز أن يَحِلّ غيرهُ محلَّه في الاعتبارات قط عند كل مَن آمن بالله ورسوله.
فمهما استجبنا لأطروحاتِ أولئك الذين اِنْحَصَرَ علمهم في هذه الحياة فقد خُنَّا الأمانة مع الله، وقد ضيّعنا توجيه مَن خلَقنا وخلَقهم وإليه مرجعنا ومرجعهم إكباراً لمن ليس بكبير وتعظيماً لمن ليس بعظيم، واغتراراً بقولِ كُلِّ أفَّاكٍ أثيمٍ لئيمٍ -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
إنَّ الاعتبار عند أولي الألباب والأفكار والهدى والأنوار بالمصير الأكبر دخول الجنة أو دخول النار، وفي ذلك نادَوا وقالوا:
الأمر كذلك عند السَّالكين أشرفَ المَسَالِك، فاحذر من الزيغ والمهالك، التي يُنازِلُ عقول أربابها أفكار غير هذا الميزان وغير هذا الاعتبار العظيم الشأن.
يقول لنا ربُّنا الرحمن: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ..(6))، (فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا) أما من حيث المصير ومآلهم إليها في الآخرة فواضحٌ، ولكن أيضاً أرواح وعقول الأصفياء الأوفياء تعلمُ أن المتشبِّثَ بسببٍ واقعٌ في مُسَبَّبِهِ مِن حين تَشَبُّثِهِ بهذا السبب، فالكافرُ بكفره وإصراره عليه هو في النار من الآن لأنه سبب دخوله النار، ومَن تَعَلَّق بسببِ دخولِ النارِ فقد تَعَلَّقَ بالنارِ.
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ..(6))، من الآن بتسبُّبهم وعملهم بعمل أهلها واتصافهم بصفة أهلها، وغداً بظهور ذلك حقيقة وواقعًا بأجسادهم وأرواحهم وسط ذلك السَّعير، أجارنا الله منها والعياذ بالله، كما قال في الآية الأخرى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ۖ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) [النساء:10]. إذا قالوا نحن نأكل بُسْكُوت ونأكل بُر وخبز وقمح ورز، قل (إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ۖ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) لأن هذا الذي أكلتموه ورأيتموه بهذه الصورة هو سبب دخولكم لتلك النار فهو النار.. هذا هو النار.
ومِن هُنا كرهت وأبغضت، أرواح المتقين -على قدر معرفتهم بالله- الذنوب والمعاصي، فَرُّوا منها فرارا وعدُّوها سُمًّا قاتلًا، فكما أنك في عالم الحس لا تفكر ولا يخطر ببالك أنك تتناول قليلا من السم -مِن أجل عندك دواؤه- وتستعمل بعده الدواء، ما يخطر ببالك هذا، تقول أنا مجنون! بعد ذلك ينفع الدواء؟ ما ينفع، ولماذا أتناول السم أصلًا ! وكذلك لا تحدثك نفسك أن تدخل نارًا قليلًا ثم تخرج منها وتعالج نفسك، فهذا لا يخطر على البال.
كذلك الأصفياء الأتقياء لا يخطر على بالهم أن يَقْرَبُوا الذنب ثم يتوبون منه، كما لا يخطر على بالك أن تتناول السُمَّ ثم تستعمل دواءً له، فالذنوب والسيئات عندهم في نظرهم بمنزلة النيران المحرقة، والسموم القاتلة والمياه المغرقة، أجارنا الله منها.
قال ربي سبحانه في ذكر هذه النعمة في الطُّهْرِ والنقاء واستقامة الميزان واعتداله في أوائل الرعيل الأول مِنَّا: (وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً ..) [الحجرات: 7-8].
يا متفضلاً ومُنْعِم عليهم، هذه أيدي الفقراء المحتاجون لهذا العطاء الواسع السحَّاح، يا كريمُ يافتاح فاعطنا كما أعطيتهم، تفضَّل علينا كما تفضَّلت عليهم فضلاً منك ونعمة يا عليم يا حكيم ياأرحم الراحمين. اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، كرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، فضلاً منك ونعمة يا عليمُ يا حكيم يا أرحم الراحمين.
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ.. (6))، وأعاد ذكر المشركين هنا لاشتمال جميع أهل الكفر، وإن كانت الحجة من وجه أأكد على الذين عرفوا نبوة نبينا محمد بحكم الكتب التي اتصلوا بها ثم عاندوا حسداً وتكبروا وكفروا به صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وإذا رأينا أن مَن اِتَّصَفَ بهذا الوصف فهم شِرار البرية، أي: الخليقة، وقد تقدم معنا أنه مِن "البَرْء" لأن الله برأَ الخليقة وأنشأها سبحانه وتعالى مِن العدم (أُولَٰئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)).
مع ذلك فيذكر بعضهم معنى من أنه يُقال للتراب "البَرِيْ" من دون همزة، وأن هؤلاء مخلوقون من التراب، ولكن هذا يقتضي خصوص البشر، وقد خُلِق الجانُّ من نار، والآية شاملة للكفار من الإنس ومن الجن، فبذلك يبقى أيضاً المعنى الأول معتبَر أنَّ (البَرِيَّة (6)) و (البَرِيئة) كما جاء في قراءة نافع وابن عامر- المرادُ مَن برأهم –أي: خلقهم الله- فهم الخليقة.
فَشرُّ الخليقة: (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ (6)) وعلى حسب كفرهم، ثم يَتناول على الخصوص مَن كانوا سبباً في نزول الآية وهم مَن كانوا موجودين في عصر نبيِّنا مِن أهل الكتاب والمشركين الذين كفروا، فإنهم جاءوا مِن قبيح الكفر وفظيعهِ، ما لم يحصل لمن كفر قبلهم ولا بعدهم، وذلك معاندتهم للبينة الكُبرى وإيذاؤهم للذَّاتِ المشرفة، وهذا الذي لم يحصل في كفر مَن قبلهم، وقبلهم آذوا ساداتنا الأنبياء صلوات الله عليهم، فيهم مَن آذى الأنبياء ولكنهم دون مَن آذى سيد الأنبياء وخاتم الأنبياء ﷺ، فعنادهم وكفرهم وتكذيبهم به وتأليبهم عليه وصدهم عن الإيمان به مِن قِبَل أهل الكتاب وقد عرفوا وصفه ومحاربة المشركين له وهو القائم أمامهم بالحجة والهدى والبرهان، الدال على الحق بفعله وقوله وخَلْقِه وخُلُقِهِ وصورته ومساره ومعاملته ﷺ، ثم بعد ذلك وصل بهم إلى أن وضعوا السلَا على ظهره وأن رموه بالحجارة وأن قاتلوه وحاربوه، فهؤلاء هم مِن جملة (شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)) شر الشر من ذلك البرية، فتتناولهم الآية على وجه الخصوص كما تتناول وتشمل جميع من كفر على وجه العموم، فالكفار(هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ).
سبقت الإشارة إلى وجوب رسوخ هذه العقيدة عند كل مؤمن، وأن هذه العقيدة لا تقتضي نقض عهدٍ ولا جزمٍ بالحكم على مَن لم نعرف بالدلائل الواضحة موته على ذلك الكفر، وليس المراد بـ: (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ ..(6))، إلا مَن يموتوا على ذلك، وأنه قد كان في الذين كفروا مِن أهل الكتاب والمشركين مَن سبقت لهم العناية فآمنوا وأسلموا وصدَّقوا، وأن الذين آمنوا من أهل الكتاب يُؤْتَوْن أجرهم مرتين كما أخبر النبي ﷺ، فالحكم على من مات على ذلك، وهذا يأتي معنا على وجه العموم، أما تخصيص فرْدٍ بعينهِ وشخص بعينهِ فذلك الذي يضيق به مِنَّا النِّطَاق، إلا ما ظهر من الدلائل الواضحة البيّنات، والله أعلم بقلوب عباده وحالتها عند الوفَيات وعند الممات.
وإنما أمرتْنا الشريعة أن نتعامل بحسب الظاهر لنا مِن العلامات والدلالات، والأمر لله من قبل ومن بعد، وَيَا مُقَلِّب القلوب والأبصار ثَبِّت قلوبنا على دينك.
فَيَا ربِّ ثَبِّتنا على الحقِّ والهُدَى *** ويا ربِّ اِقبضنا على خيرِ مِلَّةِ
فالعبرة بالحالة الخاتمة والموت، فكل مَن كفر فمات على ذلك فـ (هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)).
مع هذه العقيدة التي ذكرنا التي يجب أن لا نغفل عنها، فيلهيَنا عنها شيءٌ مِن مظهر الحُسْنِ في قولٍ أو فعلٍ أو معاملةٍ أو اختراعٍ أو ابتكارٍ أو ترتيبِ مالٍ إلى غير ذلك، بل داخلٌ في دائرة: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ ) [آل عمران :196]. ودائرة: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ ..) [التوبة:55]. بل يقول الحق: "لولا أن تشتدَّ الفتنة على عبادي المكلَّفين لجعلتُ كُلُّ الكفار على ظهر الارض في غاية من الترف والنعيم الظاهر" (وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ) في قراءة (سَقفاً) وفي قراءة (سُقُفاً) (وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) يعني يذهبون كلهم للكفر (لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا) [الزخرف: 33-34].
وهذا يدل على حقارة هذه الأشياء عند الله، ما كان حقير عند ربك كيف يأخذ منك العظمة والإكبار والإجلال؟! أما تستحي منه؟! هذه أشياء حقيرة، قال الله لولا أن تشتدَّ الفتنة على الناس فيكفرون لجعلتها للكفار هذه الأشياء كلها أعطيهم هي.. لمَ؟ هل لأنها عزيزة؟ لا.. لأنها شريفة؟ حاشا.. لن يجعلها لهم إلا لأنها لا قَدْرَ لها عنده.. فمتى اكتسبتَ القدر عندك وأنت عبده؟!. ما دام لا قدْر لها عنده فكيف صار لها القدر عندك وأنت تزعم أنك عبده الذي آمنت به؟ أهكذا يفعل العبد مع سيده؟! لا قدر لها عند الله. وفي معنى هذا جاء الحديث: "لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافر منها شربة ماء" ولن يعطيهم منها شيء، لكنها لحقارتها، فإذا كانت حقيرة عند ربك كيف تكون كبيرة عندك؟! عيب.. عيب عليك، هذا سيدُك وإلهُك! فما كان حقير عنده فيجب أن يكون حقيراً عندك.
وأكد ذلك بقوله: (وَإِن كُلُّ ذَٰلِكَ..) كل هذا الذي ذُكِر ( لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ..) أي فهو حقير، ثم ذكر الفاصل الحق ومحلُّ الاعتبار (وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) [الزخرف:35]. اللهم اجعلنا منهم.
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ..(6)) الآن بسببيَّتِهم وأعمالهم فهم بأعمال أهل النار يعملون، وغداً بذواتِهم يُصْلَونَ حريقَها وشدتَها وحرارتَها وما فيها. يقول: (فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا) وفيه: أن مَن مات على الكفر خُلِّدَ في النار، ولا معنى لما يقول بعض الناس أنه لم يقُل هنا (أبداً) وقال في أهل الجنة (أبداً) فقد جاءت "أبداً" في حق الكفار في آيةٍ اخرى مِن كلام الله تبارك وتعالى، وجاء أيضاً قوله: (وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) [البقرة:167]. إذًا فمن مات على الكفر خُلِّدَ في نار جهنم فلا يخرج منها. وإنما يخرج مِن النار مَن مات وفي قلبه ولو مثقال ذرة ، أدنى أدنى مثقال ذرة من الإيمان يخرج من النار (أولئك هم شرالبرية (6)).
وذكر الفريق الثاني -جعلنا الله منهم- (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7))، اللهم اجعلنا منهم، آمنوا وعملوا الصالحات، وكم حَفَلَ القرآن بالذين آمنوا وعملوا الصالحات وبشَّرهم بشارات وتكلَّم عنهم كلمات عظيمات في كثير من الآيات في الذكر الحكيم.
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ(7))، فخير الناس الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهم بعد ذلك على درجاتٍ ومراتبٍ، كما أن شرَّ الناس وهم في كفرهم وعصيانهم أيضاً على مراتب؛
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7))، (خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) وجاء هنا قول سيدنا أبو هُريرة: "أترون فضل الملائكة ومنزلتهم؟ إن المؤمن الصادق المخلص عند الله تعالى أعظم من الملائكة يوم القيامة" وتلا الآية: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7))؛ إشارة إلى أن البرية تشمل الكل إنس وجن وملائكة وأن هذا هو خير منهم.
وهذا لا يُسَلَّمُ عليه إطلاقه فإنّ بعض بني آدم خيرٌ من الملائكة، وذلك كالأنبياء والمرسلين فهم أفضل من الملائكة كما قرَّر أهل السنة بما جاء من الأدلة، ولو خواص الملائكة لكن غير الأنبياء والمرسلين، ولو كانوا من خواص البشر من الأولياء والصديقين والعارفين ليسوا بأفضل من خواصِّ الملائكة، وإن كانوا أفضل من عامة الملائكة ومن عوامِّ الملائكة.
فبذلك جاء الترتيب عند أهل السنة أن أفضل الخلق:
فمن البشر مَن يفوقُ على الملائكة وهم الأنبياء، على جميع الملائكة، ثم من خواص البشر مَن يفوقُ على عوام الملائكة لا على خواص الملائكة، وهم الصديقون المقربون مِن البشر.. أفضل مِن عوام الملائكة لا من خواصِّهم، كساداتنا جبريل وميكائيل وإسرافيل والمخصوصين بالمراتب من سادتنا الملائكة عليهم السلام (أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)).
ثم إن الأنبياء صلوات الله عليهم أفضلهم الرسل، ثم إن الرسل قال الله فيهم: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ..) [البقرة:253]، حتى تنتهي الأفضلية إلى خير البرية على الإطلاق وهو محمدٌ ﷺ ذو الرٌّتبةِ العَلِيَّة، ولقد قال لنا: "الا وأنا أكرم الأولين والآخرين على الله يوم القيامة ولا فخر" صلوات الله وسلامه عليه، ومِن جهة الأمم: هذه أفضل الأمم؛ أمة محمد وأفضل هذه الأمة مَن كان في عهده ﷺ ممن آمن به واتبعه من أهل بيته وصحابته هؤلاء هم أفضل الأمة وأشرف الأمة وأعظم الأمة قدراً عند الله وعند رسوله، أثنى عليهم في كتابه وأمرنا باتباعهم، قال: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم..) فرض على كل مَن يجي بعدهم أن يتبعهم (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [البقرة:100].
يقول: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7))، انظر إلى لفتة النظر إلى المآل والرُّجعى والعاقبة والاعتبار الأكبر (جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ .. (8)) بهذا تميزوا بهذا أُعِزُّوا، وإنما وصلوا إلى ذلك بواسطة الإيمان والعمل الصالح كونه سبب، ولكن سيذكر لك ركيزة السبب في آخر الآية: يقول لك (ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)).
فهناك ذِرْوَةُ الإيمان، وحقيقة الإيمان وغاية ما يَشْرُفُ من الصِّلة بين الإنسان وربِّهِ الرحمن وجود تلك الخشية المُفْضِيَة إلى أن تَسْكَر الروح بعظمة الحق -جلَّ جلاله- والتي تقتَرِنُ بعظيمَ الرجاء في العظيم الذي خِفْتَهُ، وعظمته تقتضي خوفاً ورجاءً.
يقول: (جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ.. (8)) والَعدنُ: الخلود. أي: جناتٌ يخلدون فيها، ثم قال: (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا.. (8)) وقد سَمَّى الله مواطنَ الجنةِ بأسماء، ومنها ما يُسمى بـ: عدن، ومنها ما يسمى بدار السلام، ومنها ما يُسمى بالمزيد، ومنها ما يُسمَّى بعليِّين، ومنها ما يُسمى بالفردوس، وهكذا إلى الثمان الجنات التي أعدَّها الله تبارك وتعالى لعباده الصالحين، ثم في كُلِّ طبقة ودرجة من درجات تلك الجنات درجاتٌ كثيرةٌ، وأعلاها الفردوس والمزيد وعِلِّيُّوُن، ثم درجة بعد درجة، اللهم اجعلنا من أهل جنتك، وإنَّ أدنى أهل الجنةِ منزلةً مَن يُعْطَى في الجنة كالدنيا عشرة مرات، ويقف على رأسه كل يوم ثلاثمائة مِن الولدان، ويُزَوَّج باثنتين وسبعين، ويطوف في منازلهِ في الجنة لمدةِ ألف عام.
هل هذا قليل؟ هذا أقلّهم لكن ما فيهم قليل، وهذا أقل أهل الجنة منزلة (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا) [الإنسان:20] فأَسْقِط النعيم والمُلك الذي تتخيَّله بخيالك في هذه الحياة.. ليس هو شيء.
واعلم أن النبي حدَّثنا عن هذه الحقيقة وقال: "يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل الأرض.." من أهل النار الذي عاش في الدنيا، أبعد الناس كان عن المرض وعن المشاكل والهموم وأوفرهم مالاً وجاهاً وعِزَّةً ومكانة بين الناس ولكنه كافرا من أهل النار.. مات، قال: "فيُصبغ صَبغة .." – ويُروى أنه يوضع إصبعه في النار- فيُقال: هل رأيت خيراً قط ؟ هل مرَّ بك نعيمٌ قط؟ فيُمحى من إحساسه بهذا الزر الواحد الصبغة في النار جميع ما كان مَرَّ عليه من تلك المُتع الحقيرة فيقول: لا ما رأيت نعيمٌ قط ولا مرَّ بي خير قط".. أنا منحوس متعوب منكوس في التعب في العذاب من حين خُلقت، فينسى جميع ما كان فيه من ذاك الحقير الزائل. "
ويؤتى بأبأس أهل الدنيا من أهل الجنة.." الذي عاش، مشاكله كثيرة، أمراضه كثيرة، فقره طويل، ماله مكانة بين الناس ولا منزلة ولكنه من أهل الجنة "..فيُصبغ في الجنة صبغة" فيُمحى منه جميع ما كان أحسُّه مِن آلام وأتعاب" في العالم الحقير الصغير الفاني فيُقال: يا هذا هل مَرَّت بك شدة أو رأيت بؤسا قط؟ فيقول: يا رب أين البؤس! أنا في نعيم منذ خلقتني وأنا أتقلَّب في نعيم!" نعيم قربك ورضاك وعطاك.. ما مرَّت بي شيء؟! ما تعبت من فقر ولا من جوع؟ يقول: لا يا رب ما عندي شيء. يَنسى جميع ما كان منه بالصبغة الواحدة.
إذًا فإلى متى اعتبار هذا الحقير؟ قل لي تدخل هنا وإلا هنا، أقول لك مَن أنت؟ أما قبل ذلك، ما الاعتبارات هذه ؟! اعتبار اللعب.. تعْرف اللعب؟ هذا هو اللعب واللهو.. اعتبارات ما لها أساس، ولكن (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [بالحجرات:13].
(أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ..(8)) بساتين وأشجار تجري من تحتها الأنهار (..خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (8)) وقد ذكر الله لنا في القرآن أربعة أنهار: (مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ۖ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ) [محمد:15]:
(خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) بلا انقطاع، وهذا الأبد والخلود لا يكاد عقل الإنسان يستوعبه ولا أن يتصوره، ولكن هو هكذا، وكانوا يقرِّبون إلى الأذهان ولعقلية الإنسان يقولون افرض افرض؛ أن هناك كوماً مِن حَبِّ السمسم.. وهناك طائر يأتي بعد كل ألف ألف سنة، يعني مليون سنة .. يأخذ واحدة حبة سمسمة ويروح، متى ينتهي هذا؟ كومة من السمسم، بعد مليون سنة يأخذ وحدة حبة! ملايين ملايين من السنين! قال اسمع.. ليست كومة فقط، لو ملأنا الأرض مِن أقصاها إلى أقصاها سمسماً وهذا الطائر يأتي بعد كل ألف ألف سنة، لفني كل هذا وأهل الجنة في جنتهم وأهل النار في نارهم، والأبد أمامك لا نهاية له،.. خلود وأبد "يا أهل الجنة؛ خلود فلا موت، وياأهل النار؛ خلود فلا موت".
نِعْمَ الحياة المقبلة علينا لمن عقلها، يقول سبحانه وتعالى: (وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۚ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [ العنكبوت:64] أي الحياة الحقيقية، ولهذا لمَ يصل الكفار والأشرار إلى ذاك العالم (.. إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ۚ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) [الفجر:21-24] وأين حياته؟ ما هي إلا أيام كان في الدنيا؟ اليوم عرف أين حياته! (يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي..) هذه الحياة.. وما ذاك الذي كنتَ فيه؟ قال ذاك مرور، عبور، سفر، وهذه هي الحياة.. (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي..) ما هي تلك الحياة ؟ كنت مغرورا بها.. أما تلك فما هي حياة هذه الآن هي الحياة.
فكثير من الذين كانوا يعدُّون أنفسهم من أقوى الناس وارفعهم واستعداداً للمستقبل ورتبوا أنفسهم للمستقبل يقول: (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) وما هو ذاك!.. كله تلاشى وذهب ما فيها، هذه هي الحياة (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) الله يرزقنا الاستعداد لتلكم الحياة، ونِعْمَ الحياة.
(خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) هذا أكبر من جميع ما يوصف من النعيم.. الحور والقصور والأنهار والأشجار والطير وأنواع النعيم؛ الرضوان؛ أكبر وأحلى وألذ للأرواح، رضوان ربهم وملكهم الفتّاح، لو ترى كيف لذته تكون، لمَّا بدأ يتذوق أطرافا من لذته، الأرواح الطاهرة في الدنيا قالوا : "ان كان اهل الجنة في الجنة على ما نحن عليه إنهم لفي عيش طيب"، وقالوا: "لو يعلم الملوك ما نحن عليه بالليل لجالدونا عليه بالسيوف".
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8))، وجاء في وصف تلك الأنهار أنها تجري على وجه الأرض مرتفعة ليست لها أخاديد في أرض الجنة ولكن ارتفاع.. تمشي كذا فوق، مرتفعة.. تسمع؟!! منظر جميل، وقاعدين في الدنيا يبحثون لهم عن شلالات لتوليد بالكهرباء وهذه الأنهار نفسها مرتفعة كذا تمشي فوق سطح الأرض.. لا تسقط ولا تتداخل ولا..، وبعد ذلك هذا جنب هذا، وهذا جنب ذاك يمشي.. وبعد ذلك لها "الريموت"!.. تعرف "ريموت" فقط للشاشة؟!! حتى الأنهار بالريموت تشتغل، والأشجار.. وكل شيء.. ماهو الريموت الذي يشغِّلها؟ مشيئة صاحبها (لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا) [ق:35] مشيئته هي "ريموت"الأشياء في الجنة، بمجرد ما يقف على الأنهار وشرب من نهر الماء بجانبه، أراد أن يشرب نهر اللبن، بمجرد ما يخطر على باله الخاطر يتحول إلى هنا ويجيء هذا هنا، شرب من نهر اللبن يريد أن يشرب من نهر العسل.. بمجرد خطور الخاطر يتحول نهر اللبن، يجيء نهر العسل عنده.. ما هذا ؟! هذا الريموت (لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا) الله أكبر (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) [فُصِّلَت:31].
ينظر الواحد من أهل الجنة إلى طائر سمين يعجبه فيشتهيه مشوياً، يسقط عليه في إناءٍ له من فضة أو ذهب مشوياً بمجرد خاطره.. فيأكل، فإذا انتهى طار كما كان بأحسن مما كان- نفسهُ- حتى لا يقول أحد أنه نقص عليه، لا واحد ولا إثنين، لا نقص في الجنة كل شيء تام، سبحان الله.
يرى الشجرة فوقه، ويقال فيما ورد: أن أشجار الجنة تتدلّى أغصانها إلى تحت وتكون جذورها إلى فوق معلقة كذا (قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ) [الواقعة:23] بعد ذلك -أيضاً بالريموت- ترى ثمرة تعجبك شكلها، تتحول تتلفت للشجرة كما بخاطرك، تقرب تبعد تروح تجي، فقط بخاطرٍ منك، يكفي، لماذا؟ لأنك في دار ضيافة الكريم، يعطيك على قدر كرمه، الله.. تمام.
خذ لك ما تريد، تتلفت الأشجار وتقرب هذه وتجيء، بالخاطر الذي في بالِك، الذي يخطر على بالك، لمجرد ما تشتهي واحدة من الثمر، تدنو الثمرة منه مباشرة، يضع يده عليها تخرج الثمرة من نفسها، ما يتعبك تلوي يدك، تخرج، إذا خرجت الثمرة تفتك من نفسها، يرفعها إلى فمه تذوب من نفسها، لأول كل لقمة طعم ولوسطها طعم ولآخرها طعم، كل طعم لا يمحو الذي قبله، وكل طعم يبقى، مقدار ألف سنة -يا سلام- عجيب!!
وشيء يعجبك في الدنيا، تجيء بواحدة أخرى ذهب الأول، وهذا الطعم ما يُعدِم الطعم الذي قبله، تتطعم في الوقت الواحد؛ عشرين، ثلاثين، أربعين، خمسين، مائة إلى ألف طعم تذوقها معاً في وقتٍ واحد، (..نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا) [الْإِنْسَان:20] فإذا اخذ الثمرة يأكلها نبتت مكانها وحدة أحسن منها، لا يوجد نقص في الجنة، حساب الدنيا يقول داخل خارج، هذا لا داخل ولا خارج كله داخل وعطاء من الله سبحانه وتعالى فياض مدرار.
(أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ..(8))؛ هذا النعيم كله وفوقه؛ ورضوان من الله أكبر،
وقد جاءنا في الأحاديث منها في الصحيحين أن النبي قال لسيدنا أُبَي: "إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة البينة، فقال سيدنا أُبي: أوسَمَّانِيه؟ الله سماني؟ ذكر اسمي؟! قال: نعم. فبكى سيدنا أُبَي" وجاء في روايات أُخر "إن الله أمرني أن أقرأ عليك من القرآن، قال: وذُكِرْتُ ثَمّ؟! أنا ذكرت هناك؟! قال: نعم. فبكى سيدنا أُبي، وتلا عليه النبي سورة (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين) حتى ختمها صلى الله عليه وآله وسلم.
وقال لابن مسعود: "اقرأ عليَّ، قال: أقرأ عليك، وعليك أُنْزِل يا رسول الله!؟ قال: إني أُحِبُّ أن أسمعه مِن غيري، فَتَلَا عليه من سورة النساء حتى وصل الى قوله: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا) قال: حسبك، قال فرفعتُ رأسي فإذا بعينيه تذرفان ﷺ"، (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [اَلْأَنفَالْ:2].
الحمد لله الذي أكرمنا وإيّاكم بوصول هذه الآيات إلينا سبحان الله، وسخّر لنا كتابات ومطابع وغيرها تحفظ لنا قالب الألفاظ التي خرجتْ من بين شفتي حبيب الرحمن تماماً، الحمد لله، كما نطق بها صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فنستطيع بهذه الوسائل أن نحاكي نطقه عليه الصلاة والسلام كما أُنزلت عليه، اللهم لك الحمد على هذه المِنّة، أتمم علينا نعمتك بقوة صلتنا بالقرآن، امزجه بلحومنا ودمائنا وأجزائنا وكلياتنا، واجعله إمامنا يقودنا إلى جنتك، وأمامنا في جميع تقلباتنا وأطوارنا، لا ننتهج إلا نهج القرآن ولا نعمل إلا بموجبه، والحمد لله رب العالمين.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
22 شوّال 1435